روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

(وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم ، ولا يعارض هذه الآية ما في المائدة [٨٩] من قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) إلخ بناء على أن مقتضى هذه المؤاخذة بالغموس لأنها من كسب القلب وتلك تقتضي عدمها لأن اللغو فيها خلاف المعقودة ، وهي ما يحلف فيها على أمر في المستقبل أن يفعل ولا يفعل لوقوعه في مقابلة قوله سبحانه : (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) فيتناول الغموس وهو الحلف على أمر ماض متعمد الكذب فيه ولغويته لعدم تحقق البر فيه الذي هو فائدة اليمين الشرعية لأن الشافعي حمل بما عقدتم على كسب القلب من عقدت على كذا عزمت عليه ، ولم يعكس لأن العقد مجمل يحتمل عقد القلب ، ويحتمل ربط الشيء بالشيء ، والكسب مفسر ، ومن القواعد حمل المجمل على المفسر ، وإذا حمل عليه شمل الغموس ، وكان اللغو ما لا قصد فيه لا خلاف المعقودة إذ لا معقودة فتتحد الآيتان في المؤاخذة على الغموس وعدم المؤاخذة على اللغو إلا أنه إن كان للفعل المنفي عموم كان في الآيتين نفي المؤاخذة فيما لا قصد فيه بالعقوبة ، والكفارة وإثبات المؤاخذة في الجملة بهما أو بإحداهما فيما فيه قصد ، وإن لم يكن له عموم حمل المؤاخذة المطلقة في هذه الآية على المؤاخذة المقيدة بالكفار في آية المائدة بناء على اتحاد الحادثة والحكم وسوق الآية لبيان الكفارة فلا تكرار ، وأيد العموم بما أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه صلى الله تعالى عليه وسلم «مر بقوم ينتصلون ومعه بعض أصحابه فرمى رجل من القوم فقال : أصبت والله أخطأت والله ، فقال الذي معه : حنث الرجل يا رسول الله فقال كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة» وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن اللغو هنا ما لا قصد فيه إلى الكذب بأن لا يكون فيه قصد أو يكون بظن الصدق ، وحمل المؤاخذة على الأخروية بناء على أن دار المؤاخذة هي الآخرة وأن المطلق ينصرف إلى الكامل وقرنت هذه المؤاخذة بالكسب إذ لا عبرة للقصد وعدمه في وجوب الكفارات التي هي مؤاخذات دنيوية ، لا شك أنه بمجرد اليمين بدون الحنث لا تتحقق المؤاخذة الأخروية في المعقودة فلا يمكن إجراء ما كسبت على عمومه فلا بد من تخصيصه بالغموس فيتحصل من هذه الآية المؤاخذة الأخروية في الغموس دون الدنيوية التي هي الكفارة ، وفيه خلاف الشافعي وعدم المؤاخذة الأخروية فيما عداها مما فيه قصد بظن الصدق ، ومما لا قصد فيه أصلا ـ وفيه وفاق الشافعي ـ وحمل المؤاخذة في آية المائدة على الدنيوية بقرينة قوله سبحانه فيها : (فَكَفَّارَتُهُ) إلخ ، وقوله تعالى : (بِما عَقَّدْتُمُ) على المعقودة لأن المتبادر من ـ العقد ـ ربط الشيء بالشيء وهو ظاهر في «المعقودة» فالمراد (بِاللَّغْوِ) وفي تلك الآية ما عداها من الغموس وغيره فيتحصل منها عدم المؤاخذة الدنيوية ـ بالكفارة ـ على غير المعقودة ، وهي الغموس والمؤاخذة عليه في الآخرة ـ كما علم من آية البقرة ـ والحلف بلا قصد أو به مع ظن الصدق لغير المؤاخذة عليهما في الآخرة كما علم منها أيضا ، والمؤاخذة الدنيوية على المعقودة التي لم يعلم حكمها في الآخرة من الآيتين لظهوره من ترتب المؤاخذة الدنيوية عليه ـ فلا تدافع بين الآيتين عنده أيضا ـ لأن مقتضى الأولى تحقق المؤاخذة الأخروية في الغموس ، ومقتضى الثانية عدم المؤاخذة الدنيوية فيه ، ومن هذا يعلم أن ما في ـ الهداية ـ وشاع في كتب الأصحاب عن الإمام حيث قال : إن الأيمان على ثلاثة أضرب : يمين الغموس ويمين منعقدة ويمين لغو وبين حكم كل وفسر الأخير بأن يحلف على ماض وهو يظن ـ كما قال ـ والأمر بخلافه ، وثبت في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وغيره ـ ليس بشيء ـ لو كان المقصود بما في التفسير «الحصر» لا التمثيل للغو لأن اللائق بالنظم أن يكون (بِما كَسَبَتْ) مقابلا للغو من غير واسطة بينهما ، وبقصد «الحصر» يبقى اليمين الذي لا قصد معه واسطة بينهما غير معلوم الاسم ولا الرسم ، وهو مما لا يكاد يكون كما لا يخفى على المنصف فليتدبر فإنه مما فات كثيرا من

