روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

خطبة المفسر

حمدا لمن جعل روح معاني الأكوان تفسيرا لآيات قدرته. وصير نقوش أشباح الأعيان بيانا لبينات وحدته. وأظهر من غيب هويته قرآنا غدا فرقانه كشافا عن فرق الكتب الإلهية الغياهب. وأبرز من سجف ألوهيته نورا أشرق على مرايا الكائنات. بحسب مزايا الاستعدادات. فاتضحت من معالم العوالم المراتب. وصلاة وسلاما على أول درة أضاءت من الكنز المخفي في ظلمة عماء القدم. فأبصرتها عين الوجود. وعلة إيجاد كل درة برأتها يد الحكيم إذ تردت في هوة العدم. فعادت ترفل بأردية كرم وجود مهبط الوحي الشفاهي الذي ارتفع رأس الروح الأمين بالهبوط إلى موطئ أقدامه ومعدن السر الإلهي. الذي انقطع فكر الملأ الأعلى دون ذكر الوصول إلى أدنى مقامه. فهو النبي الذي أبرزه مولاه من ظهور الكمون إلى حواشي متون الظهور. ليكون شرحا لكتاب صفاته وتقريرا ورفعه بتخصيصه من بين العموم بمظهرية سره المستور. وأنزل عليه قرآنا عربيا غير ذي عوج ليكون للعالمين نذيرا.

وشق له من اسمه ليجله

فذو العرش محمود وهذا محمد

وعلى آله وأصحابه مطالع أنوار التنزيل ومغارب أسرار التأويل. الذين دخلوا عكاظ الحقائق بالوساطة المحمدية. فما برحوا حتى ربحوا فباعوا نفوسا وشروا نفيسا وقطعوا أسباب العلائق بالهمم الحقيقية. فما عرجوا حتى عرجوا فلقوا عزيزا وألقوا خسيسا. فهم النجوم المشرقة بنور الهدى والرجوم المحرقة لشياطين الردى رضي الله عنهم وأرضاهم. ووالى متبعيهم وأولاهم ، ما سرحت روح المعاني في رياض القرآن ، وسبحت أشباح المباني في حياض العرفان.

«أما بعد» فيقول عيبة العيوب وذنوب الذنوب. أفقر العباد إليه عز شأنه مدرس دار السلطنة العلية ، ومفتي بغداد المحمية أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي عفي عنه. إن العلوم وإن تباينت أصولها ، وغربت وشرقت فصولها ، واختلفت أحوالها. وأتهمت وأنجدت أقوالها. وتنوعت أبوابها. وأشأمت وأعرقت أصحابها وتغايرت مسائلها. وأيمنت وأيسرت وسائلها ، فهي بأسرها مهمة ومعرفتها على العلات نعمة. إلا أن أعلاها قدرا ، وأغلاها مهرا وأسناها مبنى ، وأسماها معنى وأدقها فكرا وأرقها سرا ، وأعرقها نسبا وأعرفها أبا وأقومها قيلا وأقواها قبيلا وأحلاها لسانا وأجلاها بيانا وأوضحها سبيلا وأصحها دليلا وأفصحها نطقا. وأمنحها رفقا العلوم الدينية. والفهوم اللدنية. فهي شمس ضحاها وبدر دجاها وخال وجنتها ولعس شفتها ودعج عيونها وغنج جفونها وحبب رضابها ، وتنهد كعابها ، ورقة كلامها ، ولين قوامها.

٣

على نفسه فليبك من ضاع عمره

وليس له منها نصيب ولا سهم

فلا ينبغي لعاقل أن يستغرق النهار والليل إلا في غوص بحارها ، أو يستنهض الرجل والخيل ، إلا في سبر أغوارها. أو يصرف نفائس الأنفاس إلا في مهور أبكارها ، أو ينفق بدر الأعمار إلا لتشوف بدر أسرارها.

إذا كان هذا الدمع يجري صبابة

على غير سلمى فهو دمع مضيع

وإن من ذلك علم التفسير الباحث عما أراده الله سبحانه بكلامه المجيد ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فهو الحبل المتين والعروة الوثقى. والصراط المبين ، والوزر الأقوى والأوقى ، وإني ولله تعالى المنة مذ ميطت عني التمائم ، ونيطت على رأسي العمائم لم أزل متطلبا لاستكشاف سره المكتوم ، مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم طالما فرقت نومي لجمع شوارده وفارقت قومي لوصال خرائده. فلو رأيتني وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر ، وأطالع ـ إن أعوز الشمع يوما ـ على نور القمر ، في كثير من ليالي الشهر وأمثالي إذ ذاك يرفلون في مطارف اللهو. ويرقلون في ميادين الزهو. ويؤثرون مسرات الأشباح على لذات الأرواح. ويهبون نفائس الأوقات ، لنهب خسائس الشهوات. وأنا مع حداثة سني وضيق عطني لا تغرني حالهم ولا تغيرني أفعالهم. كأن لبني لبانتي ، ووصال سعدي سعادتي. حتى وقفت على كثير من حقائقه ، ووفقت لحل وفير من دقائقه. وثقبت ـ والثناء لله تعالى ـ من دره بقلم فكري درا مثمنا ولا بدع فأنا من فضل الله الشهاب وأبو الثناء. وقبل أن يكمل سني عشرين جعلت أصدح به وأصدع. وشرعت أدفع كثيرا من إشكالات الأشكال وأدفع وأتجاهر بما ألهمنيه ربي مما لم أظفر به في كتاب من دقائق التفسير. وأعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذي ذهن خطير. ولست أنا أول من منّ الله تعالى عليه بذلك ، ولا آخر من سلك في هاتيك المسالك. فكم وكم للزمان ولد مثلي ، وكم تفضل الفرد عز شأنه على كثير بأضعاف فضلي.

ألا إنما الأيام أبناء واحد

وهذي الليالي كلها أخوات

إلا أن رياض هذه الأعصار عراها إعصار ، وحياض تيك الأمصار اعتراها اعتصار. فصار العلم بالعيوق والعلماء أعز من بيض الأنوق ، والفضل معلق بأجنحة النسور وميت حي الأدب لا يرجى له نشور.

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

ولكن الملك المنان أبقى من فضله الكثير قليلا من ذوي العرفان في هذه الأزمان ، دينهم اقتناص الشوارد وديدنهم افتضاض أبكار الفوائد. يروون فيروون ويقدحون فيورون. لكل منهم مزية لا يستتر نورها ومرتبة لا ينتثر نورها. طالما اقتطفت من أزهارهم واقتبست من أنوارهم. وكم صدر منهم أودعت علمه صدري. وحبر فيهم أفنيت في فوائده حبري. ولم أزل مدة على هذه الحال لا أعبأ بما عبئ لي مما قيل أو يقال : كتاب الله لي أفضل مؤانس وسميري إذا احلولكت ظلمة الحنادس.

نعم السمير كتاب الله إن له

حلاوة هي أحلى من جنى الضرب

به فنون المعاني قد جمعن فما

تفترّ من عجب إلا إلى عجب

أمر ونهي وأمثال وموعظة

وحكمة أودعت في أفصح الكتب

لطائف يجتليها كل ذي بصر

وروضة يجتنيها كل ذي أدب

وكانت كثيرا ما تحدثني في القديم نفسي أن أحبس في قفص التحرير ما اصطاده الذهن بشبكة الفكر أو

٤

اختطفه بأن الإلهام في جو حدسي. فأتعلل تارة بتشويش البال (١) بضيق الحال وأخرى بفرط الملال لسعة المجال. إلى أن رأيت في بعض ليالي الجمعة من رجب الأصم سنة الألف والمائتين والاثنتين والخمسين بعد هجرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رؤية لا أعدها أضغاث أحلام ولا أحسبها خيالات أوهام أن الله جل شأنه وعظم سلطانه أمرني بطي السماوات والأرض ، ورتق فتقهما على الطول والعرض فرفعت يدا إلى السماء وخفضت الأخرى إلى مستقر الماء ثم انتبهت من نومتي ، وأنا مستعظم رؤيتي ، فجعلت أفتش لها عن تعبير فرأيت في بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير. فرددت حينئذ على النفس تعللها القديم وشرعت مستعينا بالله تعالى العظيم ، وكأني إن شاء الله تعالى عن قريب عند إتمامه بعون عالم سري ونجواي أنادي وأقول غير مبال بتشنيع جهول : هذا تأويل رؤياي ، وكان الشروع في الليلة السادسة عشرة من شعبان المبارك من السنة المذكورة وهي السنة الرابعة والثلاثون من سني عمري جعلها الله تعالى بسني لطفه معمورة وقد تشرف الذهن المشتت بتأليفه وأحكمت غرف مغاني المعاني بمحكم ترصيفه ، زمن خلافة خليفة الله الأعظم ، وظله المبسوط على خليقته في العالم مجدد نظام القواعد المحمدية ، ومحدد جهات العدالة الإسلامية سورة الحمد الذي أظهره الرحمن في صورة الملك لكسر سورة الكافرين ، وآية السيف الذي عوده الفاطر والفتح والنصر وأيده بمرسلات الذاريات في كل عصر فويل للمنافقين ، من نازعات أرواحهم إذا عبس صمصام عزمه المتين ، حضرة مولانا السلطان ابن السلطان سلطان الثقلين وخادم الحرمين المجدد الغازي محمود خان العدلي ابن السلطان عبد الحميد خان أيده الرحمن وأبد ملكه ما دام الدوران آمين ، وبعد أن أبرمت حبل النية ونشرت مطوي الأمنية وعرا المخاض قريحة الأذهان وقرب ظهور طفل التفسير للعيان جعلت أفكر ما اسمه وبما ذا أدعوه إذا وضعته أمه فلم يظهر لي اسم تهتش له الضمائر وتبتش من سماعه الخواطر فعرضت الحال لدى حضرة وزير الوزراء ونور حديقة البهاء ونور حدقة الوزراء آية الله التي لا تنسخها آية ، ورب النهى الذي ليس له نهاية وصاحب الأخلاق التي ملك بها القلوب ومعدن الأذواق التي يكاد أن يعلم معها الغيوب ؛ مولانا علي رضا باشا لا زال له الرضا غطاء وفراشا فسماه على الفور وبديهة ذهنه تغني عن الغور «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» فيا له اسم ما اسماه نسأل الله تعالى أن يطابقه مسماه وأحمد الله تعالى حمدا غضا ، وأصلي وأسلم على نبيه النبيه حتى يرضى. وقد آن وقت الشروع في المقصود مقدما عليه عدة فوائد يليق أن تكتب بسواد العيون على صفحات الخدود فأقول : «الفائدة الأولى» في معنى التفسير والتأويل وبيان الحاجة إلى هذا العلم وشرفه. وأما معناهما فالتفسير تفعيل من الفسر وهو لغة البيان والكشف والقول بأنه مقلوب السفر مما لا يسفر له وجه ، ويطلق التفسير على التعرية للانطلاق يقال فسرت الفرس إذا عريته لينطلق ولعله يرجع لمعنى الكشف كما لا يخفى بل كل تصاريف حروفه لا تخلو عن ذلك كما هو ظاهر لمن أمعن النظر. ورسموه بأنه علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك كمعرفة النسخ وسبب النزول وقصة توضح ما أبهم في القرآن ونحو ذلك. والتأويل من الأول وهو الرجوع والقول بأنه من الايالة وهي السياسة كأن المؤول للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه ليس بشيء واختلف في الفرق بين التفسير والتأويل فقال أبو عبيدة : هما بمعنى ، وقال الراغب : التفسير أعم وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها في الكتب الإلهية وغيرها والتأويل في المعاني والجمل في

