روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

نحو الجمادات عنده ، وإذا كان بمعنى المشيء وجوده لا يشمل الواجب تعالى شأنه ، وفي استعمال المشترك في معنييه خلاف (١) ولا خلاف في الاستدلال بالآية على إحاطة علمه تعالى. وأما ما ذكر في شرحي المواقف والمقاصد فجعجعة ولا أرى طحنا ، وقعقعة ولا أرى سلاحا تقنا. وقد كفانا مئونة الإطالة في رده مولانا الكورانيقدس‌سره ، والنزاع في هذا وإن كان لفظيا والبحث فيه من وظيفة أصحاب اللغة إلا أنه يبتني على النزاع في أن المعدوم الممكن ثابت أولا ، وهذا بحث طالما تحيرت فيه أقوام وزلت فيه أقدام. والحق الذي عليه العارفون الأول لأن المعدوم الممكن ـ أي ما يصدق عليه هذا المفهوم ـ يتصور ويراد بعضه دون بعض ، وكل ما هو كذلك فهو متميز في نفسه من غير فرض الذهن ، وكل ما هو كذلك فهو ثابت ومتقرر في خارج أذهاننا منفكا عن الوجود الخارجي فما هو إلا في نفس الأمر. والمراد به علم الحق تعالى باعتبار عدم مغايرته للذات الأقدس فإن لعلم الحق تعالى اعتبارين «أحدهما» أنه ليس غيرا «والثاني» أنه ليس عينا ، ولا يقال بالاعتبار الأول ـ العلم تابع للمعلوم ـ لأن التبعية نسبة تقتضي متمايزين ولو اعتبارا ، ولا تمايز عند عدم المغايرة ، ويقال ذلك بالاعتبار الثاني للتمايز النسبي المصحح للتبعية ، والمعلوم الذي يتبعه العلم هو ذات الحق تعالى بجميع شئونه ونسبه واعتباراته. ومن هنا قالوا : علمه تعالى بالأشياء أزلا عين علمه بنفسه لأن كل شيء من نسب علمه بالاعتبار الأول فإذا علم الذات لجميع نسبها فقد علم كل شيء من عين علمه بنفسه ، وحيث لم يكن الشريك من نسب العلم بالاعتبار الأول إذ لا ثبوت له في نفسه من غير فرض إذ الثابت كذلك هو أنه تعالى لا شريك له فلا يتعلق به العلم بالاعتبار الثاني ابتداء ، ومتى كان تعلق العلم بالأشياء أزليا لم تكن أعداما صرفة إذ لا يصح حينئذ أن تكون طرفا إذ لا تمايز ، فإذا لها تحقق بوجه ما ، فهي أزلية بأزلية العلم ، فلذا لم تكن الماهيات بذواتها مجعولة لأن الجعل تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت ، فالثبوت متقدم على الجعل بمراتب فلا تكون من حيث الثبوت أثرا للجعل وإلا لدار ، وإنما هي مجعولة في وجودها ، لأن العالم حادث وكل حادث مجعول وليس الوجود حالا حتى لا تتعلق به القدرة ، ويلزم أن لا يكون الباري تعالى موجدا للممكنات ولا قادرا عليها لأنه قد حقق أن الوجود بمعنى ما ـ بانضمامه إلى الماهيات الممكنة ـ يترتب عليها آثارها المختصة بها موجود ، أما أولا فلأن كل مفهوم مغاير للوجود فإنه إنما يكون موجودا بأمر ينضم إليه وهو الوجود ، فهو موجود بنفسه لا بأمر زائد وإلا لتسلسل ، وامتيازه عما عداه بأن وجوده ليس زائدا على ذاته ، وأما ثانيا فلأنه لو لم يكن موجودا لم يوجد شيء أصلا لأن الماهية الممكنة قبل انضمام الوجود متصفة بالعدم الخارجي فلو كان الوجود معدوما كان مثلها محتاجا لما تحتاجه فلا يترتب على الماهية بضمه آثارها لأنه على تقدير كونه معدوما ليس فيه بعد العدم إلا افتقاره إلى الوجود وهذا بعينه متحقق في الماهية قبل الضم فلا يحدث لها بالضم وصف لم تكن عليه ، فلو كان هذا الوجود المفتقر مفيدا ـ لترتب الآثار ـ لكانت الماهية مستغنية عن الوجود حال افتقارها إليه واللازم باطل لاستحالة اجتماع النقيضين فلا بد أن يكون الوجود موجودا بوجود هو نفسه وإلا لتسلسل أو انتهى إلى وجود موجود بنفسه. والأول باطل ، والثاني قاض بالمطلوب. نعم الوجود بمعنى الموجودية حال لأنه صفة اعتبارية ليست بعرض ولا سلب ، ومع هذا يتعلق به الجعل لكن لا ابتداء بل بضم حصة من الوجود الموجود إلى الماهية فيترتب على ذلك اتصاف الماهية بالموجودية وظاهر أنه لا يلزم من عدم تعلق القدرة بالوجود بمعنى الموجودية ابتداء أن لا تتعلق به بوجه آخر ، وإذا تبين أن الماهيات مجعولة في وجودها فلا بد أن يكون وجود كل شيء عين حقيقته ، بمعنى أن ما صدق عليه حقيقة الشيء من الأمور الخارجية

__________________

(١) والإمام الغزالي لا يقول باستعمال المشترك في معنييه واستدل في قواعد العقائد بالآية على عموم علمه تعالى ا ه منه.

١٨١

هو بعينه ما صدق عليه وجوده ، وليس لهما هويتان متمايزتان في الخارج كالسواد والجسم إذ الوجود إن قام بالماهية معدومة لزم التناقض ، وموجودة لزم وجودان مع الدور أو التسلسل ، والقول بأن الوجود ينضم إلى الماهية من حيث هي لا تحقيق فيه ، إذ تحقق في محله أن الماهية قبل عروض الوجود متصفة في نفس الأمر بالعدم قطعا لاستحالة خلوها عن النقيضين فيه ، غاية الأمر أنا إذا لم نعتبر معها العدم لا يمكن أن نحكم عليها بأنها معدومة ، وعدم اعتبارنا العدم معها حين عروض الوجود لا يجعلها منفكة عنه في نفس الأمر وإنما يجعلها منفكة عنه باعتبارنا وضم الوجود أمر يحصل لها باعتبار نفس الأمر لا من حيث اعتبارنا ، فخلوها عن العدم باعتبارنا لا يصحح اتصافها بالوجود من حيث هي هي في نفس الأمر سالما عن المحذور فإذا ليس هناك هويتان تقوم إحداهما بالأخرى بل عين الشخص في الخارج عين تعين الماهية فيه وهو عين الماهية فيه أيضا إذ ليس التعين أمرا وجوديا مغايرا بالذات للشخص منضما للماهية في الخارج ممتازا عنهما فيه مركبا منها ومن الفرد بل لا وجود في الخارج إلا للأشخاص ، وهي عين تعيينات الماهية وعين الماهية في الخارج لاتحادهما فيه ، وعلى هذا فلا شك في مقدورية الممكن إذ جعله بجعل حصته من الوجود المطلق الموجود في الخارج مقترنة بأعراض وهيئات يقتضيها استعداد حصته من الماهية النوعية فيكون شخصا ، وإيجاد الشخص من الماهية ـ على الوجه المذكور ـ عين إيجاد الماهية لأنهما متحدان في الخارج جعلا ووجودا متمايزان في الذهن فقط ، وهذا تحقيق قولهم : المجعول هو الوجود الخاص ، ولا يستعد معدوم لعروضه إلا إذا كان له ثبوت في نفس الأمر إذ ما لا ثبوت له ـ وهو المنفي ـ لا اقتضاء فيه لعروض الوجود بوجه ، وإلا لكان المحال ممكنا واللازم باطل ، فالثبوت الأزلي لماهية الممكن هو المصحح لعروض الإمكان المصحح للمقدورية لا أنه المانع كما توهموه ، هذا والبحث طويل والمطلب جليل ، وقد أشبعنا الكلام عليه ـ في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية ـ على وجه رددنا فيه كلام المعترضين المخالفين لما تبعنا فيه ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ، وهذه نبذة يسيرة تنفعك في تفسير الآية الكريمة فاحفظها فلا أظنك تجدها في تفسير ، وحيث كان الشيء عاما لغة واصطلاحا عند أهل الله تعالى ، وإن ذهب إليه المعتزلة أيضا فلا بد في مثل ما نحن فيه من تخصيصه بدليل العقل بالممكن. والقدرة عند الأشاعرة صفة ذاتية ذات إضافة تقتضي التمكن من الإيجاد والإعدام والإبقاء لا نفس التمكن لأنه أمر اعتباري ولا نفي العجز عنه تعالى لأنه من الصفات السلبية ، ولعل من اختار ذلك اختاره تقليلا للصفات الذاتية ، أو نفيا لها «والقادر» هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، ولكون المشيئة عندنا صفة مرجحة لأحد طرفي المقدور ، وعند الحكماء ـ العناية الأزلية ـ ساغ لنا أن نعرفه بما ذكر دونهم خلافا لمن وهم فيه ـ والقدير ـ هو الفعال لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة ، وقلما يوصف به غيره تعالى ، والمقتدر إن استعمل فيه ـ تعالى ـ فمعناه «القدير» أو في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة ، واشتقاق القدرة من القدر بمعنى التحديد والتعيين ، وفي الآية دليل على أن الممكن الحادث حال بقائه مقدور لأنه شيء وكل شيء مقدور له تعالى ، ومعنى كونه مقدورا أن الفاعل إن شاء أعدمه وإن شاء لم يعدمه واحتياج الممكن حال بقائه إلى المؤثر مما أجمع عليه من قال : إن علة الحاجة هي الإمكان ضرورة أن الإمكان لازم له حال البقاء وأما من قال : إن علة الحاجة الحدوث وحده أو مع الإمكان قال باستغنائه إذ لا حدوث حينئذ وتمسك في ذلك ببقاء البناء بعد فناء البناء ، ولما رأى بعضهم شناعة ذلك قالوا : إن الجواهر لا تخلو عن الأعراض وهي لا تبقى زمانين فلا يتصور الاستغناء عن القادر سبحانه بحال ، وهذا مما ذهب إليه الأشعري ـ ولما فيه من مكابرة الحس ظاهرا ـ أنكره أهل الظاهر ، نعم يسلمه العارفون من أهل الشهود ـ وناهيك بهم ـ حتى إنهم زادوا على ذلك فقالوا : إن الجواهر لا تبقى زمانين أيضا والناس في لبس من خلق جديد ، وأنا أسلم ما قالوا وأفوض أمري إلى الله الذي لا يتقيد بشأن وقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان ، ثم المراد من هذا التمثيل تشبيه حال المنافقين في الشدة