٥٢١

الناس. وذهب مسروق إلى أن «اللغو» هو الحلف على المعاصي وبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة وروي عن ابن عباس وطاوس أنه اليمين في حال الغضب فلا كفارة فيها.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله تعالى عليك بأن تقول : مالي علي حرام إن فعلت كذا مثلا ـ وبهذا أخذ مالك إلا في الزوجة ـ وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال : هو كقول الرجل : أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا ، وكقوله : هو مشرك ، هو كافر إن لم يفعل كذا ، فلا يؤاخذ به حتى يكون من قلبه ، وقيل : لغو اليمين يمين المكره ـ حكاه ابن الفرس ولم ير مسندا ـ هذا ولم يعطف قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ) الآية على ما قبله لاختلافها خبرا وإنشاء ، وإن كانا متشاركين في كون كل منهما بيانا لحكم الأيمان (وَاللهُ غَفُورٌ) حيث لم يؤاخذكم باللغو (حَلِيمٌ) حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد ؛ والجملة تذييل للجملتين السابقتين ، وفائدته الامتنان على المؤمنين وشمول الإحسان لهم و «الحليم» من حلم بالضم يحلم إذا أمهل بتأخير العقاب ، وأصل «الحلم» الأناة ، وأما حلم الأديم ـ فبالكسر يحلم بالفتح ـ إذا فسد ، وأما حلم أي رأى في نومه ـ فبالفتح ـ ومصدر الأول ـ الحلم ـ بالكسر ومصدر الثاني ـ الحلم ـ بفتح اللام ومصدر الثالث ـ الحلم ـ بضم الحاء مع ضم اللام وسكونها (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) الإيلاء ـ كما قال الراغب ـ الحلف الذي يقتضي النقيصة في الأمر الذي يحلف فيه من قوله تعالى : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) [آل عمران : ١١٨] أي باطلا (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) [النور : ٢٢] وصار في الشرع عبارة عن الحلف المانع عن جماع المرأة ، ف (يُؤْلُونَ) أي يحلفون ، و (مِنْ نِسائِهِمْ) على حذف المضاف ، أو من إقامة العين مقام الفعل المقصود منه للمبالغة ، وعدي القسم على المجامعة ب (مِنْ) لتضمنه معنى البعد ، فكأنه قيل : يبعدون (مِنْ نِسائِهِمْ) مولين ، وقيل : إن هذا الفعل يتعدى ب «من» وعلى ، ونقل أبو البقاء عن بعضهم من أهل اللغة تعديته ب (مِنْ) وقيل : بها بمعنى على ، وقيل : بمعنى في ، وقيل : زائدة ، وجوّز جعل الجار ظرفا مستقرا ، أي استقرّ لهم (مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) وقرأ «ألوا من نسائهم» وفي مصحف أبيّ «للذين يقسمون» وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ والتربص ـ الانتظار والتوقف وأضيف إلى الظرف على الاتساع ـ وإجراء المفعول فيه مجرى المفعول به ، والمعنى على الظرفية وهو مبتدأ ما قبله خبره أو فاعل للظرف ـ على ما ذهب إليه الأخفش من جواز عمله وإن لم يعتمد ـ والجملة ـ على التقديرين ـ بمنزلة الاستثناء من قوله سبحانه (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) فإن ـ الإيلاء ـ لكون أحد الأمرين لازما له الكفارة على تقدير الحنث من غير إثم ، والطلاق على تقدير البر مخالف لسائر الأيمان المكتوبة حيث يتعين فيها ـ المؤاخذة ـ بهما أو بأحدهما عند الشافعي ـ والمؤاخذة ـ الأخروية عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، فكأنه قيل : إلا الإيلاء فإنّ حكمه غير ما ذكر ، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها ، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى ـ أنّ للمولين من نسائهم تربص أربعة أشهر ـ بين حكمه بقوله تعالى جل شأنه : (فَإِنْ فاؤُ) أي رجعوا في المدّة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لما حدث منهم من اليمين على الظالم وعقد القلب على ذلك الحنث ، أو بسبب الفيئة والكفارة ، ويؤيده قراءة ابن مسعود (فَإِنْ فاؤُ) فيهن (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) أي صمموا قصده بأن لم يفيئوا واستمرّوا على الإيلاء (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لإيلائهم الذي صار منهم طلاقا بائنا بمضي العدة (عَلِيمٌ) بغرضهم من هذا الإيلاء فيجازيهم على وفق نياتهم ، وهذا ما حمل عليه الحنفية هذه الآية فإنهم قالوا : الإيلاء من المرأة أن يقول : والله لا أقربك (أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فصاعدا على التقييد بالأشهر ، أو لا أقربك على الإطلاق ، ولا يكون فيما دون ذلك عند الأئمة الأربعة ، وأكثر العلماء خلافا للظاهرية والنخعية وقتادة وحماد وابن أبي حماد وإسحاق حيث يصير عندهم موليا في قليل المدة وكثيرها ، وحكمه إن فاء إليها في المدّة بالوطء إن أمكن ، أو بالقول إن عجز عنه صح الفيء وحنث القادر ولزمته كفارة اليمين ولا كفارة على

