روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت ، وفيها ـ من شدة الحر وكثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الالتصاق بالأبدان ، وإعداد أهل النار أن يكونوا حطبا مع نتن ريح وكثرة دخان ووفور كثافة (١) ـ ما نعوذ بالله منه ، وفي ذلك تهويل لشأن النار وتنفير عما يجر إليها بما هو معلوم في الشاهد ، وإن كان الأمر وراء ذلك فالعالم وراء هذا العالم وعيلم قدرة الجبار سبحانه وتعالى يضمحل فيه هذا العيلم ، وقيل : المراد بها الأصنام التي ينحتونها وقرنها بهم في الآخرة وزيادة لتحسرهم حيث بدا لهم نقيض ما كانوا يتوقعون ، وهناك يتم لهم نوعان من العذاب روحاني وجسماني ، ويؤيد هذا قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] وحملها على الذهب والفضة لأنهما يسميان حجرا ـ كما في القاموس ـ دون هذين القولين ، الأصح أولهما عند المحدثين ، وثانيهما عند الزمخشري ؛ ويشير إليه كلام الشيخ الأكبر قدس‌سره. وأل فيها ـ على كل ـ ليست للعموم ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها له ، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين ؛ فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق ، وذكر (النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) تعظيما لشأن جهنم وتنبيها على شدة وقودها ليقع ذلك من النفوس أعظم موقع ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره وليس المراد الحقيقة وهو خلاف الظاهر والمتبادر من الآيات ، ويوشك أن يكون سوء ظن بالقدرة ولا يتوهم من الاقتصار على هذين الجنسين أن لا يكون في النار غيرهما بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها أيضا ، نعم قال سيدي الشيخ الأكبر قدس‌سره : إنهم لهبها وأولئك جمرها ، وبدأ سبحانه بالناس لأنهم الذين يدركون الآلام أو لكونهم أكثر إيقادا من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم ولأن في ذلك مزيد التخويف ، وإنما عرف النار وجعل الجملة ـ صلة وأنها يجب أن تكون قصة معلومة لأن المنكر في سورة التحريم نزل أولا فسمعوه بصفته فلما نزل هذا بعد جاء معهودا فعرف وجعلت صفته صلة وكون الصفة كذلك ـ الخطب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون ، وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا أن في كون سورة التحريم نزلت أولا مقالا فتأمل (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ابتداء كلام قطع عما قبله مع أن مقتضى الظاهر أن يعطف على الصلة السابقة اعتناء بشأنه بجعله مقصودا بالذات بالإفادة مبالغة في الوعيد ، وجعله استئنافا بيانيا بأن يقدر لمن أعدت أو لم كان وقودها كذا وكذا ، فمع عدم مساعدة عطف ـ بشر ـ الآتي على البناء للمفعول عليه لأنه لا يصلح للجواب إلا أن يقال المعطوف على الاستئناف لا يجب أن يكون استئنافا يأبى عنه الذوق ، أما الأول فلأن السياق لا يقتضيه ، وأما الثاني فلأن المقصد من الصلة التهويل ، فالسؤال ـ بلم كان شأن النار كذا ـ مما لا معنى له ، والجواب غير واف به وجعله حالا من النار ـ بإضمار قد والخبر من أجزاء الصلة لذي الحال لا من ضمير (وَقُودُهَا) للجمود أو لوقوع الفصل بالخبر الأجنبي حينئذ ـ ليس بشيء إذ لا يحسن التقييد بهذه الحال إلا أن يقال إنها لازمة بمنزلة الصفة فيفيد المعنى الذي تفيده الصلة ، ولذا قيل : إنها صلة بعد صلة وتعدد الصلات كالصفات والأخبار كثير بعاطف وبدونه كما نص عليه الإمام المرزوقي وإن لم يظفر به السعد ، أو معطوف بحذف الحرف كما صرح به ابن مالك وجعله صلة. و (وَقُودُهَا النَّاسُ) إما معترضة للتأكيد أو حال مما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل ، ومعنى (أُعِدَّتْ) هيئت ، وقرأ عبد الله ـ اعتدت ـ من العتاد بمعنى العدة ، وابن أبي عبلة ـ أعدها الله للكافرين ـ والمراد إما جنسهم والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا أو هم خاصة ووضع الظاهر موضع ضميرهم حينئذ لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وكون الإعداد للكافرين لا ينافي دخول غيرهم فيها على جهة التطفل فلا حاجة

__________________

(١) كما قال سبحانه : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) ا ه منه.

٢٠١

إلى القول بأن نار العصاة غير نار الكفار ، ثم ما يتبادر من الآية الكريمة أن النار مخلوقة الآن والله تعالى أعلم بمكانها في واسع ملكه ، وجعل المستقبل لتحققه ماضيا ـ كنفخ في الصور ـ والإعداد مثله في (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً) [الأحزاب : ٣٥] كما يقول المعتزلة خلاف الظاهر ، والذي ذهب أهل الكشف إليه أنها مخلوقة غير أنها لم تتم وهي الآن عندهم دار حرورها هواء محترق لا جمر لها البتة ومن فيها من الزبانية في رحمة منعمون يسبحون الله تعالى لا يفترون وتحدث فيها الآلام بحدوث أعمال الإنس والجن الذين يدخلونها ، ولذا يختلف عذاب داخليها وحدها بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فك الثوابت إلى أسفل السافلين ، فهذا كله يزاد إلى ما هو الآن. ولذا كان يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما : إذا رأى البحر يا بحر متى تعود نارا ، وكان يكره الوضوء بمائة ويقول : التيمم أحب إليّ منه وقال تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير : ٦] أي أججت ، وليس للكفار اليوم مكث فيها وإنما يعرضون عليها كما قال تعالى : (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] وهي ناران حسية مسلطة على ظاهر الجسم ، والإحساس والحيوانية ، ومعنوية وهي (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة : ٧] وبها يعذب الروح المدبر للهيكل الذي أمر فعصى ، والمخالفة وهي عين الجهل بمن استكبر عليه أشد العذاب ، وقد أطالوا الكلام في ذلك وأتوا بالعجب العجاب ، وحقيقة الأمر عندي لا يعلمها إلا الله تعالى ولا شيء أحسن من التسليم لما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فكيفية ما في تلك النشأة الأخروية مما لا يمكن أن تعلم كما ينبغي لمن غرق في بحار العلائق الدنيوية ـ وما ذا علي إذا آمنت بما جاء مما أخبر به الصادق من الأمور السمعية مما لا يستحيل على ما جاء وفوضت الأمر إلى خالق الأرض والسماء أسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لما ذكر سبحانه وتعالى فيما تقدم الكفار ـ وما يؤول إليه حالهم في الآخرة وكان في ذلك أبلغ التخويف والانذار ـ عقب بالمؤمنين وما لهم جريا على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد لأن من الناس من لا يجديه التخويف ولا يجديه وينفعه اللطف ، ومنهم عكس ذلك فكأن هذا وما بعده معطوف على سابقه عطف القصة على القصة ، والتناسب بينهما باعتبار أنه بيان لحال الفريقين المتباينين وكشف عن الوصفين المتقابلين ، وهل هو معطوف على (وَإِنْ كُنْتُمْ) إلى (أُعِدَّتْ) أو على (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) الآية قولان؟ اختار السيد أولهما ، وادعى بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة ، وأدعى لتلاؤم النظم لأن (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا) خطاب عام يشمل الفريقين (وَإِنْ كُنْتُمْ) إلخ مختص بالمخالف ومضمونه الإنذار (وَبَشِّرِ) إلخ مختص بالموافق ومضمونه البشارة كأنه تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادته ، ثم أمر أن ينذر من عاند ويبشر من صدق ، والسعد اختار ثانيهما لأن السوق لبيان حال الكفار ووصف عقابهم وقيل عطف على (فَاتَّقُوا) وتغاير المخاطبين لا يضر ك (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي) [يوسف : ٢٩] وترتبه على الشرط بحكم العطف باعتبار أن ـ اتقوا ـ إنذار وتخويف للكفار (وَبَشِّرِ) تبشير للمؤمنين ، وكل منهما مترتب على عدم المعارضة بعدم التحدي لأن عدم المعارضة يستلزم ظهور إعجازه وهو يستلزم ـ استيجاب منكره ـ العقاب ، ومصدقه الثواب لأن الحجة تمت والدعوة كملت ، واستيجابهما إياهما يقتضي الإنذار والتبشير ، فترتب الجملة الثانية على الشرط ترتب الأولى عليه بلا فرق ، وقد يقال إن الجزاء فآمنوا محذوفا والمذكور قائم مقامه ؛ فالمعنى إن لم تأتوا بكذا فآمنوا (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي فليوجد إيمان منهم وبشارة منك ووضع الظاهر موضع الضمير ، وفيه حث لهم على الإيمان ، ولعله أقل مئونة ، واختار صاحب الإيضاح عطفه على ـ أنذر ـ مقدرا بعد جملة (أُعِدَّتْ) وقيل : عطف على ـ قل ـ قبل (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) وتقديره قبل (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يحوج إلى إجراء (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) على طريقة كلام العظماء ، أو تقدير قال الله بعد قل ، والبشارة ـ بالكسر والضم ـ اسم من بشر بشرا وبشورا ـ وتفتح الباء ـ فتكون بمعنى الجمال ، وفي الفعل لغتان ، التشديد وهي العليا ،

٢٠٢

والتخفيف وهي لغة أهل تهامة ، وقرئ بهما في المضارع في مواضع والتكثير في المشدد بالنسبة إلى المفعول ، فإن واحدا كان فعل فيه مغنيا عن فعل ، وفسروها في المشهور ، وصحح بالخبر السار الذي ليس عند المخبر علم به ، واشترط بعضهم أن يكون صدقا ، وعن سيبويه إنها خبر يؤثر في البشرة حزنا أو سرورا وكثر استعماله في الخير ، وصححه في البحر (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١ ، التوبة : ٣٤ ، الانشقاق : ٢٤] ظاهر عليه ، ومن باب التهكم على الأول والمأمور بالتبشير البشير النذير صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : كل من يتأتى منه ذلك كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «بشر المشائين إلى المساجد» الحديث ففيه رمز إلى أن الأمر لعظمته حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه ويكون هناك مجاز إن كان الضمير موضوعا لجزئي بوضع كلي وإلا ففي الحقيقة والمجاز كلام في محله ، ولم يخاطب المؤمنون كما خوطب الكفرة تفخيما لشأنهم وإيذانا تاما بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنئوا بما أعد لهم ، وقيل : تغيير للأسلوب لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين ، وعندي أنه سبحانه لما كسى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم حلة عبوديته في قوله : (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) ناسب أن يطرزها بطراز التكليف بما يزيد حب أحبابه له فيزدادوا إيمانا إلى إيمانهم ، وفي ذلك من اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم وبهم ما لا يخفى.