١٨٢

ولباس إيمانهم المبطن بالكفر المطرز بالخداع حذر القتل بحال ذوي مطر شديد فيه ما فيه يرقعون خروق آذانهم بأصابعهم حذر الهلاك إلى آخر ما علم من أوصافهم ، ووجه الشبه وجدان ما ينفع ظاهره وفي باطنه بلاء عظيم ، وقيل : شبه سبحانه المنافقين بأصحاب الصيب ، وإيمانهم المشوب بصيب فيه ما تلى من حيث إنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد كذا عاد نفعه ضرا ، ونفاقهم حذرا عن النكاية يجعل الأصابع في الآذان مما دها حذر الموت من حيث إنه لا يرد من القدر شيئا وتحيرهم لشدة ما عني وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن يخطف أبصارهم فحطوا يسيرا ثم إذا خفي بقوا متقيدين لا حراك لهم ، وقيل : جعل الإسلام ـ الذي هو سبب المنافع في الدارين ـ كالصيب الذي هو سبب المنفعة وما في الإسلام من الشدائد والحدود بمنزلة الظلمات والرعد وما فيه من الغنيمة والمنافع بمنزلة البرق فهم قد جعلوا أصابعهم في آذانهم من سماع شدائده وإذا لمع لهم برق غنيمة مشوا فيه (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) بالشدائد (قامُوا) متحيرين ، وقيل : غير ذلك ، وما تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل غير خفي عليك إذا لمعت بوارق العناية لديك «ومن البطون» تشبيه من ذكر في التشبيه الأول بذوي صيب فيكون قوله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ) إلخ إشارة إلى أنهم كلما وجدوا من طاعتهم حلاوة وعرضا عاجلا (مَشَوْا فِيهِ) وإذا حبس عليهم طريق الكرامات تركوا الطاعات ، وقال الحسين : إذا أضاء له مرادهم من الدنيا في الدين أكثروا من تحصيله (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) متحيرين.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥) إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢٨)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) لما بين سبحانه فرق المكلفين وقسمهم إلى مؤمنين وكفار ومذبذبين ، وقال في الطائفة الأولى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) وفي الثانية (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) وفي الثالثة (يُخادِعُونَ اللهَ) وشرح ما ترجع إليه

١٨٣

أحوالهم دنيا وأخرى فقال سبحانه في الأولى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٧] وفي الثانية (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ١٠] (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [البقرة : ٧] وفي الثالثة (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [البقرة : ١٠] (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة : ١٠] أقبل عز شأنه عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزا لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقلوبهم نحو التلقي وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذيذ المخاطبة ويكفي للنكتة الوجود في البعض ، و «يا» حرف لا اسم فعل على الصحيح وضع لنداء البعيد ، وقيل : لمطلق النداء أو مشتركة بين أقسامه ، وعلى الأول ينادي بها القريب لتنزيله منزلة غيره إما لعلو مرتبة المنادي أو المنادى ، وقد ينزل غفلة السامع وسوء فهمه منزلة بعده ، وقد يكون ذلك للاعتناء بأمر المدعو له والحث عليه لأن نداء البعيد وتكليفه الحضور لأمر يقتضي الاعتناء والحث ، فاستعمل في لازم معناه على أنه مجاز مرسل أو استعارة تبعية في الحرف أو مكنية وتخييلية ـ وهو مع المنادى المنصوب لفظا أو تقديرا به لنيابته عن نحو ناديت الإنشائي أو بناديت اللازم الإضمار لظهور معناه مع قصد الإنشاء ـ كلام يحسن السكوت عليه كما يحسن في نحو «لا ، ونعم» و ـ أي ـ لها معان ـ شهيرة والواقعة في النداء نكرة موضوعة لبعض من كل ، ثم تعرفت بالنداء وتوصل بها لنداء ما فيه ـ أل ـ لأن «يا» لا يدخل عليها في غير الله إلا شذوذا لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وهما لا يجتمعان إلا فيما شذّ من نحو :

فلا والله لا يلفى لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء

وأعطيت حكم المنادى وجعل المقصود بالنداء وصفا لها والتزم فيه هذه الحركة الخاصة المسماة بالضمة خلافا للمازني فإنه أجاز نصبه وليس له في ذلك سلف ولا خلف لمخالفته للمسموع وإنما التزم ذلك إشعارا بأنه المقصود بالنداء ولا ينافي هذا كون الوصف تابعا غير مقصود بالنسبة لمتبوعه لأن ذلك بحسب الوضع الأصلي حيث لم يطرأ عليه ما يجعله مقصودا في حد ذاته ككونه مفسرا لمبهم ومن هنا لم يشترطوا في هذا الوصف الاشتقاق مع أن النحويين ـ إلا النذر ـ كابن الحاجب اشترطوا ذلك في النعوت على ما بين في محله ، و «ها» التنبيهية زائدة لازمة للتأكيد والتعويض عما تستحق من المضاف إليه أو ما في حكمه من التنوين كما في (أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء : ١١٠] وإن لم يستعمل هنا مضافا أصلا وكثر النداء في الكتاب المجيد على هذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيرا ما يقتضيه المقام بتكرر الذكر والإيضاح بعد الإبهام والتأكيد بحرف التنبيه واجتماع التعريفين. هذا ما ذهب إليه الجمهور ، وقطع الأخفش ـ لضعف نظره ـ بأن «أيا» الواقعة في النداء موصولة حذف صدر صلتها وجوبا لمناسبة التخفيف للمنادى ـ وأيد بكثرة وقوعها في كلامهم ـ موصولة ، وندرة وقوعها موصوفة ، واعتذر عن عدم نصبها حينئذ مع أنها مضارعة للمضاف بأنه إذا حذف صدر صلتها كان الأغلب فيها البناء على الضم ، فحرف النداء على هذا يكون داخلا على مبني على الضم ولم يغيره ، وإن كان مضارعا للمضاف ، ويؤيد الأول عدم الاحتياج إلى الحذف وصدق تعريف النعت والموافقة مع هذا وأنها لو كانت موصولة لجاز أن توصل بجملة فعلية أو ظرفية إلى غير ذلك مما يقطع المنصف معه بأرجحية مذهب الجمهور ، نعم أورد عليه إشكال استصعبه بعض من سلف من علماء العربية وقال : إنه لا جواب له ـ وهو أن ما ادعوا كونه تابعا ـ معرب بالرفع وكل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل ولا عامل يقتضي الرفع هناك لأن متبوعه مبني لفظا ومنصوب محلا فلا وجه لرفعه ، وأقول : إن هذا من الأبحاث الواقعة بين أبي نزار وابن الشجري ، وذلك أنه وقع سؤال عن ضمة هذا التابع فكتب أبو نزار أنها ضمة بناء وليست ضمة إعراب لأن ضمة الإعراب لا بد لها من عامل يوجبها ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة ، وكتب الشيخ منصور موهوب بن أحمد أنها ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء ، ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب ، وذلك لأن الواقع عليه النداء أي

١٨٤

المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف والاسم الواقع بعد وإن كان مقصودا بالنداء إلا أنه صفة أي فمحال أن يبنى أيضا لأنه مرفوع رفعا صحيحا ، ولهذا أجاز فيه المازني النصب على الموضع كما يجوز في «يا» زيد الظريف. وعلة الرفع أنه لما استمر الضم في كل منادى معرفة أشبه ما أسند إليه الفعل فأجريت صفته على اللفظ فرفعت ، وأجاب ابن الشجري بما أجاب به الشيخ وكتب أنها ضمة إعراب لأن ضمة المنادى المفرد لها ـ باطرادها ـ منزلة بين منزلتين فليست كضمة حيث لأنها غير مطردة لعدم اطراد العلة التي أوجبتها ولا كضمة زيد في نحو ـ خرج زيد ـ لأنها حدثت بعامل لفظي ولما اطردت الضمة في نحو ـ يا زيد يا عمرو ـ وكذلك اطردت في نحو ـ يا رجل يا غلام ـ إلى ما لا يحصى نزل الاطراد فيها منزلة العامل المعنوي الواقع للمبتدإ من حيث اطردت الرفعة في كل اسم ابتدئ به مجردا عن عامل لفظي وجيء له بخبر ـ كعمرو منطلق ، وزيد ذاهب ـ إلى غير ذلك فلما استمرت ضمة المنادى في معظم الأسماء كما استمرت في الأسماء المعربة الضمة ـ الحادثة عن الابتداء ـ شبهتها العرب بضمة المبتدأ فأتبعها ضمة الإعراب في صفة المنادى في نحو «يا زيد الطويل» وجمع بينهما أيضا أن الاطراد معنى كما في الابتداء كذلك ، ومن شأن العرب أن تحمل الشيء على الشيء مع حصول أدنى مناسبة بينهما حتى أنهم قد حملوا أشياء على نقائضها ، ألا ترى أنهم أتبعوا حركة الإعراب حركة البناء في قراءة من قرأ الحمد لله ـ بضم اللام وكذلك أتبعوا حركة البناء حركة الإعراب في نحو ـ يا زيد بن عمرو ـ في قول من فتح الدال من زيد؟! انتهى ملخصا ، وقد ذكر ذلك ابن الشجري في أماليه وأكثر في الحط على ابن نزار وبين ما وقع بينه وبينه مشافهة ، ولو لا مزيد الإطالة لذكرته بعجره وبجره ، وأنت تعلم ما في ذلك كله من الوهن ، ولهذا قال بعض المحققين : إن الحق أنها حركة اتباع ومناسبة لضمة المنادى ـ ككسر الميم من غلامي ـ وحينئذ يندفع الإشكال كما لا يخفى على ذوي الكمال. بقي الكلام في اللام الداخلة على هذا النعت هل هي للتعريف أم لا؟ والذي عليه الجمهور ـ وهو المشهور ـ أنها للتعريف كما تقدمت الإشارة إليه ، ولما سئل عن ذلك أبو نزار قال : إنها هناك ليست للتعريف لأن التعريف لا يكون إلا بين اثنين في ثالث واللام فيما نحن فيه داخلة في اسم المخاطب ، ثم قال : والصحيح أنها دخلت بدلا من ـ يا ، وأي ـ وإن كان منادي إلا أن نداءه لفظي ، والمنادى على الحقيقة هو المقرون ـ بال ـ ولما قصدوا تأكيد التنبيه ـ وقدروا تكرير حرف النداء ـ كرهوا التكرير فعوضوا عن حرف النداء ثانيا ـ ها ـ وثالثا ـ أل ـ وتعقبه ابن الشجري قائلا : إن هذا قول فاسد بل اللام هناك لتعريف الحضور كالتعريف في قولك جاء هذا الرجل مثلا ولكنها لما دخلت على اسم المخاطب صار الحكم للخطاب من حيث كان قولنا يا أيها الرجل معناه يا رجل ، ولما كان الرجل هو المخاطب في المعنى غلب حكم الخطاب فاكتفى باثنين لأن أسماء الخطاب لا تفتقر في تعريفها إلى حضور ثالث ، ألا ترى أن قولك خرجت يا هذا وانطلقت وأكرمتك لا حاجة به إلى ثالث؟ وليس كل وجوه التعريف يقتضي أن يكون بين اثنين في ثالث فإن ضمير المتكلم في ـ أنا خرجت ـ معرفة إجماعا ولا يتوقف تعريفه على حضور ثالث ، وأيضا ما قص من حديث التعويض يستدعي بظاهره أن يكون أصل يا أيها الرجل مثلا «يا أي يا يا رجل» وأنهم عوضوا من ـ يا ـ الثانية ـ ها ـ ومن الثالثة الألف واللام ، وأنت تعلم أن هذا مع مخالفته لقول الجماعة خلف من القول يمجه السمع وينكره الطبع فليفهم.

