روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

أنفقهما على أهلك فقال : إن لي ثلاثة فقال : أنفقها على خادمك فقال : إن لي أربعة فقال : أنفقها على والديك فقال : إن لي خمسة فقال : أنفقها على قرابتك فقال : إن لي ستة فقال : أنفقها في سبيل الله تعالى» وعن ابن جريج قال : «سأل المؤمنون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟» فنزلت.

(قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ظاهر الآية أنه سئل عن المنفق فأجاب ببيان المصرف صريحا لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره ، وأشار إجمالا إلى بيان المنفق فإن : (مِنْ خَيْرٍ) يتضمن كونه حلالا إذ لا يسمى ما عداه خيرا وإنما تعرض لذلك وليس في السؤال ما يقتضيه لأن السؤال للتعلم لا للجدل ، وحق المعلم فيه أن يكون كطبيب رفيق يتحرى ما فيه الشفاء طلبه المريض أم لم يطلبه ، ولما كانت حاجتهم إلى من ينفق عليه كحاجتهم إلى ما ينفق بين الأمرين وهذا كمن به صفراء فاستأذن طبيبا في أكل العسل فقال : كله مع الخل ، فالكلام إذا من أسلوب الحكيم ، ويحتمل أن يكون في الكلام ذكر المصرف أيضا كما تدل عليه الرواية الأولى في سبب النزول إلا أنه لم يذكره في الآية للإيجاز في النظم تعويلا على الجواب فتكون الآية جوابا لأمرين مسئول عنهما ، والاقتصار في بيان المنفق على الإجمال من غير تعرض للتفصيل كما في بيان المصرف للإشارة إلى كون الثاني أهم ، وهل تخرج الآية بذلك عن كونها من أسلوب الحكيم أم لا؟ قولان أشهرهما الثاني حيث أجيب عن المتروك صريحا وعن المذكور تبعا ، والأكثرون على أن الآية في التطوع ، وقيل : في الزكاة ، واستدل بها من أباح صرفها للوالدين ، وفيه أن عموم (خَيْرٍ) مما ينافي كونها في الزكاة لأن الفرض فيها قدر معين بالإجماع ولم يتعرض سبحانه للسائلين ، و (الرِّقابِ) إما اكتفاء بما ذكر في المواضع الأخر ، وإما بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) فإنه شامل لكل (خَيْرٍ) واقع في أي مصرف كان (وَما) شرطية مفعول به ـ لتفعلوا ـ والفعل أعم من الإنفاق وأتى بما يعم تأكيدا للخاص الواقع في الجواب.

(فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) يعلم كنهه كما يشير به صيغة فعيل مع الجملة الاسمية المؤكدة ، والجملة جواب الشرط باعتبار معناها الكنائي إذ المراد منها توفية الثواب ، وقيل : إنها دليل الجواب ، وليست به ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن الصبر على النفقة وبذل المال من أعظم ما تحلى به المؤمن وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة حتى ورد «الصدقة تطفئ غضب الرب» (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) أي قتال الكفار وهو فرض عين إن دخلوا بلادنا ، وفرض كفاية إن كانوا ببلادهم وقرئ بالبناء للفاعل وهو الله عزوجل ونصب القتال ، وقرئ أيضا كتب عليكم القتل أي قتل الكفرة (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) عطف على كتب وعطف الاسمية على الفعلية جائز كما نص عليه ، وقيل : الواو للحال ، والجملة حال ورد بأن الحال المؤكدة لا تجيء ـ بالواو ـ والمنتقلة لا فائدة فيها «والكره» بالضم ـ كالكره بالفتح ـ وبهما قرئ «الكراهة» وقيل : المفتوح المشقة التي تنال الإنسان من خارج والمضموم ما يناله من ذاته ، وقيل : المفتوح اسم بمعنى الإكراه ، والمضموم بمعنى «الكراهة» وعلى كل حال فإن كان مصدرا فمؤول أو محمول على المبالغة أو هو صفة كخبز بمعنى مخبوز ، وإن كان بمعنى الإكراه وحمل على الكره عليه فهو على التشبيه البليغ كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته ثم كون القتل مكروها لا ينافي الإيمان لأن تلك الكراهية طبيعية لما فيه من القتل والأسر وإفناء البدن وتلف المال وهي لا تنافي الرضا بما كلف به كالمريض الشارب للدواء البشع يكرهه لما فيه من البشاعة ويرضى به من جهة أخرى.

(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وهو جميع ما كلفوا به فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم ومنه القتال فإن فيه الظفر والغنيمة والشهادة التي هي السبب الأعظم للفوز بغاية الكرامة.

٥٠١

(وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وهو جميع ما نهوا عنه فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى ، ومن ذلك ترك قتال الأعداء فإن فيه الذل وضعف الأمر وسبي الذراري ونهب الأموال وملك البلاد وحرمان الحظ الأوفر من النعيم الدائم ، والجملتان الاسميتان حالان من النكرة وهو قليل ، ونص سيبويه على جوازه كما في البحر ، وجوز أبو البقاء أن يكونا صفة لها وساغ دخول الواو لما أن صورة الجملة هنا كصورتها إذا كانت حالا (وَعَسى) الأولى للاشفاق والثانية للترجي على ما ذهب إليه البعض ، وإنما ذكر عسى الدالة على عدم القطع لأن النفس إذا ارتاضت وصفت انعكس عليها الأمر الحاصل لها قبل ذلك فيكون محبوبها مكروها ومكروهها محبوبا فلما كانت قابلة بالارتياض لمثل هذا الانعكاس لم يقطع بأنها تكره ما هو خير لها وتحب ما هو شر لها فلا حاجة إلى أن يقال : إنها هنا مستعملة في التحقيق كما في سائر القرآن ما عدا قوله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) [التحريم : ٥] (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما هو خير لكم وما هو شر لكم وحذف المفعول للإيجاز (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيرا لكم وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأن فيها الجهاد وهو بذل النفس الذي هو فوق بذل المال.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق زيد بن رومان عن عروة قال : بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله بن جحش ، وهو ابن عمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى نخلة فقال : كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال ، وذلك في الشهر الحرام ؛ وكتب له كتابا قبل أن يعلمه أين يسير فقال : اخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك ، وانظر فيه فما أمرتك به فامض له ولا تستكره أحدا من أصحابك على الذهاب معك. فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه «أن امض حتى تنزل نخلة فأتنا من أخبار قريش ، بما اتصل إليك منهم» فقال لأصحابه : وكانوا ثمانية حين قرأ الكتاب سمعا وطاعة من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهاني أن أستكره منكم أحدا فمضى معه القوم حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه يطلبانه ومضى القوم حتى نزلوا نخلة فمر بهم عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف أدم وزبيب فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله ، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا قالوا : عمار ليس عليكم منهم بأس وأتمر القوم بهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان آخر يوم من جمادى فقالوا : لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في (الشَّهْرِ الْحَرامِ) ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة ـ مكة الحرام ـ فليمتنعن منكم فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل وأعجزهم واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لهم والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فأوقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا فلما قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال : سقط في أيديهم ، وظنوا أن قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين ، وقالت قريش : حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال ، واستحل الحرام فنزلت فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العير وفدى الأسيرين ، وفي سيرة ابن سيد الناس أن ذلك في رجب وأنهم لقوا أولئك في آخر يوم منه ، وفي رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي

٥٠٢

صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : أيحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله تعالى الآية ، ومن هنا قيل : السائلون هم المشركون ، وأيد بأن ما سيأتي من ذكر الصد والكفر والإخراج أكبر شاهد صدق على ذلك ليكون تعريضا بهم موافقا لتعريضهم بالمؤمنين.

واختار أكثر المفسرين أن السائلين هم المسلمون قالوا : وأكثروا الروايات تقتضيه ، وليس الشاهد مفصحا بالمقصود والمراد من (الشَّهْرِ الْحَرامِ) رجب أو جمادى فأل فيه للعهد ، والكثير والأظهر أنها للجنس فيراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب ، وسميت حرما لتحريم القتال فيها والمعنى (يَسْئَلُونَكَ) أي المسلمون أو الكفار عن القتال في الشهر الحرام على أن (قِتالٍ فِيهِ) بدل اشتمال من الشهر لما أن الأول غير واف بالمقصود مشوق إلى الثاني ملابس له بغير الكلية والجزئية ، ولما كان النكرة موصوفة أو عاملة صح إبدالها من المعرفة على أن وجوب التوصيف إنما هو في بدل الكل كما نص عليه الرضي ، وقرأ عبد الله عن قتال وهو أيضا بدل اشتمال إلا أنه بتكرير العامل ، وقرأ عكرمة قتل فيه وكذا في (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي عظيم وزرا ، وفيه تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام ، وأن ما اعتقد من استحلاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القتال فيه باطل ، وما وقع من أصحابه عليه الصلاة والسلام كان من باب الخطأ في الاجتهاد وهو معفو عنه ـ بل من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ـ كما في الحديث ، والأكثرون على أن هذا الحكم منسوخ بقوله سبحانه : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] فإن المراد بالأشهر الحرم أشهر معينة أبيح للمشركين السياحة فيها بقوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢] وليس المراد بها الأشهر الحرم من كل سنة فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأمكنة والأزمنة وهو نسخ الخاص بالعام ، وساداتنا الحنفية يقولون به ، وأما الشافعية فيقولون : إن الخاص سواء كان متقدما على العام أو متأخرا عنه مخصص له لكون العام عندهم ظنيا والظني لا يعارض القطعي ، وقال الإمام : الذي عندي أن الآية لا تدل على حرمة القتال مطلقا في الشهر الحرام لأن القتال فيها نكرة في حيز مثبت فلا تعم فلا حاجة حينئذ إلى القول بالنسخ ، واعترض بأنها عامة لكونها موصوفة بوصف عام أو بقرينة المقام ولو سلم فقتال المشركين مراد قطعا لأن قتال المسلمين حرام مطلقا من غير تقييد بالأشهر الحرم ، وفيه أنا لا نسلم أنها موصوفة لجواز أن يكون الجار ظرفا لغوا ولو سلم فلا نسلم عموم الوصف بل هو مخصص لها بالقتال الواقع في الشهر الحرام المعين ، والوصف المفيد للعموم هو الوصف المساوي عمومه عموم الجنس كما في قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الإنعام : ٣٨] وقول الشاعر : ولا ترى الضب بها ينجحر. وكون الأصل مطابقة الجواب للسؤال قرينة على الخصوص وكون المراد قتال المشركين على عمومه غير مسلم لأن الكلام في القتال المخصوص ولو سلم عمومها في السؤال فلا نسلم عمومها في الجواب بناء على ما ذكره الراغب أن النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها يعاد معرفا نحو سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا ففي تنكيرها هنا تنبيه على أن ليس المراد كل قتال حكمه هذا فإن قتال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه فقد قال عليه الصلاة والسلام : «أحلت لي ساعة من نهار» وحرمة قتال المسلمين مطلقا لا يخفى ما فيه لأن قتال أهل البغي يحل وهم مسلمون فالإنصاف أن القول بالنسخ ليس بضروري ، نعم هو ممكن وبه قال ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه عنه الضحاك ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه سئل عن هذه الآية فقال : هذا شيء منسوخ ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام ، وخالف عطاء في ذلك فقد روي عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله تعالى ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمرا إلى يوم القيامة والأمة اليوم على خلافه في