وقرأ زيد بن علي وبشر مبنيا للمفعول وهو معطوف على (أُعِدَّتْ) كما اشتهر ، وقيل : إنه خبر بمعنى الأمر فتوافق القراءتان معنى وعطفا ، وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما بل بجعل الشارع ومقتضى وعده ، وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر ، ثم لا يخفى أن كون مناط البشارة مجموع الأمرين لا يقتضي انتفاء البشارة عند انتفائه فلا يلزم من ذلك أن لا يدخل بالإيمان المجرد الجنة كما هو رأي المعتزلة على أن مفهوم المخالفة ظني لا يعارض النصوص الدالة على أن الجنة جزاء مجرد الإيمان ، ومتعلق (آمَنُوا) مما لا يخفى ، وقدره بعضهم هنا بأنه منزل من عند الله عزوجل ، و (الصَّالِحاتِ) جمع صالحة وهي في الأصل مؤنث الصالح اسم فاعل من صلح صلوحا وصلاحا خلاف فسدت ، ثم غلبت على ما سوغه الشرع وحسنه ، وأجريت مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريها على الموصوف وغيره ، وتأنيثها على تقدير الخلة وللغلبة ترك ، ولم تجعل التاء للنقل لعدم صيرورتها اسما و ـ أل ـ فيها للجنس لكن لا من حيث تحققه في الأفراد إذ ليس ذلك في وسع المكلف ولو أريد التوزيع يلزم كفاية عمل واحد بل في البعض الذي يبقى مع إرادته معناه الأصلي الجنسية مع الجمعية وهو الثلاثة أو الاثنان ، والمخصص حال المؤمن فما يستطيع من الأعمال الصالحة بعد حصول شرائطه هو المراد ، فالمؤمن الذي لم يعمل أصلا أو عمل عملا واحدا غير داخل في الآية ، ومعرفة كونه مبشرا من مواقع أخر ، وبعضهم جعل فيها شائبة التوزيع بأن يعمل كل ما يجب من الصالحات إن وجب قليلا كان أو كثيرا ، وأدخل من أسلم ومات قبل أن يجب عليه شيء أو وجب شيء واحد ، وليس هذا توزيعا في المشهور ـ كركب القوم دوابهم ـ إذ قد يطلق أيضا على مقابلة أشياء بأشياء أخذ كل منها ما يخصه سواء الواحد الواحد ـ كالمثال ـ أو الجمع الواحد ـ كدخل الرجال مساجد محلاتهم ـ أو العكس ـ كلبس القوم ثيابهم ـ ومنه (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) [المائدة : ٦] والسيد يسمي هذا شائبة التوزيع (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أراد سبحانه ب (أَنَّ لَهُمْ) إلخ لتعدي البشارة بالباء فحذف لاطراد حذف الجار مع ـ أنّ ، وأن ـ بغير عوض لطولهما بالصلة ، ومع غيرهما فيه خلاف مشهور ، وفي المحل بعد الحذف قولان ، النصب بنزع الخافض كما هو المعروف في أمثاله ، والجر لأن الجار بعد الحذف قد يبقى أثره ولام

٢٠٣

الجر للاستحقاق وكيفيته مستفادة من خارج ولا استحقاق بالذات فهو بمقتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه فضلا وكرما لكن بشرط الموت على الإيمان ، و ـ الجنة ـ في الأصل المرة من الجن ـ بالفتح ـ مصدر جنه إذا ستره ، ومدار التركيب على الستر ثم سمي بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه أو كل أرض فيها شجر ونخل فإن كرم ففردوس ، وأطلقت على الأشجار نفسها ووردت في شعر الأعشى (١) بمعنى النخل خاصة ثم نقلت وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب إذ فيها من النعيم «مالا ، ولا» مما هو مغيب الآن عنا ، وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عددا كقلة أنواع العبادات ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال ، وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفّاظ ، وتنوينها إما للتنويع أو للتعظيم ، وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير وهو أسرّ للسامع ، والشائع التقديم إذا كان الاسم نكرة ك (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) [الأعراف : ١١٣] و ـ تحت ـ ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير (مِنْ) كما نص عليه أبو الحسن ، والضمير للجنات فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة وإن أريد الأرض قيل ـ من تحت أشجارها ـ أو عاد عليها باعتبار الأشجار استخداما ونحوه ، وقيل : إن «تحت» بمعنى جانب ـ كداري تحت دار فلان ـ وضعف كالقول ـ من تحت أوامر أهلها ـ وقيل : منازلها ، وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية ـ كما قيل ـ بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لاطلاق الجنة على الكل والوارد في الأثر الصحيح عن مسروق إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود ، وهذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة وأحلى في المنظر وأبهج للنفس :

وتحدث الماء الزلال مع الحصى

فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى

والأنهار جمع نهر ـ بفتح الهاء وسكونها ـ والفتح أفصح ، وأصله الشق ، والتركيب للسعة ولو معنوية ـ كنهر السائل ـ بناء على أنه الزجر البليغ فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول ، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع؟ قولان : أشهرهما الأول ، وعليه فالمراد مياهها أو ماؤها ، وتأنيث (تَجْرِي) رعاية للمضاف إليه أو للفظ الجمع ، وفي الكلام مجاز في النقص أو في الطرف «أولا ، ولا» والإسناد مجازي ، و ـ أل ـ للعهد الذهني قيل : أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ) [محمد : ١٥] الآية فإنها مكية على الأصح ، وذي مدنية نزلت بعدها ، واستبعده السيد والسعد ، وقيل : عوض عن المضاف إليه ـ أي أنهارها ـ وهو مذهب كوفي ، وحملها على الاستغراق على معنى يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطئ الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج ، ولا يخفى الكلام على جمع القلة.

(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) صفة ثانية لجنات أخّرت عن الأولى لأن جريان الأنهار ـ من تحتها ـ وصف لها باعتبار ذاتها ، وهذا باعتبار سكانها أو خبر مبتدأ محذوف ـ أي هم ـ والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة ، وكون الكلام مسوقا لبيان أحوال المؤمنين ، وفائدة حذف هذا المبتدأ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة صورة لاسميتها ، ومعنى لكونها جواب سؤال ـ كأنه قيل : ما حالهم في تلك الجنات؟ ـ فأجيب بأن لهم فيها ثمارا لذيذة عجيبة وأزواجا نظيفة (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) وتقدير المبتدأ هو أو هي ـ للشأن أو القصة ـ ليس بشيء بناء على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير ، وإذا لم تدخله النواسخ لا بد أن يكون مفسره جملة اسمية ، نعم جاز تقدير هي للجنات والجملة خبر إلا أن التناسب أنسب أو جملة مستأنفة ـ كأنه لما وصف الجنات بما ذكر وقع في الذهن أن

__________________

(١) وهو قوله : كأن عيني في غربي.