٥٢٢

العاجز ، وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة من غير مطالبة المرأة إيقاع الزوج أو الحكم ، وقالت الشافعية : لا إيلاء إلا فى أكثر من «الأربعة أشهر» فلو قال : والله لا أقربك «الأربعة أشهر» لا يكون إيلاء شرعا عندهم ولا يترتب حكمه عليه بل هو يمين كسائر الأيمان ، إن حنث كفر ، وإن برّ فلا شيء عليه ، وللمولي التلبث في هذه المدّة فلا يطالب بفيء ولا طلاق ، فإن فاء في اليمين بالحنث (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمولي إثم حنثه إذا كفر كما في الجديد ، أو ما توخى بالإيلاء من ضرار المرأة ونحوه بالفيئة التي هي كالتوبة (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لطلاقه (عَلِيمٌ) بنيته ، وإذا مضت المدّة ولم يفئ ولم يطلق طولب بأحد الأمرين ، فإن أبى عنهما طلق عليه الحاكم ؛ وأريد كون مدته أكثر من (أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) بأن ـ الفاء ـ في الآية للتعقيب فتدل على أن حكم الإيلاء من الفيئة والطلاق يترتب عليه بعد مضي أربعة أشهر ، فلا يكون الإيلاء في هذه المدة إيلاء شرعا لانتفاء حكمه ـ وبذلك اعترضوا على الحنفية ـ واعترضوا عليهم أيضا بأنه لو لم يحتج إلى الطلاق بعد مضي المدّة لزم وقوع الطلاق من غير موقع ، وإن النص يشير إلى أنه مسموع ، فلو بانت من غير طلاق لا يكون هاهنا شيء مسموع ، وأجيب عن الأول بأن ـ الفاء ـ للتعقيب في الذكر ، وعن الثاني بأن المسموع ما يقارن ذلك الترك من المقاولة والمجادلة وحديث النفس به كما يسمع وسوسة الشيطان عليهم بما استمرّوا عليه من الظلم أو الإيلاء الذي صار طلاقا بائنا بالمضي ، وهذا أنسب بقوله سبحانه وتعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) حيث اكتفى بمجرّد العزم بخلاف ما قالته الشافعية من أنه يحتاج إلى الطلاق بعد مضي المدة فإنه يحتاج إلى التقدير ، وبعده لا يحتاج إلى (عَزَمُوا) أو يحتاج إلى جعل «عزم الطلاق» كناية عنه ، فما قيل : من أن الآية بصريحها مع الشافعي ليس في محله ، وقد ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وكثير من الإمامية ، وأخرج عبد بن حميد عن علي كرّم الله تعالى وجهه قال : الإيلاء إيلاءان إيلاء في الغضب ، وإيلاء في الرضا ، فأمّا الإيلاء في الغضب فإذا مضت (أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فقد بانت منه ، وأمّا ما كان في الرضا فلا يؤاخذ به. وأخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهما قال : أتى رجل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال : إني حلفت أن لا آتي امرأتي سنتين فقال : ما أراك إلا قد آليت ، قال إنما حلفت من أجل أنها ترضع ولدي ، قال فلا إذا. وروي عن إبراهيم «ما أعلم الإيلاء إلا في الغضب لقوله سبحانه وتعالى (فَإِنْ فاؤُ) وإنما الفيء من الغضب» وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، واستدل بعموم الآية على صحة الإيلاء من الكافر ، وبأي يمين كان ، ومن غير المدخول بها والصغيرة والخصي. وأن العبد تضرب له «الأربعة أشهر» كالحر ، واستدل بتخصيص هذا الحكم بالمولي على أنّ من ترك الوطء «ضرارا» بلا يمين لا يلزمه شيء ، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت وهي تعظ خالد بن سعيد المخزومي وقد بلغها أنه هجر امرأته : إياك يا خالد وطول الهجر ، فإنك قد سمعت ما جعل الله تعالى للمولي من الأجل محمول على إرادة العطف والتحذير من التشبه بالإيلاء.