__________________

(١) أنكر جماعة من أهل اللغة مجيء مشوش وقالوا الصواب أن يقال هوشته فهو مهوش لأنه من الهوش وهو اختلاط الشيء. وأثبته الجوهري فقال التشويش التخليط ووهمه صاحب القاموس. وقال ابن بري : إنه من كلام المولدين ولا أصل له في العربية. وقد اشتهر هذا اللفظ ووقع في كلام الزمخشري وغيره من أهل المعاني كقولهم هذا لفّ ونشر مشوش. ا ه مصححه.

٥

الكتب الإلهية خاصة ؛ وقال الماتريدي : التفسير القطع بأن مراد الله تعالى كذا والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع ، وقيل : التفسير ما يتعلق بالرواية ، والتأويل ما يتعلق بالدراية. وقيل غير ذلك ، وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف فكل الأقوال فيه ما سمعتها وما لم تسمعها مخالفة للعرف اليوم إذ قد تعارف من غير نكير أن التأويل إشارة قدسية ومعارف سبحانية تنكشف من سجف العبارات للسالكين وتنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين ، والتفسير غير ذلك وإن كان المراد الفرق بينهما بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال أو بوجه ما فلا أراك ترضى إلا أن في كل كشف إرجاعا وفي كل إرجاع كشفا فافهم ، وأما بيان الحاجة إليه فلأن فهم القرآن العظيم ـ المشتمل على الأحكام الشرعية التي هي مدار السعادة الأبدية وهو العروة الوثقى والصراط المستقيم ـ أمر عسير لا يهتدى إليه إلا بتوفيق من اللطيف الخبير حتى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم على علو كعبهم في الفصاحة واستنارة بواطنهم بما أشرق عليها من مشكاة النبوة كانوا كثيرا ما يرجعون إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بالسؤال عن أشياء لم يعرجوا عليها ولم تصل أفهامهم إليها بل ربما التبس عليهم الحال ففهموا غير ما أراده الملك المتعال كما وقع لعدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود ، ولا شك أنا محتاجون إلى ما كانوا محتاجين إليه وزيادة «وأما بيان شرفه» فلأن شرف العلم بشرف موضوعه وشرف معلومه وغايته وشدة الاحتياج إليه وهو حائز لجميعها ، فإن موضوعه كلام الله تعالى وما ذا عسى أن يقال فيه ، ومعلومه مع أنه مراد الله تعالى الدال عليه كلامه جامع للعقائد الحقة والأحكام الشرعية وغيرها ، وغايته الاعتصام بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والوصول إلى سعادة الدارين وشدة الاحتياج إليه ظاهرة مما تقدم بل هو رئيس جميع العلوم الدينية لكونها مأخوذة من الكتاب وهي تحتاج من حيث الثبوت أو من حيث الاعتداد إلى علم التفسير وهذا لا ينافي كون الكلام رئيسها أيضا لأن علم التفسير لتوقفه على ثبوت كونه تعالى متكلما يحتاج إلى الكلام والكلام لتوقف جميع مسائله من حيث الثبوت أو الاعتداد على الكتاب يتوقف على التفسير فيكون كل منهما رئيسا للآخر من وجه على أن رئاسة التفسير بناء على ذلك الشرف مما لا ينتطح فيه كبشان ، وأما الآثار الدالة على شرفه فكثيرة. أخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) قال : المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله ، وأخرج أبو عبيدة عن الحسن قال : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن تعلم فيما أنزلت وما أراد بها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال : ما مررت بآية لا أعرفها إلا أحزنتني لأني سمعت الله يقول : «وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون» إلى غير ذلك.

«الفائدة الثانية» فيما يحتاجه التفسير ومعنى التفسير بالرأي ـ وحكم كلام السادة الصوفية في القرآن ، فأما ما يحتاجه التفسير فأمور : «الأول» علم اللغة لأن به يعرف شرح مفردات الألفاظ ومعلولاتها بحسب الوضع ولا يكفي اليسير إذ قد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر فمن لم يكن عالما بلغات العرب لا يحل له التفسير كما قاله مجاهد وينكل كما قاله مالك ـ وهذا مما لا شبهة فيه ـ نعم روي عن أحمد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر فقال ما يعجبني ـ وهو ليس بنص في المنع عن بيان المدلول اللغوي للعارف كما لا يخفى. «الثاني» معرفة الأحكام التي للكلم العربية من جهة إفرادها وتركيبها ويؤخذ ذلك من علم النحو ؛ أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال : حسن فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها ـ وفي قصة الأسود ما يغني عن الإطالة. «الثالث» علم المعاني والبيان والبديع ، ويعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى ـ وبالثاني خواصها من حيث اختلافها ، وبالثالث وجوه تحسين

٦

الكلام وهو الركن الأقوم واللازم الأعظم في هذا الشأن كما لا يخفى ذلك على من ذاق طعم العلوم ولو بطرف اللسان. «الرابع» تعيين مبهم وتبيين مجمل وسبب نزول ونسخ ويؤخذ ذلك من علم الحديث. «الخامس» معرفة الإجمال والتبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأمر والنهي وما أشبه هذا وأخذوه من أصول الفقه. «السادس» الكلام فيما يجوز على الله وما يجب له وما يستحيل عليه والنظر في النبوة ويؤخذ هذا من علم الكلام ولولاه يقع المفسر في ورطات. «السابع» علم القراءات لأنه به يعرف كيفية النطق بالقرآن ، وبالقراءات ترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض هذا ـ وعد السيوطي مما يحتاج إليه المفسر علم التصريف وعلم الاشتقاق ـ وأنا أظن أن المهارة ببعض ما ذكرنا يترتب عليها ما يترتب عليهما من الثمرة وعد أيضا علم الفقه ولم يعده غيره ولكل وجهة ـ وعد علم الموهبة أيضا من ذلك. قال : وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم وإليه الإشارة بالحديث «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم» ثم قال : ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول هذا شيء ليس في قدرة الإنسان تحصيله وليس كما ظننت والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد إلى آخر ما قاله ، وفيه أن علم الموهبة بعد تسليم أنه كسبي إنما يحتاج إليه في الاطلاع على الأسرار لا في أصل فهم معاني القرآن كما يفهمه كلام البرهان وكثير من المفسرين بصدد الثاني والواقفون على الأسرار ـ وقليل ما هم ـ لا يستطيعون التعبير عن كثير مما أفيض عليهم فضلا عن تحريره وإقامة البرهان عليه على أن ذلك تأويل لا تفسير فلعل السيوطي أراد من عبارته معنى آخر يظهر لك بالتدبير فتدبر «وأما التفسير بالرأي» فالشائع المنع عنه واستدل عليه بما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وفي رواية عن أبي داود «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» ولا دليل في ذلك أما أولا فلأن في صحة الحديث الأول مقالا قال في المدخل في صحته نظر وإن صح فإنما أراد به ـ والله تعالى أعلم ـ فقد أخطأ الطريق إذ الطريق الرجوع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي نحو الناسخ والمنسوخ إلى الأخبار وفي بيان المراد منه إلى صاحب الشرع فإن لم يجد هناك وهنا فلا بأس بالفكرة ليستدل بما ورد على ما لم يرد أو أراد من قال بالقرآن قولا يوافق هواه بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له فيرد إليه بأي وجه فقد أخطأ فالباء على ذلك سببية أو يقال ذلك في المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله أو في الجزم بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل ، وأما الحديث الثاني فله معنيان ، الأول من قال في مشكل القرآن بما لا يعلم فهو متعرض لسخط الله تعالى ، والثاني وصحح من قال : «في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده في النار» وأما ثانيا فلأن الأدلة على جواز الرأي والاجتهاد في القرآن كثيرة وهي تعارض ما يشعر بالمنع فقد قال تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] وقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] وقال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩] وأخرج أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه» وقد دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لابن عباس بقوله «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه سئل هل خصكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشيء؟ فقال : ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ، والعجب كل العجب مما يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني التراكيب ولم ينظر إلى اختلاف التفاسير وتنوعها ولم يعلم أن ما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك كالكبريت الأحمر فالذي ينبغي أن يعول عليه أن من كان متبحرا في علم اللسان مترقيا منه إلى ذوق العرفان وله في رياض العلوم الدينية أوفى مرتع ، وفي حياضها أصفى مكرع يدرك إعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد وقد غدا ذهنه لما أغلق من دقائق التحقيقات أحسن إقليد فذاك يجوز له أن يرتقي من علم