٥٠٣

سائر الأمصار (وَصَدٌّ) أي منع وصرف (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهو الإسلام قاله مقاتل ، أو الحج قاله ابن عباس والسدي ، أو الهجرة كما قيل ، أو سائر ما يوصل العبد إلى الله تعالى من الطاعات ، فالإضافة إما للعهد أو للجنس (وَكُفْرٌ بِهِ) أي بالله أو بسبيله (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) اختار أبو حيان عطفه على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار ، وأجاز ذلك الكوفيون ويونس والأخفش وأبو علي وهو شائع في لسان العرب نظما ونثرا ، واعترض بأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام وهو لازم من العطف ، وفيه بحث إذ الكفر قد ينسب إلى الأعيان باعتبار الحكم المتعلق بها كقوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) [البقرة : ٢٥٦] واختار القاضي تقدير مضاف معطوف على (صَدٌّ) أي وصد المسجد الحرام عن الطائفين والعاكفين والركع السجود ، واعترض بأن حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه بحاله مقصور على السماع ورد بمنع الإطلاق ففي التسهيل إذا كان المضاف إليه إثر عاطف متصل به أو مفصول بلا مسبوق بمضاف مثل المحذوف لفظا ومعنى جاز حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على انجراره قياسا نحو ما مثل زيد وأبيه يقولان ذلك ـ أي مثل أبيه ـ ونحو ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة ، وإذا انتفى واحد من الشروط كان مقصورا على السماع ، وفيما نحن فيه سبق إضافة مثل ما حذف منه ، واختار الزمخشري عطفه على سبيل الله تعالى ، واعترض بأن عطف (وَكُفْرٌ بِهِ) على (وَصَدٌّ) مانع من ذلك إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة ، وذكر لصحة ذلك وجهان ، أحدهما أن (وَكُفْرٌ بِهِ) في معنى الصد عن سبيل الله فالعطف على سبيل التفسير كأنه قيل ـ وصد عن سبيل الله أعني كفرا به والمسجد الحرام ـ والفاصل ليس بأجنبي ، ثانيهما أن موضع (وَكُفْرٌ بِهِ) عقيب (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إلا أنه قدم لفرط العناية كما في قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] حيث كان من حق الكلام ولم يكن أحد كفوا له ، ولا يخفى أن الوجه الأول أولى لأن التقديم لا يزيل محذورا الفصل ويزيد محذورا آخر ، واختار السجاوندي العطف على ـ الشهر الحرام ـ وضعف بأن القوم لم يسألوا عن المسجد الحرام واختار أبو البقاء كونه متعلقا بفعل محذوف دل عليه الصد ـ أي ويصدون عن المسجد الحرام ـ كما قال سبحانه : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الفتح : ٢٥] وضعف بأن حذف حرف الجر وبقاء عمله مما لا يكاد يوجد إلا في الشعر ، وقيل : إن الواو للقسم وقعت في أثناء الكلام وهو كما ترى (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) وهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون وإنما كانوا أهله لأنهم القائمون بحقوقه ، وقيل : إن ذلك باعتبار أنهم يصيرون أهله في المستقبل بعد فتح مكة (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) خبر للأشياء المعدودة من كبائر قريش ، وأفعل من يستوي فيه الواحد والجمع المذكور والمؤنث. والمفضل عليه محذوف أي مما فعلته السرية خطأ في الاجتهاد ، ووجود أصل الفعل في ذلك الفعل مبني على الزعم (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) تذييل لما تقدم للتأكيد عطف عليه عطف الحكم الكلي على الجزئي أي ما يفتن به المسلمون ويعذبون به ليكفروا (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من القتل وما ذكر سابقا داخل فيه دخولا أوليا ، وقيل : المراد بالفتنة الكفر ، والكلام كبرى لصغرى محذوفة ، وقد سيق تعليلا للحكم السابق (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) عطف على (يَسْئَلُونَكَ) بجامع الاتحاد في المسند إليه إن كان السائلون هم المشركون ، أو معترضة إن كان السائلون غيرهم والمقصود الاخبار بدوام عداوة الكفار بطريق الكناية تحذيرا للمؤمنين عنهم وإيقاظا لهم إلى عدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور ، و (حَتَّى) للتعليل ، والمعنى لا يزالون يعاودونكم لكي يردوكم عن دينكم ، وقوله تعالى : (إِنِ اسْتَطاعُوا) متعلق بما عنده ، والتعبير بإن لاستبعاد استطاعتهم وأنها لا تجوز إلا على سبيل الفرض كما يفرض المحال ؛ وفائدة التقييد بالشرط التنبيه على سخافة عقولهم وكون دوام عداوتهم فعلا عبثا لا يترتب عليه الغرض وليس متعلقا ـ بلا يزالون يقاتلونكم ـ إذ لا معنى لدوامهم على العداوة إن استطاعوها لكنها مستبعدة. وذهب ابن عطية إلى أن (حَتَّى) للغاية والتقييد بالشرط حينئذ لإفادة أن الغاية

٥٠٤

مستبعدة الوقوع والتقييد بالغاية الممتنع وقوعها شائع كما في قوله تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] وفيه أن استبعاد وقوع الغاية مما يترتب عليه عدم انقطاع العداوة وقد أفاده صدر الكلام ، والقول بالتأكيد غير أكيد ، نعم يمكن الحمل على الغاية لو أريد من المقاتلة معناها الحقيقي ويكون الشرط متعلقا ـ بلا يزالون ـ فيفيد التقييد أن تركهم المقاتلة في بعض الأوقات لعدم استطاعتهم إلا أن المعنى حينئذ يكون مبتذلا كما لا يخفى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) الحق بإضلالهم وإغوائهم ، أو الخوف من عداوتهم (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) بأن لم يرجع إلى الإسلام (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الارتداد والموت على الكفر وما فيه من البعد للإشعار ببعد منزلة من يفعل ذلك في الشر والفساد والجمع والإفراد نظرا للفظ والمعنى (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي صارت أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة ما لم تكن ، قيل وأصل الحبط فساد يلحق الماشية لأكل الحباط وهو ضرب من الكلأ مضر ، وفي النهاية أحبط الله تعالى عمله أبطله يقال : حبط عمله وأحبط وأحبطه غيره ، وهو من قولهم : حبطت الدابة حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت ، وقرئ ـ حبطت ـ بالفتح وهو لغة فيه ، (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد في الأولى وسقوط الثواب في الأخرى (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) كسائر الكفرة ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئا ، واستدل الشافعي بالآية على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها وذلك بناء على أنها «لو أحبطت» مطلقا لما كان للتقييد بقوله سبحانه : (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) فائدة والقول بأن فائدته أن «إحباط» جميع الأعمال حتى لا يكون له عمل أصلا موقوف على الموت على الكفر حتى لو مات مؤمنا «لا يحبط» إيمانه ولا عمل يقارنه وذلك لا ينافي إحباط الأعمال السابقة على الارتداد بمجرد الارتداد مما لا معنى له لأن المراد من الأعمال في الآية الأعمال السابقة على الارتداد إذ لا معنى لحبوط ما لم يفعل فحينئذ لا يتأتى هذا القول كما لا يخفى ، وقيل : بناء على أنه جعل الموت عليها شرطا في الإحباط وعند انتفاء الشرط ينتفي المشروط ، واعترض بأن الشرط النحوي والتعليقي ليس بهذا المعنى بل غايته السببية والملزومية وانتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم لجواز تعدد الأسباب ولو كان شرطا بهذا المعنى لم يتصور اختلاف القول بمفهوم الشرط ، وذهب إمامنا أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن مجرد الارتداد يوجب الإحباط لقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة : ٥] وما استدل به الشافعي ليس صريحا في المقصود لأنه إنما يتم إذا كانت جملة ، (وَأُولئِكَ) إلخ تذييلا معطوفة على الجملة الشرطية ، وأما لو كانت معطوفة على الجزاء وكان مجموع الإحباط والخلود في النار مرتبا على الموت على الردة فلا نسلم تماميته ، ومن زعم ذلك اعترض على الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بأن اللازم عليه حمل المطلق على المقيد عملا بالدليلين ، وأجيب بأن حمل المطلق على المقيد مشروط عنده يكون الإطلاق والتقييد في الحكم واتحاد الحادثة وما هنا في السبب فلا يجوز الحمل لجواز أن يكون المطلق سببا كالمقيد ، وثمرة الخلاف على ما قيل : تظهر فيمن صلى ثم ارتد ثم أسلم والوقت باق فإنه يلزمه عند الإمام قضاء الصلاة خلافا للشافعي وكذا الحج واختلف الشافعيون فيمن رجع إلى الإسلام بعد الردة هل يرجع له عمله بثوابه أم لا؟ فذهب بعض إلى الأول فيما عدا الصحبة فإنها ترجع مجردة عن الثواب ، وذهب الجل إلى الثاني وأن أعماله تعود بلا ثواب ولا فرق بين الصحبة وغيرها ، ولعل ذلك هو المعتمد في المذهب فافهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الكبير من حديث جندب بن عبد الله أنها نزلت في السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي فارقوا أوطانهم ، وأصله من الهجر ضد

