روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحللات والمحرمات ، والآية نزلت ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ في علماء اليهود كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم ، فلما بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لا يتبع فتزول رئاستهم وتنقطع هداياهم (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) أي يأخذون بدله في نفس الأمر ، والضمير ـ للكتاب ـ أو لما أنزل أو للكتمان (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عوضا حقيرا. (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) إما في الحال ـ كما هو أصل المضارع ـ لأنهم أكلوا ما يتلبس ب (النَّارَ) وهو ـ الرشا ـ لكونها عقوبة لها فيكون في الآية استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة من ـ أكلهم النار ـ من حيث إنه يترتب على ـ أكل ـ كل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر ، فاستعمل لفظ المشبه به في المشبه ، وإما في المآل ، أي لا يأكلون يوم القيامة (إِلَّا النَّارَ) فالنار في الاحتمالين مستعمل في معناه الحقيقي ، وقيل : إنها مجاز عن ـ الرشا ـ إذا أريد الحال ، والعلاقة السببية والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل ، ولا يخفى أن الأول هو الأليق بمقام الوعيد ، والجار والمجرور حال مقدرة ، أي (ما يَأْكُلُونَ) شيئا حاصلا (فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) إذ الحصول في ـ البطن ـ ليس مقارنا للأكل ، وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال على الاستثناء ، ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق ب (يَأْكُلُونَ) والمراد في طريق (بُطُونِهِمْ) كما اختاره أبو البقاء ، والتقييد ـ بالبطون ـ لإفادة ـ الملء ـ لا للتأكيد ـ كما قيل به ـ والظرفية بلفظة (فِي) وإن لم تقتض استيعاب المظروف الظرف ، لكنه شاع استعمال ظرفية ـ البطن ـ في الاستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في عدمه كقوله :

كلوا ـ في بعض ـ بطنكم ـ تعفوا

فإن زمانكم زمن خميص

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي كلام رحمة ـ كما قال الحسن ـ فلا ينافي سؤاله سبحانه إياهم ، وقيل : «لا يكلمهم» أصلا لمزيد غضبه جل جلاله عليهم ، والسؤال بواسطة الملائكة.

(وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم من دنس الذنوب ، أو لا يثني عليهم.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم ، وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى ، لأنه لما ذكر سبحانه اشتراءهم بذلك ـ الثمن القليل ـ وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية بدأ أولا في الخبر بقوله تعالى : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ثم قابل ـ كتمانهم الحق ـ وعدم التكلم به بقوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) تعالى ، وابتنى على ـ كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله تعالى ثمنا قليلا ـ أنهم شهود زور وأحبار سوء آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وآلموه فقوبلوا بقوله سبحانه : (وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وبدأ أولا بما يقابل فردا فردا ، وثانيا بما يقابل المجموع (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا) بسبب كتمانهم الحق للمطامع الدنية ، والأغراض الدنيوية (الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في الدنيا (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) في الآخرة ، والجملة إما مستأنفة فإنه لما عظم وعيد الكاتمين كان مظنة أن يسأل عن سبب عظم وعيدهم ، فقيل : إنهم بسبب الكتمان خسروا الدنيا والآخرة ، وإما خبر بعد خبر لأن ، والجملة الأولى لبيان شدة وعيدهم ، وهذه لبيان شناعة كتمانهم.

(فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي ما أشد صبرهم ، وهو تعجيب للمؤمنين من ارتكابهم موجباتها من غير مبالاة وإلا فأي صبر لهم ، وما في مثل هذا التركيب قيل : نكرة تامة ـ وعليه الجمهور ـ وقيل : استفهامية ضمنت معنى التعجب ـ وإليه ذهب الفراء ـ وقيل : موصولة ـ وإليه ذهب الأخفش ـ وحكي عنه أيضا أنها نكرة موصوفة ـ وهي على هذه الأقوال ـ في محل رفع على الابتداء ، والجملة خبرها ، أو خبرها محذوف إن كانت صفة أو صلة ، وتمام الكلام

٤٤١

في كتب النحو. (ذلِكَ) أي مجموع ما ذكر من أكل النار ، وعدم التكليم ، والتزكية والعذاب المرتب على الكتمان (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي بسبب أن الله تعالى (نَزَّلَ) القرآن ، أو التوراة متلبسا بالحق ليس فيه شائبة البطلان أصلا فرفضوه ـ بالتكذيب أو الكتمان.

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) أي في جنسه ـ بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض ـ أو في التوراة ، ومعنى (اخْتَلَفُوا) تخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها ، أو جعلوا ما بدلوه خلفا عما فيها ـ أو في القرآن ـ واختلافهم فيه قول بعضهم : إنه سحر ، وبعضهم إنه شعر ، وبعضهم إنه أساطير الأولين.

(لَفِي شِقاقٍ) أي خلاف (بَعِيدٍ) عن الحق موجب لأشد العذاب ، وهذه الجملة تذييل لما تقدم معطوفة عليه. ومن الناس من جعل ـ الواو ـ للحال والسببية المتقدمة راجعة إليها والتذييل أدخل في الذم كما لا يخفى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْبِرَّ) اسم جامع لأنواع الخير والطاعات المقربة إلى الله تعالى ـ والخطاب لأهل الكتابين ـ والمراد من (قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) السمتان المعينان ، فإن اليهود تصلي ـ قبل المغرب ـ إلى بيت المقدس من أفق مكة ، والنصارى ـ قبل المشرق ـ والآية نزلت ردا عليهم حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة وادعى كل طائفة حصر ـ البر ـ على قبلته ردا على الآخر فرد الله تعالى عليهم جميعا بنفي جنس (الْبِرَّ) عن قبلتهم لأنها منسوخة ، فتعريفه للجنس لإفادة عموم النفي ـ لا للقصر ـ إذ ليس المقصود نفي القصر أو قصر النفي. ويحتمل أن يكون الخطاب عاما لهم وللمسلمين ـ فيكون عودا على بدء ـ فإن الكلام في أمر القبلة وطعنهم في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك كان أساس الكلام إلى هذا القطع ، فجعل خاتمة كلية أجمل فيها ما فصل. والمراد من ذكر (الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) التعميم ـ لا تعيين السمتين ـ وتعريف (الْبِرَّ) حينئذ إما للجنس فيفيد القصر ، والمقصود نفي اختصاص (الْبِرَّ) بشأن القبلة مطلقا على ما يقتضيه الحال من كثرة الاشتغال والاهتمام بذلك والذهول عما سواه ، وإما للعهد أي ليس (الْبِرَّ) العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه وذهلتم عما سواه ذلك ، وقدم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية رعاية لما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب ، وقرأ حمزة وحفص ـ البر ـ بالنصب والباقون بالرفع. ووجه الأولى أن يكون خبرا مقدما كما في قوله :

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم

فليس «سواء» عالم وجهول

وحسن ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولا فلو روعي الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم ، ووجه الثانية أن كل فريق يدعي أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه في الاستدراك ، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (لَيْسَ الْبِرَّ) بالنصب بأن تولوا ـ بالباء ـ (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل ، وأل ـ في (الْبِرَّ) إما للجنس فيكون القصر ادعائيا لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد ، وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله ، والكلام على حذف مضاف أي ـ برّ من آمن ـ إذ لا يخبر بالجثة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف ويجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أو يقال بإطلاق (الْبِرَّ) على البار مبالغة ، والأول أوفق لقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ) وأحسن في نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤول إلى الأول ، والمراد بهذا الإيمان إيمان خال عن شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى القائلين ـ عزير ابن الله والمسيح ابن الله ـ وقرأ نافع وابن عامر ـ «ولكن» ـ بالتخفيف ، وقرأ بعضهم «البار» بصيغة اسم الفاعل.

٤٤٢

(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي المعاد الذي يقول به المسلمون وما يتبعه عندهم (وَالْمَلائِكَةِ) أي وآمن بهم وصدق بأنهم عباد مكرمون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ومنهم المتوسطون بينه تعالى وبين أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بإلقاء الوحي وإنزال الكتب (وَالْكِتابِ) أي جنسه فيشمل جميع ـ الكتب ـ الإلهية لأن البر الإيمان بجميعها وهو الظاهر الموافق لقرينه ، ولما ورد في الحديث «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» أو القرآن لأنه المقصود بالدعوة والكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا والإيمان به الإيمان بجميع الكتب لكونه مصدقا لما بين يديه ، وقيل : التوراة ويبعده عدم ظهور القرينة المخصصة لها وأن الإيمان بها لا يستلزم الإيمان بالجميع إلا باعتبار استلزامه الإيمان بالقرآن ، والإيمان بالكتب أن يؤمن بأنها كلام الرب جل شأنه منزهة عن الحدوث منزلة على ذويها ظاهرة لديهم حسبما اقتضته الحكمة من اللغات (وَالنَّبِيِّينَ) أي جميعهم من غير تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين والإيمان بهم أن يصدق بأنهم معصومون مطهرون وأنهم أشرف الناس حسبا ونسبا وأن ليس فيهم وصمة ولا عيب منفر ويعتقد أن سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع والتمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة.

(وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) حال من ضمير آتى ، والضمير المجرور للمال ـ أي أعطى المال كائنا على حب المال ـ والتقييد لبيان أفضل أنواع الصدقة فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم [الواقعة : ٨٣] قلت لفلان كذا لفلان كذا إلا وقد كان لفلان» وفي هذا إيذان بأن درجات الثواب تتفاوت حسب تفاوت المراتب في الحب حتى أن صدقة الفقير والبخيل أفضل من صدقة الغني والكريم إلا أن يكونا أحب للمال منهما ، ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل الأعمال أحمزها» وجوز رجوع الضمير لله تعالى أو للمصدر المفهوم من الفعل والتقييد حينئذ للتكميل ، وبيان اعتبار الإخلاص أو طيب النفس في الصدقة ودفع كون إيتاء المال مطلقا برا ، والأول هو المأثور عن السلف الصالح ، ولعله المروي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (ذَوِي الْقُرْبى) مفعول أول ل (آتَى) قدم عليه مفعوله «الثاني» للاهتمام أو لأن فيه مع «ما» عطف عليه طولا لو روعي الترتيب لفات تجاوب الأطراف ، وهو الذي اقتضى تقديم الحال أيضا ، وقيل : هو المفعول الثاني ، والمراد ب (ذَوِي الْقُرْبى) ـ ذوو قرابة ـ المعطي لكن المحاويج منهم لا مطلقا لدلالة سوق الكلام ، وعد مصارف الزكاة على أن المراد الخير والصدقة ـ وإيتاء ـ الأغنياء هبة لا صدقة ، وقدم هذا الصنف لأن ـ إيتاءهم ـ أهم فقد صح عن أم كلثوم بنت عقبة قالت : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن سلمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة». (وَالْيَتامى) عطف على (ذَوِي الْقُرْبى) وقيل على (الْقُرْبى) إذ لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل فالمعطي حينئذ كافلهم لأجلهم ، فيه ما لا يخفى (وَالْمَساكِينَ) جمع ـ مسكين ـ وهو الدائم السكون لما أن الحاجة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون ، والالتجاء إلى الناس ، وتخصيصه بمن لا شيء له أو بمن لا يملك ما يقع موقعا من حاجته خارج عن مفهومه (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي المسافر ـ كما قاله مجاهد ـ وسمي بذلك لملازمته الطريق في السفر أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبدا يتوق إلى الجمع ، ويشتاق إلى الربع ، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه ، أو لأنه لما لم يكن بين أبناء السبيل ، والمعطي تعارف غالبا يهون أمر الإعطاء ويرغب فيه أفردهم ليهون أمر إعطائهم

٤٤٣

وليشير إلى أنهم وإن كانوا جمعا ينبغي أن يعتبروا كنفس واحدة فلا يضجر من إعطائهم لعدم معرفتهم وبعد منفعتهم فليفهم ، وروي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير أنه الضيف الذي ينزل بالمسلمين (وَالسَّائِلِينَ) أي الطالبين للطعام سواء كانوا أغنياء إلا أن ما عندهم لا يكفي لحاجتهم أو فقراء كما يدل عليه ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «للسائل حق وإن جاء على فرس» فإن الجائي على فرس يكون في الغالب غنيا ، وقيل : أراد (الْمَساكِينَ) الذين يسألون فتعرف حالهم بسؤالهم ، (وَالْمَساكِينَ) السابق ذكرهم الذين لا يسألون وتعرف حاجتهم بحالهم وإن كان ظاهرهم الغنى وعليه يكون التقييد في الحديث لتأكيد رعاية حق السائل وتحقيق أن السؤال سبب للاستحقاق ، وإن فرض وجوده من الغنى كالقرابة واليتم.

(وَفِي الرِّقابِ) متعلق ب (آتَى) أي آتى المال في تخليص الرقاب وفكاكها بمعاونة المكاتبين ، أو فك الأسارى ، أو ابتياع الرقاب لعتقها ، و ـ الرقبة ـ مجاز عن الشخص وإيراد كلمة ـ في للإيذان بأن ما يعطى لهؤلاء مصروف في تخليصهم لا يملكونه كما في المصارف الأخر (وَأَقامَ الصَّلاةَ) عطف على صلة (مَنْ) والمراد بالصلاة المفروضة كالزكاة في (وَآتَى الزَّكاةَ) بناء على أن المراد بما مر من إيتاء المال نوافل الصدقات وقدمت على الفريضة مبالغة في الحث عليها ، أو حقوق كانت في المال غير مقدرة سوى الزكاة ، أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في المال حق سوى الزكاة ثم قرأ الآية» وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحو ذلك ، واختلف هل بقي هذا الحق أم لا؟ فذهب قوم إلى الثاني واستدلوا بما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا ـ نسخ الأضحى كل ذبح ، ورمضان كل صوم ؛ وغسل الجنابة كل غسل ، والزكاة كل صدقة ـ قال جماعة بالأول لقوله تعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات : ١٩] ولقوله عليه الصلاة والسلام : «لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه» وللإجماع على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ولو امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم وأجابوا عن الحديث بأنه غريب معارض ، وفي إسناده المسيب بن شريك ـ وهو ليس بالقوي عندهم ـ وبأن المراد أن الزكاة نسخت كل صدقة مقدرة ، وجوز أن يكون المراد بما مر الزكاة المفروضة أيضا ولا تكرار لأن الغرض مما تقدم بيان مصارفها ، ومن هذا بيان أدائها والحث عليها وترك ذكر بعض المصارف لأن المقصود هاهنا بيان أبواب الخير دون الحصر ، وقدم بيان المصرف اهتماما بشأنه فإن الصدقة إنما تعتبر إذا كانت في مصرفها ومحلها كما يدل عليه قوله تعالى : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ٢١٥] وعلى هذا يتعين أن يراد بالسائلين الفقراء (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) عطف على (مَنْ آمَنَ) ولم يقل وأوفى كما قبله إشارة إلى وجوب استقرار الوفاء ، وقيل : رمزا إلى أنه أمر مقصود بالذات ، وقيل : إيذانا بمغايرته لما سبق فإنه من حقوق الله تعالى والسابق من حقوق الناس ، وعلى هذا فالمراد بالعهد ما لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا من العهود الجارية فيما بين الناس ، والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق وحقوق الخلق ، وحذف المعمول يؤذن بذلك ، والتقييد بالظرف للإشارة إلى أنه لا يتأخر إيفاؤهم بالعهد عن وقت المعاهدة ، وقيل : للإشارة إلى عدم كون العهد من ضروريات الدين وليس للتأكيد كما قيل : به (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) نصب على المدح بتقدير ـ أخص أو أمدح ـ وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على سائر الأعمال حتى كأنه ليس من جنس الأول ، ومجيء القطع في العطف مما أثبته الأئمة الأعلام ووقع في الكتاب أيضا واستحسنه الأجلة وجعلوه أبلغ من الاتباع

٤٤٤

وقد جاء في النكرة أيضا كقول الهذلي :

ويأوي إلى نسوة عطل

وشعثا مراضيع مثل السعالى

و ـ البأساء ـ البؤس والفقر ، و ـ الضراء ـ السقم والوجع وهما مصدران بنيا على فعلاء وليس لهما أفعل لأن أفعل وفعلاء في الصفات والنعوت ولم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت وقرئ والصابرون كما قرئ والموفين.

(وَحِينَ الْبَأْسِ) أي وقت القتال وجهاد العدو وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر والصبر على القتال فوق الصبر على المرض ، وعدي الصبر على الأولين بفي لأنه لا يعد الإنسان من الممدوحين إذا صبر على شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له وأما إذا أصاباه وقتا ما وصبر فليس فيه مدح كثير إذ أكثر الناس كذلك وأتى ـ بحين ـ في الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم أو طلب البر.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) عذاب الله تعالى بتجنب معاصيه وامتثال أوامره ، وأتى بخبر ـ أولئك ـ الأولى موصولا بفعل ماض إيذانا بتحقق اتصافهم به وإن ذلك قد وقع منهم واستقر ، وغاير في خبر الثانية ليدل على أن ذلك ليس بمتجدد بل صار كالسجية لهم ، وأيضا لو أتى به على طبق سابقه لما حسن وقوعه فاصلة ، هذا والآية كما ترى مشتملة على خمس عشرة خصلة وترجع إلى ثلاثة أقسام ، فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل صحة الاعتقاد ، وآخرها قوله : (وَالنَّبِيِّينَ) وافتتحها بالإيمان بالله واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة فيلتئم مع ما نفاه أو لا غاية الالتئام ، والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية التي هي من قبيل حسن معاشرة العباد وأولها (وَآتَى الْمالَ) وآخرها (وَفِي الرِّقابِ) والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها (وَأَقامَ) الصلاة وآخرها (وَحِينَ الْبَأْسِ) ولعمري من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان «ومن باب التأويل» (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ) مشرق عالم الأرواح ومغرب عالم الأجساد فإن ذلك تقيد واحتجاب (وَلكِنَّ الْبِرَّ) بر الموحد الذي آمن بالله والمعاد في مقام الجمع وشاهد الجمع في تفاصيل الكثرة ولم يحتجب بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن عالم الملائكة وظاهر عالم النبيين والكتاب الجامع بين الظاهر والباطن (وَآتَى) العلم الذي هو مال القلب مع كونه محبوبا ذوي قربى القوى الروحانية القريبة منه ، ويتامى القوى النفسانية المنقطعة عن الأب الحقيقي وهو نور الروح ، ومساكين القوى الطبيعية التي لم تزل دائمة السكون إلى تراب البدن ، وأبناء السبيل السالكين إلى منازل الحق ، والسائلين الطالبين بلسان استعدادهم ما يكون غذاء لأرواحهم ، وفي فك رقاب عبدة الدنيا وأسراء الشهوات بالوعظ والإرشاد ، وأقام صلاة الحضور ، وآتى ما يزكي نفسه بنفي الخواطر ومحو الصفات ، والموفون بعهد الأزل بترك المعارضة في العبودية والإعراض عما سوى الحق في مقام المعرفة ، والصابرين في بأساء الافتقار إلى الله تعالى دائما ، وضراء كسر النفس ، وحين بأس محاربة العدو الأعظم أولئك الذين صدقوا الله تعالى في السير إليه وبذل الوجود (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) عن الشرك المنزهون عن سائر الرذائل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع في بيان بعض الأحكام الشرعية على وجه التلافي لما فرط من المخلين بما تقدم من قواعد الدين التي يبنى عليها أمر المعاش والمعاد (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) أي فرض وألزم عند مطالبة صاحب الحق فلا يضر فيه قدرة الولي على العفو فإن الوجوب إنما اعتبر بالنسبة إلى الحكام أو القاتلين ، وأصل الكتابة الخط ثم كني به عن الإلزام ، وكلمة ـ على ـ صريحة في ذلك (الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) أي بسببهم على حد «إن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها» وقيل: عدي القصاص بفي لتضمنه معنى المساواة إذ معناه أن يفعل