٧

التفسير ذروته ويمتطي منه صهوته ، وأما من صرف عمره بوساوس أرسطاطاليس واختار شوك القنافذ على ريش الطواويس فهو بمعزل عن فهم غوامض الكتاب وإدراك ما تضمنه من العجب العجاب ، وأما كلام السادة الصوفية في القرآن فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة وذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان لا أنهم اعتقدوا أن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن فقط إذ ذاك اعتقاد الباطنية الملاحدة توصلوا به إلى نفي الشريعة بالكلية وحاشى سادتنا من ذلك كيف وقد حضوا على حفظ التفسير الظاهر وقالوا لا بد منه أولا إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ومن ادعى فهم أسرار القرآن قبل إحكام التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب ومما يؤيد أن للقرآن ظاهرا وباطنا ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال : القرآن ذو شجون وفنون ، وظهور وبطون ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تبلغ غايته فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن فظهره التلاوة وبطنه التأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء. وقال ابن مسعود : من أراد علم الأولين والآخرين فليتل القرآن ، ومن المعلوم أن هذا لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقد قال بعض من يوثق به : لكل آية ستون ألف فهم ، وروي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع» قال ابن النقيب : إن ظاهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر وباطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله تعالى عليها أرباب الحقائق ، ومعنى قوله ولكل حرف حد أن لكل حرف منتهى فيما أراده الله تعالى من معناه ومعنى قوله : ولكل حد مطلع أن لكل غامض من المعاني والأحكام مطلعا يتوصل به إلى معرفته ويوقف عن المراد به وقيل في رواية لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع والمذكور بوساطة الألفاظ وتأليفاتها وضعا وإفادة وجعلها طرقا إلى استنباط الأحكام الخمسة هو الظهر وروح الألفاظ أعني الكلام المعتلي عن المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية هو البطن وإليه الإشارة بقول الأمير السابق. والحد إما بين الظهر والبطن يرتقى منه إليه وهو المدرك بالجمعية من الجمعية وإما بين البطن والمطلع فالمطلع مكان الاطلاع من الكلام النفسي إلى الاسم المتكلم المشار إليه بقول الصادق لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون ، والحد بينهما يرتقى به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والاسم واستهلاك صفة العبد تحت تجليات أنوار صفة المتكلم تعالى شأنه ، وقيل الظهر التفسير والبطن التأويل والحد ما تتناهى إليه الفهوم من معنى الكلام والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام انتهى.

فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل بل أدنى ذرة من إيمان أن ينكر اشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدأ الفياض على بواطن من شاء من عباده ويا ليت شعري ما ذا يصنع المنكر بقوله تعالى : (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) [يوسف : ١١١ ، الأنعام : ١٥٤ ، الأعراف : ١٤٥] وقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] ويا لله تعالى العجب كيف يقول باحتمال ديوان المتنبي وأبياته المعاني الكثيرة ولا يقول باشتمال قرآن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وآياته وهو كلام رب العالمين المنزل على خاتم المرسلين على ما شاء الله تعالى من المعاني المحتجبة وراء سرادقات تلك المباني (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) [النور : ١٦] بل ما من حادثة ترسم بقلم القضاء في لوح الزمان إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها فهو المشتمل على خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت.

وقد ذكر ابن خلكان في تاريخه أن السلطان صلاح الدين لما فتح مدينة حلب أنشد القاضي محيي الدين قصيدة بائية أجاد فيها كل الإجادة وكان من جملتها.

٨

وفتحك القلعة الشهباء في صفر

مبشر بفتوح القدس في رجب

فكان كما قال فسأل القاضي من أين لك هذا فقال : أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم : ١ ـ ٤] قال المؤرخ : فلم أزل أتطلب التفسير المذكور حتى وجدته على هذه الصورة وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراجه وله نظائر كثيرة ، ومن المشهور استنباط ابن الكمال فتح مصر على يد السلطان سليم من قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] فالإنصاف كل الإنصاف التسليم للسادة الصوفية الذين هم مركز للدائرة المحمدية ما هم عليه واتهام ذهنك السقيم فيما لم يصل لكثرة العوائق والعلائق إليه.

وإذا لم تر الهلال فسلم

لأناس رأوه بالأبصار

وسيأتي تتمة لهذا البحث إن شاء الله تعالى والله الهادي إلى سواء السبيل. «الفائدة الثالثة» اعلم أن لكتاب الله تعالى أسماء أنهاها شيدلة في البرهان خمسة وخمسين اسما وذكر السيوطي بعد عدها في الإتقان وجوه تسميته بها ولم يذكر غير ذلك وعندي أنها كلها ترجع بعد التأمل الصادق إلى القرآن والفرقان رجوع أسماء الله تعالى إلى صفتي الجمال والجلال فهما الأصل فيها ، وقد اختلف الناس في تحقيق لفظ القرآن ، فالمروي عن الشافعي وبه قال جماعة أنه اسم علم غير مشتق خاص بهذا الكلام المنزل على النبي المرسل صلى الله تعالى عليه وسلم وهو معرفا غير مهموز عنده كما حكاه عنه البيهقي والخطيب وغيرهما ، والمنقول عن الأشعري وأقوام أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه وسمي به عندهم لقران السور والآيات والحروف فيه بعضها ببعض ، وقال الفراء هو مشتق من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا ويشبه بعضها بعضا وهو على هذين القولين بلا همز أيضا ونونه أصلية ، وقال الزجاج : هذا القول غلط والصواب أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف ونقل حركتها إلى ما قبلها فهو عنده وصف مهموز على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض إذا جمعته وسمي به لأنه جمع السور كما قال أبو عبيدة أو ثمرات الكتب السالفة كما قال الراغب أو لأن القارئ يظهره من فيه أخذا من قولهم ما قرأت الناقة سلى قط (١) كما حكي عن قطرب وعند اللحياني وجماعة هو مصدر كالغفران سمي به المقروء تسمية المفعول بالمصدر ، قال السيوطي : قلت والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه انتهى ـ وأنا متبرئ من حولي ـ أقول قول الزجاج أرق من وجه إذ الشائع فيه الهمز وبه قرأ السبعة ما عدا ابن كثير وقد وجه إسقاطها بما مر آنفا ولم يوجه إثباتها وكأن قول السيوطي محض تقليد لإمام مذهبه حيث لم يذكر الدليل ولم يوضح السبيل ، وعندي أنه في الأصل وصف أو مصدر كما قال الزجاج واللحياني لكنه نقل وجعل علما شخصيا كما ذهب إليه الشافعي ومحققو الأصوليين وعليه لا يعرف القرآن لأن التعريف لا يكون إلا للحقائق الكلية ولعل من عرفه بالكلام المنزل للإعجاز بسورة منه أراد تصوير مفهوم لفظ القرآن وكذا من قال كالغزالي إنه ما نقل بين دفتي المصحف تواترا أراد تخصيص الاسم بأحد الأقسام الثلاثة مما نقل بين الدفتين ومما لم ينقل كالمنسوخ تلاوته نحو ـ إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ـ وما نقل ولم يتواتر نحو ـ ثلاثة أيام متتابعات ـ ليعلم أن ذلك هو الدليل وعليه الأحكام من نحو منع التلاوة والمس محدثا وإلا فيرد على الأول إن أريد التمييز أن كونه للإعجاز ليس لازما بينا إذ لا يعرفه إلا الأفراد من العلماء فضلا عن أن يكون ذاتيا فكيف يصح لتعريف الحقيقة وتمييزها وهو إنما يكون بالذاتيات أو باللوازم البينة ،

__________________

(١) أي ما أسقطت ولدا أي ما حملت قط.