٢٠٤

ثمارها كثمار جنات الدنيا أولا فبين حالها (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) زيادة في الجواب ولو قدر السؤال نحو ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار أم أتم وأزيد؟ ـ كان أصح وأوضح ، وأجاز أبو البقاء كونها حالا من (الَّذِينَ) أو من (جَنَّاتٍ) لوصفها وهي حينئذ حال مقدرة والأصل ... (١) الصاحبة ، والقول : بأنها صفة مقطوعة دعوى موصولة بالجهل بشرط القطع وهو علم السامع باتصاف المنعوت بذلك النعت وإلا لاحتاج إليه ولا قطع مع الحاجة ، و (كُلَّما) نصب على الظرفية ب (قالُوا) و (رِزْقاً) مفعول ثان ـ لرزقوا ـ كرزقه مالا أي أعطاه ، وليس مفعولا مطلقا مؤكدا لعامله لأنه بمعنى المرزوق أعرف ، والتأسيس خير من التأكيد مع اقتضاء ظاهر ما بعده له ، وتنكيره للتنويع أو للتعظيم أي نوعا لذيذا غير ما تعرفونه ، و (مِنْ) الأولى والثانية للابتداء قصد بهما مجرد كون المجرور بهما موضعا انفصل عنه الشيء ، ولذا لا يحسن في مقابلتها نحو ـ إلى ، وهما ظرفان مستقران واقعان حالا على التداخل ، وصاحب الأولى (رِزْقاً) والثانية ضميره المستكن في الحال ، والمعنى كل حين رزقوا ـ مرزوقا ـ مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة ، والشائع كونهما لغوا ، والرزق قد ابتدأ من الجنات ، والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وجعل بمنزلة أن تقول أعطاني فلان فيقال : من أين؟ فتقول : من بستانه ، فيقول : من أي ثمرة؟ فتقول : من الرمان ، وتحريره أن (رُزِقُوا) جعل مطلقا مبتدأ من الجنات ثم جعل مقيدا بالابتداء من ذلك مبتدأ من ثمرة ، وعلى القولين لا يرد أنهم منعوا تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد والآية تخالفه ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأن ذاك إذا تعلقا به من جهة واحدة ابتداء من غير تبعية. وما نحن فيه ليس كذلك للإطلاق والتقييد والمراد من الثمرة على هذا النوع ـ كالتفاح والرمان ـ لا الفرد لأن ابتداء الرزق من البستان من فرد يقتضي أن يكون المرزوق قطعة منه لا جميعه وهو ركيك جدا ، ويحتمل أن تكون الثانية مبينة للمرزوق والظرف الأول لغو والثاني مستقر خلافا لمن وهم فيه وقع حالا من النكرة لتقدمه عليها ولتقدمها تقديرا جاز تقديم المبين على المبهم ، والثمرة يجوز حملها على النوع وعلى الجنات الواحدة ولم يلتفت المحققون إلى جعل الثانية تبعيضية في موقع المفعول ، و (رِزْقاً) مصدر مؤكد أو في موقع الحال من (رِزْقاً) لبعده مع أن الأصل التبيين والابتداء فلا يعدل عنهما إلا لداع على أن مدلول التبعيضية أن يكون ما قبلها أو ما بعدها جزاء لمجرورها لا جزئيا فتأتي الركاكة هاهنا ، وجمع سبحانه بين (مِنْها) و (مِنْ ثَمَرَةٍ) ولم يقل ـ من ثمرها ـ بدل ذلك لأن تعلق (مِنْها) يفيد أن سكانها لا تحتاج لغيرها لأن فيها كل ما تشتهي الأنفس ، وتعلق (مِنْ ثَمَرَةٍ) يفيد أن المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق ، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا ويكفي إحساس أفراده وهذا كقولك مشيرا إلى نهر جاء هذا الماء لا ينقطع أو إلى شخصه ، والإخبار عنه ب (الَّذِي) إلخ على جعله عينه مبالغة أو تقدير مثل الذي رزقناه من قبل أي في الدنيا ، والحكمة في التشابه أن النفس تميل إلى ما يستطاب وتطلب زيادته :

أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره

هو المسك ما كررته يتضوع

وهذا مختلف بحسب الأحوال والمقامات ، أو لتبيين المزية وكنه النعمة فيما رزقوه هناك إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك أو في الجنة ، والتشابه في الصورة إما مع الاختلاف في الطعم ـ كما روي عن الحسن «إن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك؟ فيقول الملك : كل فاللون واحد والطعم مختلف» أو مع التشابه في الطعم أيضا كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «والذي نفس

__________________

(١) بياض فبي الأصل قدر كلمة.

٢٠٥

محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها» فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك ، والداعي لهم لهذا القول فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم.

والمشهور أن كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى مما يقدم في الآخرة لأن (كُلَّما) تفيد العموم ولا يتصور قولهم ذلك في أول ما قدم إليهم ، وقيل : كون المراد بها في الآخرة أولى لئلا يلزم انحصار ثمار الجنة في الأنواع الموجودة في الدنيا مع أن فيها ما علمت وما لم تعلم ، على أن فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقته ـ لمتشابه ـ بعد فإنه في رزق الجنة أظهر ، وإعادة الضمير إلى المرزوق في الدارين تكلف وستسمعه بمنه تعالى ، وفي الآية محمل آخر يميل إليه القلب بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة ، وهذا جزاء مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله تعالى : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت : ٥٥] أي جزاءه ـ فالذي رزقناه ـ مجاز مرسل عن جزائه بإطلاق اسم المسبب على السبب ولا يضر في ذلك أن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من الجزاء ـ كمالا في ـ أو هو استعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر ، وقيل : أرض الجنة قيعان يظهر فيها أعمال الدنيا كما يشير إليه بعض الآثار فثمرة النعيم ما غرسوه في الدنيا فتدبر (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) تذييل للكلام السابق ـ وتأكيد له بما يشتمل على معناه ـ لا محل له من الإعراب ، ويحتمل الاستئناف والحالية بتقدير «قد» وهو شائع ، وحذف الفاعل للعلم به وهو ظاهرا الخدم الولدان كما يشير إليه قراءة هارون والعتكي «وأتوا» على الفاعل وفيها إضمار لدلالة المعنى عليه ، وقد أظهر ذلك في قوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) إلى قوله سبحانه (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) والضمير المجرور إما على تقدير أن يراد ـ من قبل ـ في الدنيا فراجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان هذا ـ و ـ (الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) وهو المرزوق في الدارين ـ أي أوتوا بمرزوق الدارين متشابها بعضه بالبعض ـ ويسمى هذا الطريق بالكناية الإيمائية ولو رجع الى الملفوظ لقيل بهما ، وعبر عما بعضه ماض وبعضه مستقبل بالماضي لتحقق وقوعه ، وفي الكشف أن المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما ، وإما على تقدير أن يراد في الجنة فراجع إلى الرزق أي أوتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد. قال أبو حيان : والظاهر هذا لأن مرزوقهم في الآخرة هو المحدث عنه والمشبه ـ بالذي رزقوه من قبل ـ ولان هذه الجملة إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة ـ أنه متشابه ليس من حديث الجنة ـ إلا بتكلف ، ولا يعكر ـ على دعوى متشابه ما في الدارين ـ ما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : «ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء» لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وهو حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم وإن لم يكن في المقدار والطعم ، وتحريره أن إطلاق الأسماء عليها لكونها على الاستعارة يقتضي الاشتراك فيما هو مناطها وهو الصورة ، وبذلك يتحقق التشابه بينهما فالمستثنى في الأثر الأسماء وما هو مناطها بدلالة العقل (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) صفة ثالثة ورابعة للجنات وأوردت الأوليتان بالجملة الفعلية لإفادة التجدد ، وهاتان بالاسمية لإفادة الدوام ، وترك العاطف في البعض ـ مع إيراده في البعض ـ قيل : للتنبيه على جواز الأمرين في الصفات ، واختص كل بما اختص به لمناسبة لا تخفى ، وذهب أبو البقاء إلى أن هاتين الجملتين مستأنفتان ، وجوز أن تكون الثانية حالا من ضمير الجمع في (لَهُمْ) والعامل فيها معنى الاستقرار ـ والأزواج ـ جمع قلة وجمع الكثرة زوجة ـ كعود وعودة ـ ولم يكثر استعماله في الكلام ، وقيل : ولهذا استغني عنه بجمع القلة توسعا ، وقد ورد في الآثار ما يدل على كثرة الأزواج في الجنة من

٢٠٦

الحور وغيرهن ، ويقال : الزوج للذكر والأنثى ، ويكون لأحد المزدوجين ولهما معا ، ويقال : للأنثى زوجة في لغة تميم ، وكثير من قيس ، والمراد هنا بالأزواج النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره ، وليس في المفهوم اعتبار التوالد الذي هو مدار بقاء النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد ، على أن بعضهم صحح التوالد فيها وروى آثارا في ذلك لكن على وجه يليق بذلك المقام ، وذكر بعضهم أن الأولاد روحانيون والله قادر على ما يشاء. ومعنى كونها (مُطَهَّرَةٌ) أن الله سبحانه نزههن عن كل ما يشينهن ، فإن كن من الحور كما روي عن عبد الله ـ فمعنى التطهر خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي ، وإن كن من بني آدم ـ كما روي عن الحسن ـ «من عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب» فالمراد إذهاب كل شين عنهن من العيوب الذاتية وغيرها. والتطهير ـ كما قال الراغب ـ يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعا ، فيكون عاما هنا بقرينة مقام المدح لا مطلقا منصرفا إلى الكامل ، وكمال التطهير إنما يحصل بالقسمين كما قيل : فإن المعهود من إرادة الكامل إرادة أعلى أفراده لا الجميع ، وقرأ زيد بن علي ـ مطهرات ـ بناء على طهرن لا طهرت ـ كما في الأولى ـ ولعلها أولى استعمالا ، وإن كان الكل فصيحا لأنهم قالوا : جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة أو كثرة ، فإن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات ، وإن كان جمع قلة فالعكس ، وكذلك إذا كان ضميرا عائدا على جمع العاقلات الأولى فيه النون دون التاء ك (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) [البقرة : ٢٣٤ ، الطلاق : ٢] و (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) [البقرة : ٢٣٣] ولم يفرقوا في هذا بين جمع القلة والكثرة ، ومجيء هذه الصفة مبينة للمفعول ، ولم تأت طاهرة ـ وصف من طهر ـ بالفتح على الأفصح ، أو طهر بالضم ، وعلى الأول قياس ، وعلى الثاني شاذ للتفخيم لأنه أفهم أن لها مطهرا وليس سوى الله تعالى ، وكيف يصف الواصفون من طهره الرب سبحانه؟! وقرأ عبيد بن عمير «مطهرة» وأصله متطهرة فأدغم ولما ذكر سبحانه وتعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم ؛ وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع خوف الزوال ولذلك قيل :