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ

٥٢٣

طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(٢٤٢)

٥٢٤

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)(٢٥٢)

(وَالْمُطَلَّقاتُ) أي ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهنّ لما قد بين في الآيات والأخبار أن لا عدّة على غير المدخول بها وأن عدّة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل ، وأن عدة الأمة قرءان أو شهران ـ فأل ـ ليست للاستغراق لأنه هاهنا متعذر لما بين ، فتحمل على الجنس كما في ـ لا أتزوج النساء ـ ويراد منه ما ذكر بقرينة الحكم ، وهذا مذهب ساداتنا الحنفية لأن الكلام المستقل الغير الموصول عندهم ناسخ للعام ، والنسخ إنما يصح إذا ثبت عموم الحكم السابق ـ ولا عموم هاهنا ـ وقال الشافعية : إن (الْمُطَلَّقاتُ) عام وقد خص البعض بكلام

٥٢٥

مستقل غير موصول ، واعترضه الإمام بأنّ التخصيص إنما يحسن إذا كان الباقي تحت العام أكثر ، وهاهنا ليس كذلك وليس بشيء لأنه مما لا شاهد له فإنّ المذكور في كتب الأصول أن العام يجوز تخصيصه إلى أن يبقى تحته ما يستحق به معنى الجمع لئلا يلزم إبطال الصيغة فليفهم.

(يَتَرَبَّصْنَ) أي ينتظرن ، وهو خبر قصد منه الأمر على سبيل الكناية فلا يحتاج في وقوعه خبرا لمبتدإ إلى التأويل على رأي من لم يجوّز وقوع الإنشاء خبرا من غير تأويل ، وقيل : إنّ الجملة الاسمية خبرية بمعنى الأمر ، أي ليتربصن (الْمُطَلَّقاتُ) ولا يخفى أنه لا يحتاج إليه ، وتغيير العبارة للتأكيد بدلالته على التحقيق لأن الأصل في الخبر الصدق والكذب احتمال عقلي ، والإشعار بأنه مما يجب أن يسارع إلى امتثاله حيث أقيم اللفظ الدال على الوقوع مقام الدال على الطلب ، وفي ذكره متأخرا عن المبتدأ فضل تأكيد لما فيه من إفادة التقوى على أحد الطريقين المنقولين عن الشيخ عبد القاهر والسكاكي وقيد ـ التربص ـ هنا بقوله سبحانه وتعالى : (بِأَنْفُسِهِنَ) وتركه في قوله تعالى : (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) لتحريض النساء على ـ التربص ـ لأن ـ الباء ـ للتعدية فيكون المأمور به أن يقمعن أنفسهن ويحملنها على الانتظار ، وفيه إشعار بكونهنّ مائلات إلى الرجال وذلك مما يستنكفن منه ، فإذا سمعن هذا تربصن وهذا بخلاف الآية السابقة فإن المأمور فيها ـ بالتربص ـ الأزواج وهم وإن كانوا طامحين إلى النساء لكن ليس لهم استنكاف منه ، فذكر ـ الأنفس ـ فيها لا يفيد تحريضهم على التربص (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) نصب على الظرف لكونه عبارة عن المدّة ، والمفعول به محذوف لأن ـ التربص ـ متعدّ قال تعالى : (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ) [التوبة : ٥٢] أي يتربصن التزوج ، وفي حذفه إشعار بأنهنّ يتركن التزوّج في هذه المدّة بحيث لا يتلفظن به ، وجوّز أن يكون على المفعولية بتقدير مضاف أي (يَتَرَبَّصْنَ) مضيها ـ والقروء ـ جمع قرء ـ بالفتح والضم ـ والأول أفصح وهو يطلق للحيض ، لما أخرج النسائي وأبو داود والدارقطني «أن فاطمة ابنة أبي حبيش قالت : يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة؟ فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : «لا ، دعي الصلاة أيام أقرائك» ويطلق للطهر الفاصل بين الحيضتين كما في ظاهر قول الأعشى :

أفي كل عام أنت جاشم غزوة

تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة مالا وفي الحي رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا

أي أطهارهن لأنها وقت الاستمتاع ولا جماع في الحيض في الجاهلية أيضا وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض لاستلزامه كل واحد منهما ، والدليل على ذلك كما قال الراغب : إن الطاهر التي لم تر الدم لا يقال لها ذات قرء والحائض التي استمر لها الدم لا يقال لها ذلك أيضا ، والمراد بالقرء في الآية عند الشافعي الانتقال من الطهر إلى الحيض في قول قوي له ، أو الطهر المنتقل منه كما في المشهور وهو المروي عن عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وخلق كثير لا الحيض ، واستدلوا على ذلك بمعقول ومنقول أما الأول فهو أن المقصود من العدة براءة الرحم من ماء الزوج السابق والمعرف لبراءة الرحم هو الانتقال إلى الحيض لأنه يدل على انفتاح فم الرحم فلا يكون فيه العلوق لأنه يوجب انسداد فم الرحم عادة دون الحيض فإن الانتقال من الحيض إلى الطهر يدل على انسداد فم الرحم وهو مظنة العلوق فإذا جاء بعده الحيض علم عدم انسداده. «وأما الثاني» فقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] واللام للتأقيت والتخصيص بالوقت فيفيد أن مدخوله وقت لما قبله كما في قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] فيفيد أن العدة وقت الطلاق والطلاق في الحيض غير مشروع لما أخرج الشيخان أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته وهي حائض فذكر عمر لرسول