٩

وأيضا ان معرفة السورة منه متوقفة على معرفته فيدور. ويرد على الثاني مثل ثاني ما ورد على الأول إذ معرفة المصحف موقوفة على معرفة القرآن إذ ليس هو إلا ما كتب فيه القرآن فأخذه في تعريفه دور أيضا ، هذا وقد قال ساداتنا الصوفية أفاض الله تعالى علينا من فتوحاتهم القدسية : إن القرآن إشارة إلى الذات التي يضمحل بها جميع الصفات فهي المجلى المسمى بالأحدية أنزلها الحق تعالى شأنه على نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون مشهد الأحدية من الأكوان ، ومعنى هذا الإنزال أن الحقيقة الأحدية المتعالية في ذراها ظهرت فيه صلى الله تعالى عليه وسلم بكمالها وما ادخر عنه شيء بل أفيض عليه الكل كرما إلهيّا ذاتيا ووصف القرآن في بعض الآيات بالكريم لذلك إذ أي كرم يضاهي هذا الكرم ، وأنى تقاس هذه النعمة بسائر النعم ، وأما القرآن الحكيم فهوية الحقائق الإلهية يعرج العبد بالتحقق بها في الذات شيئا فشيئا على ما اقتضته الحكمة وإلى ذلك أشار الحق تعالى بقوله : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان : ٣٢] وهذا الحكم لا ينقطع أبدا إذ لا يزال العبد في ترقّ والحق في تجلّ فسبحان من لا تقيده الأكوان وهو كل يوم في شأن ، وأما القرآن العظيم في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر : ٨٧] فهو إشارة إلى الجملة الذاتية لا باعتبار النزول ولا باعتبار المكانة بل مطلق الأحدية الذاتية التي هي في مطلق الهوية الجامعة لجميع المراتب والصفات والشئون والاعتبارات ولهذا قرن بالعظيم ، وأما السبع المثاني فهو ما ظهر عليه في وجوده من التحقق بالصفات السبع ، وأما قوله تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن : ٢] فهو إشارة إلى أن العبد إذا تجلى عليه الرحمن وجد لذة رحمانية تكسبه معرفة قرآنية فلا يعلم الحق إلا من طريق أسمائه وصفاته ، وأما الفرقان عندهم فإشارة إلى حقيقة الأسماء والصفات على اختلاف تنوعاتها فباعتباراتها تتميز كل صفة واسم من غيرها فحصل الفرق في نفس الحق من حيث أسماؤه وصفاته فإن اسمه المنعم غير اسمه المنتقم وصفة الرضا غير صفة الغضب وإليه الإشارة بقوله : «سبقت رحمتي غضبي» وهي متفاوتة المراتب في الفضل نظرا إلى أعيانها لا باعتبار أن في شيء منها نقصا أو مفضولية ولهذا حكمت بعضها على بعض كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «أعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك» فكانت المعافاة أفضل من العقوبة والرضا أفضل من السخط فأعاذه بالفاضل مما يليه ، وكذا أعاذه بذاته من ذاته فكما أن الفرق حاصل في الأفعال كذلك في الصفات بل في نفس وأحدية الذات التي لا فرق فيها لكن من غريب شئونها جمعها النقيضين. قال أبو سعيد : عرفت الله تعالى بجمعه بين الضدين ، ولكونه صلى الله تعالى عليه وسلم مظهرا للقرآن والفرقان كان خاتم النبيين ، وإمام المرسلين. لأنه ما ترك شيئا يحتاج إليه إلا وقد جاء به فلا يجد الذي يأتي بعده من الكمال شيئا مما ينبغي أن ينبه عليه. قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨]. وقال تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) [الإسراء : ١٢]. إلى غير ذلك من الآيات.

«وقد يقال» : القرآن والفرقان إشارتان إلى مقام الجمع والفرق بأقسامهما. قالوا : ولا بد للعبد الكامل منهما ، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له ، ومن لا جمع له لا معرفة له. والجمع عندهم شهود الأشياء بالله تعالى والتبري من الحول والقوة إلا بالله وجمع الجمع الاستهلاك بالكلية والفناء عما سوى الله تعالى وهو المرتبة الأحدية ، والفرق أنواع ؛ فرق أول وهو الاحتجاب بالخلق عن الحق وبقاء رسوم الخليقة بحالها ؛ وفرق ثان وهو شهود قيام الخلق بالحق ورؤية الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة من غير احتجاب إحداهما عن الأخرى ، وفرق الوصف وهو ظهور الذات الأحدية بأوصافها في الحضرة الواحدة ، وفرق الجمع وهو تكثر الواحد بظهوره في المراتب التي هي ظهور شئون الذات الأحدية وتلك الشئون في الحقيقة اعتبارات محضة لا تحقق لها إلا عند بروز الواحد بصورها وكثيرا ما يطلقون القرآن

١٠

على العلم اللدني الإجمالي الجامع للحقائق كلها والفرقان على العلم التفصيلي الفارق بين الحق والباطل وكتاب الله تعالى جامع لذلك كله كما لا يخفى على أهله ، وذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره أن القرآن يتضمن الفرقان ، والفرقان لا يتضمن القرآن لأن تفاصيل المراتب والأسماء المقتضية لها موجودة في الجمع والجمع لا يوجد في التفاصيل ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فليفهم. ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويزيل بعلمه جهلنا إنه على ما يشاء قدير. «الفائدة الرابعة» في تحقيق معنى أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق : «اعلم» أن هذه المسألة من أمهات المسائل الدينية والمباحث الكلامية كم زلت فيها أقدام وضلت عن الحق بها أقوام وهي وإن كانت مشروحة في كتب المتقدمين مبسوطة في زبر المتأخرين لكني بحول من عز حوله وفضل من غمرنا فضله أوردها في هذا الكتاب ليتذكر أولو الألباب بأسلوب عجيب وتحقيق غريب لا أظنك شنفت سمعك بمثل لآليه ، ولا نورت بصرك بشبه بدر لياليه ، فماء ولا كصدي ومرعى ولا كالسعدان.

وما كل زهر ينبت الروض طيب

ولا كل كحل للنواظر إثمد

«فأقول» إن الإنسان له كلام بمعنى التكلم الذي هو مصدر وكلام بمعنى المتكلم به الذي هو الحاصل بالمصدر. ولفظ الكلام موضوع لغة للثاني قليلا كان أو كثيرا حقيقة كان أو حكما. وقد يستعمل استعمال المصدر كما ذكره الرضي وكل من المعنيين إما لفظي أو نفسي «فالأول» من اللفظي فعل الإنسان باللسان وما يساعده من المخارج «والثاني» منه كيفية في الصوت المحسوس «والأول» من النفسي فعل قلب الإنسان ونفسه الذي لم يبرز إلى الجوارح «والثاني» كيفية في النفس إذ لا صوت محسوسا عادة فيها وإنما هو صوت معنوي مخيل. أما الكلام اللفظي بمعنييه فمحل وفاق. وأما النفسي فمعناه الأول تكلم الإنسان بكلمات ذهنية وألفاظ مخيلة يرتبها في الذهن على وجه إذا تلفظ بها بصوت محسوس كانت عين كلماته اللفظية ، ومعناه الثاني هو هذه الكلمات الذهنية والألفاظ المخيلة المرتبة ترتيبا ذهنيا منطبقا عليه الترتيب الخارجي.

والدليل على أن للنفس كلاما بالمعنيين الكتاب والسنة فمن الآيات قوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) [يوسف : ٧٧] فإن «قال» بدل من «أسر» أو استئناف بياني كأنه قيل فما ذا قال في نفسه في ذلك الإسرار فقيل : (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً). وعلى التقديرين فالآية دالة على أن للنفس كلاما بالمعنى المصدري وقولا بالمعنى الحاصل بالمصدر وهو بدل من أسر والجملة بعدها وقوله تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى) [الزخرف : ٨٠] وفسر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم السر بما أسره ابن آدم في نفسه. وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) [الأعراف : ٢٠٥] وقوله تعالى : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤] أي يقولون في أنفسهم كما هو الأسرع انسياقا إلى الذهن ، والآيات في ذلك كثيرة. ومن الأحاديث ما رواه الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سأله رجل فقال : «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري فقال : لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن» فسمى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الشيء المحدث به كلاما مع أنه كلمات ذهنية والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا صارف عنها. وقوله تعالى في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» الحديث. وفيه دليل على أن للعبد كلاما نفسيا بالمعنيين ، وللرب أيضا كلاما نفسيا كذلك ولكن أين التراب من رب الأرباب؟!

١١

«فالمعنى الأول» للحق تعالى شأنه صفة أزلية منافية للآفة الباطنية التي هي بمنزلة الخرس في التكلم الإنساني اللفظي ليس من جنس الحروف والألفاظ أصلا وهي واحدة بالذات تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به ، وحاصل الحديث من تعلق تكلمه بذكر اسمي تعلق تكلمي بذكر اسمه ، والتعلق من الأمور النسبية التي لا يضر تجددها ، وحدوث المتعلق إنما يلزم في التعلق التنجيزي ولا ننكره ، وأما التعلق المعنوي التقديري ومتعلقة فأزليان ، ومنه ينكشف وجه صحة نسبة السكوت عن أشياء رحمة غير نسيان كما في الحديث إذ معناه أن تكلمه الأزلي لم يتعلق ببيانها مع تحقق اتصافه أزلا بالتكلم النفسي ، وعدم هذا التعلق الخاص لا يستدعي انتفاء الكلام الأزلي كما لا يخفى.