و (النَّاسُ) اسم جمع على ما حققه جمع ، والجموع وأسماؤها المحلاة ـ بال ـ للعموم حيث لا عهد خارجي كما يدل عليه وقوع الاستثناء والأصل فيه الاتصال وهو يقتضي الدخول يقينا ولا يتصور إلا بالعموم ، ونحو ـ ضربت زيدا إلا رأسه وصمت رمضان إلا عشره الأخير ـ عام تأويلا ، وكذا التأكيد بما يفيد العموم إذ لو لم يكن هناك عموم كان التأكيد تأسيسا والاتفاق على خلافه ، وشيوع استدلال الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالعموم كما في حديث

١٨٥

السقيفة وهم أئمة الهدى. ثم هذا الخطاب في نحو (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يسمى بالخطاب الشفاهي عند الأصوليين قالوا : وليس عاما لمن بعد الموجودين في زمن الوحي أو لمن بعد الحاضرين مهابط الوحي ، والأول هو الوجه وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر من نص أو قياس أو إجماع ، وأما بمجرد الصيغة فلا ، وقالت الحنابلة : بل هو عام لمن بعدهم إلى يوم القيامة ، واستدل الأولون بأنا نعلم أنه لا يقال للمعدومين نحو (يا أَيُّهَا النَّاسُ) قال العضد : وإنكاره مكابرة وبأنه امتنع خطاب الصبي والمجنون بنحوه وإذا لم نوجهه نحوهم مع وجودهم لقصورهم عن الخطاب فالمعدوم أجدر أن يمنع لأن تناوله أبعد ، واستدل الآخرون بأنه لو لم يكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبا به لمن بعدهم لم يكن مرسلا إليهم واللازم منتف وبأنه لم يزل العلماء يحتجون على أهل الأعصار ممن بعد الصحابة بمثل ذلك ، وهو إجماع على العموم لهم.

وأجيب : أما عن الأول فبأن الرسالة إنما تستدعي التبليغ في الجملة وهو لا يتوقف على المشافهة بل يكفي فيه حصوله للبعض شفاها وللبعض بنصب الدلائل والأمارات على أن حكمهم حكم الذين شافههم ، وأما عن الثاني فبأنه لا يتعين أن يكون ذلك لتناوله لهم بل قد يكون لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر قاله غير واحد.

وفي شرح العلامة الثاني للشرح العضدي أن القول بعموم الشفاهي وإن نسب إلى الحنابلة ليس ببعيد. وقال بعض أجلّة المحققين : إنه المشهور حتى قالوا إن الحق أن العموم معلوم بالضرورة من الدين المحمدي وهو الأقرب ، وقول العضد : إن إنكاره مكابرة حق لو كان الخطاب للمعدومين خاصة ، أما إذا كان للموجودين والمعدومين على طريق التغليب فلا ، ومثله فصيح شائع وكل ما استدل به على خلافه ضعيف انتهى. وإلى العموم ذهب كثير من الشافعية على أنه عندهم عام بحاق لفظه ومنطوقه من غير احتياج إلى دليل آخر ، وقد قيل : إنه من قبيل الخطاب العام الذي أجري على غير ظاهره كما في قوله :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

هذا وعلى كل حال ما روي عن ابن مسعود وعلقمة من أن كل شيء ـ نزل فيه «يا أيها الناس» مكي و «يا أيها الذين آمنوا» مدني إن صح ولم يؤول ـ لا يوجب تخصيص هذا العام بوجه بالكفار بل هم أيضا داخلون فيه ومأمورون بأداء العبادة كالاعتقاد ، والأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به وكون الإيمان أصل العبادات ، ولو وجب بوجوبها انقلب الأصل تبعا مردود بأن الأصالة بحسب الصحة لا تنافي التبعية في الوجوب على أنه واجب استقلالا أيضا ، والعجب كيف خفي على مشايخ سمرقند؟! وهذا ما ذهب إليه العراقيون والشافعية ، ويؤيده ظواهر الآيات كقوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦] وقوله سبحانه : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر : ٤٢ ، ٤٤] وذهب البخاريون إلى أنهم مكلفون في حق الاعتقاد فقط ، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم ينص ظاهرا على شيء في المسألة لكن في كلام صاحبه الثاني ما يدل عليها ، ولعل ذلك من الإمام لأنه لا ثمرة للخلاف في الدنيا للاتفاق على أنهم ما داموا كفارا يمتنع منهم الإقدام عليها ولا يؤمرون بها وإذا أسلموا لم يجب قضاؤها عليهم ، وإنما ثمرته في الآخرة وهو أنهم يعذبون على تركها كما يعذبون على ترك الإيمان عند من قال بوجوبها عليهم ، وعلى ترك الإيمان فقط عند من لم يقل ، وهذا في غير العقوبات والمعاملات ، أما هي فمتفق على خطابهم بها ، والأمر بالعبادة هنا للطوائف الثلاث باعتبار أن المراد بها الشامل لإيجاد أصلها والزيادة والثبات ـ فاعبدوا ـ يدل على طلب في الحال لعبادة مستقلة وهي من الكفار ابتداء عبادة ومن بعض المؤمنين زيادة ومن آخرين مواظبة ، وليس الابتداء والزيادة والمواظبة داخلا في المفهوم وضعا فلا محذور في شيء أصلا خلافا لمن توهمه فتكلف في

١٨٦

دفعه وذكر ـ سبحانه ـ الرب ليشير إلى أن الموجب القريب للعبادة هي نعمة التربية ، وإن كانت عبادة الكاملين لذاته تعالى من غير واسطة أصلا سوى أنه هو هو فسبحانه من إله ما أعظمه ومن رب ما أكرمه (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الموصول صفة مادحة للرب ، وفيها أيضا تعليل العبادة أو الربوبية على ما قيل ، فإن كان الخطاب في ربكم شاملا للفرق الثلاث فذاك وإن خص بالمشركين وأريد بالرب ما تعورف بينهم من إطلاقه على غيره تعالى احتمل أن تكون مقيدة إن حملت الإضافة على الجنس وموضحة إن حملت على العهد ، ولا يبعد على هذا أن تكون مادحة لأن المطلق يتبادر منه رب الأرباب إلا أن جعلها للتقييد والتوضيح أظهر بناء على ما كانوا فيه وتعريضا بما كانوا عليه ولأنه الأصل فلا يترك إلا بدليل ، والخلق الاختراع بلا مثال ويكون بمعنى التقدير وعلى الأول لا يتصف به سواه سبحانه ، وعلى الثاني قد يتصف به غيره ومنه (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) [المائدة : ١١٠] وقول زهير :

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفري

ومن العجب أن أبا عبد الله البصري ـ أستاذ القاضي عبد الجبار ـ قال : إطلاق الخالق عليه تعالى محال لأن التقدير يستدعي الفكر والحسبان وهي مسألة خلافية بينه وبين الله تعالى القائل : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) [الحشر : ٢٤] وبقول الله تعالى أقول ، والموصول الثاني عطف على المنصوب في (خَلَقَكُمْ) و ـ قبل ـ ظرف زمان بكثرة ومكان بقلة ويتجوز بها عن التقدم بالشرف والرتبة ، والخطاب إن شمل المؤمنين وغيرهم فالمراد ـ بالذين قبلهم ـ من تقدمهم في الوجود ومن هو موجود وهو أعلى منزلة منهم وفي هذا تذكير لكمال جلال الله تعالى وربوبيته وفيه من تأكيد أمر العبادة ما لا يخفى ، وقدم سبحانه التنبيه على ـ خلقهم ـ وإن كان متأخرا بالزمان لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولا على أنفسهم آكد وأهم ، وأتى ـ بالخلق ـ صلة والصلات لا بد من كونها معلومة الانتساب عند المخاطب ، ولذا يعرف الموصول عنده بما فيها من العهد ، واشترطت خبريتها إشارة إلى أنه ليس في المخاطبين من ينكر كون الخالق هو الله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ) [الزخرف : ٨٧] أو (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨] وانفهام ذلك من الوصف ـ بناء على ما قالوا ـ الأخبار بعد العلم بها أوصاف الأوصاف قبل العلم بها أخبار مما قاله بعض المحققين وإن كان هناك من لا يعلم أن الله تعالى خالقه وخالق من قبله احتيج إلى ادعاء التغليب أو تنزيل غير العالم منزلة العالم لوضوح البراهين فتخرج الجملة مخرج المعلوم على خلاف مقتضى الظاهر ، وقرأ ابن السميقع ـ وخلق من قبلكم ـ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ـ والذين من قبلكم ـ بفتح الميم ، واستشكل لتوالي موصولين والصلة واحدة وخرجت على جعل ـ من ـ تأكيدا للذين فلا يحتاج إلى صلة نحو قوله :

من النفر اللائي الذين إذا هم

تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا

واعترض بأن الحرف لا يؤكد بدون إعادة ما اتصل به فالموصول أولى بذلك إذ يكاد أن يكون تأكيده كتأكيد بعض الاسم ـ فمن ـ حينئذ موصولة أو موصوفة وهي خبر مبتدأ مقدر وما بعدها صلة أو صفة وهي مع المقدر صلة الموصول الأول ويكون على أحد الاحتمالين نظير. فقلت وأنكرت الوجوه هم هم. وتخريج البيت على نحو هذا ، وقيل : (مِنْ) زائدة ، وقد أجاز بعض النحاة زيادة الأسماء ، والكسائي زيادة (مِنْ) الموصولة ، و ـ جعل ـ من ذلك.