أشد الغم عندي في سرور

تيقن عنه صاحبه انتقالا

أعقب ذلك بما يزيل ما ينغص إنعامه من ذكر الخلود في دار الكرامة ، والخلود عند المعتزلة البقاء الدائم الذي لا ينقطع ، وعندنا البقاء الطويل انقطع أو لم ينقطع ، واستعماله في المكث الدائم من حيث إن مكث طويل لا من حيث خصوصه حقيقة وهو المراد هنا ، وقد شهدت له الآيات والسنن ، والجهمية يزعمون أن الجنة وأهلها يفنيان وكذا النار وأصحابها ، والذي دعاهم إلى هذا أنه تعالى وصف نفسه بأنه الأول والآخر ، والأولية تقدمه على جميع المخلوقات ، والآخرية تأخره ولا يكون إلا بفناء السوي ، ولو بقيت الجنة وأهلها كان فيه تشبيه لمن لا شبيه له سبحانه وهو محال ، ولأنه إن لم يعلم أنفاس أهل الجنة كان جاهلا تعالى عن ذلك ، وإن علم لزم الانتهاء وهو بعد الفناء ، ولنا النصوص الدالة على التأييد والعقل معها لأنها دار سلام وقدس لا خوف ولا حزن. والمرء لا يهنأ بعيش يخاف زواله بل قيل : البؤس خير من نعيم زائل ، والكفر جريمة خالصة فجزاؤها عقوبة خالصة لا يشوبها نقص ، ومعنى «الأول والآخر» ليس كما في الشاهد بل بمعنى لا ابتداء ولا انتهاء له في ذاته من غير استناد لغيره فهو الواجب القدم المستحيل العدم ، والخلق ليسوا كذلك ، فأين الشبه والعلم لا يتناهى فيتعلق بما لا يتناهى ، وما أنفاس أهل الجنة إلا كمراتب الأعداد؟! أفيقال : إن الله سبحانه لا يعلمها أو يقال إنها متناهية. تبا للجهمية ما أجهلهم ، وأجهل منهم من قال : إن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك فكيف يمكن التأبيد ، وذلك لأن مدار هذا على قياس هاتيك النشأة على هذه النشأة ، وهيهات هيهات كيف يقاس ذلك العالم الكامل على عالم

٢٠٧

الكون والفساد؟! على أنه إذا ثبت كونه تعالى قادرا مختارا ولا فاعل في الوجود إلا هو فلم لا يجوز أن يعيد الأبدان بحيث لا تتحلل ، أو إن تحللت فلم لا يجوز أن يخلق بدل ما تحلل دائما أبدا؟ وسبحان القادر الحكيم الذي لا يعجزه شيء (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره : نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت ، والذباب وغير ذلك مما يستحقر قالوا : إن الله تعالى أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية. ووجه ربطها بما تقدم على هذا ـ وكان المناسب عليه أن توضع في سورة العنكبوت مثلا ـ أنها جواب عن شبهة تورد على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فهي من الريب الذي هو في غاية الاضمحلال فكان ذكرها هنا أنسب ، وقال مجاهد وغيره : نزلت في المنافقين ، قالوا ـ لما ضرب الله سبحانه المثل بالمستوقد ، والصيب ـ الله تعالى أعلى وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها فرد الله تعالى عليهم ووجه الربط عليه ظاهر فإنها للذب عن التمثيلات السابقة على أحسن وجه وأبلغه ، وقيل : إنها متصلة بقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي (لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) لهذه الأنداد ، وقيل : هذا مثل ضرب للدنيا وأهلها فإن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت ، كذلك أهل الدنيا إذا امتلئوا منها هلكوا ، أو مثل لأعمال العباد وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قل أو كثر ليجازى عليه ثوابا وعقابا ، وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها بل هي ابتداء كلام ، وهذا وإن جاز لا أقول به إذ المناسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وفي الآية إشارة إلى حسن التمثيل كيف والله سبحانه مع عظمته وبالغ حكمته لم يتركه ولم يستح منه. وما انفكت الأمثال في الناس سائرة. والحياء ـ كما قال الراغب ـ انقباض النفس عن القبائح ، وهو مركب من جبن وعفة ، وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياة فهما متغايران وإن تلازما ، وقال بعضهم : الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله ، وما في القاموس خجل استحى تسامح ، وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة ، والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه ، على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل ، وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسبة ـ وللناس في ذلك مذهبان ـ فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه ، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض ، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناء على ما روي أنهم قالوا : ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب ، والعنكبوت ، وبعض ـ وأنا والحمد لله منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله ـ مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث ـ على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة ، وقرأ الجمهور يستحيي بياءين والماضي استحيا ، وجاء استفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر ، وقرأ ابن كثير في رواية ـ وقليلون ـ بياء واحدة وهي لغة بني تميم ، وهل المحذوف اللام فالوزن يستفع. أو العين فالوزن يستفل؟ قولان : أشهرهما الثاني ، وهذا الفعل مما يكون متعديا بنفسه وبالحرف فيقال : استحييته واستحيت منه ، والآية تحتملهما. والضرب إيقاع شيء على شيء ، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء يظهر أثره في غيره ، فمعنى يضرب هنا يذكر ، وقيل: يبين. وقيل : يضع من (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [آل عمران : ١١٢] و (ما) اسم بمعنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام ويسد طرق التقييد ، وقد يفيد التحقير أيضا ـ كاعطه شيئا (ما) ـ والتعظيم ـ كالأمر (ما) جدع قصير أنفه ـ والتنويع ـ كاضربه ضربا (ما) ـ وقد تجعل سيف خطيب ، والقرآن أجل من أن يلغى فيه شيء ، وبعوضة إما صفة ـ لما ـ أو بدل منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدل من (مَثَلاً) أو عطف بيان له إن قيل (ما) زائدة ، أو مفعول و (مَثَلاً) حال وهي المقصودة ، أو منصوب على نزع الخافض أي

٢٠٨

(ما) من بعوضة (فَما فَوْقَها) كما نقل عن الفراء. والفاء بمعنى إلى ، أو مفعول ثان ؛ أو أول بناء على تضمن الضرب معنى الجعل ، ولا يرد على إرادة العموم أن مثال المعنى على المشهور أن الله لا يترك أي مثل كان فيقتضي أن جميع الأمثال مضروبة في كلامه فأين هي لأن المنفي ليس مطلق الترك بل الترك لأجل الاستحياء؟ فالمعنى لا يترك (مَثَلاً ما) استحياء وإن تركه لأمر آخر أراده ، وقرأ ابن أبي عبلة ، وجماعة : بعوضة بالرفع والشائع على أنه خبر ، واختلفوا فيما يكون عنه خبرا ؛ فقيل مبتدأ محذوف ـ أي هي ، أو هو ـ بعوضة ، والجملة صلة (ما) على جعلها موصولة ، وهو تخريج كوفي لحذف صدر الصلة من غير طول ، وقيل : (ما) بناء على أنها استفهامية مبتدأ ، واختار فى البحر أن تكون (ما) صلة أو صفة وهي (بَعُوضَةً) جملة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام ، وقيل : (بَعُوضَةً) مبتدأ ، و (ما) نافية والخبر محذوف ـ أي متروكة ـ لدلالة (لا يَسْتَحْيِي) عليه.

«والبعوضة» واحد البعوض ، وهو طائر معروف ، وفيه من دقيق الصنع وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه ولا ينكر ذلك إلا نمرود. وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع ، ولذا سمي في لغة هذيل ـ خموش ـ فغلبت ، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع (فَما فَوْقَها) الفاء عاطفة ترتيبية ، و (ما) عطف على (بَعُوضَةً) أو «ما» إن جعل اسما والتفصيل وما فيه غير خفي. والمراد بالفوقية إما الزيادة في حجم الممثل به فهو ترقّ من الصغير للكبير ، وبه قال ابن عباس ، أو الزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر ، وهذان الوجهان على القراءة المشهورة وأما على قراءة الرفع فقد قالوا : إن جعلت «ما» موصولة ففيه الوجهان ، وإن جعلت استفهامية تعين الأول لأن العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك ، وقيل : أراد ـ ما فوقها ـ وما دونها فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر على حد (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] فافهم.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) إلخ من أنه وقع فيه ارتياب بين التحقيق والارتياب ، أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه ، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها. وكأنه قيل كما قيل فيضربه (فَأَمَّا الَّذِينَ) إلخ ، وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه ، وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالبا ، وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم ؛ وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحا ، أو دلالة ، أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديرا ، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضى والمرتضى ـ من المحققين ـ أغلبيا ، وفسر سيبويه ـ أما زيد فذاهب ـ بمهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم ، والفعل إذ لا نظير له ، بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك. ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق ، وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه ، ومهما مبتدأ والاسمية لازمة له ، ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالبا ، وقامت ـ أما ذلك المقام ـ لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة للازم مقام الملزوم ، وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا ، وقد يقدم على الفاء ـ كما في الرضى ـ من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه ، وفي تصدير الجملتين بها من الإحماد والذم ما لا يخفى. والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى ، والضمير في (أَنَّهُ) للمثل ، وهو أقرب ، أو لضربه المفهوم من أن يضرب ، وقيل : لترك الاستحياء المنقدح مما

٢٠٩

مر ، وقيل : للقرآن و (الْحَقُ) خلاف الباطل ، وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت ، وقال الراغب : أصله المطابقة والموافقة ، ويكون بمعنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والاعتقاد المطابق للواقع ، وقيل : إنه الحكم المطابق ، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتماله على ذلك ، ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق ، والصدق في القول كذلك ، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم ، وتعريفه هنا إما للقصر الادعائي كما يقال ـ هذا هو الحق ـ أو لدعوى الاتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الاتصاف ، و (مِنْ رَبِّهِمْ) إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق ، و (مِنْ) لابتداء الغاية المجازية ، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم الله تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه (نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فالله عز اسمه هو المناسب لحالهم (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨ ، ٣٠] وقيل : في ذلك ـ مع الإضافة إلى الضمير ـ تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم ، والجملة سادة مسد مفعولي ـ يعلمون ـ عند الجمهور ، ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي (فَيَعْلَمُونَ) حقيته ثابتة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) لم يقل سبحانه ـ وأما الذين كفروا فلا يعلمون ـ ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة :

ومن قال للمسك أين الشذا

يكذبه ريحه الطيب

قيل : ولم يقل سبحانه هناك ـ وأما الذين آمنوا فيقولون ـ إلخ إشارة إلى أن المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كاخفاء الجمر في الحلفاء ، وقيل : إن ـ يقولون ـ لا يدل صريحا على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند (فَيَقُولُونَ) إلخ أشمل وأجمع ، و (ما ذا) لها ستة أوجه في استعمالهم. الأول أن تكون «ما» استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، و ـ ذا ـ بمعنى الذي خبره ، وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناء على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الاستفهام. وغيره يجعل النكرة خبرا عن الموصول. الثاني أن تكون (ما ذا) كلها استفهاما مفعولا ـ لأراد ـ وهذان الوجهان فصيحان اعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية ، والاستفهام يحتمل الاستغراب والاستبعاد والاستهزاء (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) [النور : ٤٠] ، الثالث أن يجعل ـ ما ـ استفهامية ، و ـ ذا ـ صلة لا إشارة ولا موصولة ، الرابع أن يجعلا معا موصولا كقوله. دعي (ما ذا) علمت سأتقيه. الخامس أن يجعلا نكرة موصوفة وقد جوز في المثال ، السادس أن تكون ـ ما ـ استفهامية ، و ـ ذا ـ اسم إشارة خبر له.