«والمعنى الثاني» له تعالى شأنه كلمات غيبية وهي ألفاظ حكمية مجردة عن المواد مطلقا نسبية كانت أو خيالية أو روحانية ، وتلك الكلمات أزلية مترتبة من غير تعاقب في الوضع الغيبي العلمي لا في الزمان إذ لا زمان ، والتعاقب بين الأشياء من توابع كونها زمانية ويقربه من بعض الوجوه وقوع البصر على سطور الصفحة المشتملة على كلمات مرتبة في الوضع الكتابي دفعة فهي مع كونها مترتبة لا تعاقب في ظهورها فجميع معلومات الله الذي هو نور السماوات والأرض مكشوفة له أزلا كما هي مكشوفة له فيما لا يزال ثم تلك الكلمات الغيبية المترتبة ترتبا وضعيا أزليا يقدر بينها التعاقب فيما لا يزال ، والقرآن كلام الله تعالى المنزل بهذا المعنى فهو كلمات غيبية مجردة عن المواد مترتبة في علمه أزلا غير متعاقبة تحقيقا بل تقديرا عند تلاوة الألسنة الكونية الزمانية ، ومعنى تنزيلها إظهار صورها في المواد الروحانية والخيالية والحسية من الألفاظ المسموعة والذهنية والمكتوبة ، ومن هنا قال السنيون : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسن مسموع بالآذان غير حال في شيء منها وهو في جميع هذه المراتب قرآن حقيقة شرعية معلوم من الدين بالضرورة ، فقولهم غير حال إشارة إلى مرتبته النفسية الأزلية فإنه من الشئون الذاتية ولم تفارق الذات ولا تفارقها أبدا ولكن الله تعالى أظهر صورها في الخيال والحس فصارت كلمات مخيلة وملفوظة مسموعة ومكتوبة مرئية فظهر في تلك المظاهر من غير حلول إذ هو فرع الانفصال وليس فليس ، فالقرآن كلامه تعالى غير مخلوق وإن تنزل في هذه المراتب الحادثة ولم يخرج عن كونه منسوبا إليه «أما» في مرتبة الخيال فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أغنى الناس حملة القرآن من جعله الله تعالى في جوفه» وأما في مرتبة اللفظ فلقوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩] وأما في مرتبة الكتابة فلقوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ، ٢٢] وقول الإمام أحمد : لم يزل الله متكلما كيف شاء وإذا شاء بلا كيف إشارة إلى مرتبتين ، فالأول إلى كلامه في مرتبة التجلي والتنزل إلى مظهر له كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان» الحديث ، والثاني إلى مرتبة الكلام النفسي إذ الكيف من توابع مراتب التنزلات والكلام النفسي في مرتبة الذات مجرد عن المادة فارتفع الكيف بارتفاعها «فالحاصل» لم يزل الله تعالى متكلما وموصوفا بالكلام من حيث تجلى ومن حيث لا ، فمن حيث تجليه في مظهر لكلامه كيف وإذا شاء لم يتكلم بما اقتضاه مظهر تجليه فيكون متكلما بلا كيف كما كان ولم يزل ، والأشعري إذا حققت الحال وجدته قائلا : بأن لله تعالى كلاما بمعنى التكلم وكلاما بمعنى المتكلم به وأنه بالمعنى الثاني لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا فإنها أقسام المتكلم به وأن الكلام النفسي بالمعنى الثاني حروفه غير عارضة للصوت في الحق والخلق غير أنها في الحق كلمات غيبية مجردة عن المواد أصلا إذ كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره ، وفي الخلق كلمات مخيلة ذهنية فهي في مادة خيالية ، فكلمات الكلام النفسي في جنابه تعالى كلمات حقيقية لكنها ألفاظ حكمة ولا يشترط اللفظ الحقيقي في كون الكلمة حقيقية إذ قد أطلق الفاروق الكلمة على أجزاء مقالته المخيلة

١٢

في خبر يوم السقيفة (١) والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فالأجزاء كلمات حقيقية لغوية مع أنها ليست ألفاظا كذلك إذ ليست حروفها عارضة لصوت واللفظ الحقيقي ما كانت حروفه عارضة وهو لكونه صورة اللفظ النفسي الحكمي دال عليه وهو دال في النفس على معناه بلا شبهة ولا انفكاك فيصدق على اللفظ النفسي بمعناه أنه مدلول اللفظ الحقيقي ومعناه ، فتفسير المعنى النفسي المشهور عن الأشعري بمدلول اللفظ وحده كما نقله صاحب المواقف عن الجمهور لا ينافي تفسيره بمجموع اللفظ والمعنى كما فسره هو أيضا وذلك بأن يحمل اللفظ في قوله على النفسي وفي قول الجمهور على الحقيقي ، ولا شك حينئذ أن مجموع النفسي ومعناه من حيث المجموع يصدق عليه أنه مدلول اللفظ الحقيقي وحده لأن اللفظ الحقيقي لكونه صورة النفسي في مرتبة تنزله دال عليه ، ويدل على أن المراد المجموع قول إمام الحرمين في الإرشاد : ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس وهو القول أي المقول الذي يدور في الخلد وهو اللفظ النفسي الدال على معناه بلا انفكاك ـ نعم عبارة صاحب المواقف غير واضحة في المقصود وله مقالة مفردة في ذلك.

ومحصولها كما قال السيد قدس‌سره أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير فالشيخ لما قال الكلام النفسي هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده ، وأما العبارات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالته على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ خاصة حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة ، وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة ، وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي ، وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية ، فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة «وما يقال» من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة فجوابه أن ذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة ، فالتلفظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخر وأصحابنا إلا أنه بعد التأمل يعرف حقيته انتهى «واعتراضه» الدواني بوجوه قال «أما أولا» فلأن مذهب الشيخ أن كلامه تعالى واحد وليس بأمر ولا نهي ولا خبر وإنما يصير أحد هذه الأمور بحسب التعلق وهذه الأوصاف لا تنطبق على الكلام اللفظي وإنما يصح تطبيقه على المعنى المقابل للفظ بضرب من التكلف «وأما ثانيا» فلأن كون الحروف والألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتب يفضي إلى كون الأصوات مع كونها أعراضا سيالة موجودة بوجود لا تكون فيه سيالة وهو سفسطة من قبيل أن يقال الحركة توجد في بعض الموضوعات من غير ترتب وتعاقب بين أجزائها «وأما ثالثا» فلأنه يؤدي إلى أن يكون الفرق بين ما يقوم بالقارئ من الألفاظ وبين ما يقوم بذاته تعالى باجتماع الأجزاء وعدم اجتماعها بسبب قصور الآلة «فنقول» هذا الفرق إن أوجب اختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته من جنس الألفاظ وإن لم يوجب وكان ما يقوم بالقارئ وما

__________________

(١) حيث قال : فلما سكت أي خطيب الأنصار : ـ أردت أن أتكلم وكنت زورت في نفسي مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ـ إلى أن قال ـ فكان هو أعلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها ـ الأثر بطوله ا ه منه.

١٣

يقوم بذاته تعالى حقيقة واحدة والتفاوت بينهما إنما يكون باجتماعه وعدمه اللذين هما من عوارض الحقيقة الواحدة كان بعض صفاته الحقيقية مجانسا لصفات المخلوقات.

«وأما رابعا» فلأن لزوم ما ذكره من المفاسد وهم ، فإن تكفير من أنكر كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى إنما هو إذا اعتقد أنه من مخترعات البشر أما إذا اعتقد أنه ليس كلام الله بمعنى أنه ليس بالحقيقة صفة قائمة بذاته بل هو دال على الصفة القائمة بذاته لا يجوز تكفيره أصلا كيف وهو مذهب أكثر الأشاعرة ما خلا المصنف وموافقيه. وما علم من الدين من كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى حقيقة إنما هو بمعنى كونه دالا على ما هو كلام الله تعالى حقيقة لا على أنه صفة قائمة بذاته تعالى وكيف يدعي أن من ضروريات الدين مع أنه خلاف ما نقله عن الأصحاب وكيف يزعم أن هذا الجم الغفير من الأشاعرة أنكروا ما هو من ضروريات الدين حتى يلزم تكفيرهم حاشاهم عن ذلك «وأما خامسا» فلأن الأدلة الدالة على النسخ لا يمكن حملها على التلفظ بل ترجع إلى الملفوظ كيف وبعضها مما لا يتعلق النسخ بالتلفظ به كما نسخ حكمه وبقي تلاوته انتهى «والجواب» أما عن الأول فهو أن الحق عز اسمه له كلام بمعنى التكلم وكلام بمعنى المتكلم به. وما هو أمر واحد ، المعنى الأول وهو صفة واحدة تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به من الكتب والكلمات وأنها ليست من جنس الحروف والألفاظ أصلا لا الحقيقية ولا الحكمية وما ذكر في الاعتراض ينطبق عليه بلا كلفة «والدليل» على أن المنعوت بهذه الأوصاف عند الشيخ هو المعنى الأول ، نقل الإمام أن الكلام الأزلي لم يزل متصفا بكونه أمرا نهيا خبرا ولا شك أن هذه أقسام المتكلم به وكل من كان قائلا بانقسام الثاني كان المنعوت بالوحدة ذاتا والتعدد تعلقا المعنى الأول عنده جمعا بين الكلامين «وأما» عن الثاني فهو أن ذلك إنما يلزم إذا أريد من اللفظ الحقيقي ؛ وأما إذا أريد النفسي الحكمي فلا ورود له لأن الألفاظ النفسية كلها مجتمعة الأجزاء في الوجود العلمي مع كونها مترتبة كما ذكره هو نفسه وكلام صاحب المواقف محتمل للتأويل كما تقدم فليحمل عليه سعيا بالإصلاح مهما أمكن «وأما» الثالث فهو أن الإيراد مبني على ظن ان المراد باللفظ الحقيقي مع أنه محتمل لأن يراد النفسي كما يقتضيه ظاهر تشبيهه بالقائم بنفس الحافظ. «وأما» الرابع فهو أن الكلام النفسي عند أهل الحق هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى ، ولكن ظاهر كلام صاحب المواقف يدل على أنه فهم من ظاهر كلام بعض الأصحاب أن مرادهم بالمعنى هو المقابل للفظ مجردا عن اللفظ مطلقا وقد سمعهم يقولون : إن الكلام اللفظي ليس كلامه تعالى حقيقة بل مجازا ، فإذا انضم قولهم بنفي كونه كلاما حقيقة شرعية إلى قولهم في ظنه أن النفسي هو المعنى المقابل للفظ لزم من هذا ما هو في معنى القول يكون اللفظي من مخترعات البشر ولا يخفى استلزامه للمفاسد ولكن لم يريدوا بالمجاز الشرعي فإن إطلاق كلام الله تعالى المسموع متواتر فلا يتأتى نفيه لأحد بل المراد أن الكلام إنما يتبادر منه ما هو وصف للمتكلم وقائم به قياما يقتضيه حقيقة الكلام وذات المتكلم في الحق والخلق على الوجه اللائق بكل ـ وأما ما يتلى فهو حروف عارضة للصوت الحادث ولا شك أنه ليس قائما بذاته سبحانه من حيث هو هو بل هو صورة من صور كلامه القديم القائم به تعالى ومظهر من مظاهر تنزلاته فهو دال على الحقيقي القائم فسمي كلاما حقيقة شرعية لذلك وفيه إطلاق لاسم الحقيقة على الصورة فيكون مجازا من هذا الوجه وإلى هذا يشير كلام التفتازاني فلا يلزم شيء من المفاسد واعتراض صاحب المواقف مبني على ظنه «وأما الخامس» فهو أن كلام صاحب المواقف ليس نصا في أن الضمير راجع إلى التلفظ بل يحتمل أن يكون راجعا إلى الملفوظ وذلك أنه قال المعنى الذي في النفس لا ترتب فيه كما هو قائم بنفس الحافظ ولا ترتب فيه وقد مر أن المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى كما يقتضيه ظاهر التشبيه بالقائم بنفس الحافظ ولا شك أنه لا ترتب فيه أي لا تعاقب فيه في الوجود العلمي وحينئذ فقولهم نعم