وكفى بنا فضلا على من غيرنا

حب النبي محمد إيانا

١٨٧

وبعضهم استشكل القراءة المشهورة أيضا بأن ـ الذين ـ أعيان و (مِنْ قَبْلِكُمْ) ناقص ليس في الأخبار به عنها فائدة ، فكذلك الوصل به إلا على تأويل وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف لفظا أو تقديرا مع القرينة صح الإخبار والوصل به تقول نحن : في يوم طيب ، و ـ ما ـ هنا في تقدير ـ والذين ـ كانوا من زمان قبل زمانكم ، وقدر أبو البقاء ـ والذين خلقهم ـ من قبل خلقكم فحذف الفعل الذي هو صلة وأقيم متعلقه مقامه فتدبر (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ـ لعل ـ في المشهورة موضوعة للترجي وهو الطمع في حصول أمر محبوب ممكن الوقوع والإشفاق وهو توقع مخوف ممكن ، والظاهر التقابل فتكون مشتركة ، وذكر الرضى أنها للترجي وهو ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله فيدخل فيه الطمع والإشفاق ، والذي يميل إليه القلب ما ذكره بعض المحققين إنها لانشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول ، إما محبوب فيسمى رجاء أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك قد يعتبر تحققه بالفعل إما من جهة المتكلم ـ وهو الشائع ـ لأن معاني الإنشاءات قائمة به ، وإما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما. ومنه (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع بالفعل من متوقع أصلا. ففي الآية الكريمة ـ إن جعلت الجملة حالا من مفعول خلقكم وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة ـ امتنع حمل ـ لعل ـ على حقيقتها لا بالنظر إلى المتكلم لاستحالة الترجي على عالم الغيب والشهادة الفاعل لما يشاء ، ولا بالنظر إلى المخاطبين لأنهم حين الخلق لم يكونوا عالمين فيكف يتصور الرجاء منهم؟! ولا يجوز جعلها حالا مقدرة لأن المقدر حال الخلق التقوى لا رجاؤها فلا بد أن يحمل على المعنى المجازي بأن يشبه طلب التقوى منهم بعد اجتماع أسبابه ودواعيه بالترجي في أن متعلق كل واحد منهما مخير بين أن يفعل وأن لا يفعل مع رجحان ما بجانب الفعل فيستعمل كلمة ـ لعل ـ الموضوع له فيه فيكون استعارة تبعية أو تشبه صورة منتزعة من حال خالقهم بالقياس إليهم بعد أن مكنهم على التقوى وتركها مع رجحانها منهم بحال المرتجى بالقياس إلى المرتجى منه القادر على المرتجى ، وتركه مع رجحان وجوده فيكون استعارة تمثيلية إلا أنه ذكر من المشبه به ما هو العمدة فيه أعني كلمة ـ لعل ـ أو تشبه ذواتهم بمن يرجى منه التقوى فيثبت له بعض لوازمه أعني الرجاء فيكون استعارة بالكناية ، وجعل المشبه إرادته تعالى في الاستعارة والتمثيل نزغة اعتزالية مؤسسة على القاعدة القائلة بجواز تخلق المراد عن إرادته تعالى شأنه وبعضهم (١) قال بالترجي هنا إلا أنه ليس من المتكلم ولا من المخاطب بل من غيرهما كما في قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) [هود : ١٢] لأنه لما ولد كل مولود على الفطرة كان بحيث إن تأمله متأمل توقع منه رجاء أن يكون متقيا وليس بالبعيد ، وإن جعلت حالا من فاعل (خَلَقَكُمْ) امتنعت الحقيقة أيضا وتعينت بعض الوجوه ، وإن جعلت حالا من ضمير (اعْبُدُوا) جاز إبقاء الترجي على حقيقته مصروفا إلى المخاطبين ـ أي راجين التقوى ـ والمراد بها حينئذ منتهى درجات السالكين وهو طرح الهوى ونبذ السوي والفوز بالمحبوب الأعلى وفي ذلك غاية المبتغي والعروج فوق سدرة المنتهى. وقد شاع ذلك عند الأقصى والأدنى وبذلك يصح الترغيب ويندفع ما قيل إن اللائق بالبلاغة القرآنية أن يعتبر من أول الأمر غاية عبادتهم وما هو لذة لهم ـ أعني الثواب ـ لا ما يشق عليهم وهو التقوى وإن كان مفضيا إليه ووجه الدفع ظاهر ، وما قاله المولى التفتازاني ـ من أن تقييد العبادة بترجي التقوى ليس له كثير معنى إنما المناسب تقييدها بالتقوى أو اقترانها برجاء ثوابها ـ يدفعه أن في الترجي تنبيها على أن العابد ينبغي أن لا يفتر في

__________________

(١) أي ابن عطية ا ه منه.

١٨٨

عبادته ويكون ذا خوف ورجاء ، نعم قالوا : الحال قيد لعاملها وهو هنا الأمر ، فإن قلنا : إنه أعم من الوجوب فلا إشكال ، وإن قلنا : إنه حقيقة في الوجوب اقتضى وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها ولعله ليس بواجب والقول بأنه يقتضي وجوب المقيد دون القيد فيه كلام في الأصول لا يخفى على ذويه. وما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه التوسط بين العصا ولحائها ، فإن الذي جعل لكم الأرض موصول بربكم صفة له ـ يجاب عنه بأن القطع يهون الفصل وإن كان هناك اتصال معنوي ، وإن جعل (الَّذِي جَعَلَ) مبتدأ ـ خبره لا تجعلوا ـ كاد يزول الإشكال ويرتفع المقال ، ومع هذا لا شك في مرجوحية هذا الوجه وإن أشعر كلام مولانا البيضاوي بأرجحيته ، ثم لا يبعد أن يقال : إن المعنى في الآية على التعليل إما لأن ـ لعل ـ تجيء بمعنى كي كما ذهب إليه ابن الأنباري وغيره (٢) واستشهدوا بقوله :

فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا

نكف ووثقتم (٣) لنا كل موثق

أو لأنها تجيء للإطماع فيكنى به بقرينة المقام عن تحقق ما بعدها على عادة الكبراء ، ثم يتجوز به عن كل متحقق كتحقق العلة سواء كان معه أطماع أم لا على ما قيل. ولا يرد أن تعليل الخلق وهو فعله تعالى مما لم يجوزه أكثر الأشاعرة حيث منعوا تعليل أفعاله سبحانه بالأغراض لئلا يلزم استكماله ـ عز شأنه ـ بالغير وهو محال لأنا نقول الحق الذي لا محيص عنه أن أفعاله تعالى معللة بمصالح العباد مع أنه سبحانه لا يجب عليه الأصلح ، ومن أنكر تعليل بعض الأفعال ـ لا سيما الأحكام الشرعية كالحدود ـ فقد كاد أن ينكر النبوة كما قاله مولانا صدر الشريعة ، والوقوف على ذلك في كل محل مما لا يلزم ، على أن بعضهم يجعل الخلاف في المسألة لفظيا لأن العلة إن فسرت بما يتوقف عليه ويستكمل به الفاعل امتنع ذلك في حقه سبحانه ، وإن فسرت بالحكمة المقتضية للفعل ظاهرا مع الغنى الذاتي فلا شبهة في وقوعها ولا ينكر ذلك إلا جهول أو معاند ، وإنما لم يقل سبحانه في النظم تعبدون لأجل ـ اعبدوا ـ أو اتقوا لأجل تتقون ليتجاوب طرفاه مع اشتماله على صنعة بديعة من رد العجز على الصدر لأن التقوى قصارى أمر العابد فيكون الكلام أبعث على العبادة وأشد إلزاما كذا قيل ، وفي القلب منه شيء ، وسبب حذف مفعول (تَتَّقُونَ) مما لا يخفى ، وابن عباس رضي الله تعالى عنه يقدره ـ الشرك ـ والضحاك ـ النار ـ وأظنك لا تقدر شيئا ، ولما أمر سبحانه المكلفين بعبادة الرب الواجد لهم ـ ووصفه بما وصفه ، ومعلوم أن الصفة آلة لتمييز الموصوف عما عداه وأن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية ـ أشعرت الآية أن طريق معرفته تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه العبادة النظر في صنعه ، ولما كان التربية والخلق اللذان نيط بهما العبادة سابقين على طلبها فهم أن العبد لا يستحق ثوابا حيث أنعم عليه قبل العبادة بما لا يحصى مما لا تفي الطاقة البشرية بشكره ولا تقاوم عبادته عشر عشره ، واستدل بالآية من زعم أن التكليف بالمحال واقع حيث أمر سبحانه بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون ، وقد تقدم الكلام في ذلك فارجع إليه (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) الموصول إما منصوب على أنه نعت ـ ربكم ـ أو بدل منه أو مقطوع بتقدير أخص أو أمدح وكونه مفعول تتقون ـ كما قاله أبو البقاء ـ إعراب غث ينزه القرآن عنه ، وكونه نعت الأول يرد عليه أن النعت لا ينعت عند الجمهور إلا في مثل يا أيها الفارس ذو الجمة ، وفيه أيضا غير مجمع عليه ، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره جملة (فَلا تَجْعَلُوا) والفاء قد تدخل في خبر الموصول بالماضي كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ) [البروج : ١٠] إلى

__________________

(٢) قطرب وابن كيسان ا ه منه.

(٣) فإن قوله : وثقتم إلخ يقتضي عدم التردد في الوقوع كما في الترجي وبهذا يتعين أنها بمعنى كي فليفهم ا ه منه.