٥٠٥

الوصل (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء دينه وإنما كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد لتفخيم شأن الهجرة والجهاد فكأنهما وإن كانا مشروطين بالإيمان في الواقع مستقلان في تحقق الرجاء ، وقدم الهجرة على الجهاد لتقدمها عليه في الوقوع تقدم الإيمان عليهما (أُولئِكَ) المنعوتون بالنعوت الجليلة (يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) أي يؤملون تعلق رحمته سبحانه بهم أو ثوابه على أعمالهم ، ومنها تلك الغزاة في الشهر الحرام ، واقتصر البعض عليها بناء على ما رواه الزهري أنه لما فرج الله تعالى عن أهل تلك السرية ما كانوا فيه من غم طمعوا فيما عند الله تعالى من ثوابه فقالوا : يا نبي الله أنطمع أن تكون غزوة نعطى فيها أجر المهاجرين في سبيل الله تعالى فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ولا يخفى أن العموم أعم نفعا وأثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإشارة إلى أن العمل غير موجب إذ لا استحقاق به ولا يدل دلالة قطعية على تحقق الثواب إذ لا علاقة عقلية بينهما وإنما هو تفضل منه تعالى سيما والعبرة بالخواتيم فلعله يحدث بعد ذلك ما يوجب الحبوط ولقد وقع ذلك والعياذ بالله تعالى كثيرا فلا ينبغي الاتكال على العمل (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل لما تقدم وتأكيد له ولم يذكر المغفرة فيما تقدم لأن رجاء الرحمة يدل عليها وقدم وصف المغفرة لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) قال الواحدي : نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل ومسلبة للمال فأنزل الله تعالى هذه الآية وفي بعض الروايات «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوه عن ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال قوم : ما حرما علينا فكانوا يشربون الخمر إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا أناسا من الصحابة وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب فقدموا عليا كرم الله تعالى وجهه فقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] إلخ بحذف لا فأنزل الله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] فقلّ من يشربها ثم اتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ثم إنهم افتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار فأنشد سعد ما فيه هجاء الأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وشكا إليه الأنصار فقال : اللهم بين لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي الله تعالى عنه : انتهينا يا رب. وعن علي كرم الله تعالى وجهه لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت في مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه دابتي. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لو أدخلت إصبعي فيها لم تتبعني ـ وهذا هو الإيمان والتقى حقا.

والخمر عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه التي من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد وسميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تستره ومنه خمار المرأة لستره وجهها ، والخامر وهو من يكتم الشهادة ، وقيل : لأنها تغطى حتى تشتد ، ومنه «خمروا آنيتكم» أي غطوها ، وقيل : لأنها تخالط العقل وخامره داء خالطه ، وقيل : لأنها تترك حتى تدرك ، ومنه اختمر العجين أي بلغ إدراكه وهي أقوال متقاربة ، وعليها فالخمر مصدر يراد به اسم الفاعل أو المفعول ويجوز أن يبقى على مصدريته للمبالغة. وذهب الإمامان إلى عدم اشتراط القذف ويكفي الاشتداد لأن المعنى المحرم يحصل به ، وللإمام أن الغليان بداية الشدة وكمالها بقذف الزبد وسكونه إذ به يتميز الصافي من الكدر وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار المستحل وحرمة البيع ، وأخذ بعضهم بقولهما في حرمة الشرب احتياطا ، ثم إطلاق

٥٠٦

الخمر على غير ما ذكر مجاز عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة ، ومن الناس من قال هو حقيقة في كل مسكر لما أخرج الشيخان ، وأبو داود والترمذي والنسائي «كل مسكر خمر».

وأخرج أبو داود نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة ، و (الْخَمْرِ) ما خامر العقل ، وأخرج مسلم عن أبي هريرة (الْخَمْرِ) من هاتين الشجرتين ، ـ وأشار إلى الكرم والنخلة ـ وأخرج البخاري عن أنس «حرّمت الخمر حين حرمت» وما يتخذ من خمر الأعناب إلا قليل ، وعامة خمرنا البسر والتمر ، ويمكن أن يجاب أن المقصود من ذلك كله بيان الحكم ، وتعليم أن ما أسكر حرام ـ كالخمر ـ وهو الذي يقتضيه منصب الإرشاد ـ لا تعليم اللغات العربية ـ سيما والمخاطبون في الغاية القصوى من معرفتها ، وما يقال : إنه مشتق من مخامرة العقل ، وهي موجودة في كل مسكر لا يقتضي العموم ، ولا ينافي كون الاسم خاصا فيما تقدم فإن النجم مشتق من الظهور ، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف ـ لا لكل ما ظهر ـ وهذا كثير النظير ، وتوسط بعضهم فقال : إن (الْخَمْرِ) حقيقة في لغة العرب في التي من ماء العنب إذا صار مسكرا ، وإذا استعمل في غيره كان مجازا إلا أن الشارع جعله حقيقة في كل مسكر شابه موضوعه اللغوي ، فهو في ذلك حقيقة شرعية كالصلاة ، والصوم. والزكاة في معانيها المعروفة شرعا ، والخلاف قوي ولقوّته ووقوع الإجماع على تسمية المتخذ من العنب خمرا دون المسكر من غيره ، أكفروا مستحل الأول ، ولم يكفروا مستحل الثاني بل قالوا : إن عين الأوّل حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه ، ومن أنكر حرمة العين وقال : إن السكر منه حرام لأنه به يحصل الفساد فقد كفر لجحوده الكتاب إذ سماه رجسا فيه والرجس محرّم العين فيحرم كثيره وإن لم يسكر ـ وكذا قليله ولو قطرة ـ ويحد شاربه مطلقا ، وفي الخبر «حرّمت الخمر لعينها» وفي رواية «بعينها قليلها وكثيرها سواء» والسكر من كل شراب ، وقالوا : إن الطبخ لا يؤثر لأنه للمنع من ثبوت الحرمة ـ لا لرفعها بعد ثبوتها ـ إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه بناء على أن الحد بالقليل النيء خاصة ـ وهذا قد طبخ ـ وأما غير ذلك فالعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة ـ ويسمى الباذق ـ والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ فحرام عندنا إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد أو إذا اشتد على الاختلاف ، وقال الأوزاعي وأكثر المعتزلة : إنه مباح لأنه مشروب طيب ـ وليس بخمر ـ ولنا أنه رقيق ملد مطرب ، ولذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه رفعا للفساد المتعلق به ، وأما نقيع التمر وهو السكر ـ وهو النيء من ماء التمر ـ فحرام مكروه ، وقال شريك : إنه مباح للامتنان ولا يكون بالمحرم ، ويرده إجماع الصحابة ، والآية محمولة على الابتداء كما أجمع عليه المفسرون ، وقيل : أراد بها التوبيخ أي «أتتخذون منه سكرا ، وتدعون رزقا حسنا» وأمّا نقيع الزبيب ـ وهو النيء من ماء الزبيب ـ فحرام إذا اشتدّ وغلى ، وفيه خلاف الأوزاعي ، ونبيذ الزبيب والتمر إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال ، وإن اشتدّ إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكر من غير لهو ولا طرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد والشافعي حرام ونبيذ العسل والتين والحنطة والذرة والشعير وعصير العنب إذا طبخ وذهب ثلثاه حلال عند الإمام الأوّل ، والثاني ، وعند محمد والشافعي حرام أيضا ، وأفتى المتأخرون بقول محمد في سائر الأشربة ، وذكر ابن وهبان أنه مروي عن الكل ونظم ذلك فقال :

وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا

طلاقا لمن من مسكر الحب يسكر

وعن كلهم يروى ، وأفتى محمد

بتحريم ما قد ـ قلّ ـ وهو المحرر

وعندي أنّ الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمي متى كان بحيث يسكر من لم يتعوّده حرام ـ وقليله ككثيره ـ ويحدّ شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة.

٥٠٧

وفي الصحيحين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن النقيع ـ وهو نبيذ العسل ـ فقال : «كل شراب أسكر فهو حرام» وروى أبو داود «نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر» وصح «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وفي حديث آخر «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام» والأحاديث متظافرة على ذلك ، ولعمري إنّ اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا (الْخَمْرِ) ورغبتهم فيها فوق اجتماعهم عى شرب (الْخَمْرِ) ورغبتهم فيه بكثير ، وقد وضعوا لها أسماء ـ كالعنبرية والإكسير ـ ونحوهما ظنا منهم أنّ هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمة ـ وهيهات هيهات ـ الأمر وراء ما يظنون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، نعم حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها كما قدّمنا لأنها اجتهادية ، ولو ذهب ذاهب إلى القول بالتكفير لم يبق في يده من الناس اليوم إلا قليل (وَالْمَيْسِرِ) مصدر ميمي من ـ يسر ـ كالموعد والمرجع يقال : يسرته إذا قمرته واشتقاقه إما من ـ اليسر ـ لأنه أخذ المال بيسر وسهولة ، أو من ـ اليسار ـ لأنه سلب له ، وقيل : من يسروا الشيء إذا اقتسموه ، وسمي المقامر ـ ياسرا ـ لأنه بسبب ذلك الفعل يجزئ لحم الجزور ، وقال الواحدي : من يسر الشيء إذا وجب ، والياسر الواجب بسبب القدح ، وصفته أنه كانت لهم عشرة أقداح هي الأزلام والأقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزءونها ثمانية وعشرين إلا الثلاثة : وهو المنيح والسفيح والوغد ، للفذ سهم ، وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة ـ وهي خريطة ـ ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله مع حرمانه ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم ، ونقل الأزهري كيفية أخرى لذلك ولم يذكر ـ الوغد ـ في الأسماء بل ذكر غيره ، والذي اعتمده الزمخشري وكثيرون ما ذكرناه ، وقد نظم بعضهم هذه الأسماء فقال :

كل سهام الياسرين عشره

فأودعوها صحفا منشره

لها فروض ولها نصيب

الفذ والتوأم والرقيب

والحلس يتلوهن ثم النافس

وبعده مسبلهن السادس

ثم المعلى كاسمه المعلى

صاحبه في الياسرين الأعلى

والوغد والسفيح والمنيح

غفل فما فيما يرى ربيح

وفي حكم ذلك جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج ، وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب والقرعة في غير القسمة وجميع أنواع المخاطرة والرهان ، وعن ابن سيرين ـ كل شيء فيه خطر فهو من الميسر ـ ومعنى الآية (يَسْئَلُونَكَ) عما في تعاطي هذين الأمرين ، ودل على التقدير بقوله تعالى : (قُلْ فِيهِما) إذ المراد في تعاطيهما بلا ريب (إِثْمٌ كَبِيرٌ) من حيث إن تناولهما مؤدّ إلى ما يوجب ـ الإثم ـ وهو ترك المأمور ، وفعل المحظور (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) من اللذة والفرح وهضم الطعام وتصفية اللون وتقوية الباه وتشجيع الجبان وتسخية البخيل وإعانة الضعيف. وهي باقية قبل التحريم وبعده ، وسلبها بعد التحريم مما لا يعقل ولا يدل عليه دليل ، وخبر «ما جعل الله تعالى شفاء أمتي فيما حرّم عليها» لا دليل فيه عند التحقيق كما لا يخفى (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أي المفاسد التي تنشأ منها أعظم من المنافع المتوقعة فيهما. فمن مفاسد الخمر إزالة العقل الذي هو أشرف صفات الإنسان ، وإذا