١٤

الترتب إنما يحصل في التلفظ معناه أن الترتب في المعنى النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى إنما يحصل في التلفظ الخارجي لضرورة عدم مساعدة الآلة ، فقوله : وهو الذي هو حادث أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي الذي هو الصورة حادث لا اللفظ النفسي وتحمل الأدلة التي تدل على الحدوث على حدوثه أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي وعلى هذا لا ورود للاعتراض أصلا «ومنهم» ومن اعترض أيضا بأنهم اشتركوا في المعجزة أن تكون فعل الله تعالى أو ما يقوم مقامه كالنزول فلا يكون القرآن اللفظي الذي هو معجزة قديما صفة له تعالى ولا يخفى أن المعجزة هو القرآن في مرتبة تنزله إلى الألفاظ الحقيقية العربية فكونه لفظا حقيقيا عربيا مجعول (١) بالنص فيكون معجزة بلا شبهة ، والقديم على ما حقق هو القرآن اللفظي النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى ، وهذا واضح لمن ساعدته العناية ، وقد شنع على الشيخ الأشعري في هذا المقام أقوام تشابهت قلوبهم ـ واتحدت أغراضهم ـ وإن اختلفت أساليبهم ـ وها أنا بحوله تعالى راد لاعتراضاتهم بعد نقلها غير هياب ولا وكل وإن اتسع علم أهلها فالبعوضة قد تدمي مقلة الأسد ـ وفضل الله تعالى ليس مقصورا على أحد.

«فأقول» قال تلميذ مولانا الدواني عفيف الدين الايجي ما حاصله أن هذا الذي تدعيه الأشاعرة من أن للكلام معنى آخر يسمى النفسي باطل فإنا إذا قلنا زيد قائم فهناك أربعة أشياء «الأول» العبارة الصادرة عنه «والثاني» مدلول هذه العبارة وما وضع له هذه الألفاظ من المعاني المقصودة بها «الثالث» علمه بثبوت تلك النسبة وانتفائها.

«الرابع» ثبوت تلك النسبة وانتفاؤها في الواقع ، والأخيران ليسا كلاما اتفاقا ، والأول لا يمكن أن يكون كلام الله حقيقة على مذهبهم فبقي الثاني وكذا نقول في الأمر والنهي هاهنا ثلاثة أمور «الأول» الإرادة والكراهة الحقيقية «الثاني» اللفظ الصادر عنه «الثالث» مفهوم لفظه ومعناه ـ والأول ليس كلاما اتفاقا ـ والثاني كذلك على مذهبهم فبقي الثالث وبه صرح أكثر محققيهم وكونه كلاما نفسيا ثابتا لله تعالى شأنه محكوما عليه بأحكام مختلفة باطل من وجوه : «الأول» أنه مخالف للعرف واللغة فإن الكلام فيهما ليس إلا المركب من الحروف «الثاني» أنه لا يوافق الشرع إذ قد ورد فيما لا يحصى كتابا وسنة أن الله تعالى ينادي عباده ولا ريب أن النداء لا يكون إلا بصوت بل قد صرح به في الأخبار الصحيحة (٢) وباب المجاز وإن لم يغلق بعد إلا أن حمل ما يزيد على نحو مائة ألف من الصرائح على خلاف معناها مما لا يقبله العقل السليم «الثالث» أن ما قالوه من كون هذا المعنى النفسي واحدا يخالف العقل فإنه لا شك أن مدلول اللفظ في الأمر يخالف ومدلوله في النهي ـ ومدلول الخبر يخالف مدلول الإنشاء بل مدلول أمر مخصوص غير مدلول أمر آخر وكذا في الخبر ـ ولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن وسائر الكتب السماوية فيلزم أن يكون كل واحد مشتملا على ما اشتمل عليه الآخر وليس كذلك وكيف يكون معنى واحد خبرا وإنشاء محتملا للتصديق والتكذيب وغير محتمل وهو جمع بين النفي والإثبات انتهى.

«ولا يخفى» أن مبنى جميع اعتراضاته على فهمه أن مرادهم بالمعنى النفسي هو مدلول اللفظ وحده أي المعنى المجرد عن مقارنة اللفظ. مطلقا ولو حكميا وقد عرفت أنه ليس كذلك بل المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهو الذي يدور في الخلد وتدل عليه العبارات كما صرح به إمام الحرمين ـ وعليه إذا قال القائل زيد قائم فهناك أربعة

__________________

(١) قال تعالى (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ه منه.

(٢) منها ما رواه البخاري عن أبي سعيد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادى بصوت إن الله يأمرك ان تخرج من ذريتك بعثا إلى النار» الحديث ا ه منه.

١٥

أشياء كما ذكر المعترض وشيء خامس تركه وهو المراد وهي هذه الجملة بشرط وجودها في الذهن بألفاظ مخيلة ذهنية دالة على معانيها في النفس وهذا يعنونه بالكلام النفسي فلا محذور «ونقول» على سبيل التفصيل «أما الأول» فجوابه أنه إنما تتم المخالفة إذا لم يكن عندهم مجموع اللفظ النفسي والمعنى فحيث كان لا مخالفة لأن الكلام حينئذ مركب من الحروف إلا أنها نفسية غيبية في الحق ـ خيالية في الخلق «وأما الثاني» فجوابه أن هذا الذي لا يحصى ليس فيه سوى أن الحق سبحانه وتعالى متكلم بكلام حروفه عارضة للصوت لا أنه لا يتكلم إلا به فلا ينتهض ما ذكر حجة على الشيخ بل إذا أمعنت النظر رأيت ذلك حجة له حيث بين ان الله تعالى لا يتكلم بالوحي لفظا حقيقيا إلا على طبق ما في علمه وكلما كان كذلك كان الكلام اللفظي صورة من صور الكلام النفسي ودليلا من أدلة ثبوتها (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب : ٤].

«وأما الثالث» فجوابه أن المنعوت بأنه واحد بالذات تتعدد تعلقاته هو الكلام بمعنى صفة المتكلم ووحدته مما لا شك لعاقل فيها ـ وأما الكلام النفسي بمعنى المتكلم به فليس عنده واحدا بل نص في الإبانة على انقسامه إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل فلا اعتراض ـ وقال النجم سليمان الطوفي : إنما كان الكلام حقيقة في العبارة مجازا في مدلولها لوجهين «أحدهما» أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هو العبارة والمبادرة دليل الحقيقة «الثاني» أن الكلام مشتق من الكلم لتأثيره في نفس السامع والمؤثر فيها إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل ـ نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة ، والعبارة مؤثرة بالفعل فكانت أولى بأن تكون حقيقة والأخرى مجازا ـ وقال المخالفون : استعمل لغة في النفسي والعبارة «قلنا» نعم لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه وبالمجاز فيما ذكرتموه والأول ممنوع ـ قالوا الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا والأصل عدم الاشتراك ـ ثم أن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات والكثرة دليل الحقيقة ـ وأما قوله تعالى : (يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) [المجادلة : ٨] فمجاز دل على المعنى النفسي بقرينة «في أنفسهم» ولو أطلق لما فهم إلا العبارة ، وأما قوله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ) [الملك : ١٣] الآية فلا حجة فيه لأن الإسرار خلاف الجهر وكلاهما عبارة عن أن يكون أرفع صوتا من الآخر ـ وأما بيت الأخطل فالمشهور أن البيان ـ وبتقدير أن يكون الكلام فهو مجاز عن مادته وهو التصورات المصححة له إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاما ثم هو مبالغة من هذا الشاعر بترجيح الفؤاد على اللسان انتهى وفيه ما لا يخفى.