١٨٩

قوله تعالى : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) [البروج : ١٠] والاسم الظاهر يقوم مقام الرابط عند الأخفش والإنشاء يقع خبرا بالتأويل المشهور ، ومع هذا كله الأولى ترك ما أوجبه وأبرد من بخ قول من زعم أنه مبتدأ خبره (رِزْقاً لَكُمْ) بتقدير يرزق ، و (جَعَلَ) بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه ، وقيل : بمعنى أوجدوا انتصاب الثاني على الحالية أي أوجد الأرض حالة كونها مفترشة لكم فلا تحتاجون للسعي في جعلها كذلك ، ومعنى تصييرها (فِراشاً) أي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها أنه سبحانه جعل بعضها بارزا عن الماء مع أن مقتضى طبعها أن يكون الماء محيطا بأعلاها لثقلها وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بلا مزيد كلفة ، فالتصيير باعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنه نقلت منه وإن صح ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن الأرض خلقت قبل خلق السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت ـ فأمر التصيير حينئذ ظاهر إلا أن كل الناس غير عالمين به ، والصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب والذهاب إلى الطوفان ، واعتبار التصيير بالقياس إليه من اضطراب أمواج الجهل ولا ينافي كرويتها كونها (فِراشاً) لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه كما لا يخفى. وعبر سبحانه هنا ـ يجعل ـ وفيما تقدم ـ بخلق ـ لاختلاف المقام أو تفننا في التعبير كما في قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الإنعام : ١] وتقديم المفعول الغير الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لا سيما بعد الإشعار بمنفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن ، أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف ، واختار سبحانه لفظ ـ السماء ـ على السماوات موافقة للفظ ـ الأرض ـ وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع ، ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السماوات ، وكل طبقة وجهة منها ، والبناء في الأصل مصدر أطلق على المبنى بيتا كان (١) أو قبة أو خباء أو طرافا ، ومنه بنى بأهله أو على أهله خلافا للحريري لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا خباء جديدا ليدخلوا على العروس فيه ، والمراد بكون (السَّماءَ بِناءً) أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض ، ويقال لسقف البيت بناء ، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقدم سبحانه حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر ، أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى ، أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ـ كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات ـ أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء ، وفي ذلك خلاف مشهور ، وقرأ يزيد الشامي : «بساطا» ، وطلحة «مهادا» وهي نظائر ، وأدغم أبو عمرو لام ـ جعل ـ في لام ـ لكم ـ (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) عطف على ـ جعل ـ و (مِنَ) الأولى للابتداء متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وقدم عليه للتشويق على الأول مع ما فيه من مزيد الانتظام مع ما بعد ، أو لأن السماء أصله ومبدؤه ولتتأتى الحالية على الثاني إذ لو قدم المفعول ـ وهو نكرة ـ صار الظرف صفة ، وذكر في البحر أن (مِنَ) على هذا للتبعيض أي من مياه السماء وهو كما ترى. والمراد من السماء جهة العلو أو السحاب وإرادة الفلك المخصوص بناء ـ على الظواهر ـ غير بعيدة نظرا إلى قدرة الملك القادر جل جلاله وسمت عن مدارك العقل أفعاله ، إلا أن الشائع أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخارا رطبا ومن البراري يابسا ، فإذا صعد البخار إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويا اجتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف ، فالمجتمع سحاب والمتقاطر مطر ، وإن كان قويا كان ثلجا وبردا ، وقد لا ينعقد ويسمى ضبابا.

__________________

(١) في الكشف الأول من الشعر ، والثاني من لبن والثالث من وبر أو صوف ، والرابع من آدم ، وفي الثاني نظر وإن ذكره ابن السكيت فليراجع ا ه منه.

١٩٠

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

وعلى هذا يراد بالنزول من السماء نشوؤه من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهي مبدأ مجازي له ، على أن من انجاب عن عين بصيرته سحاب الجهل رأى أن كل ما في هذا العالم السفلي نازل من عرش الإرادة وسماء القدرة حسبما تقتضيه الحكمة بواسطة أو بغير واسطة كما يشير إليه قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر : ٢١] بل من علم أن الله سبحانه في السماء ـ على المعنى الذي أراده وبالوصف الذي يليق به مع التنزيه اللائق بجلال ذاته تعالى ـ صح له أن يقول : إن ما في العالمين من تلك السماء ، ونسبة نزوله إلى غيرها أحيانا لاعتبارات ظاهرة وهي راجعة إليه في الآخرة ـ والماء ـ معروف ، وعرفه بعضهم بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة عن واو وهمزته بدل من هاء كما يدل عليه مويه ومياه وأمواه وتنوينه للبعضية ، وخصه سبحانه بالنزول من السماء في كثير من الآيات تنويها بشأنه لكثرة منفعته ومزيد بركته ، و (مِنَ) الثانية إما للتبعيض إذ كم من ثمرة لم تخرج بعد ـ فرزقا ـ حينئذ بالمعنى المصدري مفعول له ـ لأخرج ـ و (لَكُمُ) ظرف لغو مفعول به لرزق أي أخرج شيئا (مِنَ الثَّمَراتِ) أي بعضها لأجل أنه رزقكم ، وجوّز أن يكون بعض الثمرات مفعول أخرج ، ورزقا بمعنى مرزوقا حالا من المفعول أو نصبا على المصدر لأخرج ، وإما للتبيين ـ فرزق ـ بمعنى مرزوق مفعول لأخرج و (لَكُمُ) صفته ، وقد كان (مِنَ الثَّمَراتِ) صفته أيضا إلا أنه لما قدم صار حالا على القاعدة في أمثاله ، وفي تقديم البيان على المبين خلاف ، فجوزه الزمخشري والكثيرون ، ومنعه صاحب الدر المصون وغيره ، واحتمال جعلها ابتدائية ـ بتقدير من ذكر الثمرات أو تفسير الثمرات بالبذر ـ تعسف لا ثمرة فيه ، وأل في (الثَّمَراتِ) إما للجنس أو للاستغراق وجعلها له ، و (مِنَ) زائدة ليس بشيء لأن زيادة (مِنَ) في الإيجاب ـ وقبل ـ معرفة مما لم يقل به إلا الأخفش ، ويلزم من ذلك أيضا أن يكون جميع (الثَّمَراتِ) التي أخرجت رزقا لنا ، وكم شجرة أثمرت ما لا يمكن أن يكون رزقا (١) وأتى بجمع القلة مع أن الموضع موضع الكثرة فكان المناسب لذلك من الثمار للإيماء إلى أن ما برز في رياض الوجود بفيض مياه الجود كالقليل بل أقل قليل بالنسبة لثمار الجنة ، ولما ادخر في ممالك الغيب أو للإشارة إلى أن أجناسها من حيث إن بعضها يؤكل كله وبعضها ظاهره فقط وبعضها باطنة فقط ، المشير ذلك إلى ما يشير قليلة لم تبلغ حد الكثرة ، وما ذكر الإمام البيضاوي وغيره من أنه ساغ هذا الجمع هنا لأنه أراد بالثمرات جمع ثمرة أريد بها الكثرة كالثمار مثلها في قولك : أدركت ثمرة بستانك ، وليست التاء للوحدة الحقيقية بل للوحدة الاعتبارية ، ويؤيده قراءة ابن السميقع من الثمرة أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) [الدخان : ٢٥] و (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة لا يخلو صفاؤه عن كدر كما يسفر عنه كلام الشهاب ، وإذا قيل : بأن جمع السلامة المؤنث والمذكر موضوع للكثرة أو مشترك ـ والمقام يخصصه بها ـ اندفع السؤال وارتفع المقال إلا أن ذلك لم يذهب إليه من الناس إلا قليل ، والباء من (بِهِ) للسببية ، والمشهور عند الأشاعرة أنها سببية عادية في أمثال هذا الموضع فلا تأثير للماء عندهم أصلا في الإخراج بل ولا في غيره وإنما المؤثر هو الله تعالى عند الأسباب لأنها لحديث الاستكمال بالغير ، قالوا : ومن اعتقد أن الله تعالى أودع قوة الري في الماء مثلا فهو

__________________

(١) وقد نص على إفادة الجمع السالم المذكر والمؤنث القلة بن الدباح فقال :

بأفعل وبأفعال وأفعلة

وفعلة يعرف الأدنى من العدد

وسالم الجمع أيضا داخل معها

وذلك الحكم فاحفظها ولا تزد

ا ه منه.

١٩١

فاسق وفي كفره قولان ، وجمع على كفره كمن قال : إنه مؤثر بنفسه فيجب عندهم أن يعتقد المكلف أن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك بوجه من الوجوه سوى الموافقة الصورية ، والفقير لا أقول بذلك ولكني أقول : إن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا ، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه ، فإنكار الأسباب والقوى جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء ، فقد جعل الله ـ تعالى شأنه ـ مصالح العباد في معاشهم ومعادهم ، والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه ، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب ، ولو تتبعنا ما يفيد ذلك من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة ، ويا لله تعالى العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببا لهذا ، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة ، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد وأي شرك يترتب عليه؟! نستغفر الله تعالى مما يقولون : فالله عزوجل يفعل بالأسباب التي اقتضتها الحكمة مع غناه عنها كما صح أن يفعل عندها لا بها ، وحديث الاستكمال يرده أن الاستكمال إنما يلزم لو توقف الفعل على ذلك السبب حقيقة واللازم باطل لقوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] فالأسباب مؤثرة بقوى أودعها الله تعالى فيها ولكن بإذنه وإذا لم يأذن وحال بينها وبين التأثير لم تؤثر كما يرشدك إلى ذلك قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ١٠٢] ولو لم يكن في هذه الأسباب قوى أودعها العزيز الحكيم لما قال سبحانه : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩] إذ ما الفائدة في القول وهي ليس فيها قوة الإحراق وإنما الإحراق منه تعالى بلا واسطة ولو كان الأمر كما ذكروا لكان للنار أن تقول : إلهي ما أودعتني شيئا ولا منحتني قوة وما أنا إلا كيد شلّاء صحبتها يد صحيحة تعمل الأعمال وتصول وتجول في ميدان الأفعال أفيقال لليد الشلاء لا تفعلي وفي ذلك الميدان لا تنزلي ولا يقال ذلك لليد الفعالة وهي الحرية بتلك المقالة ، ولا أظن الأشاعرة يستطيعون لذلك جوابا ولا أراهم يبدون فيه خطابا ، وهذا الذي ذكرناه هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أهل الله تعالى بالقبول ، ولا يوقعنك في شك منه نسبته للمعتزلة فإنهم يقولون أيضا لا إله إلا الله أفتشكّ فيها لأنهم قالوها معاذ الله تعالى من التعصب فالحكمة ضالة المؤمن والحق أحق بالاتباع والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) نهي معطوف على ـ اعبدوا ـ مترتب عليه فكأنه قيل : إذا وجب عليكم عبادة ربكم فلا تجعلوا لله ندا وأفردوه بالعبادة إذ لا رب لكم سواه وإيقاع الاسم الجليل موقع الضمير لتعيين المعبود بالذات بعد تعيينه بالصفات وتعليل الحكم بوصف الألوهية التي عليها يدور أمر الوحدانية واستحالة الشركة والإيذان باستتباعها لسائر الصفات ؛ وقيل : لفظ الرب مستعمل في المفهوم الكلي. والله علم للجزئي الحقيقي الواجب الوجود تعالى شأنه فلا يكون من وضع المظهر موضع المضمر ، وحينئذ يظهر الفرق بين هذه الآية الكريمة ـ حيث علق العبادة بصفة الربوبية فالمناسب الفاء ـ وبين قوله تعالى : (اعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [النساء : ٣٦] حيث علق العبادة وعدم الشرك بذاته تعالى فالمناسب الواو ، فلا يرد أن المناسب على هذا الواو كما في الآية الثانية أو نفي منصوب بإضمار ـ أن ـ جواب للأمر كما قاله مولانا البيضاوي ، واعترض بأنه يأباه إن ذلك فيما يكون الأول سببا للثاني ، ولا ريب في أن العبادة لا تكون سببا للتوحيد الذي هو أصلها ومنشؤها ، وأجيب بأن عبادته تعالى أساسها التوحيد وعدم الإشراك به ، وأما عبادة الرب فليس أصلها عدم الإشراك بذاته تعالى بل من متفرعاته ، والحق أن الآية تضمنت عبادة رب موصوف بما