٤٤٥

بالإنسان مثل ما فعل ، ومنه سمي المقص مقصا لتعادل جانبيه ، والقصة قصة لأن الحكاية تساوي المحكي ، والقصاص قصاصا لأنه يذكر مثل أخبار الناس ، و (الْقَتْلى) جمع قتيل كجريح وجرحى ، وقرئ ـ كتب ـ على البناء للفاعل ، و (الْقِصاصُ) بالنصب وليس في إضمار المتعين المتقرر قبل ذكره إضمار قبل الذكر (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى) جملة مبينة لما قبلها أي الحر يقتص بالحر ، وقيل : مأخوذ به روي أنه كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منهم بالعبد والذكر بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت فأمرهم (١) أن يتباءوا ، فالآية كما تدل على أن لا يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر لأن مفهوم المخالفة إنما يعتبر إذا لم يعلم نفيه بمفهوم الموافقة وقد علم من قتل العبد بالعبد وقتل الأنثى بالأنثى أنه يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر بطريق الأولى كذلك لا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى لأن مفهوم المخالفة كما هو مشروط بذلك الشرط مشروط بأن لا يكون للتخصيص فائدة أخرى ، والحديث بين الفائدة وهو المنع من التعدي وإثبات المساواة بين حر وحر وعبد وعبد فمنع الشافعي ومالك قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره ليس للآية بل للسنة والإجماع والقياس ، أما الأول فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قتل عبده فجلده الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به» وأخرج أيضا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال «من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد» وأما الثاني فقد روي أن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة ولم ينكر عليهما أحد منهم وهم الذين لم تأخذهم في الله تعالى لومة لائم. وأما الثالث فلأنه لا قصاص في الأطراف بين الحر والعبد بالاتفاق فيقاس القتل عليه ، وعند إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه يقتل الحر بالعبد لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما ، والتفاضل في الأنفس غير معتبر بدليل أن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به ولقوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] وشريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا ، ومن الناس من قال : إن الآية دالة على ما ذهب إليه المخالف لأن (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) بيان وتفسير لقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) فدل على أن رعاية التسوية في ـ الحرية والعبدية ـ معتبرة ، وإيجاب (الْقِصاصُ) على ـ الحر ـ بقتل (الْعَبْدُ) إهمال لرعاية التسوية في ذلك المعنى ، ومقتضى هذا أن لا يقتل (الْعَبْدُ) إلا (بِالْعَبْدِ) ولا تقتل (الْأُنْثى) إلا (بِالْأُنْثى) إلا أن المخالف لم يذهب إليه ، وخالف الظاهر للقياس والإجماع ، ومن سلم هذا منا ادعى نسخ الآية بقوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) لأنه لعمومه نسخ اشتراط المساواة في الحرية والذكورة المستفادة منها ، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والثوري وأورد عليه أن الآية حكاية ما في التوراة وحجية حكاية شرع من قبلنا مشروطة بأن لا يظهر ناسخه كما صرحوا به ، وهو يتوقف على أن لا يوجد في القرآن ما يخالف المحكي إذ لو وجد ذلك كان ناسخا له لتأخره عنه فتكون الحكاية حكاية المنسوخ ، ولا تكون حجة فضلا عن أن تكون ناسخا ، وبعد تسليم الدلالة يوجد الناسخ كما لا يخفى هذا ، وذهب ساداتنا الحنفية والمالكية وجماعة إلى أنه ليس للولي إلا

__________________

(١) إن كان الحيان كفارا كما يشعر به لفظ التحاكم. ويدل عليه ما في المغني أنهم قريظة ، والنضير فالأمر بالتساوي ظاهر ، وإن كانوا مسلمين كما يدل عليه ما في الدر المنظوم ـ فمعنى الأمر به أن ما مضى سواء بسواء ، وأن ما أقسموا عليه يجب أن ينتهوا عنه فلا يرد أن الإسلام يجب ما قبله ا ه منه.

٤٤٦

القصاص ولا يأخذ الدية إلا برضا القاتل لأن الله تعالى ذكر في الخطأ الدية فتعين أن يكون القصاص فيما هو ضد الخطأ وهو العمد ولما تعين بالعمد لا يعدل عنه لئلا يلزم الزيادة على النص بالرأي ، واعترض بأن منطوق النص وجوب رعاية المساواة في القود وهو لا يقتضي وجوب أصل القود ، وأجيب بأن القصاص وهو القود بطريق المساواة يقتضي وجوبهما (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي ما يسمى شيئا من العفو والتجاوز ولو أقل قليل فالمصدر المبهم في حكم الموصوف فيجوز نيابته عن الفاعل وله مفعول به ، و (مِنْ أَخِيهِ) يجوز أن يتعلق بالفعل ويجوز أن يكون حالا من شيء ، وفي إقامة شيء مقام الفاعل على إشعار بأن بعض العفو كأن يعفى عن بعض الدم أو يعفو عنه بعض الورثة كالعفو التام في إسقاط القصاص لأنه لا يتجزأ ، والمراد بالأخ وليّ الدم سماه أخا استعطافا بتذكير إخوة البشرية والدين ، وقيل : المراد به المقتول ، والكلام على حذف مضاف أي من دم أخيه ، وسماه أخا القاتل للإشارة إلى أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع بالقتل ، و (عُفِيَ) تعدى إلى الجاني وإلى الجناية بعن يقال : عفوت عن زيد وعن ذنبه ـ وإذا عديت إلى الذنب مرادا سواء كان مذكورا أولا كما في الآية عدي إلى الجاني «باللام» لأن التجاوز عن الأول والنفع للثاني فالقصد هنا إلى التجاوز عن الجناية إلا أنه ترك ذكرها لأن الاهتمام بشأن الجاني ، وقدر بعضهم ـ عن ـ هذه داخلة على شيء لكن لما حذفت ارتفع لوقوعه موقع الفاعل ، وهو من باب الحذف والإيصال المقصور على السماع ، ومن الناس من فسر (عُفِيَ) بترك فهو حينئذ متعد أقيم مفعوله مقام فاعله ، واعترض بأنه لم يثبت ـ عفا ـ الشيء بمعنى تركه ، وإنما الثابت أعفاه ، ورد بأنه ورد ، ونقله أئمة اللغة المعول عليهم في هذا الشأن وهو وإن لم يشتهر إلا أن إسناد المبني للمجهول إلى المفعول الذي هو الأصل يرجح اعتباره ويجعله أولى من المشهور لما أن فيه إسناد المجهول للمصدر وهو خلاف الأصل ، والقول بأن (شَيْءٌ) مرفوع ـ بترك ـ محذوفا يدل عليه (عُفِيَ) ليس بشيء لأنه بعد اعتبار معنى العفو لا حاجة إلى معنى الترك بل هو ركيك كما لا يخفى (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أي فليكن ـ اتباع ـ أو فالأمر ـ اتباع ـ والمراد وصية العافي بأن لا يشدد في طلب الدية على المعفو له وينظره إن كان معسرا ولا يطالبه بالزيادة عليها والمعفو بأن لا يمطل العافي فيها ولا يبخس منها ويدفعها عند الإمكان ، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحسن وقتادة ومجاهد ، وقيل : المراد فعلى المعفو له الاتباع والأداء ، والجملة خبر (مِنْ) على تقدير موصوليتها ، وجواب الشرط على تقدير شرطيتها ، وربما يستدل بالآية على أن مقتضى العمد القصاص وحده حيث رتب الأمر بأداء الدية على العفو المرتب على وجوب القصاص ، واستدل بها بعضهم على أن الدية أحد مقتضى العمد وإلا لما رتب الأمر بأداء الدية على مطلق العفو الشامل للعفو عن كل الدم وبعضه بل يشترط رضا القاتل وتقييده بالبعض ، واعترض بأنه إنما يتم لو كان التنوين في شيء للإبهام أي شيء من العفو أي شيء كان ككله أو بعضه أما لو كان للتقليل فلا إذ يكون الأمر بالأداء مرتبا على بعض العفو ولا شك أنه إذا تحقق عن الدم يصير الباقي مالا وإن لم يرض القاتل ، وأيضا الآية نزلت في الصلح وهو الموافق للأم فإن عفا إذا استعملت بها كان معناها البدل أي فمن أعطى له من جهة أخيه المقتول شيء من المال بطريق الصلح فلمن أعطى وهو الولي مطالبة البدل عن مجاملة وحسن معاملة إلا أن يقال : إنها نزلت في ـ العفو ـ كما هو ظاهر اللفظ ، وبه قال أكثر المفسرين.

(ذلِكَ) أي الحكم المذكور في ضمن بيان العفو والدية (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) لما في شرعية العفو تسهيل على القاتل ، وفي شرعية ـ الدية ـ نفع لأولياء المقتول ، وعن مقاتل أنه (كُتِبَ) على اليهود (الْقِصاصُ) وحده ، وعلى النصارى ـ العفو ـ مطلقا وخير هذه الأمة بين الثلاث تيسيرا عليهم وتنزيلا للحكم على حسب المنازل وعلى هذا يكون (فَمَنْ تَصَدَّقَ) بيانا لحكم هذه الشريعة بعد حكاية حكم كان في التوراة ، وليس داخلا تحت

٤٤٧

الحكاية (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي تجاوز ما شرع بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم ، أو قتل القاتل بعد ـ العفو ـ وأخذ الدية (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي نوع من العذاب مؤلم ، والمتبادر أنه في الآخرة ، والمروي عن الحسن وابن جبير أنه في الدنيا بأن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية لما أخرجه أبو داود من حديث سمرة مرفوعا «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية».

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) عطف على قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) والمقصود منه توطين النفس على الانقياد لحكم (الْقِصاصِ) لكونه شاقا للنفس ـ وهو كلام في غاية البلاغة ـ وكان أوجز كلام عندهم في هذا المعنى ـ القتل أنفى للقتل ـ وفضل هذا الكلام عليه من وجوه «الأول» قلة الحروف ، فإن الملفوظ هنا عشرة أحرف ـ إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة ـ وهناك أربعة عشر حرفا «الثاني» الإطراد ، إذ في كل ـ قصاص حياة ـ وليس كل قتل أنفى للقتل ـ فإن للقتل ظلما أدعى للقتل «الثالث» ما في تنوين (حَياةٌ) من النوعية أو التعظيم.

«الرابع» صنعة الطباق بين ـ القصاص والحياة ـ فإن (الْقِصاصِ) تفويت ـ الحياة ـ فهو مقابلها.