٥٢٦

الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتغيظ ثم قال : «مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء» وهو أحد الأدلة أيضا على أن العدة بالاطهار ، وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المراد بالقرء الحيض وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وجم غفير وكون الانتقال من الطهر إلى الحيض هو المعرف للبراءة إذا سلم معارض بأن سيلان الدم هو السبب للبراءة المقصودة ولا نسلم أن اعتبار المعرف أولى من اعتبار السبب وليس هذا من المكابرة في شيء على أن المهم في مثل هذه المباحث الأدلة النقلية ، وفيما ذكروه منها بحث لأن لام التوقيت لا تقتضي أن يكون مدخولها ظرفا لما قبلها ففي الرضي أن اللام في نحو جئتك لغرة كذا هي المفيدة للاختصاص الذي هو أصلها ، والاختصاص هاهنا على ثلاثة أضرب : أما أن يختص الفعل بالزمان بوقوعه فيه نحو كتبته لغرة كذا. أو يختص به لوقوعه بعده نحو لليلة خلت أو اختص به لوقوعه قبله نحو لليلة بقيت ، فمع الإطلاق يكون الاختصاص لوقوعه فيه ومع قرينة نحو خلت يكون لوقوعه بعده ومع قرينة نحو بقيت لوقوعه قبله انتهى. وفيما نحن فيه قرينة تدل على كونه قبله لأن التطليق يكون قبل العدة لا مقارنا لها ، ويؤيده قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قبل عدتهن ففي الصحاح القبل والقبل نقيض الدبر والدبر ، ووقع السهم بقبل الهدف وبدبره ـ وقدّ قميصه من قبل ودبر ـ أي من مقدمه ومؤخره ، ويقال : أنزل بقبل هذا الجبل ـ أي بسفحه ـ فمعنى في قبل عدتهنّ في مقدم عدتهنّ وأمامها ـ كما يقتضيه ظاهر الأمثلة ـ وما ذكره من أن قبل الشيء أوله يرجع إلى هذا أيضا ، على تسليم عدم الرجوع يرجع المقدّم الأول بالتبادر وكثرة الاستعمال والتأييد يحصل بذلك المقدار ، والحديث الذي أخرجه الشيخان مسلم لكن جعله دليلا على أن ـ العدّة ـ هي الأطهار غير مسلم لأنه موقوف على جعل الإشارة للحالة التي هي الطهر ، ولا يقوم عليه دليل فإن ـ اللام ـ في «يطلق لها النساء» كاللام في (لِعِدَّتِهِنَ) يجوز أن تكون بمعنى ـ في ـ وأن تكون بمعنى ـ قبل ـ فيجوز أن يكون المشار إليه الحيض ، وأنث اسم الإشارة مراعاة للخبر كالضمير إذا وقع بين مرجع مذكر وخبر مؤنث فإنّ الأولى على ما عليه الأكثر مراعاة الخبر إذ ما مضى فات ، والمعنى فتلك الحيض العدّة التي أمر الله تعالى أن يطلق قبلها النساء ـ لا أن يطلق فيها النساء ـ كما فهمه ابن عمر وأوقع الطلاق فيه ، وقول الخطابي : الأقراء التي تعتدّ بها المطلقة الاطهار لأنه ذكر فتلك العدّة بعد الطهر مجاب عنه بأن ذكره بعد الطهر لا يقتضي أن يكون مشارا إليه لجواز أن يكون ذكر الطهر للإشارة إلى أنّ الحيض المحفوف بالطهر يكون عدة ، وحينئذ لا يحتاج ذكر الطهر الثاني إلى نكتة وهي أنه إذا راجعها في الطهر الأوّل بالجماع لم يكن طلاقها فيه للسنة فيحتاج للطهر الثاني ليصح فيه إيقاع الطلاق السني ، وأن لا تكون الرجعة لغرض الطلاق فقط ، وأن يكون كالتوبة عن المعصية باستبدال حاله ، وأن يطول مقامه معها فلعله يجامعها فيذهب ما في نفسها من سبب الطلاق فيمسكها هذا ما يرجع إلى الدفع ، وأما الاستدلال على أن «القرء» الحيض فهو ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني عن عائشة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «طلاق الأمة تطليقتان ، وعدّتها حيضتان» فصرح بأن عدة الأمة حيضتان ، ومعلوم أن الفرق بين الحرّة والأمة باعتبار مقدار العدّة لا في جنسها فيلتحق قوله تعالى : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) للإجمال الكائن بالاشتراك بيانا به وكونه لا يقاوم ما أخرجه الشيخان في قصة ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لضعفه لأن فيه مظاهرا ولم يعرف له سواه لا يخلو عن بحث ، أما أولا فلما علمت أن ذلك الحديث ليس بنص في المدعى ، وأما ثانيا فلأن تعليل تضعيف مظاهر غير ظاهر ، فإن ابن عدي أخرج له حديثا آخر ووثقه ابن حبان ، وقال الحاكم : ومظاهر شيخ من أهل البصرة ولم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجرح فإذا إن لم يكن الحديث صحيحا كان حسنا ، ومما يصحح الحديث عمل العلماء على وفقه قال الترمذي عقيب روايته : حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم

٥٢٧

وغيرهم ، وفي الدارقطني قال القاسم وسالم : وعمل به المسلمون ، وقال مالك : شهرة الحديث تغني عن سنده كذا في الفتح ، ومن أصحابنا من استدل بأنه لو كان المراد من القرء الطهر لزم إبطال موجب الخاص أعني لفظ ثلاثة فإنه حينئذ تكون العدة طهرين ، وبعض الثالث في الطلاق المشهور ولا يخفى أنه كأمثاله في هذا المقام ناشئ من قلة التدبر فيما قاله الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فلهذا اعترضوا به عليه لأنه إنما جعل القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض ، أو الطهر المنتقل منه لا الطهر الفاصل بين الدمين ، والانتقال المذكور ، أو الطهر المنتقل منه تام على أن كون الثلاثة اسما لعدد كامل غير مسلم ، والتحقيق فيه أنه إذا شرع في الثالث ساغ الإطلاق ألا تراهم يقولون هو ابن ثلاث سنين وإن لم تكمل الثالثة ، وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل ، ومن الشافعية من جعل القرء اسما للحيض الذي يحتوشه دمان وجعل إطلاقه على بعض الطهر وكله كإطلاق الماء والعسل ، قالوا والاشتقاق مرشد إلى معنى الضم والاجتماع ، وهذا الطهر يحصل فيه اجتماع الدم في الرحم وبعضه وكله في الدلالة على ذلك على السواء ـ وأطالوا الكلام في ذلك ـ والإمامية وافقوهم فيه واستدلوا عليه برواياتهم عن الأئمة والرواية عن علي كرم الله تعالى وجهه في هذا الباب مختلفة ، وبالجملة كلام الشافعية في هذا المقام قوي كما لا يخفى على من أحاط بأطراف كلامهم واستقرأ ما قالوه وتأمل ما دفعوا به أدلة مخالفيهم وفي الكشف بعض الكشف وما في الكشاف غير شاف لبغيتنا وهذا المقدار يكفي أنموذجا.

هذا وكان القياس ذكر القرء بصيغة القلة التي هي الإقراء ولكنهم يتوسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ولعل النكتة المرجحة لاختياره هاهنا أن المراد بالمطلقات هاهنا جميع المطلقات ذوات الأقراء الحرائر وجميعها متجاوز فوق العشرة فهي مستعملة مقام جمع الكثرة ولكل واحدة منها ثلاثة أقراء فيحصل في الأقراء الكثرة فحسن أن يستعمل جمع الكثرة في تمييز الثلاثة تنبيها على ذلك وهذا كما استعمل أنفسهن مكان نفوسهن للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يقع على القلة (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) قال ابن عمر : الحمل والحيض أي لا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها ولا إن كانت حائضا أن تكتم حيضها فتقول وهي حائض : قد طهرت وكن يفعلن الأول لئلا ينتظر لأجل طلاقها أن تضع ولئلا يشفق الرجل على الولد فيترك تسريحها والثاني استعجالا لمضي العدة وإبطالا لحق الرجعة وهذا القول هو المروي عن الصادق والحسن ومجاهد وغيرهم والقول ـ بأن الحيض غير مخلوق في الرحم بل هو خارج عنه ـ فلا يصح حمل ما على عمومها بل يتعين حملها على الولد وهو المروي عن ابن عباس وقتادة مدفوع بأن ذات الدم وإن كان غير مخلوق في الرحم لكن الاتصاف بكونه حيضا إنما يحصل له فيه وما قيل : إن الكلام في المطلقات ذوات الأقراء فلا يحتمل خلق الولد في أرحامهن فيجب حمل ما على الحيض كما حكي عن عكرمة فمدفوع أيضا بأن تخصيص العام وتقييده بدليل خارجي لا يقتضي اعتبار ذلك التخصيص أو التقييد في الراجع ، واستدل بالآية على أنّ قولهما يقبل فيما خلق الله تعالى في أرحامهن إذ لو لا قبول ذلك لما كان فائدة في تحريم كتمانهن ، قال ابن الفرس : وعندي أن الآية عامة في جميع ما يتعلق بالفرج من بكارة وثيوبة وعيب. لأنّ كل ذلك مما خلق الله تعالى في أرحامهن فيجب أن يصدقن فيه ، وفيه تأمل (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) شرط لقوله تعالى : (لا يَحِلُ) لكن ليس الغرض منه التقييد حتى لو لم يؤمن كالكتابيات ـ حل لهنّ الكتمان ـ بل بيان منافاة الكتمان للإيمان وتهويل شأنه في قلوبهنّ ، وهذه طريقة متعارفة يقال : إن كنت مؤمنا فلا تؤذ أباك ، وقيل : إنه شرط جزاؤه محذوف ـ أي فلا يكتمن ـ وقوله سبحانه : (لا يَحِلُ) علة له أقيم مقامه ، وتقدير الكلام «إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن لأنه لا يحل لهن» وفيه «أن لا يكتمن