١٩٢

يجعله كالمشاهد من خلقه لهم ولأصولهم وإبداع الكائنات العظيمة والتفضل بإفاضة النعم الجسيمة فدلت عليه دلالة عرفتهم به ، فمحصلها اعبدوا الله تعالى الذي عرفتموه معرفة لا مرية فيها ، ولا شك في أن العبادة والمعرفة سبب لعدم الإشراك إذ من عرف الله تعالى لا يسوي به سواه ؛ فالذي سول للمعترض النظر للعبادة وقطع النظر عن المعرفة ، ويحتمل أن يكون متعلقا بلعل فينصب الفعل نصب (فَأَطَّلِعَ) على قراءة جعفر من (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) [غافر : ٣٦] إلخ على رأي (١) إلحاقا بالأشياء الستة لأنها غير موجبة لحصول ما يتضمنها فتكون كالشرط في عدم التحقق ، والقول بالإلحاق لها بليت ـ تنزيلا للمرجو منزلة المتمنى في عدم الوقوع ـ يؤول إلى هذا إن أريد بعدم الوقوع عدمه في حال الحكم لا استحالته ، والمعنى خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه فافهم ، ويحتمل أن تكون الفاء زائدة مشعرة بالسببية وجملة النهي ـ بتأويل القول ـ خبر عن الذي على جعله مبتدأ ، وقيل : الجملة متعلقة بالذي ، والفاء جزاء شرط محذوف ، والمعنى هو الذي (جَعَلَ لَكُمُ) ما ذكر من النعم المتكاثرة ، وإذا كان كذلك (فَلا تَجْعَلُوا) إلخ ، والجعل هنا بمعنى التصيير وهو كما يكون بالفعل نحو ـ صيرت الحديد سيفا ، ومنه ما تقدم على وجه ـ يكون بالقول والعقد ـ والأنداد ـ جمع ند ـ كعدل وأعدال أو نديد ـ كيتيم وأيتام ـ والند مثل الشيء الذي يضاده ويخالفه في أموره وينافره ويتباعد عنه وليس من الأضداد على الأصح ، وأصله من ند ندودا إذا نفر ، وقيل : الند المشارك في الجوهرية فقط ، والشكل المشارك في القدر والمساحة ، والشبه المشارك في الكيفية فقط ، والمساوي في الكمية فقط ، والمثل عام في جميع ذلك ، وفي تسمية ما يعبده المشركون من دون الله (أَنْداداً) والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله في ذاته تعالى وصفاته ولا تخالفه في أفعاله. وإنما عبدوها ـ لتقربهم إليه سبحانه زلفى ـ إشارة إلى استعارة تهكمية حيث استعير النظير المصادر للمناسب المقرب كما استعير التبشير للإنذار والأسد للجبان ، وإن أريد بالند النظير مطلقا لم يكن هناك تضاد وإنما هو من استعارة أحد المتشابهين للآخر ، فإن المشركين جعلوا الأصنام ـ بحسب أفعالهم وأحوالهم ـ مماثلة له تعالى في العبادة ، وهي خطة شنعاء وصفة حمقاء في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم ، ولعل الأول أولى ، وفي الإتيان بالجمع تشنيع عليهم حيث جعلوا (أَنْداداً) لمن يستحيل أن يكون له ند واحد ، ولله در موحد الفترة زيد بن عمر بن نفيل رضي الله تعالى عنه حيث يقول في ذلك :

أربّا واحدا أم ألف ربّ

أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعا

كذلك يفعل الرجل البصير

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حال من ضمير (فَلا تَجْعَلُوا) والمفعول مطروح ـ أي وحالكم أنكم من أهل العلم والمعرفة والنظر وإصابة الرأي ـ فإذا تأملتم أدنى تأمل علمتم وجود صانع يجب توحيده في ذاته وصفاته لا يليق أن يعبد سواه ، أو مقدر حسبما يقتضيه المقام ويسد مسد مفعولي العلم ، أي (تَعْلَمُونَ) أنه سبحانه لا يماثله شيء ، أو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله ، والحال على الوجه الأول للتوبيخ أو التقييد إذ العلم مناط التكليف ولا تكليف عند عدم الأهلية ، وعلى الوجه الثاني للتوبيخ لا غير لأن قيد الحكم تعليق العلم بالمفعول ، ومناط التكليف العلم فقط والتوبيخ ـ باعتبار بعض أفراد المخاطبين بإلهي بناء على عموم الخطاب حسبما مر في الأمر ـ فلا يستدعي تخصيص الخطاب بالكفرة على أنه لا بأس بالتخصيص بهم أمرا ونهيا بل قيل : إنه أولى للخلاص من التكلف وحسن الانتظام إذ لا

__________________

(١) فإنه قيل : يعطف أطلع على معنى (لعلى أبلغ) لأنه بمعنى أن أبلغ ، ويحتمل أنه عطف على الأسباب على حد. ولبس عباءة وتقر. ا ه منه.

١٩٣

محيص في ظاهر آية التحدي من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة اللئام والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي فتأمل.

وقد تضمنت هذه الآيات من بدائع الصنعة ودقائق الحكمة وظهور البراهين ما اقتضى أنه تعالى المنفرد بالإيجاد المستحق للعبادة دون غيره من الأنداد التي لا تخلق ولا ترزق وليس لها نفع ولا ضر (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ومن باب الإشارة أنه تعالى مثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض على القوابل من الفضائل العلمية والعملية المحصلة بواسطة استعمال العقل والحس ، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بإذن الفاعل المختار ، وقد يقال : إنه تعالى لما امتن عليهم بأنه سبحانه ـ خلقهم والذين من قبلهم ـ ذكر ما يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الرجل ، وهي أيضا تسمى فراشا ، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها ، وضرب الماء النازل من السماء مثلا للنطفة التي تنزل من صلب الأب وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات مثلا للولد الذي يخرج من الأم ، كل ذلك ليؤنس عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ومخرج أشجارها من بطن الأرض ، فإذا وضح ذلك لهم أفردوه بالألوهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية :

تأمل في رياض الأرض وانظر

إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات

على أهدابها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة ، وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة الله تعالى مستفادة من معرفة الرسول ، والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار ، والعطف إما على قوله تعالى : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أو على (فَلا تَجْعَلُوا) وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفى الشرك ـ بإزاء تلك الآيات والانقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه ـ أرشدهم بما يوجب هذا العلم ، ولذا لم يقل جل شأنه ـ وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا ـ غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سميعا ولو أريد ذلك لكفى ـ اعبدوا ، ولا تشركوا ـ من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية ، والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن ، وقيل لليهود : لما أن سبب النزول ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لا يشبه الوحي (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) [هود : ١١٠] وقيل : هو على نحو الخطاب في (اعْبُدُوا) وكلمة (إِنْ) إما للتوبيخ على الارتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لاشتمال المقام على ما يزيله ، أو لتغليب ـ من لا ـ قطع بارتيابهم على من سواهم ، أو لأن البعض لما كان مرتابا والبعض غير مرتاب جعل الجميع ـ كأنه لا قطع بارتيابهم ولا بعدمه ـ وجعلها بمعنى إذ كما ادعاه بعض المفسرين ـ خلاف مذهب المحققين ـ وإيراد كلمة ـ كان ـ لإبقاء معنى المضي فإنها لتمحضها للزمان لا تقلبها ـ إن ـ إلى معنى الاستقبال ـ كما ذهب إليه المبرد وموافقوه ـ والجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية ،

١٩٤

وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن ، أو تبين مثلا ولا يميل إليه الفؤاد ، وتنكير الريب للإشعار بأن حقه ـ إن كان ـ أن يكون ضعيفا قليلا لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله ، وجعله ظرفا ـ بتنزيل المعاني منزلة الأجرام واستقرارهم فيه وإحاطته بهم ـ لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته ، ومن ابتدائية صفة (رَيْبٍ) ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية ربما يوهم كون المنزل محلا للريب وحاشاه ، وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب ، وقيل : عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه. ومعنى كونهم في ـ ريب منه ـ ارتيابهم في كونه وحيا من الله تعالى شأنه ، والتضعيف في (نَزَّلْنا) للنقل وهو المرادف للهمزة ، ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب ـ أنزلنا ـ وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم فقد قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير (١) ممن يعقد عند ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالبا (٢) في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو ـ فتحت وقطعت ـ و ـ نزلنا ـ لم يكن معتديا قبل ، وأيضا التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعديا فلا ، والفعل هنا كان لازما فكون التعدي مستفادا من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير ، وأيضا لو كان نزل مفيدا للتنجيم لاحتاج قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) إلى تأويل لمنافاة العجز الصدر ، وكذا مثل (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) [الأنعام : ٣٧] و (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٥] وقد قرئ بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج بمعنى الإتيان بالشيء قليلا قليلا كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلا قليلا قالوا : ونظيره تدرج وتدخل ونحوه ـ رتبه ـ أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك ، فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازا أو اشتراكا فلا يلزم اطراده بعيد لا سيما مع خفاء القرينة ، وفي تعدي ـ نزل ـ بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه وأنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الانتهاء والوصول. وفي ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم ـ بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة ـ تنبيه على عظم قدره واختصاصه به وانقياده لأوامره ، وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى الله تعالى عليه وسلم :

لا تدعني إلا بيا عبدها

فإنه أشرف أسمائي

وقرئ ـ عبادنا ـ فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم ، ويحتمل أنه أريد به النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه ، وفيه إيذان بأن الارتياب فيه ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه ، وبعضهم (٣) جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الإنعام : ٩١] وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم وإلا لقال سبحانه ـ مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيما للمنزل أو المنزل عليه لا سيما وقد أتى ـ بنا ـ المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم

__________________

(١) الزمخشري ، والبيضاوي ، وأبو السعود ، وغيرهم ا ه منه.