«والإرادة» كما قاله الراغب : منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل ، وجعل اسما لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل ، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوع النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي إلخ ، وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو استعمال آخر ولسنا بصدده ، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات ، والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد. وللمتكلمين ـ أهل الحق وغيرهم ـ في تفسيرها مذاهب ، فالكلبي والنجار وغيرهما على أن إرادته

٢١٠

سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالما بها وبما فيها من المصلحة ، ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها ، فالمعاصي إذا ليست بإرادته جل شأنه ، ونحو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم ؛ والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل ، ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي ، ويسمون هذا العلم عناية ؛ وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية ، وموجودة لا في محل عند الأبوين ، والمذاهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة ، مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع ، وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال ـ كما قال البيضاوي عفا الله تعالى عنه ـ لم يذهب إليه أحد. وفي كلمة ـ هذا ـ استحقار للمشار إليه مثلها في (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : ٤١] وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام ، و (مَثَلاً) نصب على التمييز عن نسبة الاستغراب ونحوه إلى المشار إليه. وقد ذكر الرضى ـ والعهدة عليه ـ أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجيء التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما ، وإذا كانا معلومين فالتمييز عن النسبة ، ويحتمل أن يكون حالا من اسم الله تعالى أو من هذا أي ممثلا أو ممثلا به أو بضربه.

(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جملتان جاريتان مجرى البيان ، والتفسير للجملتين المصدرتين ـ بأما ـ إذ يشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة وعلى أن العلم بكونه حقا من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نورا إلى نورهم ، والجهل بموقعه من الضلالة التي يزداد بها الجهال خبطا في ظلمتهم ، وهاتان يزيدان ما تضمنتاه وضوحا أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين في الغواية ، وصرح بعضهم بأنهما جواب ـ لما ذا ـ ووضع الفعلان موضع المصدر للإشعار بالاستمرار التجددي والمضارع يستعمل له كثيرا ، ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان ، قيل : ووضعهما موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإن إرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيا عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك ، فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والاهتداء كما يشير إليه قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر : ٢١] وأما الإضلال فعارض مترتب على سوء الاختيار ، وقدم في النظم الإضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب ، وتقدمها بالرتبة والشرف لأن قولهم ناشئ من الضلال مع أن كون ما في القرآن سببا له أحوج للبيان لأن سببيته للهدى في غاية الظهور ، فالاهتمام ببيانه أولى ، ووصف كل من القبيلتين بالكثرة بالنظر إلى أنفسهم وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال وبعيد حمل كثرة المهتدين على الكثرة المعنوية بجعل كثرة الخصائص اللطيفة بمنزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل :

ولم أر أمثال الرجال تفاوتت

لدى المجد حتى عد ألف بواحد

لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية ، هذا وجوّز بعضهم أن يكون قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) إلخ في موضع الصفة ـ لمثل ـ فهو من كلام الكفار ، ولعله من باب المماشاة مع المؤمنين إذ هم ليسوا بمعترفين بأن هذا المثل ـ يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا ـ وأغرب من هذا تجويز ابن عطية أن يكون (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) من كلام الكفار وما بعده من كلام الله تعالى وهو إلباس في التركيب وعدول عن الظاهر من غير دليل ، وإسناد الإضلال إليه تعالى حقيقي وقد تقدم وجهه فلا التفات إلى ما في الكشاف لأنه نزغة اعتزالية ، والضمير في (بِهِ) للمثل أو لضربه في

٢١١

الموضعين ، وقيل : في الأول للتكذيب ، وفي الثاني للتصديق ودل على ذلك قوة الكلام ، ولا يخفى ضعفه ، وقرأ زيد بن علي (يُضِلُ) هنا وفيما يأتي ، و (يَهْدِي) بالبناء للمفعول وابن أبي عبلة في ـ الثلاثة ـ بالبناء للفاعل ، ورفعا للفاسقين ـ خفضهم الله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) تذييل أو اعتراض في آخر الكلام بناء على قول من جوزه ، وقيل : حال ، ومنع الساليكوتي عطفه على ما قبله قائلا لأنه لا يصح كونه جوابا وبيانا ، وأجازه بعضهم تكملة للجواب وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه ، و (الْفاسِقِينَ) جمع فاسق من الفسق ، وهو شرعا خروج العقلاء عن الطاعة فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة. واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرا بقرينة ، وهو من قولهم : فسق الرطب إذا خرج من قشره ، قال ابن الأعرابي : ولم يسمع الفسق وصفا للإنسان في كلام العرب ، ولعله أراد في كلام الجاهلية كما صرح به ابن الأنباري ، وإلا فقد قال رؤبة ، وهو شاعر إسلامي يستدل بكلامه:

يذهبن في نجد وغورا غائرا

«فواسقا» عن قصدها جوائرا

على أنه يمكن أن يقال : لم يخرج الفسق في البيت عن الوضع لأنه وضعا خروج الإجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء ، وما فيه خروج الإبل وهي لا تعقل. والمراد بالفاسقين هنا الخارجون عن حدود الإيمان وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق وما أجري عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل حتى رسخت جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروا وقالوا ما قالوا ، ونصب (الْفاسِقِينَ) على أنه مفعول يضل أو على الاستثناء والمفعول محذوف أي أحدا ، ولا تفريغ كما في قوله :

نجا سالم والنفس منه بشدة

ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

ومنع ذلك أبو البقاء ولعله محجوج بالبيت (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) يحتمل النصب والرفع ، والأول إما على الاتباع أو القطع ـ أي أذم ـ والثاني إما على الثاني من احتمالي الأول أو على الابتداء ، والخبر جملة (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وعلى هذا تكون الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها إلا على بعد و ـ النقض ـ فسخ التركيب ، وأصله يكون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه ، ونقيضه البناء. وشاع استعمال النقض في إبطال العهد ـ كما قال الزمخشري ـ من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين ، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه نحو قولك : عالم يغترف منه الناس ، وشجاع يفترس أقرانه.

والحاصل أن في الآية استعارة بالكناية ، والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال تأليف الجسم ، وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل ، فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد ، ومن هنا يظهر أن الاستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية وأن قرينتها قد تكون تحقيقية ، وتحقيق البحث يطلب من محله ، والعهد الموثق ، وعهد إليه في كذا إذا أوصاه ووثقه عليه ، واستعهد منه إذا اشترط عليه ، واستوثق منه. والمراد بالعهد هاهنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسله صلى الله تعالى عليهم وسلم ، وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذم لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وبعث الأنبياء عليهم الصلاة

٢١٢

والسلام وأنزل الكتب مؤكدا لها ، والناقضون على هذا جميع الكفار. وأما المأخوذ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره. وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه. والناقضون حينئذ أهل الكتاب والمنافقون منهم حيث نبذوا كل ذلك وراء ظهورهم وبدلوا تبديلا ، والنقض على هذا عند بعضهم أشنع منه على الأول ، وعكس بعض ـ ولكل وجهة ـ وقيل : الأمانة التي حملها الإنسان بعد إباء السماوات والأرض عن أن يحملنها ، وقيل : هو ما أخذ على بني إسرائيل من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، إلى غير ذلك من الأقوال وهي مبنية على الاختلاف في سبب النزول والظاهر العموم. و (مِنْ) للابتداء وكون المجرور بها موضعا انفصل عنه الشيء وخرج ، وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل ، وفيه إرشاد إلى عدم اكتراثهم بالعهد ـ فأثر ما استوثق الله تعالى منهم نقضوه ـ وقيل : صلة وهو بعيد ، والميثاق مفعال وهو في الصفات كثير ـ كمنحار ـ ويكون مصدرا عند أبي البقاء والزمخشري ـ كميعاد ـ بمعنى الوعد ، وأنكره جماعة وقالوا : هو اسم في موضع المصدر كما في قوله :