أما أولا فلأن ما ادعاه من التبادر إنما هو لكثرة استعماله في اللفظي لمسيس الحاجة إليه لا لكونه الموضوع له خاصة بدليل استعماله لغة وعرفا في النفسي والأصل في الإطلاق الحقيقة ـ وقوله والأصل عدم الاشتراك قلنا : نعم إن أردت به الاشتراك اللفظي ونحن لا ندعيه وإنما ندعي الاشتراك المعنوي وذلك أن الكلام في اللغة بنقل النحويين ما يتكلم به قليلا كان أو كثيرا حقيقة أو حكما «وأما ثانيا» فلأن ما ادعاه من أن المؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية الأمر فيه بالعكس بدليل أن الإنسان إذا سمع كلاما لا يفهم معناه لا تؤثر ألفاظه في نفسه شيئا وقد يتذكر الإنسان في حالة سروره كلاما يحزنه ـ وفي حالة حزنه كلاما يسره فيتأثر بهما ولا صوت ولا حرف هناك وإنما هي حروف وكلمات مخيلة نفسية وهو الذي عناه الشيخ بالكلام النفسي وعلى هذا فالسامع في قولهم ـ لتأثيره في نفس السامع ليس بقيد والتأثير في النفس مطلقا معتبر في وجه التسمية «وأما ثالثا» فلأن ما قاله في قوله تعالى : (يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) من أنه مجاز دل على المعنى النفسي فيه بقرينة (فِي أَنْفُسِهِمْ) ولو أطلق لما فهم إلا العبارة يرده قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] وفي آية (بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١١] إذ لو كان مجرد ذكر «في أنفسهم» قرينة على كون القول مجازا في النفسي لكان ذكر «بأفواههم ـ وبألسنتهم» قرينة على

١٦

كونه مجازا في العبارة واللازم باطل فكذا الملزوم ـ نعم التقييد دليل على أن القول مشترك معنى بين النفسي واللفظي وعين به المراد من فرديه فهو لنا لا علينا «وأما رابعا» فلأن ما ذكره في قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا) [الملك : ١٣] الآية تحكم بحت لأن السر كما قال الزمخشري ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال ويساعده الكتاب والأثر واللغة كما لا يخفى على المتتبع «وأما خامسا» فلأن ما ذكره في بيت الأخطل خطل من وجوه «أما أولا» فعلى تقدير أن يكون المشهور البيان بدل الكلام يكفينا في البيان لأنه (١) إما اسم مصدر بمعنى ما يبين به أو مصدر بمعنى التبيين وعلى الأول هو بمعنى الكلام ولا فرق بينهما إلا في اللفظ ، وعلى الثاني هو مستلزم للكلام النفسي بمعنى المتكلم به إن كان المراد به التبيين القلبي أعني ترتيب القلب للكلمات الذهنية على وجه إذا عبر عنها باللسان فهم غيره ما قصده منها «وأما ثانيا» فلأن قوله وبتقدير أن يكون إلخ إقرار بالكلام النفسي من غير شعور.

«وأما ثالثا» فلأن دعوى المجاز تحكم مع كون الأصل في الإطلاق الحقيقة «وأما رابعا» فلأن دعوى أن ذلك مبالغة من هذا الشاعر خلاف الواقع بل هو تحقيق من غير مبالغة كما يفهم مما سلف ، فما ذكره هذا الشاعر كلمة حكمة سواء نطق بها على بينة من الأمر أو كانت منه رمية من غير رام فإن معناه موجود في حديث أبي سعيد «العينان دليلان والأذنان قمعان واللسان ترجمان ـ إلى أن قال ـ والقلب ملك فإذا صلح» الحديث وفي حديث أبي هريرة «القلب ملك وله جنود ـ إلى أن قال ـ واللسان ترجمان» الحديث فما قيل (٢) إن هذا الشاعر نصراني عدو الله تعالى ورسوله فيجب اطراح كلام الله تعالى ورسوله تصحيحا لكلامه أو حمله على المجاز صيانة لكلمة هذا الشاعر عنه ، وأيضا يحتاجون إلى إثبات هذا الشعر والشهرة غير كافية فقد فتش ابن الخشاب دواوين الأخطل العتيقة فلم يجد فيها البيت انتهى كلام أوهن وأوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت «أما أولا» فلأن كلام هذا العدو موافق لكلام الحبيب حتى لكلام المنكرين للكلام النفسي حيث اعترفوا به في عين إنكارهم «وأما ثانيا» فلأنا أغنانا الله تعالى ورسوله من فضله عن إثبات هذا الشعر «وأما ثالثا» فلأن عدم وجدان ابن الخشاب لا يدل على انتفائه بالكلية كما لا يخفى ، والحاصل أن الناس أكثروا القال والقيل في حق هذا الشيخ الجليل وكل ذلك من باب.

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

نعم البحث دقيق لا يرشد إليه إلا توفيق كم أسهر أناسا وأكثر وسواسا وأثار فتنة وأورث محنة وسجن أقواما وأم إماما.

مرام شط مرمى العقل فيه

ودون مداه بيد لا تبيد

ولكن بفضل الله تعالى قد أتينا فيه بلب اللباب ، وخلاصة ما ذكره الأصحاب ، وقد اندفع به كثير مما أشكل على الأقوام ، وخفي على أفهام ذوي الأفهام ، ولا حاجة معه إلى ما قاله المولى المرحوم غني زاده في التخلص عن هاتيك الشبه مما نصه ، ثم اعلم أني بعد ما حررت البحث بعثني فرط الإنصاف إلى أنه لا ينبغي لذي الفطرة السليمة أن يدعي قدم اللفظ لاحتياجه إلى هذه التكلفات وكذا كون الكلام عبارة عن المعنى القديم لركاكة توصيف الذات به كيف ومعنى قصة نوح مثلا ليس بشيء يمكن اتصاف الذات به إلا بتمحل بعيد ، فالحق الذي لا محيد عنه هو أن المعاني كلها موجودة في العلم الأزلي بوجود علمي قديم لكن لما كان في ماهية بعضها داعية البروز في الخارج بوجود لفظي حادث حسبما يستدعيه حدوث الحوادث فيما لا يزال اقتضى الذات اقتضاء أزليا إبراز ذلك البعض في

__________________

(١) فيه استخدام فلا تغفل ا ه منه.

(٢) قائله الموفق بن قدامة ا ه منه.

١٧

الخارج بذلك الوجود الحادث فيما لا يزال فهذا الاقتضاء صفة قديمة للذات هو بها في الأزل مسماة بالكلام النفسي وأثره الذي هو ظهور المعنى القديم باللفظ الحادث إنما يكون فيما لا يزال والمغايرة بينه وبين صفة العلم ظاهرة وهذا هو غاية الغايات في هذا الباب ، والحمد لله على ما خصني بفهمه من بين أرباب الألباب انتهى.

وفيه أنه غاية الغايات في الجسارة على رب الأرباب وإحداث صفة قديمة ما أنزل الله تعالى بها من كتاب إذ لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا روي عن صحابي ولا تابعي تسمية ذلك الاقتضاء كلاما بل لا يقتضيه عقل ولا نقل على أنه لا يحتاج إليه عند من أخذت الغاية بيديه ، هذا وإذا سمعت ما تلوناه ، ووعيت ما حققناه فاسمع الآن تحقيق الحق في كيفية سماع موسى عليه‌السلام كلام الحق «فأقول» الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي والأشعري وغيرهما من المحققين أن موسى عليه‌السلام سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغا لا ينبغي معه تأويل ، ولا يناسب في مقابلته قال وقيل ، فقد قال تعالى : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [مريم : ٥٢] ، (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) [الشعراء : ١٠] ، (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) [القصص : ٣٠] (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [النازعات : ١٦] ، (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) [النمل : ٨] واللائق بمقتضى اللغة والأحاديث أن يفسر النداء بالصوت (١) بل قد ورد إثبات الصوت لله تعالى شأنه في أحاديث لا تحصى ، وأخبار لا تستقصى.

«روى» البخاري في الصحيح «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان» ومن علم أن لله تعالى الحكيم أن يتجلى بما شاء وكيف شاء وأنه منزه في تجليه قريب في تعاليه لا تقيده المظاهر عند أرباب الأذواق إذ له الإطلاق الحقيقي حتى عن قيد الإطلاق زالت عنه إشكالات واتضحت لديه متشابهات (٢). ومما يدل على ثبوت التجلي في المظهر لله تعالى قول ابن عباس ترجمان القرآن في قوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) كما في الدر المنثور يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة ، وفي رواية عنه كان الله في النور ونودي من النور ، وفي صحيح مسلم حجابه النور ، وفي رواية له حجابه النار ودفع الله سبحانه توهم التقييد بما ينافي التنزيه بقوله : (وَسُبْحانَ اللهِ) أي عن التقييد بالصورة والمكان والجهة وإن ناداك منها لكونه موصوفا بصفة رب العالمين فلا يكون ظهوره مقيدا له بل هو المنزه عن التقييد حين الظهور (يا مُوسى إِنَّهُ) أي المنادي المتجلي (أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ) فلا أتقيد لعزتي ولكني (الْحَكِيمُ) [النمل : ٩] فاقتضت حكمتي الظهور والتجلي في صورة مطلوبك فالمسموع على هذا صوت وحرف سمعهما موسى عليه‌السلام من الله تعالى المتجلي بنوره في مظهر النار لما اقتضته الحكمة فهو عليه‌السلام كليم الله تعالى بلا واسطة لكن من وراء حجاب مظهر النار وهو عين تجلي الحق تعالى له ، وأما ما شاع عن الأشعري من القول بسماع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى فهو من باب التجويز والإمكان لا أن موسى عليه‌السلام سمع ذلك بالفعل إذ هو خلاف البرهان ، ومما يدل على جواز سماع الكلام النفسي بطريق خرق العادة قوله تعالى في الحديث القدسي «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به» الحديث ، ومن الواضح أن الله تبارك وتعالى إذا كان بتجليه النوري المتعلق بالحروف غيبية

__________________

(١) قال في القاموس : النداء بالكسر والضم الصوت ا ه منه

(٢) مثل قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) وحديث «إذا كان يوم الجمعة نزل ربنا تبارك وتعالى من عليين على كرسيه ـ إلى أن قال ـ ثم يصعد تبارك وتعالى على كرسيه ، وحديث «فإذا الرب قد أشرف عليها من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة» إلى غير ذلك ا ه منه.