٥٠٨

كانت عدوة للأشرف لزم أن تكون أخس الأمور لأن العقل إنما سمي عقلا لأنه يعقل ـ أي يمنع صاحبه عن القبائح التي يميل إليها بطبعه ـ فإذا شرب زال ذلك العقل المانع عن القبائح وتمكن إلفها ـ وهو الطبع ـ فارتكبها وأكثر منها ، وربما كان ضحكة للصبيان حتى يرتد إليه عقله. ذكر ابن أبي الدنيا أنه مرّ بسكران وهو يبول بيده ويغسل به وجهه كهيئة المتوضئ ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا. وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية : ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي ، ولا أرضي أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم ، ومنها صدّها عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإيقاعها العداوة والبغضاء غالبا. وربما يقع القتل بين الشاربين في مجلس الشرب ، ومنها أن الإنسان إذا ألفها اشتد ميله إليها وكاد يستحيل مفارقته لها وتركه إياها ، وربما أورثت فيه أمراضا كانت سببا لهلاكه. وقد ذكر الأطباء لها مضار بدنية كثيرة كما لا يخفى على من راجع كتب الطب ، وبالجملة لو لم يكن فيها سوى إزالة العقل والخروج عن حد الاستقامة لكفى فإنه إذا اختل العقل حصلت الخبائث بأسرها ، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم : «اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث» ولم يثبت أن الأنبياء عليهم‌السلام شربوها في وقت أصلا ، ومن مفاسد (الْمَيْسِرِ) أن فيه أكل الأموال بالباطل وأنه يدعو كثيرا من المقامرين إلى السرقة وتلف النفس وإضاعة العيال وارتكاب الأمور القبيحة والرذائل الشنيعة والعداوة الكامنة والظاهرة ، وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من أعماه الله تعالى وأصمه ، ولدلالة الآية على أعظمية المفاسد ذهب بعض العلماء إلى أنها هي المحرمة للخمر فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل وزاد بعضهم على ذلك بأن فيها الإخبار بأن فيها الإثم الكبير ، والإثم إما العقاب أو سببه ، وكل منهما لا يوصف به إلا المحرم ، والحق أن الآية ليست نصا في التحريم كما قال قتادة : إذ للقائل أن يقول : الإثم بمعنى المفسدة ، وليس رجحان المفسدة مقتضيا لتحريم الفعل بل لرجحانه ، ومن هنا شربها كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعد نزولها ، وقالوا : إنما نشرب ما ينفعنا ، ولم يمتنعوا حتى نزلت آية المائدة فهي المحرمة من وجوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وقرئ إثم كثير بالمثلثة ، وفي تقدم الإثم ووصفه بالكبر أو الكثرة وتأخير ذكر المنافع مع تخصيصها بالناس من الدلالة على غلبة الأول ما لا يخفى ، وقرأ أبيّ ـ وإثمهما أقرب من نفعهما ـ (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن نفرا من الصحابة أمروا بالنفقة في سبيل الله تعالى أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا فما ننفق منها فنزلت ، وكان قبل ذلك ينفق الرجل ماله حتى ما يجد ما يتصدق ، ولا ما يأكل حتى يتصدق عليه ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبان عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهي معطوفة على (يَسْئَلُونَكَ) قبلها عطف القصة على القصة ، وقيل : نزلت في عمرو بن الجموح كنظيرتها ، وكأنه سئل أولا عن المنفق والمصرف ثم سئل عن كيفية الإنفاق بقرينة الجواب فالمعنى يسألونك عن صفة ما ينفقونه (قُلِ الْعَفْوَ) أي صفته أن يكون عفوا فكلمة «ما» للسؤال عن الوصف كما يقال ما زيد؟ فيقال كريم إلا أنه قليل في الاستعمال وأصل العفو نقيض الجهد ، ولذا يقال ـ للأرض الممهدة السهلة الوطء ـ عفو ، والمراد به ما لا يتبين في الأموال ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الفضل من العيال ، وعن الحسن ما لا يجهد ، أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول وأخرج ابن خزيمة عنه أيضا أنه قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : خير الصدقة ما أبقت غني واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول تقول المرأة أنفق عليّ أو طلقني ، ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني ، ويقول ولدك إلى من تكلني» وأخرج ابن سعد عن جابر قال : قدم أبو حصين السلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب فقال : «يا رسول الله

٥٠٩

أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته فقال : يأتي أحدكم بما يملك فيقول : هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول».

وقرأ أبو عمرو بالرفع بتقدير المبتدأ على أن (ما ذا يُنْفِقُونَ) مبتدأ وخبر ، والباقون بالنصب بتقدير الفعل ، و (ما ذا) مفعول (يُنْفِقُونَ) ليطابق الجواب السؤال (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد لأنه أبقى للمال وأكثر نفعا في الآخرة فالمشار إليه ما يفهم من قوله سبحانه : (قُلِ الْعَفْوَ) وإيراد صيغة البعيد مع قربه لكونه معنى متقدم الذكر ، ويجوز أن يكون المشار إليه جميع ما ذكر من قوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) إذ لا مخصص مع كون التعميم أفيد والقرب إنما يرجح القريب على ما سواه فقط وجعل المشار إليه قوله عزّ شأنه : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) على ما فيه لا يخفى بعده ، والكاف في موضع النصب صفة لمحذوف ، واللام في (الْآياتِ) للجنس أي يبين لكم الآيات المشتملة على الأحكام تبيينا مثل هذا التبيين إما بإنزالها واضحة الدلالة ، أو بإزالة إجمالها بآية أخرى أو ببيان من قبل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وكان مقتضى الظاهر أن يقال ـ كذلكم ـ على طبق (لَكُمُ) لكنه وحد بتأويل نحو القبيلة ، أو الجمع ما هو مفرد اللفظ جمع المعنى روما للتخفيف لكثرة لحوق علامة الخطاب باسم الإشارة ، وقيل : إن الإفراد للإيذان بأن المراد به كل من يتلقى الكلام كما في قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٥٢] وفيه أنه يلزم تعدد الخطاب في كلام واحد من غير عطف وذا لا يجوز كما نص عليه الرضي (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي في الآيات فتستنبطوا الأحكام منها وتفهموا المصالح والمنافع المنوطة بها وبهذا التقدير حسن كون ترجي التفكر غاية لتبيين الآيات (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي في أمورهما فتأخذون بالأصلح منهما وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم أو يضركم أكثر مما ينفعكم ، والجار بعد تقدير المضاف متعلق ب (تَتَفَكَّرُونَ) بعد تقييده بالأول ، وقيل : يجوز أن يتعلق ب (يُبَيِّنُ) أي يبين لكم الآيات فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) وقدم التفكر للاهتمام ، وفيه أنه خلاف ظاهر النظم مع أن ترجي أصل التفكر ليس غاية لعموم التبيين فلا بد من عموم التفكر فيكون المراد ـ لعلكم تتفكرون في أمور الدنيا والآخرة ـ وفي التكرار ركاكة ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا من الآيات أي يبينها لكم كائنة فيهما أي مبينة لأحوالكم المتعلقة بهما ولا يخفى ما فيه ، ومن الناس من لم يقدر ـ ليتفكرون ـ متعلقا وجعل المذكور متعلقا بها أي بين الله لكم الآيات لتتفكروا في الدنيا وزوالها والآخرة وبقائها فتعلموا فضل الآخرة على الدنيا وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وقتادة والحسن.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) عطف على ما قبله من نظيره ، أخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال لما أنزل الله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإنعام : ١٥٢ ، الإسراء : ٣٤] (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) [النساء : ١٠] الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت ، والمعنى ـ يسألونك عن القيام بأمر اليتامى ، أو التصرف في أموالهم ، أو عن أمرهم وكيف يكونون معهم ـ (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أي مداخلتهم مداخلة يترتب عليها إصلاحهم أو إصلاح أموالهم بالتنمية والحفظ خير من مجانبتهم ، وفي الاحتمال الأول إقامة غاية الشيء مقامه (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) عطف على سابقه