أكفرا بعد رد الموت عني

وبعد «عطائك» المائة الرتاعا

ويكون اسم آلة ـ كمحراث ـ ولم يشع هذا وليس بالبعيد ، والمراد به ما وثق الله تعالى به عهده من الآيات والكتب ، أو ما وثقوه به من القبول والالتزام ، والضمير للعهد لأنه المحدث عنه. ويجوز عوده إلى الله تعالى ولم يجوزه الساليكوتي لأن المعنى لا يتم بدون اعتبار العهد فهو أهم من ذكر الفاعل ، ولأن الرجوع إلى المضاف خلاف الأصل ، وأفهم كلام أبي البقاء أن الميثاق هنا مصدر بمعنى التوثقة ، وفي الضمير الاحتمالان فإن عاد إلى اسم الله تعالى كان المصدر مضافا إلى الفاعل ، وإن إلى العهد كان مضافا إلى المفعول ، وحديث الرجوع إلى المضاف خصه بعض المحققين في غير الإضافة اللفظية ، وأما فيها فمطرد كثير ، وما نحن فيه كذلك لأنه مصدر أو مؤول بمشتق فيكون كقولك أعجبني ضرب زيد وهو قائم ، والوجه أنها في نية الانفصال (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ما) المقطوعة موصولة ، أو نكرة موصوفة عند أبي البقاء ، وفي المراد بها أقوال : «الأول» رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطعوه بالتكذيب والعصيان ـ قاله الحسن ـ وفيه استعمال «ما» لمن يعقل بل سيد العقلاء بل العقل «الثاني» القول فإنه تعالى أمر ـ أن يوصل ـ بالعمل فلم يصلوه ولم يعملوا ، وظاهر هذا أنها نزلت في المنافقين «الثالث» التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض «الرابع» الرحم والقرابة قاله قتادة ، وظاهره أنه أراد كفار قريش وأشباههم «الخامس» الأمر الشامل لما ذكر مما يوجب قطعه قطع الوصلة بين الله تعالى وبين العبد ـ المقصودة بالذات من كل وصل وفصل ، ولعل هذا هو الأوجه لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ولا دليل واضح على الخصوص. ورجح بعضهم ما قبله بأن الظاهر ـ أن هذا توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق الخلق بعد وصفهم بتضييع حق الحق سبحانه ، وتضييع حقه بنقض عهده وحق خلقه بتقطيع أرحامهم ـ وليس بالقوي. والأمر القول الطالب للفعل مع علو عند المعتزلة أو استعلاء عند أبي الحسين ، ويفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) [الأعراف : ١١٠ ، الشعراء : ٣٥] ويطلق على التكلم بالصيغة وعلى نفسها ، وفي موجبها خلاف ، وهذا هو الأمر الطلبي. وقد نقل إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر فكأنه مأمور به أو لأنه من شأنه أن يؤمر به كما سمي الخطب والحال العظيمة شأنا. وهو مصدر في الأصل بمعنى القصد وسمي به ذلك لأن من شأنه أن يقصد. وذهب الفقهاء إلى أن الأمر مشترك بين القول والفعل لأنه يطلق عليه مثل (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧]. و (أَنْ يُوصَلَ) يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من (ما) أو من ضميره ، والثاني أولى

٢١٣

للقرب ولأن ـ قطع ما أمر الله تعالى بوصله ـ أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه ، واحتمال الرفع بتقدير هو ـ أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله ـ أي لأن ـ أو كراهية ـ أن ليس بشيء كما لا يخفى.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر والترغيب فيه وحمل الناس عليه أو بإخافتهم السبل وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ـ أو بأنهم يرتكبون كل معصية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها ـ ولعل هذا أولى وذكر في (الْأَرْضِ) إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم. و (أُولئِكَ) إشارة إلى (الْفاسِقِينَ) باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة ، وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم وحصر ـ الخاسرين ـ عليهم باعتبار كما لهم في الخسران حيث أهملوا العقل عن النظر ولم يقتنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرة السرمدية ، واشتروا النقض بالوفاء ، والفساد بالصلاح ، والقطعية بالصلة ، والثواب بالعقاب فضاع منهم الطلبتان ـ رأس المال والربح ـ وحصل لهم الضرر الجسيم وهذا هو الخسران العظيم. وفي الآية ترشيح (١) للاستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة فافهم.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) التفات إلى خطاب أولئك بعد أن عدد قبائحهم المستدعية لمزيد سخطه تعالى عليهم والإنكار إذا وجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجيهه إلى الغائب وأردع له لجواز أن لا يصله. و (كَيْفَ) اسم ما ظرف ـ وعزي إلى سيبويه ـ فمحلها نصب دائما ، أو غير ظرف ـ وعزي إلى الأخفش ـ فمحلها رفع مع المبتدأ ونصب مع غيره ، وادعى ابن مالك أن أحدا لم يقل بظرفيتها إذ ليست زمانا ولا مكانا لكن لكونها تفسر بقولك على أي حال أطلق اسم الظرف عليها مجازا ، واستحسنه ابن هشام ودخول الجر عليها شاذ. وأكثر ما تستعمل استفهاما والشرط بها قليل والجزم غير مسموع ، وأجازه قياسا ـ الكوفيون وقطرب ، والبدل منها أو الجواب إن كانت مع فعل مستغن منصوب ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ ومنصوب إن كان ناسخا. وزعم ابن موهب أنها تأتي عاطفة وليس بشيء ، وهي هنا للاستخبار منضما إليه الإنكار والتعجيب لكفرهم بإنكار الحال الذي له مزيد اختصاص بها وهي العلم بالصانع والجهل به ، ألا يرى أنه ينقسم باعتبارهما فيقال : كافر معاند وكافر جاهل؟ فالمعنى أفي حال العلم تكفرون أم في حال الجهل وأنتم عالمون بهذه القصة؟ وهو يستلزم العلم بصانع موصوف بصفات الكمال منزه عن النقصان ، وهو صارف قوي عن الكفر ، وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتوبيخ ، وفيه إيذان بأن كفرهم عن عناد وهو أبلغ في الذم. وفيه من المبالغة أيضا ما ليس في «أتكفرون» لأن الإنكار الذي هو نفي قد توجه للحال التي لا تنفك. ويلزم من نفيها نفي صاحبها بطريق البرهان ، وإن شئت عممت الحال. وإنكار أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها مع أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال يستدعي إنكار وجود الكفر بذلك الطريق ، ولا يرد أن الاستخبار محال على ـ اللطيف الخبير عز شأنه ـ لأنه إما أن يكون بمعنى طلب الخبر فلا نسلم المحالية إذ قد يكون لتنبيه المخاطب وتوبيخه ولا يقتضي جهل المستخبر ولا يلزم من ضم الإنكار والتعجيب إليه ـ وهما من المعاني المجازية للاستفهام ـ الجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان الاستخبار حقيقة للصيغة ، وبين معنيين مجازيين إن كان مجازا لأن الانفهام بطريق الاستتباع واللزوم لا من حلق الوسط ، أو أنه تجوّز على تجوّز لشهرة الاستفهام في معنى الاستخبار حتى كأنه حقيقة فيه ، وإما أن يكون بمعنى الاستفهام فنقول : لا قدح في صدوره ممن

__________________

(١) لأن الخسران من لوازم التجارة ، والآيات تتضمن استبدال الأمور المذكورة بنقائضها المستعار له البيع والشراء ا ه منه.

٢١٤

يعلم المستفهم عنه لأنه ـ كما في الإتقان ـ طلب الفهم. أما فهم المستفهم ـ وهو محال عليه تعالى ـ أو وقوع فهمه ممن لا يفهم كائنا من كان ولا استحالة فيه منه تعالى ، وكذا لا استحالة في وقوع التعجيب منه تعالى بل قالوا : إذا ورد التعجب من الله جل وعلا لم يلزم محذور إذ يصرف إلى المخاطب أو يراد غايته أو يرجع إلى مذهب السلف ، وأتى سبحانه ـ يتكفرون ـ ولم يأت بالماضي وإن كان الكفر قد وقع منهم ـ لأن الذي أنكر الدوام والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون في الكلام توبيخ لمن وقع منه الكفر ممن آمن كأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

(وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ما قبل (ثُمَ) حال من ضمير (تَكْفُرُونَ) بتقدير قد لا محالة خلافا لمن وهم فيه. والمعنى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) وقد خلقكم ، فعبر عن الخلق بذلك ، ولما كان ـ مركوزا في الطباع ومخلوقا في العقول ـ أن لا خالق إلا الله كانت حالا تقتضي أن لا تجامع الكفر ، والجمل بعد مستأنفة لا تعلق لها بالحال ولذا غايرت ما قبلها بالحرف والصيغة ، ولك أن تجعل جميع الجمل مندرجة في الحال وهو في الحقيقة العلم بالقصة كأنه قيل : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها ، فلا يضر اشتمالها على ماض ومستقبل ، وكلاهما لا يصح أن يقع حالا ، ورجح هذا جمع محققون ، والحياة قوة تتبع الاعتدال النوعي ويفيض منها سائر القوى ، وقيل : القوة الحساسة والعضو المفلوج حي وإلا لتسارع إليه الفساد ، وعدم الاحساس بالفعل لا يدل على عدم القوة لجواز فقدان الأثر لمانع ، وكأنهم أرادوا من ذلك قوة اللمس لأن مغايرة الحياة لما عداه من الحواس ظاهرة فإنها مختصة بعضو دون عضو ، وأنها مفقودة في بعض أنواع الحيوانات ، وأنه يلزم تعدد الحياة بالنوع في شخص واحد إن قيل بكون الحياة كل واحد منها. وتركبها في الخارج إن أريد مجموعها ، وتطلق مجازا على القوة النامية لأنها من طلائعها ومقدماتها ، وعلى ما يخص الإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها ، و ـ الموت ـ مقابل لها في كل مرتبة والكل (١) في كتاب الله تعالى وحياته سبحانه وتعالى صحة اتصافه جل شأنه بالعلم والقدرة أو معنى قائم بذاته تعالى يقتضي ذلك ، وأين التراب من رب الأرباب. ثم إن للناس في المراد بما في الآية الكريمة أقوالا شتى ، والمروي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموت الأول العدم السابق ، والإحياء الأول الخلق والموت الثاني المعهود في الدار الدنيا ، والحياة الثانية البعث للقيامة ، واختاره بعض المحققين وادعى أن قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) وإسناده آخر الإماتة إليه تعالى مما يقويه ، واختار آخرون أن كونهم أمواتا هو من وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها ، وأن الحياة (٢) الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار ، والإماتة ـ هي المعهودة ـ والإحياء بعدها ـ هو البعث ـ يوم ينفخ في الصور ولعله أقرب من الأول ، وإطلاق الأموات على تلك الأجسام مجاز إن فسر ـ الموت ـ بعدم الحياة عمن اتصف به ، وحقيقة إن فسر بعدم الحياة عما من شأنه ، قاله الساليكوتي ، ويفهم كلام بعضهم : أنه على معنى كالأموات على التفسير الثاني وإن فسر بعدم الحياة مطلقا كان حقيقة وهو المشهور وأبعد الأقوال عندي حمل الموت الأول على المعهود بعد انقضاء الأجل ، والإحياء الأول على ما يكون للمسألة في القبر فيكون قد وضع الماضي موضع المستقبل لتحقق الوقوع ، ثم لا دليل في الآية على المختار لنفي عذاب القبر إذ نهاية ما فيها عدم ذكر الاحياء المصحح له ، ونحن لا نستدل لها

__________________

(١) قال الشيخ : أول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس فإنه كما أن للنبات قوة غاذية يجوز ان يفقد سائر القوى دونها. كذلك حال اللامسة للإنسان ا ه.