١٨

كانت أو خيالية أو حسية سمع العبد على الوجه اللائق المجامع ل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] عند من يتحقق معنى الإطلاق الحقيقي صح أن يتعلق سمع العبد بكلام ليس حروفه عارضة لصوت لأنه بالله يسمع إذ ذاك والله سبحانه يسمع السر والنجوى.

والإمام الماتريدي أيضا يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كتاب التوحيد. فما نقله ابن الهمام عنه من القول بالاستحالة فمراده الاستحالة العادية فلا خلاف بين الشيخين عند التحقيق ، ومعنى قول الأشعري أن كلام الله تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قارئ أن المسموع أولا وبالذات عند التلاوة إنما هو الكلام اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت القارئ بلا شك لكن الكلمات اللفظية صور الكلمات الغيبية القائمة بذات الحق فالكلام النفسي مسموع بعين سماع الكلام اللفظي لأنه صورته لا من حيث الكلمات الغيبية فإنها لا تسمع إلا على طريق خرق العادة «وقول» الباقلاني إنما تسمع التلاوة دون المتلو والقراءة دون المقروء يمكن حمله على أنه أراد إنما يسمع أولا وبالذات التلاوة أي المتلو اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت التالي لا النفسي الذي حروفه غيبية مجردة عن المواد الحسية والخيالية فلا نزاع في التحقيق أيضا.

والفرق بين سماع موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى وسماعنا له على هذا أن موسى عليه‌السلام سمع من الله عزوجل بلا واسطة لكن من وراء حجاب ونحن إنما نسمعه من العبد التالي بعين سماع الكلام اللفظي المتلو بلسانه العارض حروفه لصوته لا من الله تعالى المتجلي من وراء حجاب العبد فلا يكون سماعا من الله تعالى بلا واسطة وهذا واضح عند من له قدم راسخة في العرفان وظاهر عند من قال بالمظاهر مع تنزيه الملك الديان. وأنت إذا أمعنت النظر في قول أهل السنة القرآن كلام الله عزوجل غير مخلوق وهو مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا محفوظ في صدورنا مكتوب في مصاحفنا غير حال في شيء منها رأيته قولا بالمظاهر ودالا على أن تنزل القرآن القديم القائم بذات الله تعالى فيها غير قادح في قدمه لكونه غير حال في شيء منها مع كون كل منها قرآنا حقيقة شرعية بلا شبهة وهذا عين الدليل على أن تجلي القديم في مظهر حادث لا ينافي قدمه وتنزيهه وليس من باب الحلول ولا التجسيم ، ولا قيام الحوادث بالقديم ولا ما يشاكل ذلك من شبهات تعرض لمن لا رسوخ له في هاتيك المسالك ، ومنه يظهر معنى ظهور القرآن في صورة الرجل الشاحب يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر وظهوره خصما لمن حمله فخالف أمره وخصما دون من حمله فحفظ الأمر بل من أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه وطاف فكره المتجرد عن مخبط الهوى في كعبة حرم ما حققناه اندفع عنه كل إشكال في هذا الباب ورأى أن تشنيع ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة وابن قاضي الجبل والطوفي وأبي نصر وأمثالهم (١) صرير باب أو طنين ذباب وهم وإن كانوا فضلاء محققين وأجلاء مدققين لكنهم كثيرا

__________________

(١) وما ذكره المؤلف رحمه‌الله تعالى في حق هؤلاء الأئمة مبالغ فيه. ولعله لم يطلع على مؤلفاتهم فإن للإمام ابن تيمية كتابا شرح فيه النزول وبين صفة الكلام والنزول وغير ذلك من صفات الله تعالى وأنه لا فرق بينها في الاعتقاد بإبقائها على ظاهرها بدون تحريف ولا تأويل ولا تصحيف وأورد كلام علماء السلف في ذلك. وللإمام ابن القيم أيضا كتاب سماه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية عنى بهؤلاء المؤولين لصفات الله بما لم يرد به دليل من كتاب ولا سنة ولا قول لصحابي ولا تابعي ، وحاصل اعتقاد السلف في ذلك أن لله كلاما هو صفته كما أخبر بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله وأنه ليس كمثله شيء ، والبحث في ذلك ليس من سنة السلف وأئمة الدين بل هو من المتكلمين الذين أشرب في قلوبهم نقل علوم اليونانيين زمن المأمون فأكسبهم خيالات وهمية في أذهانهم وفرضيات فاسدة واحتمالات ما أنزل الله بها من سلطان. نسأل الله إصلاح الأمة والعمل بما كان عليه سلفها : ا ه

١٩

ما انحرفت أفكارهم واختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمة وأكابر الأئمة وبالغوا في التعنيف والتشنيع وتجاوزوا في التسخيف والتفظيع ولو لا الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعا بصاع ولتقدمت إليهم بما قدموا باعا بباع ولعلمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء. ولعرفتهم إلام ينتهي المراء بلا مراء.

فلي فرس للحلم بالحلم ملجم

ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

فمن رام تقويمي فإني مقوم

ومن رام تعويجي فإني معوج

على أن العفو أقرب للتقوى والإغضاء مبنى الفتوة وعليه الفتوى. والسادة الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراما ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، وحيث تحرر الكلام في الكلام على مذهب أهل السنة واندفع عنه بفضل الله تعالى كل محنة ومهنة ، فلا بأس بأن نحكي بعض الأقوال ، كما حكى الله تعالى كثيرا من أقوال ذوي الضلال ، وبعد أن رسخ الحق في قلبك ، وتغلغل في سويدائه كلام ربك لا أخشى عليك من سماع باطل لا يزيدك إلا حقا. وكاذب لا يورثك إلا صدقا «فنقول» أما المعتزلة فاتفقوا كافة على أن معنى كونه تعالى متكلما أنه خالق الكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية ، واتفقوا أيضا على أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات وأنه محدث مخلوق ثم اختلفوا فذهب الجبائي وابنه أبو هاشم إلى أنه حادث في محل ، ثم زعم الجبائي أن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل القراءة وخالفه الباقون ، وذهب أبو الهذيل بن العلاف وأصحابه إلى أن بعضه في محل وهو قوله كن ، وبعضه لا في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار ، وذهب الحسن بن محمد النجار إلى أن كلام الباري إذا قرئ فهو عرض وإذا كتب فهو جسم ، وذهبت الإمامية والخوارج والحشوية إلى أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات ، ثم اختلف هؤلاء فذهب الحشوية إلى أنه قديم أزلي قائم بذات الرب تعالى لكن منهم من زعم أنه من جنس كلام البشر وبعضهم قال لا بل الحرف حرفان والصوت صوتان قديم وحادث والقديم منهما ليس من جنس الحادث ، وأما الكرامية فقالوا : إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم وقد يطلق على الأقوال والعبارات وعلى كلا التقديرين فهو قائم بذات الله تعالى لكن إن كان بالاعتبار الأول فهو قديم متحد لا كثرة فيه وإن كان بالاعتبار الثاني فهو حادث متكثر ، وأما الواقفية فقد أجمعوا على أن كلام الرب تعالى كائن بعد أن لم يكن لكن منهم من توقف في إطلاق اسم القديم والمخلوق عليه ومنهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق وأطلق اسم الحادث ومن القائلين بالحدوث من قال ليس جوهرا ولا عرضا ، وذهب بعض المعترفين بالصانع إلى أنه لا يوصف بكونه متكلما لا بكلام ولا بغير كلام والذي أوقع الناس في حيص بيص أنهم رأوا قياسين متعارضي النتيجة وهما كلام الله تعالى صفة له وكل ما هو صفة له فهو قديم فكلام الله تعالى قديم ، وكلام الله تعالى مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود وكل ما هو كذلك فهو حادث فكلام الله تعالى حادث ، فقوم (١) ذهبوا إلى أن كلامه تعالى حروف وأصوات وهي قديمة ومنعوا أن كل ما هو مؤلف من حروف وأصوات فهو حادث ونسب إليهم أشياء هم براء منها ، وآخرون (٢) قالوا بحدوث كلامه تعالى وأنه مؤلف من أصوات وحروف وهو قائم بغيره ومعنى كونه متكلما عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في جسم كاللوح أو ملك كجبريل أو غير ذلك فهم منعوا أن المؤلف من الحروف والأصوات صفة الله تعالى ، وأناس (٣) لما رأوا مخالفة الأولين

__________________

(١) هم الحنابلة ا ه منه.

(٢) هم المعتزلة ا ه منه.

(٣) هم الكرامية ا ه منه.

٢٠