٥١٠

والمقصود الحث على المخالطة المشروعة بالإصلاح مطلقا أي إن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والمصاهرة تؤدوا اللائق بكم لأنهم إخوانكم أي في الدين ؛ وبذلك قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وأخرج عبد بن حميد عن المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه ويأكل في قصعتك وتأكل في قصعته ويأكل من تمرتك وتأكل من تمرته ، واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد بالمخالطة المصاهرة ، وأيد بما نقله الزجاج كانوا يظلمون اليتامى فيتزوجون منهم العشرة ويأكلون أموالهم فشدد عليهم في أمر اليتامى تشديدا خافوا معه التزوج بهم فنزلت هذه الآية فأعلمهم سبحانه أن الإصلاح لهم خير الأشياء وأن مخالطتهم في التزويج مع تحري الإصلاح جائزة وبأن فيه على هذا الوجه تأسيسا إذ المخالطة بالشركة فهمت مما قبل وبأن المصاهرة مخالطة مع اليتيم نفسه بخلاف ما عداها وبأن المناسبة حينئذ لقوله تعالى : (فَإِخْوانُكُمْ) ظاهرة لأنها المشروطة بالإسلام فإن اليتيم إذا كان مشركا يجب تحري الإصلاح في مخالطته فيما عدا المصاهرة وبأنه ينتظم على ذلك النهي الآتي بما قبله كأنه قيل : المخالطة المندوبة إنما هي في اليتامى الذين هم إخوانكم فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك ، ولا يخفى أن ما نقله الزجاج أضعف من الزجاج إذ لم يثبت ذلك في أسباب النزول في كتاب يعول عليه ، والزجاج وأمثاله ليسوا من فرسان هذا الشأن وبأن التأسيس لا ينافي الحث على المخالطة لما أن القوم تجنبوا عنها كل التجنب وأن إطلاق المخالطة أظهر من تخصيصها بخلط نفسه وأن المناسبة والانتظام حاصلان بدخول المصاهرة في مطلق المخالطة (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ) في أمورهم بالمخالطة (مِنَ الْمُصْلِحِ) لها بها فيجازي كلّا حسب فعله أو نيته ففي الآية وعيد ووعدهم ، وقدم المفسد اهتماما بإدخال الروع عليه وأل في الموضعين للعهد ، وقيل : للاستغراق ويدخل المعهود دخولا أوليا ، وكلمة (مِنَ) للفضل وضمن يعلم معنى يميز فلذا عداه بها (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي لضيق عليكم ولم يجوز لكم مخالطتهم ، أو لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ وأصل الإعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا ، ويقال : عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر ، وحذف مفعول المشيئة لدلالة الجواب عليه ، وفي ذلك إشعار بكمال لطفه سبحانه ورحمته حيث لم يعلق مشيئته بما يشق علينا في اللفظ أيضا ، وفي الجملة تذكير بإحسانه تعالى على أوصياء اليتامى (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم (حَكِيمٌ) فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة التي هي أساس التكليف ، وهذه الجملة تذييل وتأكيد لما تقدم من حكم النفي والإثبات ـ أي ولو شاء لأعنتكم لكونه غالبا ـ لكنه لم يشأ لكونه حكيما. وفي الآية ـ كما قال الكيا ـ دليل لمن جوز خلط مال الولي بمال اليتيم والتصرف فيه بالبيع والشراء ودفعه مضاربة إذا وافق الإصلاح ، وفيها دلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من الاجتهاد وغلبة الظن وفيها دلالة على أنه لا بأس بتأديب اليتيم وضربه بالرفق لإصلاحه ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر وكان في تركها مراعاة لتنمية المال ناسب ذلك النظر في حال اليتيم فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم. وفي النظر في أحوال اليتامى إصلاحا لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه فمن ترك ذلك وفعل هذا فقد جمع بين النفع لنفسه ولغيره (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) روى الواحدي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث رجلا من غني يقال له مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا من المسلمين بها أسرى فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فلما أسلم أعرض عنها فأتته فقالت : ويحك يا مرثد ألا تخلو فقال لها : إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا ولكن إن شئت تزوجتك فقالت : نعم فقال إذا رجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استأذنته في ذلك ثم تزوجتك فقالت له : أبي تتبرم؟ ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا

٥١١

ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها فقال : يا رسول الله أيحل أن أتزوجها ـ وفي رواية ـ إنها تعجبني فنزلت» وتعقب ذلك السيوطي بأن هذا ليس سببا لنزول هذه الآية وإنما هو سبب في نزول آية النور [٣] (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) وروى السدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها ثم إنه فزع فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره خبرها فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : «ما هي يا عبد الله؟ فقال : هي يا رسول الله تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله فقال يا عبد الله هي مؤمنة قال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق نبيا لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا : أنكح أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أنسابهم فأنزل الله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا) الآية» وقرئ بفتح ـ التاء ـ وبضمها وهو المروي عن الأعمش أي لا تتزوجوهن أو لا تزوجوهن من المسلمين وحمل كثير من أهل العلم المشركات على ما عدا الكتابيات فيجوز نكاح الكتابيات عنده لقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١] و (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٠٥] والعطف يقتضي المغايرة ؛ وأخرج ابن حميد عن قتادة المراد بالمشركات مشركات العرب التي ليس لهن كتاب ، وعن حماد قال : سألت إبراهيم عن تزويج اليهودية والنصرانية فقال : لا بأس به فقلت : أليس الله تعالى يقول : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ)؟ فقال : إنما ذلك المجوسيات وأهل الأوثان ، وذهب البعض إلى أنها تعم الكتابيات قيل : لأن من جحد نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام فقد أنكر معجزته وأضافها إلى غيره تعالى وهذا هو الشرك بعينه ولأن الشرك وقع في مقابلة الإيمان فيما بعد ولأنه تعالى أطلق الشرك على أهل الكتاب لقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] إلى قوله سبحانه : (عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣٠] وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال حرم الله تعالى المشركات على المسلمين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله تعالى ، وإلى هذا ذهب الإمامية وبعض الزيدية ، وجعلوا آية [المائدة : ٥] (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) منسوخة بهذه الآية نسخ الخاص بالعام وتلك وإن تأخرت تلاوة مقدمة نزولا والإطباق على أن سورة المائدة لم ينسخ منها شيء ممنوع ففي الإتقان ومن [المائدة : ٢ ، ٩٧] قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) منسوخ بإباحة القتال فيه وقوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢] منسوخ بقوله سبحانه : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٩] وقوله تعالى : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) [المائدة : ١٠٦] منسوخ بقوله عز شأنه : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] والمشهور الذي عليه العمل أن هذه الآية قد نسخت بما في المائدة على ما يقتضيه الظاهر ، فقد أخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) نسخ من ذلك نكاح نساء أهل الكتاب أحلهم للمسلمين وحرم المسلمات على رجالهم ، وعن الحسن ومجاهد مثل ذلك وهو الذي ذهب إليه الحنفية والشافعية يقولون بالتخصيص دون النسخ ، ومبنى الخلاف أن قصر العام بكلام مستقل تخصيص عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ونسخ عندنا (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) تعليل للنهي وترغيب في مواصلة المؤمنات صدر بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار ، وأصل أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوض عنها هاء التأنيث ويدل على أن لامها واو رجوعها في الجمع كقوله :

٥١٢

أما الإماء فلا يدعونني ولدا

إذا تداعى بنو الأموان بالعار

وظهورها في المصدر يقال : هي أمة بينة الأموة وأقرت له بالأموّة ، وهل وزنها فعلة ـ بسكون العين أو فعلة ـ بفتحها.؟ قولان اختار الأكثرون ثانيهما ، وتجمع على آم وهو في الاستعمال دون إماء وأصله أأمو ـ بهمزتين ـ الأولى مفتوحة زائدة ، والثانية ساكنة هي فاء الكلمة ، فوقعت ـ الواو ـ طرفا مضموما ما قبلها في اسم معرب ولا نظير له فقلبت ـ ياء والضمة قبلها كسرة لتصح الياء ـ فصار الاسم من قبيل ـ غاز وقاض ـ ثم قلبت ـ الهمزة الثانية ألفا لسكونها بعد همزة أخرى مفتوحة ـ فصارا آم وإعرابه كقاض ، والظاهر أن المراد ـ بالأمة ـ ما تقابل الثانية الحرة ، وسبب النزول يؤيد ذلك لأنه العيب على من تزوج الأمة والترغيب في نكاح حرّة مشركة ، ففي الآية تفضيل الأمة المؤمنة على المشركة مطلقا ـ ولو حرّة ـ ويعلم منه تفضيل الحرّة عليها بالطريق الأولى ، ثم إنّ التفضيل يقتضي أنّ في الشركة خيرا ، فإما أن يراد بالخير الانتفاع الدنيوي وهو مشترك بينهما ، أو يكون على حد (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : ٢٤] وقيل : المراد ـ بالأمة ـ المرأة حرّة كانت أو مملوكة فإن الناس كلهم عبيد الله تعالى وإماؤه ، ولا تحمل على الرقيقة لأنه لا بدّ من تقدير الموصوف في (مُشْرِكَةٍ) فإن قدر «أمة» بقرينة السياق لم يفد خيرية الأمة المؤمنة على الحرة المشركة ، وإن قدر حرّة أو امرأة كان خلاف الظاهر ، والمذكور في سبب النزول التزوج ـ بالأمة ـ بعد عتقها. و «الأمة» بعد العتق حرة ولا يطلق عليها «أمة» إلا باعتبار مجاز الكون والحق أن «الأمة» بمعنى ـ الرقيقة ـ كما هو المتبادر ، وأن الموصوف المقدر ل (مُشْرِكَةٍ) عام ـ وكونه خلاف الظاهر ـ خلاف الظاهر.

وعلى تقدير التسليم هو مشترك الإلزام ، ولعل ارتكاب ذلك آخرا أهون من ارتكابه أول وهلة إذ هو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء ـ وما في سبب النزول مؤيد لا دليل عليه ـ وقد قيل فيه : إنّ عبد الله نكح أمة ـ إن حقا وإن كذبا ـ فالمعنى (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ) مع ما فيها من خساسة الرق وقلة الخطر (خَيْرٌ) مما اتصفت بالشرك مع ما لها من شرف الحرّية ورفعة الشأن (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) لجمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها ، أخرج سعيد بن منصور وابن ماجة ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «لا تنكحوا النساء لحسنهن ، فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهنّ أن تطغيهن ، وانكحوهن على الدين فلأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل» وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك» والواو للحال ـ ولو لمجرّد الفرض ـ مجرّدة عن معنى الشرط ولذا لا تحتاج إلى الجزاء والتقدير مفروضا إعجابها لكن بالحسن ونحوه ، وقال الجرمي : الواو للعطف على مقدّر أي لم تعجبكم (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة ، وقال الرضي : إنها اعتراضية تقع في وسط الكلام وآخره ، وعلى التقادير إثبات الحكم في نقيض الشرط بطريق الأولى ليثبت في جميع التقادير ، واستدل بعضهم بالآية على جواز نكاح «الأمة المؤمنة» مع وجود طول الحرّة ، واعترضه الكيا بأنه ليس في الآية نكاح الإماء وإنما ذلك للتنفير عن نكاح الحرّة المشركة لأنّ العرب كانوا بطباعهم نافرين عن نكاح «الأمة» فقيل لهم : إذا نفرتم عن الأمة فالمشركة أولى ـ وفيه تأمّل ـ وفي البحر أن مفهوم الصفة يقتضي أن لا يجوز نكاح «الأمة» الكافرة كتابية أو غيرها ؛ وأمّا وطؤها بملك اليمين فيجوز مطلقا (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) أي لا تزوجوا الكفار من المؤمنات سواء كان الكافر كتابيا أو غيره وسواء كانت ـ المؤمنة أمة ـ أو حرة ، ف (تَنْكِحُوا) بضم التاء لا غير ، ولا يمكن الفتح ـ وإلا لوجب ـ ولا ينكحن المشركين ، واستدل بها على اعتبار الولي في النكاح مطلقا وهو خلاف مذهبنا ، وفي دلالة الآية على ذلك خفاء لأن المراد النهي عن إيقاع هذا الفعل والتمكين

٥١٣

منه ، وكل المسلمين أولياء في ذلك (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) مع ما فيه من ذل المملوكية.

(خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) مع ما ينسب إليه من عز المالكية (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) بما فيه من دواعي الرغبة (أُولئِكَ) أي المذكورون من المشركين والمشركات (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي الكفر المؤدي إليها إما بالقول أو بالمحبة والمخالطة فلا تليق مناكحتهم ، فإن قيل : كما أن الكفار يدعون المؤمنين إلى النار كذلك المؤمنون يدعونهم إلى الجنة بأحد الأمرين ، أجيب بأن المقصود من الآية أن المؤمن يجب أن يكون حذرا عما يضره في الآخرة وأن لا يحوم حول حمى ذلك ويجتنب عما فيه الاحتمال مع أن النفس والشيطان يعاونان على ما يؤدّي إلى النار ، وقد ألفت الطباع في الجاهلية ذلك ـ قاله بعض المحققين ـ والجملة إلخ معللة لخيرية المؤمنين والمؤمنات من المشركين والمشركات (وَاللهُ يَدْعُوا) بواسطة المؤمنين من يقاربهم (إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) أي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين إليهما وتقديم (الْجَنَّةِ) على (الْمَغْفِرَةِ) مع قولهم : التخلية أولى بالتقديم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداء (بِإِذْنِهِ) متعلق ب (يَدْعُوا) أي (يَدْعُوا) إلى ذلك متلبسا بتوفيقه الذي من جملته إرشاد المؤمنين لمقاربيهم إلى الخير أحقاء بالمواصلة (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لكي يتعظوا أو يستحضروا معلوماتهم بناء على أنّ معرفة الله تعالى مركوزة في العقول ، والجملة تذييل للنصح والإرشاد ، والواو اعتراضية أو عاطفة ، وفصلت الآية السابقة ب (تَتَفَكَّرُونَ) لأنها كانت لبيان الأحكام والمصالح والمنافع والرغبة فيها التي هي محل تصرف العقل والتبيين للمؤمنين فناسب التفكر ، وهذه الآية ب (يَتَذَكَّرُونَ) لأنها تذييل للإخبار بالدعوة إلى (الْجَنَّةِ) و (النَّارِ) التي لا سبيل إلى معرفتها إلا النقل والتبيين لجميع الناس فناسب التذكر.

ومن الناس من قدّر في الآية مضافا أي فريق الله أو أولياؤه وهم المؤمنون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تشريفا لهم ، واعترض بأن الضمير في المعطوف على الخبر لله تعالى فيلزم التفكيك مع عدم الداعي لذلك ، وأجيب بأن الداعي كون هذه الجملة معللة للخيرية السابقة ولا يظهر التعليل بدون التقدير ، وكذا لا تظهر الملاءمة لقوله سبحانه : (بِإِذْنِهِ) بدون ذلك فإن تقييد دعوته تعالى (بِإِذْنِهِ) ليس فيه حينئذ كثير فائدة بأي تفسير فسر ـ الإذن ـ وأمر التفكيك سهل لأنه بعد إقامة المضاف إليه مقام المضاف للتشريف بجعل فعل الأول فعلا للثاني صورة فتتناسب الضمائر ـ كما في الكشف ولا يخفى ما فيه ـ وعلى العلات هو أولى مما قيل : إن المراد (وَاللهُ يَدْعُوا) على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ذلك فتجب إجابته بتزويج أوليائه لأنه وإن كان مستدعيا لاتحاد المرجع في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبرا ، لكن يفوت التعليل وحسن المقابلة بينه وبين (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) وكذا لطافة التقييد كما لا يخفى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أنس رضي الله تعالى عنهم «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل الله هذه الآية فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جامعوهنّ في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح» وعن السدي ـ إن الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح رضي الله تعالى عنه ـ والجملة معطوفة على ما تقدم من مثلها ، ووجه مناسبتها له أنه لما نهى عن مناكحة الكفار ورغب في مناكحة أهل الإيمان بين حكما عظيما من أحكام النكاح ، وهو حكم النكاح في الحيض ، ولعل حكاية هذه الأسئلة الثلاثة بالعطف لوقوع الكل في وقت واحد عرفي ، وهو وقت السؤال عن (الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فكأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عنهما والسؤال عن كذا وكذا ؛ وحكاية ما عداها بغير عطف لكونها كانت في أوقات متفرقة فكان كل واحد سؤالا مبتدأ ؛ ولم يقصد الجمع بينهما بل الإخبار

٥١٤

عن كل واحد على حدة ، فلهذا لم يورد الواو بينها ، وقال صاحب الانتصاف في بيان العطف والترك : إن أول المعطوفات عين الأول من المجردة ، ولكن وقع جوابه أولا بالمصرف لأنه الأهم ، وأن كان المسئول عنه إنما هو المنفق لا جهة مصرفه ثم لما لم يكن في الجواب الأول تصريح بالمسئول عنه أعيد السؤال ليجابوا عن المسئول عنه صريحا ، وهو العفو الفاضل فتعين إذا عطفه ليرتبط بالأول ، وأما السؤال الثاني من المقرونة فقد وقع عن أحوال اليتامى ، وهل يجوز مخالطتهم في النفقة والسكنى فكان له مناسبة مع النفقة باعتبار أنهم إذا خالطوهم أنفقوا عليهم فلذا عطف على سؤال الإنفاق ، وأما السؤال الثالث فلما كان مشتملا على اعتزال الحيض ناسب عطفه على ما قبله لما فيه من بيان ما كانوا يفعلونه من اعتزال اليتامى ، وإذا اعتبرت الأسئلة المجردة من الواو لم تجد بينها مداناة ولا مناسبة البتة إذ الأول منها عن النفقة والثاني عن القتال في (الشَّهْرِ الْحَرامِ) ، والثالث عن (الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) وبينها من التباين ، والتقاطع ما لا يخفى فذكرت كذلك مرسلة متقاطعة غير مربوطة بعضها ببعض ، وهذا من بدائع البيان الذي لا تجده إلا في الكتاب العزيز ا ه.

ولا أرى القلب يطمئن به كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكرناه فتدبر ، والمحيض كما قال الزجاج :

وعليه الكثير مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا فهو كالمجيء والمبيت وأصله السيلان يقال : حاض السيل وفاض قال الأزهري : ومنه قيل : للحوض حوض لأن الماء يحيض إليه أي يسيل ، والعرب تدخل الواو على الياء لأنهما من جنس واحد ، وقيل : إنه هنا اسم مكان ، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكى الواحدي عن ابن السكيت أنه إذا كان الفعل من ذوات الثلاثة نحو كال يكيل ، وحاض يحيض فاسم المكان منه مكسور ، والمصدر منه مفتوح ، وحكى غيره عن غيره التخيير في مثله بل قيل : إن الكسر والفتح جائزان في اسم الزمان والمكان والمصدر وعلى ما نسب للترجمان ، واختاره الإمام يحتاج إلى الحذف في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ أَذىً) أي موضع أذى وكذا يحتاج إلى اعتبار الزمان في قوله سبحانه : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) لركاكة قولنا (فَاعْتَزِلُوا) في موضع الحيض ، وإن اختاره الإمام وقال : إن المعنى ـ اعتزلوا مواضع الحيض ، والأذى ـ مصدر من ـ إذا يؤذيه إذا وإذاء ، ولا يقال في المشهور إيذاء وحمله على المحيض للمبالغة ، والمعنى المقصود منه المستقذر وبه فسره قتادة ، واستعمل فيه بطريق الكناية ، والمراد من اعتزال النساء اجتناب مجامعتهن كما يفهمه آخر الآية ، وإنما أسند الفعل إلى الذات للمبالغة كما في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] ووضع الظاهر موضع المضمر لكمال العناية بشأنه بحيث لا يتوهم غيره أصلا ، وقد يقال لا وضع ، وحديث الإعادة أغلبي بل يعتبر ما أشرنا إلى اعتباره فيما أشرنا إلى عدم اعتباره لضعف النسبة ، وقوة الداعي إلى التقدير وعدمه أولى ، وإنما وصف بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء ولم يكتف في الجواب بالأمر للإشعار بأنه العلة والحكم المعلل أوقع في النفس.

(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) تقرير للحكم السابق لأن الأمر بالاعتزال يلزمه النهي عن القربان وبالعكس فيكون كل منهما مقررا وإن تغايرا بالمفهوم فلذا عطف أحدهما على الآخر ؛ وفيه بيان لغايته فإن تقييد الاعتزال بقوله سبحانه وتعالى : (فِي الْمَحِيضِ) وترتبه على كونه أذى يفيد تخصيص الحرمة بذلك الوقت ، ويفهم منه عقلا انقطاعها بعده ، ولا يدل عليه اللفظ صريحا بخلاف (حَتَّى يَطْهُرْنَ) والغاية انقطاع الدم عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فإن كان الانقطاع لأكثر مدة الحيض حل القربان بمجرد الانقطاع ، وإن كان لأقل منها لم يحل إلا باغتسال أو ما هو في حكمه من مضي وقت صلاة ، وعند الشافعية هي الاغتسال بعد الانقطاع قالوا : ويدل عليه صريحا قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن عياش «يطهرن» بالتشديد أي «يتطهرن» والمراد به يغتسلن لا لأن الاغتسال

٥١٥

معنى حقيقي للتطهير كما يوهمه بعض عباراتهم ـ لأن استعماله فيما عدا الاغتسال شائع في الكلام المجيد والأحاديث على ما لا يخفى على المتتبع ـ بل لأن صيغة المبالغة يستفاد منها الطهارة الكاملة ، والطهارة الكاملة للنساء عن المحيض هو الاغتسال فلما دلت قراءة التشديد على أن غاية حرمة القربان هو الاغتسال والأصل في القراءات التوافق حملت قراءة التخفيف عليها بل قد يدعى أن الطهر يدل على الاغتسال أيضا بحسب اللغة ففي القاموس طهرت المرأة انقطع دمها واغتسلت من الحيض كتطهرت ، وأيضا قوله تعالى :

(فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) يدل التزاما على أن الغاية هي الاغتسال لأنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل فهو يقوي كون المراد بقراءة التخفيف الغسل لا الانقطاع وربما يكون قرينة على التجوز في الطهر بحمله على الاغتسال إن لم يسلم ما تقدم وعلى فرض عدم تسليم هذا وذاك والرجوع إلى القول بأن قراءة التخفيف من الطهر وهو حقيقة في انقطاع الدم لا غير ولا تجوز ولا قرينة ، وقراءة التشديد من التطهر ، ويستفاد منه الاغتسال يقال أيضا في وجه الجمع كما في الكشف : إن القراءة بالتشديد لبيان الغاية الكاملة وبالتخفيف لبيان الناقصة ، وحتى في الأفعال نظير إلى في أنه لا يقتضي دخول ما بعدها فتكون الكاملة البتة ، وبيانه أن الغاية الكاملة ما يكون غاية بجميع أجزائه وهي الخارجة عن المغيا ، والناقصة ما تكون غاية باعتبار آخرها وحتى الداخلة على الأسماء تقتضي دخول ما بعدها لو لا الغاية والداخلة على الأفعال مثل إلى لا تقتضي كون ما بعدها جزءا لما قبلها فانقطاع الدم غاية للحرمة باعتبار آخره فيكون وقت الانقطاع داخلا فيها والاغتسال غاية لها باعتبار أوله فلا تعارض بين القراءتين ، ولعل فائدة بيان الغايتين بيان مراتب حرمة القربان فإنها أشد قبل الانقطاع مما بعده ، ولما رأى ساداتنا الحنفية أن هاهنا قراءتين التخفيف والتشديد وأن مؤدى الأولى انتهاء الحرمة العارضة على الحل بانقطاع الدم مطلقا فإذا انتهت الحرمة العارضة حلت بالضرورة وأن مؤدى الثانية عدم انتهائها عنده بل بعد الاغتسال ، ورأوا أن الطهر إذا نسب إلى المرأة لا يدل على الاغتسال لغة بل معناه فيها انقطاع الدم وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد ، وفي تاج البيهقي طهرت خلاف طمثت ، وفي شمس العلوم امرأة طاهر بغير ـ هاء ـ انقطع دمها وفي الأساس امرأة طاهر ونساء طواهر طهرن من الحيض ، ولا يعارض ذلك ما في القاموس لجواز أن يكون بيانا للاستعمال ولو مجازا على ما هو طريقته في كثير من الألفاظ وأن الحمل على الاغتسال مجازا من غير قرينة معينة له مما لا يصح واعتبار (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) قرينة بناء على ما ذكروا ليس بشيء وما ذكروه في وجه الدلالة من الاقتضاء فيه بحث لأن ـ الفاء ـ الداخلة على الجملة التي لا تصلح أن تكون شرطا كالجملة الإنشائية لمجرد الربط كما نص عليه ابن هشام في المغني ومثل له بقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) [آل عمران : ٣١] ولو سلم فاللازم تأخر جواز الإتيان عن الغسل في الجملة لا مطلقا حتى يكون قرينة على أن المراد بقراءة التخفيف أيضا الغسل وأن القول بأن إحدى الغايتين داخلة في الحكم والأخرى خارجة خلاف المتبادر احتاجوا للجمع بجعل كل منهما آية مستقلة فحملوا الأولى على الانقطاع بأكثر المدة ، والثانية لتمام العادة التي ليست أكثر مدة الحيض كما حمل إبراهيم النخعي قراءة النصب والجرّ في أرجلكم على حالة التخفيف وعدمه وهو المناسب لأن في توقف قربانها في الانقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضا حكما وهو مناف لحكم الشرع لوجوب الصلاة عليها المستلزم لإنزاله إياها ظاهرا حكما بخلاف تمام العدة فإن الشرع لم يقطع عليها بالطهر بل يجوز الحيض بعده ، ولذا لو زادت ولم يجاوز العشرة كان الكل حيضا بالاتفاق بقي أن مقتضى الثانية ثبوت الحرمة قبل الغسل فرفع الحرمة قبله بمضي أول وقت الصلاة أعني أدناه الواقع آخرا ، واعتبار الغسل حكما على ما قالوا معارضة النص بالمعنى ، والجواب أن القراءة الثانية خص منها صورة الانقطاع للعشرة بقراءة التخفيف فجاز أن يخص ثانيا

٥١٦

بالمعنى كما قاله بعض المحققين ولا يخفى ما في مذهب الإمام من التيسير والاحتياط لا يخفى ، وحكي عن الأوزاعي أن حل الإتيان موقوف على التطهر وفسره بغسل موضع الحيض وقد يقال لتنقية المحل تطهير ، فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن امرأة سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن غسلها من المحيض فأمرها قبل أن تغتسل قال : خذي فرصة من مسك فتطهري بها قالت : كيف أتطهر بها؟ قال : تطهري بها قالت : كيف؟ قال : سبحان الله تطهري بها فاجتذبتها فقلت : تتبعي بها أثر الدم» وذهب طاوس ومجاهد في رواية عنه أن غسل الموضع مع الوضوء كاف في حل الإتيان ـ وإليه ذهب الإمامية ـ ولا يخفى أنه ليس شيء من ذلك طهارة كاملة للنساء وإنما هي طهارة كاملة لأعضائهن وهو خلاف المتبادر في الآية وإنما المتبادر هو الأول وما في الحديث وإن كان أمرا بالتطهر لتلك المرأة لكن المراد بذلك المبالغة في تطهير الموضع إلا أنه لأمر ما لم يصرح به صلى الله تعالى عليه وسلم وإطلاق التطهير على تنقية المحل مما لا ننكره وإنما ننكر إطلاق يطهرن على من طهرن مواضع حيضهن ودون إثباته حيض الرجال. واستدل بالآية على أنه لا يحرم الاستمتاع بالحائض بما بين السرة والركبة وإنما يحرم الوطء ، وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها فيما أخرجه ابن جرير ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت : كل شيء إلا الجماع ؛ وذهب جماعة إلى حرمة الاستمتاع بما بين السرة والركبة استدلالا بما أخرجه مالك عن زيد بن أسلم «أن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ما ذا يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم : لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها» وكأنه من باب سد الذرائع في الجملة ، ولهذا ورد فيما أخرجه الإمام أحمد والتعفف عن ذلك أفضل والأمر في الآية للإباحة على حد (إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] ففيها إباحة الإتيان لكنه مقيد بقوله سبحانه :

(مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي من المكان الذي أمركم الله تعالى بتجنبه لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوا غيره قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع ، وقال الزجاج : معناه من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة ولا تقربوهن من حيث لا يحل كما إذا كن صائمات أو محرمات أو معتكفات وأيد بأنه لو أراد الفرج لكانت ـ في ـ أظهر فيه من ـ من ـ لأن الإتيان بمعنى الجماع يتعدى بها غالبا لا بمن ، ولعله في حيز المنع عند أهل القول الأول (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) مما عسى يندر منهم من ارتكاب بعض الذنوب كالإتيان في الحيض المورث للجذام في الولد كما ورد في الخبر ، والمستدعي عقاب الله تعالى فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي ، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصبت امرأتي وهي حائض فأمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعتق نسمة» وقيمة النسمة حينئذ دينار ، وهذا إذا كان الإتيان في أول الحيض والدم أحمر أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار كمجامعة الحائض والإتيان لا من حيث أمر الله تعالى وحمل التطهر على التنزه هو الذي تقتضيه البلاغة وهو مجاز على ما في الأساس وشمس العلوم ، وعن عطاء حمله على التطهر بالماء والجملتان تذييل مستقل لما تقدم (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) أخرج البخاري وجماعة عن جابر قال : «كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها ثم حملت جاء الولد أحول فنزلت» والحرث إلقاء البذر في الأرض وهو غير الزرع لأنه إنباته يرشدك إلى ذلك قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة : ٦٣ ، ٦٤] وقال الجوهري : الحرث الزرع والحارث الزارع وعلى كل تقدير هو خبر عما

٥١٧

قبله إما بحذف المضاف أي مواضع حرث ، أو التجوز والتشبيه البليغ أي كمواضع ذلك وتشبيههن بتلك المواضع متفرع على تشبيه النطف بالبذور من حيث إن كلّا منهما مادة لما يحصل منه ولا يحسن بدونه فهو تشبيه يكنى به عن تشبيه آخر (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أي ما هو كالحرث ففيه استعارة تصريحية ويحتمل أن يبقى الحرث على حقيقته والكلام تمثيل شبه حال إتيانهم النساء في المأتي بحال إتيانهم المحارث في عدم الاختصاص بجهة دون جهة ثم أطلق لفظ المشبه به على المشبه ، والأول أظهر وأوفق لتفريع حكم الإتيان على تشبيههن بالحرث تشبيها بليغا ، وهذه الجملة مبينة لقوله تعالى : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) لما فيه من الإجمال من حيث المتعلق ، والفاء جزائية وما قبلها علة لما بعدها ، وقدم عليه اهتماما بشأن العلة وليحصل الحكم معللا فيكون أوقع ، ويحتمل أن يكون المجموع كالبيان لما تقدم ، والفاء للعطف وعطف الإنشاء على الأخبار جائز بعاطف سوى الواو (أَنَّى شِئْتُمْ) قال قتادة والربيع من أين (شِئْتُمْ) وقال مجاهد : كيف شئتم ، وقال الضحاك : متى شئتم ، ومجيء (أَنَّى) بمعنى ـ أين ـ وكيف ومتى مما أثبته الجم الغفير ، وتلزمها على الأول ـ من ـ ظاهرة أو مقدرة ، وهي شرطية حذف جوابها لدلالة الجملة السابقة عليه. واختار بعض المحققين كونها هنا بمعنى من أين أي من أي جهة ليدخل فيه بيان النزول ، والقول بأن الآية حينئذ تكون دليلا على جواز الإتيان من الإدبار ناشئ من عدم التدبر في أن ـ من ـ لازمة إذ ذاك فيصير المعنى من أي مكان لا في أي مكان فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال لا تعميم مواضع الإتيان فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها كابن عمر ، والأخبار عنه في ذلك صحيحة مشهورة ، والروايات عنه بخلافها على خلافها ، وكابن أبي مليكة وعبد الله بن القاسم حتى قال فيما أخرجه الطحاوي عنه : ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال ، وكمالك بن أنس حتى أخرج الخطيب عن أبي سليمان الجوزجاني أنه سأله عن ذلك فقال له : الساعة غسلت رأس ذكري منه ، وكبعض الإمامية لا كلهم كما يظنه بعض الناس ممن لا خبرة له بمذهبهم ، وكسحنون من المالكية ، والباقي من أصحاب مالك ينكرون رواية الحل عنه ولا يقولون به ، ويا ليت شعري كيف يستدل بالآية على الجواز مع ما ذكرناه فيها ومع قيام الاحتمال كيف ينتهض الاستدلال لا سيما وقد تقدم قبل وجوب الاعتزال في المحيض وعلل بأنه أذى مستقذر تنفر الطباع السليمة عنه ، وهو يقتضي وجوب الاعتزال عن الإتيان في الأدبار لاشتراك العلة ولا يقاس ما في المحاش من الفضلة بدم الاستحاضة ومن قاس فقد أخطأت استه الحفرة لظهور الاستقذار. والنفرة مما في المحاش دون دم الاستحاضة ، وهو دم انفجار العرق كدم الجرح ؛ وعلى فرض تسليم أن (أَنَّى) تدل على تعميم مواضع الإتيان كما هو الشائع يجاب بأن التقييد بمواضع الحرث يدفع ذلك فقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ أتاه رجل فقال : ألا تشفيني من آية المحيض قال : بلى فقرأ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) إلى (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) فقال ابن عباس : من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتي فقال : كيف بالآية (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)؟ فقال : ويحك ، وفي الدبر من حرث لو كان ما تقول حقا لكان المحيض منسوخا إذا شغل من هاهنا جئت من هاهنا ولكن أنى شئتم من الليل والنهار ، وما قيل من أنه لو كان في الآية تعين الفرج لكونه موضع الحرث للزم تحريم الوطء بين الساقين وفي الاعكان لأنها ليست موضع حرث كالمحاش مدفوع بأن الإمناء فيما عدا الضمامين لا يعد في العرف جماعا ووطئا والله تعالى قد حرم الوطء والجماع في غير موضع الحرث لا الاستمناء فحرمة الاستمناء بين الساقين وفي الاعكان لم تعلم من الآية إلا أن يعد ذلك إيتاء وجماعا وأنى به ، ولا أظنك في مرية من هذا وبه يعلم ما في مناظرة الإمام الشافعي ، والإمام محمد بن الحسن ، فقد أخرج الحاكم عن عبد الحكم أن الشافعي ناظر محمدا في هذه المسألة فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون

٥١٨

في الفرج فقال له أفيكون ما سوى الفرج محرما فألتزمه؟ فقال : أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها أو في ذلك حرث؟ قال : لا قال : أفيحرم؟ قال : لا قال : فكيف تحتج بما لا تقول به ، وكأنه من هنا قال الشافعي فيما حكاه عنه الطحاوي والحاكم والخطيب لما سئل عن ذلك : ما صح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال وهذا خلاف ما نعرف من مذهب الشافعي فإن رواية التحريم عنه مشهورة فلعله كان يقول ذلك في القديم ورجع عنه في الجديد لما صح عنده من الأخبار أو ظهر له من الآية (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) ما يصلح للتقديم من العمل الصالح ومنه التسمية عند الجماع وطلب الولد المؤمن ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا» وصح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له» وعن عطاء تخصيص المفعول بالتسمية. وعن مجاهد بالدعاء عند الجماع ، وعن بعضهم بطلب الولد وعن آخرين بتزوج العفائف والتعميم أولى (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه.

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) بالبعث فيجازيكم بأعمالكم فتزودوا ما ينفعكم ؛ والضمير المجرور راجع إلى الله تعالى بحذف مضاف أو بدونه ورجوعه إلى ما قدمتم أو إلى الجزاء المفهوم منه بعيد والأوامر معطوفة على قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) وفائدتها الإرشاد العام بعد الإرشاد الخاص وكون الجملة السابقة مبينة لا يقتضي أن يكون المعطوف عليها كذلك (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الذين تلقوا ما خوطبوا به بالقبول والامتثال بما لا تحبط به عبارة من الكرامة والنعيم ، وحمل بعضهم المؤمنين على الكاملين في الإيمان بناء على أن الخطابات السابقة كانت للمؤمنين مطلقا فلو كانت هذه البشارة لهم كان مقتضى الظاهر وبشرهم فلما وضع المظهر موضع المضمر علم أن المراد غير السابقين وهم المؤمنون الكاملون ولا يخفى أنه يجوز أن يكون العدول إلى الظاهر للدلالة على العلية ولكونه فاصلة فلا يتم ما ذكره والواو للعطف ، (وَبَشِّرِ) عطف على (قُلْ) المذكور سابقا أو على «قل» مقدرة قبل قدموا وهي معطوفة على المذكورة «ومن باب الإشارة» يسألونك عن خمر الهوى وحب الدنيا وميسر احتيال النفس بواسطة قداحها التي هي حواسها العشرة المودعة في ربابة البدن لنيل شيء من جزور اللذات والشهوات قل فيهما إثم الحجاب والبعد عن الحضرة ومنافع للناس في باب المعاش وتحصيل اللذة النفسانية والفرح بالذهول عن المعايب والخطرات المشوشة والهموم المكدرة وإثمهما أكبر من نفعهما لأن فوات الوصال في حظائر الجمال لا يقابله شيء ، ولا يقوم مقامه ـ وصال سعدى ولامى ـ ولفرق عند الأبرار بين السكر من المدير والسكر من المدار :

وأسكر القوم ورود كأس

وكان سكرى من المدير

وهذا هو السكر الحلال لكنه فوق عالم التكليف ووراء هذا العالم الكثيف وهو سكر أرواح لا أشباح وسكر رضوان لا حميا دنان :

وما مل ساقيها ولا مل شارب

عقار لحاظ كأسها يسكر اللبا

(وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) وهو ما سوى الحق من الكونين (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) المنزلة من سماء الأرواح (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في الدنيا والآخرة وتقطعون بواديهما بأجنحة السير والسلوك إلى ملك الملوك (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) وهو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية «قل هو أذى» تنفر القلوب الصافية عنه فاعتزلوا بقلوبكم نساء النفوس في محيض غلبات الهوى حتى يطهرن ويفرغن من قضاء الحوائج الضرورية

٥١٩

فإذا تطهرن بماء الإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة فأتوهن من حيث أمركم الله أي عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها إن الله يحب التوابين عن أوصاف الوجود ويحب المتطهرين بنور المعرفة عن غبار الكائنات ، أو يحب التوابين من سؤالاتهم ويحب المتطهرين من إراداتهم نساؤكم وهي النفوس التي غدت لباسا لكم وغدوتم لباسا لهن موضع حرثكم للآخرة فأتوا حرثكم متى شئتم الحراثة لمعادكم وقدموا لأنفسكم ما ينفعها ويكمل نشأتها واتقوا الله من النظر إلى ما سواه واعلموا أنكم ملاقوه بالفناء فيه إذا اتقيتم وبشر المؤمنين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) أخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح ابن خالته وكان من الفقراء المهاجرين لما وقع في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها ، وقال الكلبي : نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف على ختنه بشير بن النعمان أن لا يدخل عليه أبدا ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته بعد أن كان قد طلقها وأراد الرجوع إليها والصلح معها ، والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة والغرفة وهي هنا من عرض الشيء من باب نصر أو ضرب جعله معترضا أو من عرضه للبيع عرضا من باب ضرب إذا قدمه لذلك ، ونصبه له والمعنى على الأول لا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه وتركتموه من أنواع الخير فيكون المراد بالأيمان الأمور المحلوف عليها وعبر عنها بالأيمان لتعلقها بها أو لأن اليمين بمعنى الحلف تقول حلفت يمينا كما تقول حلفت حلفا فسمي المفعول بالمصدر كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه مسلم وغيره : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير» ، وقيل : على في الحديث زائدة لتضمن معنى الاستعلاء وقوله تعالى (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) عطف بيان لأيمانكم وهو في غير الأعلام كثير وفيها أكثر ، وقيل : بدل وضعف بأن المبدل منه لا يكون مقصودا بالنسبة بل تمهيد وتوطئة للبدل وهاهنا ليس كذلك واللام صلة عرضة ، وفيها معنى الاعتراض أو بتجعلوا والأول أولى وإن كان المال واحدا ، وجوز أن تكون الأيمان على حقيقتها واللام للتعليل وأن تبروا في تقدير لأن ويكون صلة للفعل أو لعرضة ، والمعنى لا تجعلوا الله تعالى : حاجزا لأجل حلفكم به عن البر والتقوى والإصلاح ، وعلى الثاني ولا تجعلوا الله نصبا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل لأن في ذلك نوع جرأة على الله تعالى وهو التفسير المأثور عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، وبه قال الجبائي وأبو مسلم وروته الإمامية عن الأئمة الطاهرين ، ويكون أن تبروا علة للنهي على معنى أنهيكم عنه طلب بركم وتقواكم وإصلاحكم إذ الحلاف مجترئ على الله تعالى والمجترئ عليه بمعزل عن الاتصاف بتلك الصفات ويؤول إلى لا تكثروا الحلف بالله تعالى لتكونوا بارين متقين ويعتمد عليكم الناس فتصلحوا بينهم ، وتقدير الطلب ونحوه لازم إن كان (أَنْ تَبَرُّوا) في موضع النصب ليتحقق شرط حذف اللام وهو المقارنة لأن المقارنة للنهي ليس هو البر والتقوى والإصلاح بل طلبها وإن كان في موضع الجر بناء على أن حذف حرف الجر من أن وإن قياسي فليس بلازم وإنما قدروه لتوضيح المعنى والمراد به طلب الله تعالى لا طلب العبد ، وإن أريد ذلك كان علة للكف المستفاد من النهي كأنه قيل : كفوا أنفسكم من جعله سبحانه عرضة وطلب العبد صالح للكف (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم وأيمانكم (عَلِيمٌ) بأحوالكم ونياتكم فحافظوا على ما كلفتموه ، ومناسبة الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمرهم بالتقوى نهاهم عن ابتذال اسمه المنافي لها أو نهاهم عن أن يكون اسمه العظيم حاجزا لها ومانعا منها (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولغو اليمين عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ما سبق له اللسان ، وما في حكمه مما لم يقصد منه اليمين كقول العرب لا والله لا بالله لمجرد التأكيد ، وهو المروي عن عائشة وابن عمر وغيرهما في أكثر الروايات ، والمعنى لا يؤاخذكم أصلا بما لا قصد لكم فيه من الأيمان.

٥٢٠