(٢) قال الله تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وقال سبحانه : (أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وقال عز شأنه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) ا ه.

٢١٥

بذلك الوجه عليه ولنا ـ والحمد لله تعالى ـ في ذلك المطلب أدلة شتى ، وكذا لا دليل للمجسمة القائلين بأنه تعالى في مكان في (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لأن المراد بالرجوع إليه الجمع في المحشر حيث لا يتولى الحكم سواه والأمر يومئذ لله ، ووراء هذا من المقال ما لا يخفى على العارفين ، وفي قوله تعالى : (تُرْجَعُونَ) على البناء للمفعول دون ـ يرجعكم ـ المناسب للسياق مراعاة لتناسب رءوس الآي مع وجود التناسب المعنوي للسياق ، ولهذا قيل : إن قراءة الجمهور أفصح من قراءة يعقوب ومجاهد ، وجماعة «ترجعون» مبنيا للفاعل ، ولا يرد أن الآية إذا كانت خطابا للكفار ـ ومعنى العلم ملاحظ فيها ـ امتنع خطابهم بما بعد ـ ثم وثم ـ من الفعلين لأنهم لا يعلمون ذلك لأن تمكنهم من العلم لوضوح الأدلة آفاقية وأنفسية ـ وسطوع أنوارها عقلية ونقلية ـ منزل منزل العلم في إزاحة العذر ، وبهذا يندفع أيضا ما قيل : هم شاكون في نسبة ما تقدم إليه تعالى فكيف يتأتى ذلك الخطاب به ، ويحتمل كما قيل : أن يكون الخطاب في الآية للمؤمن والكافر فإنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد أيضا من قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إلى (فَلا تَجْعَلُوا) ودلائل النبوة من (وَإِنْ كُنْتُمْ) إلى (إِنْ كُنْتُمْ) وأوعد ب (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) الآية ، ووعد ب (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة من قوله (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) إلى (هُمْ فِيها خالِدُونَ) والخاصة من (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٤٠] إلى (ما نَنْسَخْ) [البقرة : ١٠٦] واستقبح صدور الكفر ـ مع تلك النعم منهم ـ توبيخا للكافر وتقريرا للمؤمن وعد الإماتة نعمة لأنها وصلة إلى الحياة الأبدية واجتماع المحب بالحبيب ، وقد يقال : إن المعدود عليهم كذلك هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها.

«ومن الإشارة» قول ابن عطاء (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) بالظاهر (فَأَحْياكُمْ) بمكاشفة الأسرار (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عن أوصاف العبودية (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بأوصاف الربوبية ، وقال فارس : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) بشواهدكم (فَأَحْياكُمْ) بشواهده (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عن شاهدكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بقيام الحق (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) عن جميع ما لكم فتكونون له.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى

٢١٦

آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٣٨)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) معطوف على قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ) وترك الحرف إما لكونه كالنتيجة له أو للتنبيه على الاستقلال في إفادة ما أفاده ، وذكر أنه بيان نعمة أخرى مترتبة على الأولى ، وأريد بترتبها أن الانتفاع بها يتوقف عليها فإن النعمة إنما تسمى نعمة من حيث الانتفاع بها ، و (هُوَ) لغير المتكلم والمخاطب ، وفيه لغات : تخفيف الواو مفتوحة ، وحذفها في الشعر ، وتشديدها لهمدان ، وتسكينها لأسد وقيس ، و (هُوَ) عند أهل الله تعالى اسم من أسمائه تعالى ينبئ عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة ، و (هُوَ) اسم مركب من حرفين الهاء والواو ، و ـ الهاء ـ أصل ، و ـ الواو ـ زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فليس في الحقيقة إلا حرف واحد دال على الواحد الفرد الذي لا موجود سواه وكل شيء هالك إلا وجهه ، ولمزيد ما فيه من الأسرار اتخذه الأجلّة مدارا لذكرهم وسراجا لسرهم ، وهو جار مع الأنفاس ، ومسماه غائب عن الحدس والقياس ، وفي «جعل» الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى ، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة واللام للتعليل والانتفاع ـ أي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض ـ لتنتفعوا به في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي أمور دينكم بالاستدلال والاعتبار ، واستدل كثير من أهل السنة ـ الحنفية ، والشافعية ـ بالآية على إباحة الأشياء النافعة قبل ورود الشرع ، وعليه أكثر المعتزلة ، واختاره الإمام في المحصول ، والبيضاوي في المنهاج.

واعترض بأن اللام تجيء لغير النفع ك (إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] وأجيب بأنها مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الاختصاص النافع ، وبأن المراد النفع بالاستدلال ، وأجيب بأن التخصيص خلاف الظاهر مع أن ذلك حاصل لكل مكلف من نفسه فيحمل على غيره ، وذهب قوم إلى أن الأصل في الأشياء قبل الحظر ، وقال قوم بالوقف لتعارض الأدلة عندهم ، واستدلت الإباحية بالآية على مدعاهم قائلين إنها تدل على أن ما في الأرض جميعا خلق للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا ، ويرده أنها تدل على أن الكل للكل ، ولا ينافي اختصاص البعض بالبعض لموجب ، فهناك شبه التوزيع ، والتعيين يستفاد من دليل منفصل ، ولا يلزم اختصاص كل شخص بشيء واحد كما ظنه الساليكوتي ، و (ما) تعم جميع ما في الأرض لأنفسها إذ لا يكون الشيء ظرفا لنفسه إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو ويكفي في التحدر العرش المحيط ، أو تجعل الجهة اعتبارية ، نعم قيل : تعم كل جزء من أجزاء الأرض ـ فإنه من جملة ضروراتها ـ ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكل والمغايرة اعتبارية والقول : بأن الكلام على تقدير معطوف أي خلق ما في الأرض والأرض ـ لا أرضى به ، وبعضهم لم يتكلف شيئا من ذلك ، واستغنى بتقدم الامتنان بالأرض في قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [البقرة : ٢٢] و (جَمِيعاً) حال مؤكدة من كلمة «ما» ولا دلالة لها كما ذكره البعض على الاجتماع الزماني وهذا بخلاف معا ، وجعله حالا من ضمير (لَكُمْ) يضعفه السياق لأنه لتعداد النعم دون المنعم عليه مع أن مقام الامتنان يناسبه المبالغة في كثرة النعم ، ولاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالا من الأرض أيضا (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد ـ قاله الربيع ـ أو قصد إليها بإرادته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم : استوى إليه ـ كالسهم المرسل ـ إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء ـ قاله الفراء ـ وقيل : استولى وملك كما في قوله :

فلما «علونا واستوينا عليهم»

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

٢١٧

وهو خلاف الظاهر لاقتضائه كون (إِلَى) بمعنى على ، وأيضا الاستيلاء مؤخر عن وجود المستولى عليه فيحتاج إلى القول بأن المراد استولى على إيجاد السماء فلا يقتضي تقدم الوجود ولا يخفى ما فيه. والمراد بالسماء الأجرام العلوية أو جهة العلو. وثم قيل : للتراخي في الوقت ، وقيل : لتفاوت ما بين الخلقين ، وفضل خلق السماء على خلق الأرض ، والناس مختلفون في خلق السماء وما فيها ، والأرض وما فيها باعتبار التقدم والتأخر لتعارض الظواهر في ذلك ، فذهب بعض إلى تقدم خلق السماوات لقوله تعالى : (أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٢] وذهب آخرون إلى تقدم خلق الأرض لقوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] إلى قوله سبحانه : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [فصلت : ١٠ ـ ١٢] وجمع بعضهم فقال : إن (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) بدل أو عطف بيان «لدحاها» أي بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر ـ خلق ما فيها ـ وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير. وقيده المذكور كما لو قلت : بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني ، وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر فجعل نفسه متأخرا وما رواه الحاكم والبيهقي ـ بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في التوفيق بين الآيتين ـ يشير إلى هذا ، ولا يعارضه ما رواه ابن جرير وغيره وصححوه عنه أيضا ـ «إن اليهود أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال : خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب ، فهذه أربعة فقال تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) إلى (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة» ـ لجواز أن يحمل على أنه خلق مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور المدائن والعمران والخراب قبل ، فعطفه عليه قرينة لذلك ، واستشكال الإمام الرازي تأخر التدحية عن خلق السماء بأن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية فإذا كانت التدحية متأخرة كان خلقها أيضا متأخرا مبني كما قيل : على الغفلة لأن من يقول بتأخر دحوها عن خلقها لا يقول بعظمها ابتداء بل يقول. إنها في أول الخلق كانت كهيئة الفهر ثم دحيت ، فيتحقق الانفكاك ويصح تأخر دحوها عن خلقها ، وقوله قدس‌سره : إن خلق الأشياء في الأرض ـ لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة ـ لا يخفى دفعه بناء على أن المراد بذلك خلق المواد والأصول لا خلق الأشياء فيها كما هو اليوم وقال بعض المحققين : اختلف المفسرون في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر؟ نقل الإمام الواحدي عن مقاتل الأول ـ واختاره المحققون ـ ولم يختلفوا في أن جميع ما في الأرض مما ترى مؤخر عن خلق السماوات السبع بل اتفقوا عليه ، فحينئذ يجعل ـ الخلق ـ في الآية الكريمة بمعنى التقدير لا الإيجاد أو بمعناه ويقدر الإرادة ـ ويكون المعنى أراد خلق ما في الأرض جميعا ـ لكم على حد (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] و (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [الإسراء : ٤٥] ولا يخالفه (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فإن المتقدم على خلق السماء إنما هو تقدير الأرض وجميع ما فيها ، أو إرادة إيجادها والمتأخر عن خلق السماء إيجاد الأرض وجميع ما فيها فلا إشكال ، وأما قوله سبحانه وتعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت: ٩] فعلى تقدير الإرادة ، والمعنى أراد خلق الأرض ، وكذا (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) [الرعد : ٣ ، فصلت : ١٠] ينبغي أن يكون بمعنى أراد أن يجعل ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] فإن الظاهر أن المراد ائتيا في الوجود ، ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه سبحانه قال : أإنّكم

٢١٨

لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا بأمر التكوين فأوجد سبع سماوات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام.