(٢) قلنا ذلك لورود موتت الإبل.

(٣) هو أبو حيان ا ه منه.

١٩٥

الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام ، والفاء من (فَأْتُوا) جوابية وأمر السببية ظاهر ، والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى : (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨] وهو من الإتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان ، ويقال في الخير والشر والأعيان والأعراض ، ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي ك (لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) [التوبة : ٥٤] وأصل (فَأْتُوا) فأتيوا فأعل الإعلال المشهور ، وأتى شذوذا حذف الفاء فقيل «ت» و «توا» والتنوين في سورة للتنكير أي ائتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات ، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.

و (مِنْ مِثْلِهِ) إما أن يكون ظرفا مستقرا صفة لسورة والضمير راجع إما ـ لما ـ التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين ، والأخفش يجوز زيادتها في مثله ، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر ، وإما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضا (١) كما قيل : في مثلك لا يجهل ، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكا لطريق الكناية مع ما في لفظ (مِنْ) التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي ، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنا حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي ، وعلى الثاني يتعين أن تكون (مِنْ) للابتداء مثلها في (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) [النمل : ٣٠] ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول ، وإما أن تكون صلة (فَأْتُوا).

والشائع أن يتعين حينئذ عود الضمير للعبد لأن (مِنْ) لا تكون بيانية إذ لا مبهم ، ولكونه مستقرا أبدا لا تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعا عليه حقيقة كما في ـ أخذت من الدراهم ـ ولا معنى لاتيان البعض بل المقصد الإتيان بالبعض ، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود (مِنْ) ولأنه يلزم أن يكون (بِسُورَةٍ) ضائعا فتعين أن تكون ابتدائية ، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل ، وجعل المتكلم مبدأ عرفا ـ للإتيان بالكلام منه ـ معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للإتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة ، وأيضا المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي ، أو المادي ، أو الغائي ، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئا من ذلك ، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادا من لفظ السورة ، ومساق الكلام بمعونة المقام.

واعترض بأن معنى (مِنْ) لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨] (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) [الزخرف : ٦٠] وللمجاوزة كعذت منه ، فعلى هذا ـ لو علق (مِنْ مِثْلِهِ) ب (فَأْتُوا) وحمل (مِنْ) على البدل أو المجاوزة و ـ مثل ـ على المقحم ورجع الضمير إلى (مِمَّا نَزَّلْنا) على معنى (فَأْتُوا) بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة ـ لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز ، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن ، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض ، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه : وبمنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو ـ قرأت من أول السورة إلى آخرها ، وأعطيتك من درهم إلى دينار ـ وأيضا فالإتيان ببعض الشيء تفريقه منه ، ولا

__________________

(١) وبعضهم يقول على التبعيض المراد ائتوا بمقدار بعض ما من القرآن مماثل له في البلاغة ولا إشكال فيه ا ه منه.

١٩٦

يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه ، ويمكن أن يقال ـ وهو الذي اختاره مولانا الشهاب ـ أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه ، فمقتضى المقام أن يقال لهم : معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه ، وما ذكر يدل على هذا إذا كان من مثله صفة سورة سواء كان الضمير ـ لما ـ أو ـ للعبد ـ لأن معناه ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد ، مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضا ، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضا ـ ائتوا من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله ـ فيفيد ما ذكرنا ، ولو رجع على هذا لما كان معناه ـ ائتوا ـ من مثل هذا المنزل بسورة ، ولا شك أن (مِنْ) ليست بيانية لأنها لا تكون لغوا ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية والمبدأ ليس فاعليا بل ماديا ، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به ، فلا يخلو من أن يدعي وجوده وهو خلاف الواقع وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتض أولا ولا يليق بالتنزيل ، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له؟! والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد ، و (مِمَّا) على تقديري اللغو والاستقرار أمر ممكن ، ودائرة التأويل واسعة والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم ، والذي يدركه ذوقي ـ ولا أزكّي نفسي ـ أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى ، والبحث في هذه الآية مشهور ، وقد جرى فيه بين العضد والجاربردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل. وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد لله ، ونقلت نبذة منها في ـ الأجوبة العراقية ـ ثم أولي الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل و (مِنْ) بيانية ، أما أولا فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس : ٣٨] لأن المماثلة فيها صفة للمأتي به ، وأما ثانيا فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما وقع تبعا ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم ، وأما ثالثا فلأن أمر الجم الغفير ـ لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم ـ أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحدا يأتي بمثل ما أتى به رجل آخر ، وأما رابعا فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا ، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله تعالى عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأن الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان ، فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الافتتاح بذكر ـ ما نزلنا ـ أن يكون الكلام مسوقا له وبأن التحدي على ذلك أبلغ ، لأن المعنى اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدارس العلوم؟! وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش ، وأما إذا تحدى بسورة من أمي كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال ، هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه ، وظاهر السباق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهرا كما سنبينه بمنه تعالى ، قوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الدعاء النداء والاستعانة ، ولعل الثاني مجاز أو كناية مبنية على النداء لأن الشخص إنما ينادى ليستعان به ، ومنه (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) [الإنعام : ٤٠] والشهداء جمع شهيد أو شاهد ، والشهيد كما قال الراغب : كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد ، ولذا سموا غيره مخلفا وجاء بمعنى الحاضر ، والقائم بالشهادة ، والناصر ، والإمام أيضا. و (دُونِ) ظرف مكان لا يتصرف ويستعمل ـ بمن ـ كثيرا ـ وبالياء ـ قليلا ، وخصه في البحر بمن «دونها» ورفعه في قوله :

١٩٧

ألم تريا أني حميت حقيقتي

وباشرت حد الموت والموت «دونها»

نادر لا يقاس عليه ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو ـ كعند ـ إلا أنها تنبئ عن دنو كثير وانحطاط يسير ، ومنه دونك اسم فعل لا تدوين الكتب خلافا للبيضاوي ـ كما قيل ـ لأنه من الديوان الدفتر ومحله ، وهي فارسي معرب من قول كسرى إذ رأى سرعة الكتاب في كتابتهم وحسابهم ديوانه. وقد يقال لا بعد فيما ذكره البيضاوي وديوان مما اشتركت فيه اللغتان ، وقد استعمل في انحطاط محسوس لا في ظرف ـ كدون زيد في القامة ـ ثم استعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيها بالمراتب الحسية ـ كدون عمرو شرفا ـ ولشيوع ذلك اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ولو من دون تفاوت وانحطاط ، وهو بهذا المعنى قريب غير فكأنه أداة استثناء ، ومن الشائع دون بمعنى خسيس فيخرج عن الظرفية ويعرف بال ويقطع عن الإضافة كما في قوله :

إذا ما علا المرء رام العلا

ويقنع «بالدون» من كان دونا

وما في القاموس من أنه يقال رجل من دون ، ولا يقال دون مخالف للدراية والرواية ، وليس عندي وجه وجيه في توجيهه ، والمشهور أنه ليس لهذا فعل ، وقيل يقال : دان يدين منه واستعماله بمعنى فضلا وعليه حمل قول أبي تمام :

الود للقربى ولكن عرفه

للأبعد الأوطان «دون» الأقرب

لم يسلمه أرباب التنقير نعم قالوا : يكون بمعنى وراء ـ كأمام ـ وبمعنى فوق ونقيضا له. و (مِنْ) لابتداء الغاية متعلقة بادعوا ، ودون تستعمل بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال ، والمعنى ادعوا إلى المعارضة من يحضركم أو من ينصركم بزعمكم متجاوزين الله تعالى في الدعاء بأن لا تدعوه ، والأمر للتعجيز والإرشاد أو ادعوا من دون الله من يقيم لكم الشهادة بأن ما أتيتم به مماثلة فإنهم لا يشهدون ، ولا تدعوا الله تعالى للشهادة بأن تقولوا الله تعالى شاهد وعالم بأنه مثله فإن ذلك علامة العجز والانقطاع عن إقامة البينة والأمر حينئذ للتبكيت ـ والشهيد ـ على الأول بمعنى الحاضر ، وعلى الثاني بمعنى الناصر ، وعلى الثالث بمعنى القائم بالشهادة ، قيل : ولا يجوز أن يكون بمعنى الإمام بأن يكون المراد بالشهداء الآلهة الباطلة لأن الأمر بدعاء الأصنام لا يكون إلا تهكما ، ولو قيل : ادعوا الأصنام ولا تدعوا الله تعالى ولا تستظهروا به لانقلب الأمر من التهكم إلى الامتحان إذ لا دخل لإخراج الله تعالى عن الدعاء في التهكم ، وفيه أن أي تهكم وتحميق أقوى من أن يقال لهم استعينوا بالجماد ولا تلتفتوا نحو رب العباد؟ ولا يجوز حينئذ أن تجعل دون بمعنى القدام إذ لا معنى لأن يقال ادعوها بين يدي الله تعالى أي في القيامة للاستظهار بها في المعارضة التي في الدنيا ، وجوزوا أن تتعلق من ب «شهداءكم» وهي للابتداء أيضا ، و (دُونِ) بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال والعامل فيه معنى الفعل المستفاد من إضافة ـ الشهداء ـ أعني الاتخاذ ، والمعنى ادعوا الذين اتخذتموهم أولياء (مِنْ دُونِ اللهِ) تعالى ، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون (دُونِ) بمعنى أمام حقيقة أو مستعارا من معناه الحقيقي الذي يناسبه أعني به أدنى مكان من الشيء وهو ظرف لغو معمول ـ لشهداء ـ ويكفيه رائحة الفعل فلا حاجة إلى الاعتماد ولا إلى تقدير ليشهدوا ، و (مِنْ) للتبعيض كما قالوا في (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) [الرعد : ١١ ، الجن : ٢٧] لأن الفعل يقع في بعض الجهتين ، وظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل. أنها زائدة ، وهو مذهب ابن مالك ، والجمهور على أنها ابتدائية ، والمعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله عزوجل على زعمكم ، والأمر للتهكم ، وفي التعبير عن الأصنام بالشهداء ترشيح له بتذكير ما اعتقدوه من أنها من الله تعالى بمكان ، وأنها تنفعهم بشهادتهم كأنه قيل : هؤلاء عدتكم وملاذكم فادعوهم لهذه العظيمة النازلة بكم ـ فلا عطر بعد عروس ، وما وراء عبادان قرية ـ ولم تجعل (دُونِ) بمعنى التجاوز لأنهم لا يزعمون شركته تعالى مع الأصنام في الشهادة فلا