٥٢٨

المقدّر» إن كان نهيا يلزم تعليل الشيء بنفسه ، وإن كان نفيا يكون مفاد الكلام تعليق عدم وقوع الكتمان في المستقبل بأيمانهم في الزمان الماضي وهو كما ترى (وَبُعُولَتُهُنَ) أي أزواج المطلقات جمع ـ بعل ـ كعم وعمومة ، وفحل وفحولة ـ والهاء ـ زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة ، والأمثلة سماعية لا قياسية ، لا يقال : كعب وكعوبة ، قاله الزجاج «وفي القاموس» ـ البعل ـ الزوج ، والأنثى ـ بعل وبعلة ـ والرب والسيد والمالك والنخلة التي لا تسقى أو تسقى بماء المطر «وقال الراغب» ـ البعل ـ النخل الشارب بعروقه ، عبر به عن الزوج لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص ، وقيل : باعلها جامعها ، وبعل الرجل إذا دهش فأقام كأنه النخل الذي لا يبرح ، ففي اختيار لفظ ـ البعولة ـ إشارة إلى أنّ أصل الرجعة بالمجامعة ، وجوّز أن يكون ـ البعولة ـ مصدرا نعت به من قولك : بعل حسن البعولة ـ أي العشرة مع الزوجة ـ أو أقيم مقام المضاف المحذوف ، أي وأهل (بُعُولَتُهُنَ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) إلى النكاح والرجعة إليهن ، وهذا إذا كان الطلاق رجعيا للآية بعدها ، فالضمير ـ بعد اعتبار القيد ـ أخص من المرجوع إليه ، ولا امتناع فيه كما إذا كرّر الظاهر ، وقيل : بعولة المطلقات (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وخصص بالرجعي ، و (أَحَقُ) هاهنا بمعنى ـ حقيق ـ عبر عنه بصيغة التفضيل للمبالغة ، كأنه قيل : للبعولة حق الرجعة ، أي حق محبوب عند الله تعالى بخلاف الطلاق فإنه مبغوض ، ولذا ورد للتنفير عنه «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق» وإنما لم يبق على معناه من المشاركة والزيادة إذ لا حق للزوجة في الرجعة كما لا يخفى. وقرأ أبيّ «بردّتهن» (فِي ذلِكَ) أي زمان ـ التربص ـ وهو متعلق ب (أَحَقُ) أو (بِرَدِّهِنَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) أي إن أراد البعولة بالرجعة (إِصْلاحاً) لما بينهم وبينهن ، ولم يريدوا الإضرار بتطويل العدّة عليهنّ مثلا ، وليس المراد من التعليق اشتراط جواز الرجعة بإرادة الإصلاح حتى لو لم يكن قصده ذلك لا تجوز للإجماع على جوازها مطلقا ، بل المراد تحريضهم على قصد الإصلاح حيث جعل كأنه منوط به ينتفي بانتفائه (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فيه صنعة الاحتباك ، ولا يخفى لطفه فيما بين الزوج والزوجة حيث حذف في الأول بقرينة الثاني ، وفي الثاني بقرينة الأول ، كأنه قيل : ولهنّ عليهم مثل الذي لهم عليهنّ ، والمراد ـ بالمماثلة ـ المماثلة في الوجوب ـ لا في جنس الفعل ـ فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك ، ولكن يقابله بما يليق بالرجال ، أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «ألا إنّ لكم على نسائكم حقا ، ولنسائكم عليكم حقا ، فأمّا حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ وطعامهن» وأخرج وكيع وجماعة عن أنس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين المرأة لي ، لأن الله تعالى يقول : (وَلَهُنَ)» الآية ، وجعلوا مما يجب لهنّ عدم العجلة إذا جامع حتى تقضي حاجتها. والمجرور الأخير متعلق بما تعلق به الخبر ، وقيل : صفة ل (مِثْلُ) وهي لا تتعرف بالإضافة (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) زيادة في الحق لأنّ حقوقهم في أنفسهن ، فقد ورد أنّ النكاح كالرق أو شرف فضيلة لأنهم قوام عليهن وحرّاس لهن ، يشاركونهنّ في غرض الزواج من التلذذ وانتظام مصالح المعاش ، ويخصون بشرف يحصل لهم لأجل الرعاية والإنفاق عليهن ـ والدرجة ـ في الأصل ـ المرقاة ـ ويقال فيها : (دَرَجَةٌ) كهمزة «قال الراغب» الدرجة ـ نحو المنزلة لكن تقال إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيط ـ كدرجة السطح والسلم ـ ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة ، ومنه الآية فهي على التوجيهين مجاز «وفي الكشف» أن أصل التركيب لمعنى الأناة والتقارب على مهل من ـ درج الصبي إذا حبا ـ وكذلك الشيخ والمفيد لتقارب خطوهما ـ والدرجة ـ التي يرتقي عليها لأن الصعود ليس في السهولة كالانحدار والمشي على مستو ، فلا بدّ من تدرّج ـ والدرج ـ المواضع التي يمر عليها السيل شيئا فشيئا ، ومنه التدرّج في الأمور ، والاستدراج من الله ، والدركة هي الدرجة بعينها لكن في الانحدار ـ والرجال ـ جمع رجل ، وأصل الباب القوّة والغلبة