«بقي هاهنا» بيان النكتة في تغيير الأسلوب حيث قدم في الظاهر هاهنا وفي «حم» السجدة خلق الأرض وما فيها على خلق السماوات وعكس في ـ النازعات ـ ولعل ذلك لأن المقام في الأولين مقام الامتنان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة نظرا إلى المخاطبين فكأنه قال سبحانه وتعالى : هو الذي دبر أمركم قبل خلق السماء ثم خلق السماء ، والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها ، هذا والذي يفهم من بعض عبارات القوم قدس الله تعالى أسرارهم أن المحدد ـ ويقال له سماء أيضا ـ مخلوق قبل الأرض وما فيها ، وأن الأرض نفسها خلقت بعد ، ثم بعد خلقها خلقت السماوات السبع ، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات ، ثم ظهر عالم الحيوان ، ثم عالم الإنسان ، فمعنى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) حينئذ قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواده ، ومعنى (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) إلخ في الآية الأخرى على نحو هذا ، «وخلق الأرض فيها» على ظاهرة ولا يأباه قوله سبحانه : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) إلخ لجواز حمله على معنى ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة ، أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة أو ليأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما ، وبعد هذا كله لا يخلو البحث من صعوبة ، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى الآن ، ولنا فيه إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة ، ونسأل الله تعالى التوفيق (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) الضمير للسماء إن فسرت بالأجرام ، وجاز أن يرجع إليها بناء على أنها جمع أو مؤولة به ، وإلا فمبهم يفسره ما بعده على حد ـ نعم رجلا ـ وفيه من التفخيم والتشويق والتمكين في النفس ما لا يخفى ، وفي نصب (سَبْعَ) خمسة أوجه : البدل من المبهم ، أو العائد إلى السماء ، أو مفعول به أي سوى منهن ، أو حال مقدرة ، أو تمييز ، أو مفعول ثان لسوى بناء على أنها بمعنى صير ـ ولم يثبت ـ والبدلية أرجح لعدم الاشتقاق وبعدها الحالية ـ كما في البحر ـ وأريد «بسواهن» أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لا أنه سبحانه وتعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك فهو على حد قولهم : ضيق فم البئر ووسع الدار ، وفي مقارنة التسوية والاستواء حسن لا يخفى «لا يقال» إن أرباب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك ، وهل هي إلا سماوات؟ لأنا نقول هم شاكّون إلى الآن في النقصان والزيادة فإن ما وجدوه من الحركات يمكن ضبطها بثمانية وسبعة بل بواحد ، وبعضهم أثبتوا بين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الميل الكلي ، وقال بعض محققيهم : لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطوية بعضها على بعض ، وأطال الإمام الرازي الكلام في ذلك وأجاد ، على أنه إن صح ما شاع فليس في الآية ما يدل على نفي الزوائد بناء على ما اختاره الإمام من أن مفهوم العدد ليس بحجة ، وكلام البيضاوي في تفسيره يشير إليه خلافا لما في منهاجه الموافق لما عليه الإمام الشافعي ونقله عنه الغزالي في المنخول ، وذكر الساليكوتي أن الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد ـ والخلاف في ذلك مشهور ـ وإذا قلنا بكروية العرش والكرسي لم يبق كلام.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تذييل مقرر لما قبله من خلق السماوات والأرض وما فيها على هذا النمط العجيب والأسلوب الغريب (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٣ ، ٤] وفي (عَلِيمٌ) من المبالغة ما ليس في عالم وليس ذلك راجعا إلى نفس الصفة لأن علمه تعالى واحد لا تكثّر فيه لكن لما تعلق بالكلي والجزئي والموجود والمعدوم والمتناهي وغير المتناهي وصف نفسه سبحانه بما دل على المبالغة ـ والشيء ـ هنا عام باق على عمومه لا تخصيص فيه بوجه خلافا

٢١٩

لمن ضل عن سواء السبيل ، والجار والمجرور متعلق ب (عَلِيمٌ) وإنما تعدى بالباء مع أنه من علم وهو متعد بنفسه ، والتقوية تكون باللام لأن أمثلة المبالغة كما قالوا : خالفت أفعالها لأنها أشبهت أفعل التفضيل لما فيها من الدلالة على الزيادة فأعطيت حكمه في التعدية وهو أنه إن كان فعله متعديا فإن أفهم علما أو جهلا تعدى بالباء ـ كأعلم به وأجهل به ، وعليم به وجهول به ـ وأعلم من يضل على التأويل وإلا تعدى باللام ـ كالضرب لزيد (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] ـ وإلا تعدى بما يتعدى به فعله ـ كما صبر على النار ، وصبور على كذا ـ ولعل ذلك أغلبي إذ يقال رحيم به فافهم (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) لما امتنّ سبحانه على من تقدم بما تقدم أتبع ذلك بنعمة عامة وكرامة تامة والإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع والولد سر أبيه (وَإِذْ) ظرف زمان للماضي مبني لشبهه بالحرف وضعا وافتقارا ويكون ما بعدها جملة فعلية أو اسمية ، ويستفاد الزمان منها بأن يكون ثاني جزأيها فعلا أو يكون مضمونها مشهورا بالوقوع في الزمان المعين ، وإذا دخلت على المضارع قلبته إلى الماضي ، وهي ملازمة للظرفية إلا أن يضاف إليها زمان ، وفي وقوعها مفعولا به أو حرف تعليل أو مفاجأة أو ظرف مكان أو زائدة خلاف ، وفي البحر أنها لا تقع ، وإذا استفيد شيء من ذلك فمن المقام ، واختلف المعربون فيها هنا فقيل : زائدة وبمعنى قد ، وفي موضع رفع أي ابتداء خلقكم إذ وفي موضع نصب بمقدر ـ أي ابتدأ خلقكم أو أحياكم إذ ـ ويعتبر وقتا ممتدا لا حين القول ، ويقال : بعدها ومعمول ـ لخلقكم ـ المتقدم والواو زائدة والفصل بما يكاد أن يكون سورة ، ومتعلق ـ باذكر ـ ويكفي في صحة الظرفية ظرفية المفعول ـ كرميت الصيد في الحرم ـ وهذه عدة أقوال بعضها غير صحيح والبعض فيه تكلف ، فاللائق أن تجعل منصوبة ـ بقالوا ـ الآتي وبينهما تناسب ظاهر والجملة بما فيها عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة كذا قيل ، وأنت تعلم أن المشهور القول الأخير ولعله الأولى فتدبر ، ولا يخفى لطف الرب هنا مضافا إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الخطاب وكان في تنويعه والخروج من عامه إلى خاصه رمزا إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها فهو صلى الله تعالى عليه وسلم على الحقيقة الخليفة الأعظم في الخليقة والإمام المقدم في الأرض والسماوات العلى ، ولولاه ما خلق آدم بل «ولا ، ولا» ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول عن لسان الحقيقة المحمدية :

وإني وإن كنت ابن آدم صورة

فلي فيه معنى شاهد بأبوتي

واللام الجارة للتبليغ ، و «الملائكة» جمع ملأك على وزن شمائل وشمأل وهو مقلوب مالك صفة مشبهة عند الكسائي ، وهو مختار الجمهور من الألوكة وهي الرسالة ، فهم رسل إلى الناس وكالرسل إليهم ، وقيل : لا قلب فابن كيسان إلى أنه فعال من الملك بزيادة الهمزة لأنه مالك ما جعله الله تعالى إليه أو لقوته فإن «م ل ك» يدور مع القوة والشدة يقال : ملكت العجين شددت عجنه ، وهو اشتقاق بعيد ، وفعال قليل ، وأبو عبيدة إلى أنه مفعل من لاك إذا أرسل مصدر ميمي بمعنى المفعول ؛ أو اسم مكان على المبالغة ، وهو اشتقاق بعيد أيضا ، ولم يشتهر لاك ، وكثر في الاستعمال الكني إليه ـ أي كن لي رسولا ـ ولم يجىء سوى هذه الصيغة فاعتبره مهموز العين ، وإن أصله ألا ألاكنى ، وبعض جعله أجوف من لاك يلوك ، والتاء لتأنيث الجمع ، وقيل : للمبالغة ولم يجعل لتأنيث اللفظ كالظلمة لاعتبارهم التأنيث المعنوي في كل جمع حيث قالوا : كل جمع مؤنث بتأويل الجماعة وقد ورد بغير تاء في قوله :

أبا خالد صلت عليك الملائك

واختلف الناس في حقيقتها بعد اتفاقهم على أنها موجودة سمعا أو عقلا ، فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام نورانية ، وقيل : هوائية قادرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله تعالى ، وقالت النصارى : إنها الأنفس

٢٢٠