«الخامس» النص على ما هو المطلوب بالذات ـ أعني الحياة ـ فإن نفي ـ القتل ـ إنما يطلب لها لا لذاته.

«السادس» الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلا في ضده ، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق ، فكان (الْقِصاصِ) فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات «السابع» الخلو عن التكرار مع التقارب ، فإنه لا يخلو عن استبشاع ، ولا يعد رد العجز على الصدر حتى يكون محسنا «الثامن» عذوبة اللفظ وسلاسته حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة إذ ليس في قولهم : حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد ، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان ، وأيضا الخروج من ـ الفاء إلى اللام ـ أعدل من الخروج من ـ اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام ـ وكذلك الخروج من ـ الصاد إلى الحاء ـ أعدل من الخروج من ـ الألف إلى اللام ـ «التاسع» عدم الاحتياج إلى الحيثية ، وقولهم : يحتاج إليها.

«العاشر» تعريف (الْقِصاصِ) بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على ـ الضرب والجرح والقتل ـ وغير ذلك ، وقولهم : لا يشمله «الحادي عشر» خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا.

«الثاني عشر» اشتماله على ما يصلح للقتال وهو ـ الحياة ـ بخلاف قولهم ، فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان ، وإنه لمما يليق بهم «الثالث عشر» خلوه عما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لانتفاء نفسه ـ وهو محال إلى غير ذلك ـ فسبحان من علت كلمته ، وبهرت آيته ، ثم المراد ب (حَياةٌ) اما الدنيوية ـ وهو الظاهر ـ لأن في شرع (الْقِصاصِ) والعلم به يروع القاتل عن القتل ، فيكون سبب (حَياةٌ) نفسين في هذه النشأة ، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل ، والجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم ، وتقوم حرب البسوس على ساق ، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون ـ ويصير ذلك سببا لحياتهم ـ ويلزم على الأول الإضمار ، وعلى الثاني التخصيص ، وأما الحياة الأخروية بناء على أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ بحق المقتول في الآخرة ، وعلى هذا يكون الخطاب خاصا بالقاتلين ، والظاهر أنه عام والظرفان إما خبران ل (حَياةٌ) أو أحدهما خبر والآخر صلة له ، أو حال من المستكن فيه. وقرأ أبو الجوزاء «في القصص» وهو مصدر بمعنى المفعول ، والمراد من المقصوص هذا الحكم بخصوصه ـ أو القرآن مطلقا ـ وحينئذ يراد ـ بالحياة ـ حياة القلوب لا حياة الأجساد ، وجوز كون «القصص» مصدرا بمعنى (الْقِصاصِ) فتبقى ـ الحياة ـ على حالها (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا ذوي العقول الخالصة عن شوب الهوى ، وإنما خصهم بالنداء مع أن الخطاب السابق عام

٤٤٨

لأنهم أهل التأمل في حكمة (الْقِصاصِ) من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس ، وقيل : للإشارة إلى أن الحكم مخصوص بالبالغين دون الصبيان (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ربكم باجتناب معاصيه المفضية إلى العذاب أو القتل بالخوف من (الْقِصاصِ) وهو المروي عن ابن عباس والحسن وزيد رضي الله تعالى عنهم ، والجملة متعلقة بأول الكلام.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ

٤٤٩

الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٩٣)

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) بيان حكم آخر من الأحكام المذكورة ، وفصله عما سبق للدلالة على كونه حكما مستقلا ـ كما فصل اللاحق لذلك ـ ولم يصدره بيا أيها الذين آمنوا لقرب العهد بالتنبيه مع ملابسته بالسابق في كون كل منهما متعلقا بالأموات ، أو لأنه لما لم يكن شاقا لم يصدره كما صدر الشاق تنشيطا لفعله ، والمراد من ـ حضور الموت ـ حضور أسبابه ، وظهور أماراته من العلل والأمراض المخوفة أو حضوره نفسه ودنوه ، وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها.

(إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا ـ كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ومجاهد ـ وقيده بعضهم بكونه كثيرا إذ لا يقال في العرف للمال : (خَيْراً) إلا إذا كان كثيرا ، كما لا يقال : فلان ذو مال إلا إذا كان له مال كثير ، ويؤيده ما أخرجه البيهقي وجماعة ـ عن عروة ـ أن عليا كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم ، فقال : ألا أوصي؟ قال لا إنما قال الله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وليس لك كثير مال ، فدع مالك لورثتك. وما أخرجه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رجلا قال لها : أريد أن أوصي قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة ، قالت : قال الله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل ، والظاهر من هذا أن الكثرة غير مقدرة بمقدار ، بل تختلف باختلاف حال الرجل فإنه بمقدار من المال يوصف رجل بالغني ولا يوصف به غيره لكثرة العيال. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقديرها ، فقد أخرج عبد بن حميد عنه «من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا» ومذهب الزهري أن (الْوَصِيَّةُ) مشروعة مما قل أو كثر ، ـ فالخير ـ عنده المال مطلقا ـ وهو أحد إطلاقاته ـ ولعل اختياره إيذانا بأنه ينبغي أن يكون الموصى به حلالا طيبا لا خبيثا لأن الخبيث يجب رده إلى أربابه ويأثم ب (الْوَصِيَّةُ) فيه.

(الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) مرفوع ب (كُتِبَ) وفي الرضيّ إذا كان الظاهر غير حقيقي التأنيث منفصلا فترك العلامة أحسن إظهار الفضل الحقيقي على غيره ـ ولهذا اختير هنا تذكير الفعل ـ و (الْوَصِيَّةُ) اسم من أوصى يوصي ، وفي القاموس أوصاه ووصاه توصية ـ عهد إليه ـ والاسم الوصاية و (الْوَصِيَّةُ) وهي الموصى به أيضا والجار متعلق بها فلا بد من تأويلها بأن مع الفعل عند الجمهور ، أو بالمصدر بناء على تحقيق الرضى من أن عمل المصدر لا يتوقف على تأويله ، وهو الراجح ولذلك ذكر الراجع في بدله ، وجوز أن يكون النائب (عَلَيْكُمْ) و (الْوَصِيَّةُ) خبر مبتدأ كأنه قيل : ما المكتوب؟ فقيل هو الوصية ، وجواب الشرط محذوف دل عليه (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) ، وقيل : مبتدأ خبره (لِلْوالِدَيْنِ) والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء لأن الاسمية إذا كانت جزاء لا بد فيها منها ، والجملة الشرطية مرفوعة ب (كُتِبَ) أو (عَلَيْكُمْ) وحده ، والجملة استئنافية ورد بأن إضمار الفاء غير صحيح لا يجترى عليه إلا في ضرورة الشعر كما قال الخليل ، والعامل في (إِذا) معنى (كُتِبَ) والظرف قيد للإيجاب من حيث الحدوث والوقوع ، والمعنى توجه خطاب الله تعالى (عَلَيْكُمْ) ومقتضى كتابته (إِذا حَضَرَ) وغير إلى ما ترى لينظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل ، وجوز أن يكون العامل الوصية ، وهي وإن كانت اسما إلا أنها مؤولة بالمصدر أو بأن والفعل ، والظرف مما يكفيه رائحة الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزيله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه ، وعدم انفكاكه عنه ، ولهذا توسع في الظروف ما لم يتوسع في غيرها ، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أوّل به ، وقد كثر تقديم معمول المصدر عليه في الكلام ، والتقدير تكلف ، ولا يرد على التقديرين أن الوصية واجبة على ـ من حضره الموت ـ

٤٥٠

لا على جميع المؤمنين عند حضور أحدهم الموت لأن «أحدكم» يفيد العموم على سبيل البدل فمعنى (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ) إذا حضر واحدا بعد واحد ، وإنما زيد لفظ ـ أحد ـ للتنصيص على كونها فرض عين لا كفاية كما في (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) والقول بأن الوصية لم تفرض على من ـ حضره الموت ـ فقط بل عليه بأن يوصي ، وعلى الغير بأن يحفظ ولا يبدل ، ولهذا قال : (عَلَيْكُمْ) وقال (أَحَدَكُمُ) لأن الموت يحضر أحد المخاطبين بالافتراض عليهم ليس بشيء لأن حفظ الوصية إنما يفرض على البعض بعد الوصية لا وقت الاحتضار فكيف يصح أن يقال فرض عليكم حفظ الوصية (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ولأن إرادة الإيصاء ، وحفظه من الوصية تعسف لا يخفى ، واختار بعض المحققين أن (إِذا) شرطية وجواب الشرط كل من الشرطين محذوف ، والتقدير (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ـ فليوص إن ترك خيرا ـ فليوص فحذف جواب الشرط الأول لدلالة السياق عليه ، وحذف جواب الشرط الثاني لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه ، والشرط الثاني عند صاحب التسهيل مقيد للأول كأنه قيل : (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) تاركا للخير فليوص ، ومجموع الشرطين معترض بين (كُتِبَ) وفاعله لبيان كيفية الإيصاء قبل ، ولا يخفى أن هذا الوجه مع غنائه عن تكلف تصحيح الظرفية وزيادة لفظ ـ أحد ـ أنسب بالبلاغة القرآنية حيث ورد الحكم أولا مجملا ثم مفصلا ووقع الاعتراض بين الفعل وفاعله للاهتمام ببيان كيفية الوصية الواجبة انتهى. وأنت تعلم ما في ذلك من كثرة الحذف المهونة لما تقدم ، ثم إن هذا الحكم كان في بدء الإسلام ثم نسخ بآية المواريث كما قاله ابن عباس وابن عمر وقتادة وشريح ومجاهد وغيرهم ، وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد ، والترمذي ، وصححه والنسائي ، وابن ماجة عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال : «إن الله قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث وصية» وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن أبي أمامة الباهلي سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يقول : «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ذلك ، وهذه الأحاديث لتلقي الأمة لها بالقبول انتظمت في سلك المتواتر في صحة النسخ بها عند أئمتنا قدس الله أسرارهم بل قال البعض : إنها من المتواتر وإن التواتر قد يكون بنقل من لا يتصور تواطؤهم على الكذب وقد يكون بفعلهم بأن يكونوا عملوا به من غير نكير منهم على أن النسخ في الحقيقة بآية المواريث والأحاديث مبينة لجهة نسخها ، وبين فخر الإسلام ذلك بوجهين «الأول» أنها نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وقد قال تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) [النساء : ١١] فرتب الميراث على ـ وصية ـ منكرة ـ والوصية ـ الأولى كانت معهودة فلو كانت تلك ـ الوصية ـ باقية لوجب ترتيبه على المعهود فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق كذلك لتغاير المعنيين «والثاني» أن النسخ نوعان : أحدهما ابتداء بعد انتهاء محض ، والثاني بطريق الحوالة من محل إلى آخر كما في نسخ القبلة ، وهذا من قبيل الثاني لأن الله تعالى فرض الإيصاء في الأقربين إلى العباد بشرط أن يراعوا الحدود ، ويبينوا حق كل قريب بحسب قرابته ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :

(بِالْمَعْرُوفِ) أي بالعدل ، ثم لما كان الموصي قد لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصي لكل واحد منهم وربما كان يقصد المضارة تولى بنفسه بيان ذلك الحق على وجه تيقن به أنه الصواب وأن فيه الحكمة البالغة ، وقصره على حدود لازمة من السدس والثلث والنصف والثمن لا يمكن تغيرها فتحول من جهة الإيصاء إلى الميراث فقال : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] أي الذي فوض إليكم تولي شأنه بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره لجهلكم ، ولما بين بنفسه ذلك الحق بعينه انتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى الطرق كمن أمره غيره بإعتاق

٤٥١

عبده ثم أعتقه بنفسه فإنه بذلك انتهى حكم الوكالة ، وإلى ذلك تشير الأحاديث لما أن ـ الفاء ـ تدل على سببية ما قبلها لما بعدها فما قيل : إن من أن آية المواريث لا تعارض هذا الحكم بل تحققه من حيث تدل على تقديم الوصية مطلقا ، والأحاديث من الآحاد وتلقي الأمة لها بالقبول لا تلحقها بالمتواتر ، ولعله احترز عن النسخ من فسر الوصية بما أوصى به الله عزوجل من توريث الوالدين والأقربين بقوله سبحانه (يُوصِيكُمُ اللهُ) أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم على ما فيه بمعزل عن التحقيق وكذا ما قيل : من أن الوصية للوارث كانت واجبة بهذه الآية من غير تعيين لأنصبائهم فلما نزلت آية المواريث بيانا للأنصباء بلفظ الإيصاء فهم منها بتنبيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المراد منه هذه الوصية التي كانت واجبة كأنه قيل : إن الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصية ولم يفوضها إليكم فقام الميراث مقام الوصية فكان هذا معنى النسخ لا أن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم لأن كون آية المواريث رافعة لذلك الحكم مبينة لانتهائه مما لا ينبغي أن يشتبه على أحد ، ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا ، فمنهم من قال : إن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون وبقي في حق الذين لا يرثون من الوالدين والأقربين كأن يكونوا كافرين ، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية ، ومنهم من قال : إن الوجوب صار منسوخا في حق الكافة ، وهي مستحبة في حق الذين لا يرثون ؛ وإليه ذهب الأكثرون ، واستدل محمد بن الحسن بالآية على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين لعطفه عليه (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه (كُتِبَ) وعامله إما (كُتِبَ) أو حق محذوفا أي حق ذلك حقا فهو على طرز قعدت جلوسا ، ويحتمل أن يكون مؤكدا لمضمون جملة (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) وإن اعتبر إنشاء فيكون على طرز ـ له عليّ ألف ـ عرفا ، وجعله صفة لمصدر محذوف أي إيصاء حقا ليس بشيء وعلى التقديرين (عَلَى الْمُتَّقِينَ) صفة له أو متعلق بالفعل المحذوف على المختار ، ويجوز أن يتعلق بالمصدر لأن المفعول المطلق يعمل نيابة عن الفعل ، والمراد ـ بالمتقين ـ المؤمنون ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن المحافظة على الوصية والقيام بها من شعائر المتقين الخائفين من الله تعالى.

(فَمَنْ بَدَّلَهُ) أي غير الإيصاء من شاهد ووصي ، وتغيير كل منهما إما بإنكار الوصية من أصلها أو بالنقص فيها أو بتبديل صفتها أو غير ذلك ، وجعل الشافعية من التبديل عموم وصيته من أوصى إليه بشيء خاص ، فالموصي بشيء خاص لا يكون وصيا في غيره عندهم ويكون عندنا وليس ذلك من التبديل في شيء (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي علمه وتحقق لديه ، وكني بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أي فما إثم الإيصاء المبدل أو التبديل ، والأول رعاية لجانب اللفظ ، والثاني رعاية لجانب المعنى إلا على مبدليه لا على الموصي لأنهم الذين خالفوا الشرع وخانوا ، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على علية التبديل للإثم ، وإيثار صيغة الجمع مراعاة لمعنى من ، وفيه إشعار بشمول الإثم لجميع الافراد (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فيسمع أقوال المبدلين والموصين ويعلم بنياتهم فيجازيهم على وفقها ، وفي هذا وعيد للمبدلين ووعد للموصين ، واستدل بالآية على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية ولا يلحقه ضرر إن لم يعمل بها ، وعلى أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة وإن ترك الوصي والوارث قضاءه ـ وإلى ذلك ذهب الكيا ـ والذي يميل القلب إليه أن المديون لا تبعة عليه بعد الموت مطلقا ولا يحبس في قبره ـ كما يقوله الناس ـ أما إذا لم يترك شيئا ومات معسرا فظاهر لأنه لو بقي حيا لا شيء عليه بعد تحقق إعساره سوى نظرة إلى ميسرة ، فمؤاخذته وحبسه في قبره بعد ذهابه إلى اللطيف الخبير مما لا يكاد يعقل ، وأما إذا ترك شيئا وعلم الوارث بالدين أو برهن عليه به كان هو المطالب بأدائه والملزم بوفاته فإذا لم يؤد ولم

٤٥٢

يف أوخذ هو لا من مات وترك ما يوفى منه دينه كلا أو بعضا فإن مؤاخذة من يقول يا رب تركت ما يفي ولم يف عني من أوجبت عليه الوفاء بعدي ولو أمهلتني لوفيت مما ينافي الحكمة ولا تقتضيه الرحمة ، نعم المؤاخذة معقولة فيمن استدان لحرام وصرف المال في غير رضا الملك العلام ، وما ورد في الأحاديث محمول على هذا أو نحوه وأخذ ذلك مطلقا مما لا يقبله العقل السليم والذهن المستقيم.

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً) الجنف مصدر جنف كفرح مطلق الميل والجور ، والمراد به الميل في الوصية من غير قصد بقرينة مقابلته بالإثم فإنه إنما يكون بالقصد ، ومعنى خاف توقع وعلم ، ومنه قوله :

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة

تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وتحقيق ذلك أن الخوف حالة تعتري عند انقباض من شر متوقع فلتلك الملابسة استعمل في التوقع وهو قد يكون مظنون الوقوع وقد يكون معلومه فاستعمل فيهما بمرتبة ثانية ولأن الأول أكثر كان استعماله فيه أظهر ، ثم أصله أن يستعمل في الظن والعلم بالمحذور ، وقد يتسع في إطلاقه على المطلق وإنما حمل على المجاز هنا لأنه لا معنى للخوف من الميل والإثم بعد وقوع الإيصاء وقرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب ـ من موص ـ بالتشديد والباقون بالتخفيف (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أي بين الموصى لهم من الوالدين والأقربين بإجرائهم على نهج الشرع ، وقيل المراد فعل ما فيه الصلاح بين الموصي والموصى له بأن يأمر بالعدل والرجوع عن الزيادة وكونها للأغنياء وعليه لا يراد الصلح المرتب على الشقاق فإن الموصي والموصى له لم يقع بينهما شقاق (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في ذلك التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف السابق ، واستدل بالآية على أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لا تبطل الوصية كلها خلافا لزاعمه. وإنما يبطل منها ما زاد عليه لأن الله تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها الوجه الأصلح (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) تذييل أتى به للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه وذكر المغفرة مع أن الإصلاح من الطاعات وهي إنما تليق من فعل ما لا يجوز لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة ولذلك حسن ذكرها وفائدتها التنبيه على الأعلى بما دونه يعني أنه تعالى غفور للآثام فلأن يكون رحيما من أطاعه من باب الأولى ، ويحتمل أن يكون ذكرها وعدا للمصلح بمغفرة ما يفرط منه في الإصلاح إذ ربما يحتاج فيه إلى أقوال كاذبة وأفعال تركها أولى ، وقيل : المراد غفور للجنف والإثم الذي وقع من الموصي بواسطة إصلاح الوصي وصيته ، أو غفور للموصي بما حدث به نفسه من الخطأ والعمل إذ رجع إلى الحق ، أو غفور للمصلح بواسطة إصلاحه بأن يكون الإصلاح مكفرا لسيئاته والكل بعيد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكرير النداء لإظهار الاعتناء مع بعد العهد ، و (الصِّيامُ) كالصوم مصدر صام وهو لغة الإمساك ، ومنه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ، قال ابن دريد : كل شيء تمكث حركته فقد صام ، ومنه قول النابغة :

خيل «صيام» وخيل غير ـ صائمة

تحت العجاج ـ وأخرى تعلك اللجما

فصامت الريح ركدت ، وصامت الشمس إذا استوت في منتصف النهار ، وشرعا إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى يومنا كما هو ظاهر عموم الموصول ، وعن ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهما اتهم أهل الكتاب ، وعن الحسن والسدي والشعبي أنهم النصارى ، وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين فيه ، فإن الأمور الشاقة إذا عمت طابت ، والمراد بالمماثلة إما المماثلة في أصل