١٩٨

وجه للإخراج ، وقيل يجوز أن تكون (مِنْ) للابتداء والظرف حال ويحذف من الكلام مضاف ، والمعنى ـ ادعوا شهداءكم ـ من فصحاء العرب وهم أولياء الأصنام متجاوزين في ذلك أولياء الله ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله ، والمقصود بالأمر حينئذ إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل : تركنا إلزامكم بشهداء الحق إلى شهدائكم المعروفين بالذنب عنكم فإنهم أيضا لا يشهدون لكم حذارا من اللائمة وأنفة من الشهادة البتة البطلان ، كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل؟ وإخراج الله تعالى على بعض الوجوه لتأكيد تناول المستثنى منه بجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه لإيهامه أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه وعلى بعض للتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم في عروة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه ، والالتفات إما لإدخال الروع وتربية المهابة أو للإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة عبادة من لا أحقر منه ـ والصدق ـ مطابقة الواقع والمذاهب فيه مشهورة ، والجواب (إِنْ) محذوف لدلالة الأول عليه وليس هو جوابا لهما ، وكذا متعلق الصدق أي (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بزعمكم في أنه كلام البشر أو في أنكم تقدرون على معارضته ـ فأتوا ، وادعوا ـ فقد بلغ السيل الزبى ، وهذا كالتكرير للتحدي والتأكيد له ، ولذا ترك العطف وجعل المتعلق الارتياب لتقدمه مما لا ارتياب في تأخره لأن الارتياب من قبيل التصور الذي لا يجري فيه صدق ولا كذب ، والقول بأن المراد (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في احتمال أنه كذا مع ما فيه من التكلف لا يجدي نفعا لأن الاحتمال شك أيضا ، ومن التكلف بمكان قول الشهاب : إن المراد من النظم الكريم الترقي في إلزام الحجة ، وتوضيح المحجة ، فالمعنى إن ارتبتم فأتوا بنظيره ليزول ريبكم ويظهر أنكم أصبتم فيما خطر على بالكم وحينئذ فإن صدقت مقالتكم في أنه مفتري فأظهروها ولا تخافوا هذا ، ووجه ملائمة الآية ـ لما قلناه في الآية السابقة ـ أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالاستعانة إما حقيقة أو تهكما بكل ما يعينهم بالإمداد في الإتيان في ـ المثل ـ أو بالشهادة على أن المأتي به ـ مثل ـ ولا شك أن ذلك إنما يلائم إذا كانوا مأمورين بالإتيان بالمثل بخلاف ما إذا كان المأمور واحدا منهم فإنهم باعثون له على الإتيان فالملائم حينئذ نسبة الشهداء إليه لأنهم شهداء له ، وإن صح نسبته إليهم ـ باعتبار مشاركتهم إياه في تلك الدعوى بالتحريك والحث والقول بأنهم مشاركون للمأتي منه في دعوى المماثلة ـ ليس بشيء لأنه شهادة على المماثلة ثم ترجيح رجوع الضمير للمنزل يقتضي ترجيح كون الظرف صفة للسورة أيضا ، وقد أورد هاهنا أمور طويلة لا طائل تحتها.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) فذلكة لما تقدم فلذا أتى بالفاء أي إذا بذلتم في السعي غاية المجهود ـ وجاوزتم في الحد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وعجزتم عن الإتيان بمثله وما يداينه في أسلوبه وفضله ظهر أنه معجز والتصديق به لازم ـ فآمنوا واتقوا النار ، وأتى ـ بأن ـ والمقام ـ لإذا ـ لاستمرار العجز ـ وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير ـ تهكما بهم كما يقول الواثق بالغلبة لخصمه إن غلبتك لم أبق عليك ، وتحميقا لهم لشكهم في المتيقن الشديد الوضوح ، ففي الآية استعارة تهكمية تبعية حرفية أو حقيقة وكناية كسائر ما جاء على خلاف مقتضى الظاهر ، وقد يقال عبر بذلك نظرا لحال المخاطبين فإن العجز كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم ، و (تَفْعَلُوا) مجزوم بلم ولا تنازع بينها وبين إن ، وإن تخيل ، وقد صرح ابن هشام بأنه لا يكون بين الحروف لأنها لا دلالة لها على الحدث حتى تطلب المعمولات إلا أن ابن العلج أجازه استدلالا بهذه الآية ، ورد بأن إن تطلب مثبتا ، و (لَمْ) منفيا ، وشرط التنازع الاتحاد في المعنى ـ فإن ؛ هنا داخلة على المجموع عاملة في محله كأنه قال : فإن تركتم الفعل ، فيفيد الكلام استمرار عدم الإتيان المحقق

١٩٩

في الماضي وبهذا ساغ اجتماعهما وإلا فبين مقتضاهما الاستقبال والمضي تناف ، نعم قيل في ذلك إشكال لم يحرر دفعه بعد بما يشفي العليل : وهو أن المحل إن كان للفعل وحده لزم توارد عاملين في نحو ـ إن لم يقمن ـ وإن كان للجملة رد أنهم لم يعدوها مما لها محل أو للمحل مع الفعل فلا نظير له فلعلهم يتصيدون فعلا مما بعدها ويجزمونه بها وهو كما ترى ، وعبر سبحانه عن الفعل الخاص حيث كان الظاهر ـ فإن لم تأتوا بسورة من مثله بالفعل المطلق العام ـ ظاهرا لإيجاز القصر ، وفيه إيذان بأن المقصود بالتكليف إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا تحصيل المفعول ضرورة استحالته ، وإن مناط الجواب في الشرطية ـ أعني الأمر بالاتقاء ـ هو عجزهم عن إيقاعه لا فوت حصول المقصود ، وقيل : أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال بمعونة قرائن الحال ، أو على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرا من التكرير ، والظاهر أن فيما عبر به إيجازا وكناية وإيهام نفي الإتيان بالمثل وما يدانيه بل وغيره ، وإن لم يكن مرادا (وَلَنْ) كلا في نفي المستقبل وإن فارقتها بالاختصاص بالمضارع ، وعمل النصب إلا فيما شذ من الجزم بها في قوله :

«لن» يخب الآن من رجاك ومن

حرك من دون بابك الحلقة

و : لا تقتضي النفي على التأبيد وإن أفادت التأكيد والتشديد ولأطول مدة أو قلتها خلافا لبعضهم ، وليس أصلها ـ لا أن ـ كما روي عن الخليل : فحذفت الهمزة لكثرتها وسقطت الألف للساكنين وتغير الحكم وصار «لن» تضرب كلاما تاما دون أن ومصحوبها ، وقيل : به لقوله :

يرجى المرء ما «لا أن» يلاقيه

ويعرض دون أقربه الخطوب

واحتمال زيادة أن يوهن الاحتجاج ولا ـ كما عند الفراء ـ فأبدلت ألفه نونا إذ لا داعي إلى ذلك وهو خلاف الأصل ، والجملة اعتراض بين جزئي الشرطية ظاهرا مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها ، وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وقد وقع الأمر كذلك ، كيف لا ولو عارضوه بشيء يدانيه لتناقله الرواة لتوفر الدواعي؟ وما أتى به نحو مسيلمة الكذاب مما تضحك منه الثكلى لم يقصد به المعارضة وإنما ادعاه وحيا. وقوله سبحانه : (فَاتَّقُوا) جواب للشرط على أن اتقاء النار كناية عن ظهور إعجازه المقتضي للتصديق والإيمان به أو عن الإيمان نفسه وبهذا يندفع ما يتوهم من أن اتقاء النار لازم من غير توقف على هذا الشرط فما معنى التعليق ، وأيضا الشرط سبب أو ملزوم للجزاء ، وليس عدم الفعل سببا للاتقاء ولا ملزوما له فكيف وقع جزاء له ، وبعضهم قدر لذلك جوابا ، والتزمه جملة خبرية لأن الانشائية لا تقع جزاء كما لا تقع خبرا إلا بتأويل ، والزمخشري لا يوجب ذلك فيها لعدم الحمل المقتضى له ، و ـ الوقود ـ بالفتح كما قرأ به الجمهور ما يوقد به النار ، وكذا كل ما كان على فعول اسم لما يفعل به في المشهور ، وقد يكون مصدرا عند بعض ، وحكوا ولوعا ، وقبولا ، ووضوءا ، وطهورا ، ووزوعا ، ولغوبا. وقرأ عبيد بن عمير ـ وقيدها ـ وعيسى بن عمرو وغيره (وَقُودُهَا) بالضم ، فإن كان اسما لما يوقد به كالمفتوح فذاك وإن كان مصدرا ـ كما قيل في سائر ما كان على فعول ـ فحمله على النار للمبالغة أو للتجوز فيه أو في التشبيه أو بتقدير مضاف أولا كذو وقودها أو ثانيا ـ كاحتراق ـ وهو نفسه خارجا غيره مفهوما وذاك مصداق الحمل ، وحكي إن من العرب من يجعل المفتوح مصدرا والمضموم اسما فينعكس الحال فيما نحن فيه (وَالْحِجارَةُ) كحجار جمع كثرة لحجر ، وجمع القلة أحجار وجمع فعل ـ بفتحتين ـ على فعال شاذ ، وابن مالك في التسهيل يقول : إنه اسم جمع لغلبة وزنه في المفردات وهو الظاهر ، والمراد بها على ما صح عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم ، ولمثل

٢٠٠