٤٥٣

الوجوب ـ وعليه أبو مسلم والجبائي ـ وإما في الوقت والمقدار بناء على أن أهل الكتاب فرض عليهم صوم رمضان فتركه اليهود إلى صوم يوم من السنة زعموا أنه اليوم الذي أغرق فيه فرعون ، وزاد فيه النصارى يوما قبل ويوما بعد احتياطا حتى بلغوا فيه خمسين يوما فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى زمن نزول الشمس برج الحمل ، وأخرج ابن حنظلة والنحاس والطبراني عن مغفل بن حنظلة مرفوعا كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا : لئن شفاه الله تعالى لنزيدن عشرا ، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فوه فقالوا : لئن شفاه الله لنزيدن سبعة ، ثم كان عليهم ملك آخر فقال : ما ندع من هذه الثلاثة أيام شيئا أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يوما ، وفي (كَما) خمسة أوجه. أحدها أن محله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ـ كتب كتبا ـ مثل ما كتب. الثاني أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة أي ـ كتب عليكم الصيام الكتب ـ مشبها بما كتب ، و «ما» على الوجهين مصدرية. الثالث أن يكون نعتا لمصدر من لفظ الصيام أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم. الرابع أن يكون حالا من الصيام أي حال كونه مماثلا لما كتب ، و «ما» على الوجهين موصولة. الخامس أن يكون في محل رفع على أنه صفة للصيام بناء على أن المعرف ـ بال ـ الجنسية قريب من النكرة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي كي تحذروا المعاصي فإن الصوم يعقم الشهوة التي هي أمها أو يكسرها. فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : «قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» ويحتمل أن يقدر المفعول الإخلال بأدائه ، وعلى الأول يكون الكلام متعلقا بقوله (كُتِبَ) من غير نظر إلى التشبيه ، وعلى الثاني بالنظر إليه أي كتب عليكم مثل ما كتب على الأولين لكي ـ تتقوا ـ الإخلال بأدائه بعد العلم بأصالته وقدمه ولا حاجة إلى تقدير محذوف أي أعلمتكم الحكم المذكور لذلك ـ كما قيل به ـ وجوز أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي لكي تصلوا بذلك إلى رتبة التقوى.

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي معينات بالعد أو قليلات لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافا قال مقاتل : كل (مَعْدُوداتٍ) في القرآن أو ـ معدودة ـ دون الأربعين ولا يقال ذلك لما زاد ، والمراد بهذه الأيام إما رمضان واختار ذلك ابن عباس والحسن وأبو مسلم رضي الله تعالى عنه وأكثر المحققين ـ وهو أحد قولي الشافعي ـ فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر أولا أنه كتب علينا الصيام ثم بينه بقوله عزوجل : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فزال بعض الإبهام ثم بينه بقوله عزّ من قائل : (شَهْرُ رَمَضانَ) توطينا للنفس عليه ، واعترض بأنه لو كان المراد ذلك لكان ذكر المريض والمسافر تكرارا ، وأجيب بأنه كان في الابتداء صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية فحين نسخ التخيير وصار واجبا على التعيين كان مظنة أن يتوهم أن هذا الحكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه كالمقيم والصحيح فأعيد حكمهما تنبيها على أن رخصتهما باقية بحالها لم تتغير كما تغير حكم المقيم والصحيح وأما ما وجب صومه قبل وجوبه وهو ثلاثة أيام من كل شهر ـ وهي أيام البيض ـ على ما روي عن عطاء ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، أو ثلاثة من كل شهر ويوم عاشوراء على ما روي عن قتادة ، واتفق أهل هذا القول على أن هذا الواجب قد نسخ بصوم رمضان ، واستشكل بأن فرضيته إنما ثبتت بما في هذه الآية فإن كان قد عمل بذلك الحكم مدة مديدة ـ كما قيل به ـ فكيف يكون الناسخ متصلا وإن لم يكن عمل به لا يصح النسخ إذ لا نسخ قبل العمل ، وأجيب أما على اختيار الأول فبأن الاتصال في التلاوة لا يدل على الاتصال في النزول ، وأما على اختيار الثاني فبأن الأصح جواز النسخ قبل العمل فتدبر.

٤٥٤

وانتصاب (أَيَّاماً) ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصل بينهما بأجنبي بل بمضمر دل هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعا ، وقيل : منصوب بفعل يستفاد من كاف التشبيه ، وفيه بيان لوجه المماثلة كأنه قيل : كتب عليكم الصيام مماثلا لصيام الذين من قبلكم في كونه (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي المماثلة واقعة بين الصيامين من هذا الوجه وهو تعلق كل منهما بمدة غير متطاولة ، فالكلام من قبيل زيد كعمرو فقها ، وقيل : نصب على أنه مفعول ثان ـ لكتب ـ على الاتساع ورده في البحر بأن الاتساع مبني على جواز وقوعه ظرفا ـ لكتب ـ وذا لا يصح لأن الظرف محل الفعل ، والكتابة ليست واقعة في الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وهو الصيام ، وأجيب بأنه يكفي للظرفية ظرفية المتعلق كما في (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحج : ٧٠ ، العنكبوت : ٥٢ ، التغابن : ٤] وبأن معنى (كُتِبَ) فرض ، وفرضية الصيام ، واقعة في الأيام (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) مرضا يعسر عليه الصوم معه كما يؤذن به قوله تعالى فيما بعد : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وعليه أكثر الفقهاء ، وذهب ابن سيرين ، وعطاء ، والبخاري إلى أن المرخص مطلق المرض عملا بإطلاق اللفظ ، وحكي أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع إصبعه وهو قول للشافعية (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه بأن اشتغل به قبل الفجر ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر ولهذا المعنى أوثر على مسافرا ، واستدل بإطلاق السفر على أن القصير وسفر المعصية مرخص للإفطار ، وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وما يلزمه العسر غالبا وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر وحذف الشرط والمضافان للعلم بهما ، أما الشرط فلأن المريض والمسافر داخلان في الخطاب العام فدل على وجوب الصوم عليهما فلو لم يتقيد الحكم هنا به لزم أن يصير المرض والسفر اللذان هما من موجبات اليسر شرعا وعقلا موجبين للعسر ، وأما المضاف الأول فلأن الكلام في الصوم ووجوبه ، وأما الثاني فلأنه لما قيل ـ من كان مريضا أو مسافرا فعليه عدة ـ أي أيام معدودة موصوفة بأنها من أيام أخر علم أن المراد معدودة بعدد أيام المرض والسفر واستغنى عن الإضافة وهذا الإفطار مشروع على سبيل الرخصة فالمريض والمسافر إن شاءا صاما وإن شاءا أفطرا كما عليه أكثر الفقهاء إلا أن الإمام أبا حنيفة ومالكا قالا : الصوم أحب. والشافعي وأحمد والأوزاعي قالوا : الفطر أحب ، ومذهب الظاهرية وجوب الإفطار وأنهما إذا صاما لا يصح صومهما لأنه قبل الوقت الذي يقتضيه ظاهر الآية ، ونسب ذلك إلى ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ـ وبه قال الإمامية ـ وأطالوا بالاستدلال على ذلك بما رووه عن أهل البيت ، واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا وأنه ليس على الفور خلافا لداود. وعلى أن من أفطر رمضان كله قضى ـ أياما معدودة ـ فلو كان تاما لم يجزه شهر ناقص أو ناقصا لم يلزمه شهر كامل خلافا لمن خالف في الصورتين ، واحتج بها أيضا من قال : لا فدية مع القضاء وكذا من قال : إن المسافر إذا أقام والمريض إذا شفي أثناء النهار لم يلزمهما الإمساك بقيته لأن الله تعالى إنما أوجب عدة من أيام أخر وهما قد أفطرا فحكم الإفطار باق لهما ومن حكمه أن لا يجب أكثر من يوم ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه ، ولا يخفى ما فيه ، وقرئ ـ فعدة ـ بالنصب على أنه مفعول لمحذوف أي فليصم عدة ومن قدر الشرط هناك قدره هنا (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا.

(فِدْيَةٌ) أي إعطاؤها (طَعامُ مِسْكِينٍ) وهي قدر ما يأكله كل يوم وهي نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل الحجاز لكل يوم وكان ذلك في بدء الإسلام لما أنه قد فرض عليهم الصوم وما كانوا متعودين له فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي

٤٥٥

والطبراني وآخرون عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال : لما نزلت هذه الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) كان من شاء منا صام ومن شاء أفطر ويفتدي فعل ذلك حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، وقرأ سعيد بن المسيب : «يطيقونه» بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية. ومجاهد وعكرمة «يطّيقونه» بتشديد الطاء والياء الثانية وكلتا القراءتين على صيغة المبني للفاعل على أن أصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه من فيعل وتفيعل لا من فعل وتفعل وإلا لكان بالواو دون الياء لأنه من طوق وهو واوي ، وقد جعلت الواو ياء فيهما ثم أدغمت الياء في الياء ومعناهما يتكلفونه ، وعائشة رضي الله تعالى عنها «يطوقونه» بصيغة المبني للمفعول من التفعيل أي يكلفونه أو يقلدونه من الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة ، ورويت الثلاث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا ، وعنه «يتطوقونه» بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه ويطوقونه ـ بإدغام التاء في الطاء ـ وذهب إلى عدم النسخ ـ كما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما ـ وقال : إن الآية نزلت في الشيخ الكبير الهرم ، والعجوز الكبيرة الهرمة. ومن الناس من لم يقل بالنسخ أيضا على القراءة المتواترة وفسرها بيصومونه جهدهم وطاقتهم ، وهو مبني على أن ـ الوسع ـ اسم للقدرة على الشيء على وجه السهولة ـ والطاقة ـ اسم للقدرة مع الشدة والمشقة ، فيصير المعنى (وَعَلَى الَّذِينَ) يصومونه مع الشدة والمشقة فيشمل نحو الحبلى والمرضع أيضا ، وعلى أنه من أطاق الفعل بلغ غاية طوقه أو فرغ طوقه فيه ، وجاز أن تكون ـ الهمزة ـ للسلب كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود فسلب طاقته عند تمامه ، ويكون مبالغة في بذل المجهود لأنه مشارف لزوال ذلك ـ كما في الكشف ـ والحق أن كلّا من القراءات يمكن حملها على ما يحتمل النسخ ، وعلى ما لا يحتمله ـ ولكل ذهب بعض ـ وروي عن حفصة أنها قرأت (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) وقرأ نافع وابن عامر بإضافة (فِدْيَةٌ) إلى ـ الطعام وجمع المسكين ـ والإضافة حينئذ من إضافة الشيء إلى جنسه ـ كخاتم فضة ـ لأن طعام المسكين يكون فدية وغيرها ، وجمع المسكين لأنه جمع في (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) فقابل الجمع بالجمع ، ولم يجمع (فِدْيَةٌ) لأنها مصدر ـ والتاء فيها للتأنيث لا للمرة ـ ولأنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع فهم منها الجمع.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) بأن زاد على القدر المذكور في ـ الفدية ـ قال مجاهد : أو زاد على عدد من يلزمه إطعامه فيطعم مسكينين فصاعدا ـ قاله ابن عباس ـ أو جمع بين الإطعام والصوم ـ قاله ابن شهاب.

(فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي التطوع أو الخير الذي تطوعه ، وجعل بعضهم الخير الأول مصدر ـ خرت يا رجل وأنت خائر ـ أي حسن ، والخير الثاني اسم تفضيل ـ فيفيد الحمل أيضا بلا مرية ـ وإرجاع الضمير إلى (مِنْ) أي فالمتطوع خير من غيره لأجل التطوع لا يخفى بعده (وَأَنْ تَصُومُوا) أي أيها المطيقون المقيمون الأصحاء ، أو المطوقون من الشيوخ والعجائز ، أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين ، والمرضى والمسافرين ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب جبرا لكلفة الصوم بلذة المخاطبة ، وقرأ أبيّ والصيام (خَيْرٌ لَكُمْ) من الفدية أو تطوع الخير على الأولين ، أو منهما ومن التأخير للقضاء على الأخير (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما في الصوم من الفضيلة ، وجواب (أَنْ) محذوف ثقة بظهوره ـ أي اخترتموه ـ وقيل : معناه إن كنتم من أهل العلم علمتم أن الصوم (خَيْرٌ لَكُمْ) من ذلك ، وعليه تكون الجملة تأكيدا لخيرية الصوم ، وعلى الأول تأسيسا.

(شَهْرُ رَمَضانَ) مبتدأ خبره الموصول بعده ، ويكون ذكر الجملة مقدمة لفرضية صومه بذكر فضله ، أو (فَمَنْ شَهِدَ) والفاء لتضمنه معنى الشرط لكونه موصوفا بالموصول ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم الوقت الذي كتب عليكم الصيام فيه ، أو المكتوب شهر رمضان ، أو بدل من الصيام بدل كل بتقدير مضاف ، أي كتب عليكم الصيام

٤٥٦

صيام شهر رمضان ، وما تخلل بينهما من الفصل متعلق ب (كُتِبَ) لفظا أو معنى فليس بأجنبي مطلقا ، وإن اعتبرته بدل اشتمال استغنيت عن التقدير ، إلا أن كون الحكم السابق ـ وهو فرضية الصوم ـ مقصودا بالذات ، وعدم كون ذكر المبدل منه مشوقا إلى ذكر البدل يبعد ذلك ، وقرئ شهر بالنصب على أنه مفعول ل «صوموا» محذوفا ؛ وقيل إنه مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا) وفيه لزوم الفصل بين أجزاء المصدرية بالخبر ، وجوز أن يكون مفعول (تَعْلَمُونَ) بتقدير مضاف ـ أي شرف شهر رمضان ونحوه ـ وقيل : لا حاجة إلى التقدير. والمراد (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نفس الشهر ولا تشكون فيه ، وفيه إيذان بأن الصوم لا ينبغي مع الشك ـ وليس بشيء كما لا يخفى ـ والشهر المدة المعينة التي ابتداؤها رؤية الهلال ، ويجمع في القلة على أشهر ، وفي الكثرة على شهور ، وأصله من شهر الشيء أظهره ، وهو ـ لكونه ميقاتا للعبادات والمعاملات ـ صار مشهورا بين الناس ، و «رمضان» مصدر رمض ـ بكسر العين ـ إذا احترق ، وفي شمس العلوم من المصادر التي يشترك فيها الأفعال فعلان ـ بفتح الفاء والعين ـ وأكثر ما يجيء بمعنى المجيء والذهاب والاضطراب ـ كالخفقان والعسلان واللمعان ـ وقد جاء لغير المجيء والذهاب كما في ـ شنأته شنآنا إذا بغضته ـ فما في البحر من أن كونه مصدرا يحتاج إلى نقل ـ فإن فعلانا ليس مصدر فعل اللازم ـ فإن جاء شيء منه كان شاذا ، فالأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا ناشئ عن قلة الاطلاع ، والخليل يقول : إنه من الرمض ـ مسكن الميم ـ وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار ، وقد جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما للشهر المعلوم ، ولو لا ذلك لم يحسن إضافة (شَهْرُ) إليه كما لا يحسن ـ إنسان زيد ـ وإنما تصح إضافة العام إلى الخاص إذا اشتهر كون الخاص من أفراده ، ولهذا لم يسمع شهر رجب وشهر شعبان ، وبالجملة فقد أطبقوا على أن العلم في ثلاثة أشهر مجموع المضاف والمضاف إليه شهر رمضان ، وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني ، وفي البواقي لا يضاف شهر إليه ، وقد نظم ذلك بعضهم فقال :

ولا تضف شهرا إلى اسم شهر

إلا لما أوله ـ الرا ـ فادر

واستثن منها رجبا فيمتنع

لأنه فيما رووه ما سمع

ثم في الإضافة يعتبر في أسباب منع الصرف وامتناع ـ اللام ـ ووجوبها حال المضاف إليه فيمتنع في مثل (شَهْرُ رَمَضانَ) وابن داية من الصرف ودخول ـ اللام ـ وينصرف في مثل شهر ربيع الأول ـ وابن عباس ـ ويجب ـ اللام ـ في مثل ـ امرئ القيس ـ لأنه وقع جزءا حال تحليته باللام ، ويجوز في مثل ـ ابن عباس ـ أما دخوله فللمح الأصل ، وأما عدمه فلتجرده في الأصل ، وعلى هذا فنحو من صام رمضان من حذف جزء العلم لعدم الإلباس ـ كذا قيل ـ وفيه بحث ـ أما أولا فلأن إضافة العام إلى الخاص مرجعها إلى الذوق ، ولهذا تحسن تارة كشجر الأراك ، وتقبح أخرى ـ كإنسان زيد ـ وقبحها في (شَهْرُ رَمَضانَ) لا يعرفه إلا من تغير ذوقه من أثر الصوم ، وأما ثانيا فإن قولهم : لم يسمع شهر رجب إلخ مما سمع بين المتأخرين ـ ولا أصل له ـ ففي شرح التسهيل جواز إضافة (شَهْرُ) إلى جميع أسماء الشهور وهو قول أكثر النحويين ـ فادعاء الاطباق غير مطبق عليه ، ومنشأ غلط المتأخرين ما في ـ أدب الكاتب ـ من أنه اصطلاح الكتاب ، قال : لأنهم لما وضعوا التاريخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وجعلوا أول السنة المحرم ، فكانوا لا يكتبون في تواريخهم شهرا إلا مع رمضان والربيعين ، فهو أمر اصطلاحي ـ لا وضعي لغوي ـ ووجهه في (رَمَضانَ) موافقة القرآن وفي ربيع الفصل عن الفصل ، ولذا صحح سيبويه جواز إضافة الشهر إلى جميع أسماء الشهور ، وفرق بين ذكره وعدمه بأنه حيث ذكر لم يفد العموم ـ وحيث حذف أفاده ـ وعليه يظهر الفرق بين ـ إنسان زيد ـ و (شَهْرُ رَمَضانَ) ولا يغم هلال ذلك. وأما ثالثا فلأن قوله : ثم في الإضافة إلخ ، مما صرح النحاة بخلافه ، فإن ـ ابن داية ـ سمع منه وصرفه كقوله :

٤٥٧

ولما رأيت النسر عز ـ ابن داية

وعشش في وكريه جاش له صدري

قالوا : ولكل وجه أما عدم الصرف فلصيرورة الكلمتين بالتركيب كلمة بالتسمية فكان ـ كطلحة ـ مفردا وهو غير منصرف ، وأما الصرف فلأن المضاف إليه في أصله اسم جنس ـ والمضاف كذلك ـ وكل منهما بانفراده ليس بعلم ، وإنما العلم مجموعهما فلا يؤثر التعريف فيه ؛ ولا يكون لمنع الصرف مدخل فليحفظ ، وبالجملة المعول عليه أن (رَمَضانَ) وحده علم وهو علم جنس لما علمت ، ومنع بعضهم أن يقال : (رَمَضانَ) بدون (شَهْرُ) لما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عدي والبيهقي والديلمي عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا «لا تقولوا : رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا : شهر رمضان» وإلى ذلك ذهب مجاهد ـ والصحيح الجواز ـ فقد روي ذلك في الصحيح ـ والاحتياط لا يخفى ـ وإنما سمي الشهر به لأن الذنوب ترمض فيه ـ قاله ابن عمر ـ وروى ذلك أنس. وعائشة مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : لوقوعه أيام رمض الحر حيث نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة ، وكان اسمه قبل ناتقا ، ولعل ما روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مبين لما ينبغي أن يكون وجه التسمية عند المسلمين ، وإلا فهذا الاسم قبل فرضية الصيام بكثير على ما هو الظاهر (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أي ابتدئ فيه إنزاله ـ وكان ذلك ليلة القدر ـ قاله ابن إسحاق ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جبير والحسن أنه نزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض في ثلاث وعشرين سنة ، وقيل : أنزل في شأنه القرآن ، وهو قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وأخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع. عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين» ولما كان بين الصوم ونزول الكتب الإلهية مناسبة عظيمة كان هذا الشهر المختص بنزولها مختصا بالصوم الذي هو نوع عظيم من آيات العبودية ، وسبب قوي في إزالة العلائق البشرية المانعة عن إشراق الأنوار الصمدية. (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل أي أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير ، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق ، والفارقة بين الحق والباطل باشتمالها على المعارف الإلهية والأحكام العملية كما يشعر بذلك جعله بينات منها فهو هاد بواسطة أمرين مختص وغير مختص فالهدى ليس مكررا ، وقيل : مكرر تنويها وتعظيما لأمره وتأكيدا لمعنى الهداية فيه كما تقول عالم نحرير (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) من شرطية أو موصولة ـ والفاء ـ إما جواب الشرط ، أو زائدة في الخبر ، و (مِنْكُمُ) في محل نصب على الحال من المستكن في (شَهِدَ) والتقييد به لإخراج الصبي والمجنون ، و (شَهِدَ) من الشهود والتركيب يدل على الحضور إما ذاتا أو علما ، وقد قيل : بكل منهما هنا ، و (الشَّهْرَ) على الأول مفعول فيه والمفعول به متروك لعدم تعلق الغرض به فتقدير البلد أو المصر ليس بشيء ، وعلى الثاني مفعول به بحذف المضاف أي هلال الشهر ـ وأل ـ فيه على التقديرين للعهد ووضع المظهر موضع المضمر للتعظيم ونصب الضمير المتصل في ـ يصمه ـ على الاتساع لأن صام لازم والمعنى فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه أو من علم هلال الشهر وتيقن به فليصم ، ومفاد الآية على هذا عدم وجوب الصوم على من شك في الهلال وإنما قدر المضاف لأن شهود الشهر بتمامه إنما يكون بعد انقضائه ولا معنى لترتب وجوب الصوم فيه بعد انقضائه وعليه يكون قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) مخصصا بالنظر إلى المريض والمسافر كليهما ، وعلى الأول مخصص بالنظر إلى الأول دون الثاني وتكريره حينئذ لذلك التخصيص أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه والأول كما قيل على رأي من شرط في المخصص أن يكون متراخيا موصولا ، والثاني على رأي من جوز كونه متقدما وهذا بجعل المخصص هو الآية السابقة ، و «ما» هنا لمجرد دفع التوهم ورجح المعنى الأول من المعنيين بعدم

٤٥٨

الاحتياج إلى التقدير وبأن الفاء في «فمن شهد» عليه وقعت في مخرها مفصلة لما أجمل في قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ) من وجوب التعظيم المستفاد مما في أثره على كل من أدركه ومدركه إما حاضر أو مسافر فمن كان حاضرا فحكمه كذا إلخ ولا يحسن أن يقال من علم الهلال فليصم (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) فليقض لدخول القسم الثاني في الأول والعاطف التفصيلي يقتضي المغايرة بينهما كذا قيل ، لكن ذكر المريض يقوي كونه مخصصا لدخوله فيمن شهد على الوجهين ، ولذا ذهب أكثر النحويين إلى أن الشهر مفعول به ـ فالفاء ـ للسببية أو للتعقيب لا للتفصيل.

(يُرِيدُ اللهُ) بهذا الترخيص (بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) لغاية رأفته وسعة رحمته ، واستدل المعتزلة بالآية على أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى وذلك لأن المريض والمسافر إذا صاما حتى أجهدهما الصوم فقد فعلا خلاف ما أراد الله تعالى لأنه أراد التيسير ولم يقع مراده ، ورد بأن الله تعالى أراد التيسير وعدم التعسير في حقهما بإباحة الفطر ، وقد حصل بمجرد الأمر بقوله عز شأنه : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) من غير تخلف ، وفي البحر تفسير الإرادة هنا بالطلب ، وفيه أنه التزام لمذهب الاعتزال من أن إرادته تعالى لأفعال العباد عبارة عن الأمر وأنه تعالى ما طلب منا اليسر بل شرعه لنا ، وتفسير اليسر بما يسر بعيد ، وقرأ أبو جعفر اليسر والعسر بضمتين.

(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علل لفعل محذوف دل عليه (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) إلخ أي وشرع لكم جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر المستفاد من قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وأمر المرخص له بالقضاء كيفما كان متواترا أو متفرقا وبمراعاة عدة ما أفطره من غير نقصان فيه المستفادين من قوله سبحانه وتعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ومن الترخيص المستفاد من قوله عزوجل : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أو من قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ) إلخ ـ لتكملوا ـ إلخ والأول علة الأمر بمراعاة عدة الشهر بالأداء في حال شهود الشهر ، وبالقضاء في حال الإفطار بالعذر فيكون علة لمعللين أي أمرناكم بهذين الأمرين لتكملوا عدة الشهر بالأداء والقضاء فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته نقصت أيامه أو كملت (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير ، وتغيير الأسلوب للإشارة إلى أن هذا المطلوب بمنزلة المرجو لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله وهو ظهور كون الترخيص نعمة ، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فوات بركات الشهر ، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك قلما يهتدى اليه لأن مقتضى الظاهر ترك الواو لكونها عللا لما سبق ولذا قال من لم يبلغ درجة الكمال : إنها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلما فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف لأن الفعل المقدر لكونه مشتملا على ما سبق إجمالا يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل بحاله ولكونه مغايرا له بالإجمال ، والتفصيل يصح عطفه عليه ، وفي ذكر الأحكام تفصيلا أولا ، وإجمالا ثانيا وتعليلها من غير تعيين ثقة على فهم السامع بأن يلاحظها مرة بعد أخرى ويرد كل علة إلى ما يليق به ما لا يخفى من الاعتناء ، وجوز أن تكون عللا لأفعال مقدرة كل فعل مع علة والتقدير ـ ولتكملوا العدة ـ أوجب عليكم عدة أيام أخر (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) علمكم كيفية القضاء (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) رخصكم في الإفطار وإن شئت جعلتها معطوفة على علة مقدرة أي ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون (وَلِتُكْمِلُوا) إلخ وجعلت المجموع علة للأحكام السابقة إما باعتبار أنفسها أو باعتبار الإعلام بها فقوله : ليسهل أو لتعلموا علة لما سبق باعتبار الإعلام وما بعده علة للأحكام المذكورة كما مر ، ولك أن لا تقدر شيئا أصلا وتجعل العطف على اليسر أي ـ ويريد بكم لتكملوا ـ إلخ واللام زائدة مقدرة بعدها أن وزيدت كما قيل : بعد فعل الإرادة تأكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك ، وقيل : إنها بمعنى أن كما في الرضيّ إلا أنه

٤٥٩

يلزم على هذا الوجه أن يكون (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) عطفا على (يُرِيدُ) إذ لا معنى لقولنا يريد لعلكم تشكرون ، وحينئذ يحصل التفكيك بين المتعاطفات وهو بعيد ، ولاستلزام هذا الوجه ذلك وكثرة الحذف في بعض الوجوه السابقة وخفاء بعضها عدل بعضهم عن الجميع ، وجعل الكلام من الميل مع المعنى لأن ما قبله علة للترخيص فكأنه قيل : رخص لكم في ذلك لإرادته بكم اليسر دون ولتكملوا إلخ ، ولا يخفى عليك ما هو الأليق بشأن الكتاب العظيم ، والمراد من التكبير الحمد والثناء مجازا لكونه فردا منه ولذلك عدي بعلى ، واعتبار التضمين أي لتكبروا حامدين ليس بمعتبر لأن الحمد نفس التكبير ولكونه على هذا عبادة قولية ناسب أن يعلل به الأمر بالقضاء الذي هو نعمة قولية أيضا ، وأخرج ابن المنذر وغيره عن زيد بن أسلم أن المراد به التكبير يوم العيد ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه التكبير عند الإهلال ، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله تعالى حتى يفرغوا من عيدهم لأن الله تعالى يقول : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) وعلى هذين القولين لا يلائم تعليل الأحكام السابقة ، و (ما) يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة أي الذي هداكموه أو هداكم إليه ، والمراد من الشكر ما هو أعم من الثناء ولذا ناسب أن يجعل طلبه تعليلا للترخيص الذي هو نعمة فعلية. وقرأ أبو بكر عن عاصم (وَلِتُكْمِلُوا) بالتشديد (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي) في تلوين الخطاب مع توجيهه لسيد ذوي الألباب عليه الصلاة والسلام ، ما لا يخفى من التشريف ورفع المحل (عَنِّي) أي عن قربي وبعدي إذ ليس السؤال عن ذاته تعالى (فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي فقل لهم ذلك بأن تخبر عن القرب بأي طريق كان ، ولا بد من التقدير إذ بدونه لا يترتب على الشرط ، ولم يصرح بالمقدر كما في أمثاله للإشارة إلى أنه تعالى تكفل جوابهم ولم يكلهم إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم تنبيها على كمال لطفه ، والقرب حقيقة في القرب المكاني المنزه عنه تعالى فهو استعارة لعلمه تعالى بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على سائر أحوالهم ، وأخرج سفيان بن عيينة ، وعبد الله بن أحمد عن أبي قال : قال المسلمون يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله الآية (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) دليل للقرب وتقرير له فالقطع لكمال الاتصال ، وفيه وعد الداعي بالإجابة في الجملة على ما تشير إليه كلمة (إِذا) لا كليا فلا حاجة إلى التقييد بالمشيئة المؤذن به قوله تعالى في آية أخرى : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) [الإنعام : ٤١] لا إلى أن القول بأن إجابة الدعوة غير قضاء الحاجة لأنها قوله سبحانه وتعالى لبيك يا عبدي وهو موعود موجود لكل مؤمن يدعو ولا إلى تخصيص الدعوة بما ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، أو الداعي بالمطيع المخبت. نعم كونه كذلك أزجي للإجابة لا سيما في الأزمنة المخصوصة والأمكنة المعلومة ، والكيفية المشهورة ، ومع هذا قد تتخلف الإجابة مطلقا وقد تتخلف إلى بدل ، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها» وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم ، واستجاب وأجاب واحد ومعناه قطع مسألته بتبليغه مراده من الجواب بمعنى القطع ، وهذا ما عليه أكثر المفسرين ولا يغني عنه (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) لأنه أمر بالثبات والمداومة على الإيمان (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم ، وأصل الباب إصابة الخير ، وقرئ بفتح الشين وكسرها ، ولما أمرهم سبحانه وتعالى بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأفعالهم سميع لأقوالهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه ، أو أنه لما نسخ الأحكام في الصوم ذكر هذه الآية الدالة على كمال علمه بحال العباد وكمال قدرته عليهم ونهاية لطفه بهم في أثناء نسخ الأحكام تمكينا لهم في الإيمان ، وتقريرا لهم على الاستجابة لأن مقام النسخ من مظان الوسوسة

٤٦٠