٥٢٩

وأتى بالمظهر بدل المضمر للتنويه بذكر ـ الرجولية ـ التي بها ظهرت المزية (لِلرِّجالِ) على النساء (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يعجزه الانتقام ممن خالف الأحكام (حَكِيمٌ) عالم بعواقب الأمور والمصالح التي شرع ما شرع لها ، والجملة تذييل للترهيب والترغيب.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) إشارة إلى الطلاق المفهوم من قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وهو الرجعي وهو بمعنى التطليق الذي هو فعل الرجل ـ كالسلام بمعنى التسليم ـ لأنه الموصوف بالوحدة والتعدّد دون ما هو وصف المرأة ، ويؤيد ذلك ذكر ما هو من فعل الرجل أيضا بقوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي بالرجعة وحسن المعاشرة (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي إطلاق مصاحب له من جبر الخاطر وأداء الحقوق ، وذلك إما بأن لا يراجعها حتى تبين ، أو يطلقها الثالثة ـ وهو المأثور ـ فقد أخرج أبو داود وجماعة عن أبي رزين الأسدي أنّ رجلا قال : يا رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ إني أسمع الله تعالى يقول (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فأين الثالثة؟ فقال : «التسريح بإحسان هو الثالثة» وهذا يدل على أن معنى (مَرَّتانِ) اثنتان ، ويؤيد العهد ـ كالفاء ـ في الشق الأوّل فإنّ ظاهرها التعقيب بلا مهلة ، وحكم الشيء يعقبه بلا فصل ، وهذا هو الذي حمل عليه الشافعية الآية ، ولعله أليق بالنظم حيث قد انجرّ ذكر اليمين إلى ذكر الإيلاء الذي هو طلاق ، ثم انجرّ ذلك إلى ذكر حكم (الْمُطَلَّقاتُ) من العدة والرجعة ، ثم انجر ذلك إلى ذكر أحكام الطلاق المعقب للرجعة ، ثم انجرّ ذلك إلى بيان الخلع والطلاق الثلاثة ـ وأوفق بسبب النزول ـ فقد أخرج مالك والشافعي والترمذي رضي الله تعالى عنهما وغيرهم. عن عروة قال : كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة ، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا ما شارفت انقضاء عدّتها ارتجعها ثم طلقها ؛ ثم قال : والله لا آويك إليّ ولا تخلين أبدا ، فأنزل الله تعالى الآية ، والذي دعاهم إلى ذلك قولهم إن جمع الطلقات الثلاث غير محرّم وأنه لا سنة في التفريق كما في تحفتهم ، واستدلوا عليه بأن ـ عويمرا العجلاني ـ لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى الله تعالى عليه وسلم بحرمتها عليه ـ رواه الشيخان ـ فلو حرم لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية ، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف ، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل ، ولم يوجدا فدل على أنه لا حرمة وبأنه قد فعله جمع من الصحابة وأفتى به آخرون ، وقال ساداتنا الحنفية : إن الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة ، وإنما السنة التفريق لما روي في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له : «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة» فإنه لم يرد صلى الله تعالى عليه وسلم من السنة أنه يستعقب الثواب لكونه أمرا مباحا في نفسه لا مندوبا بل كونه من الطريقة المسلوكة في الدين ـ أعني ما لا يستوجب عقابا ـ وقد حصره عليه الصلاة والسلام على التفريق فعلم أن ما عداه من الجمع ، والطلاق في الحيض بدعة ـ أي موجب لاستحقاق العقاب ـ وبهذا يندفع ما قيل : إن الحديث إنما يدل على أن جمع الطلقتين أو الطلقات في طهر واحد ليس سنة ، وأمّا أنه بدعة فلا لثبوت الواسطة عند المخالف ، ووجه الدفع ظاهر كما لا يخفى «وفي الهداية» وقال الشافعي ، كل الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع ـ حتى يستفاد به الحكم ـ المشروعية لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في الحيض لأن المحرّم تطويل العدّة عليها ـ لا الطلاق ـ ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص ، ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث ، وهي في المفرق على ـ الاطهار ـ ثابتة نظرا إلى دليلها ، والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها ، والمشروعية في ذاته من حيث إنه إزالة الرق لا ينافي الحظر لمعنى في غيره ـ وهو ما ذكرناه ـ انتهى. ومنه يعلم أن المخالف معمم ـ لا مقسم ـ وإذا قلنا إنه مقسم بناء على ما في كتب بعض مذهبه فغاية ما أثبت

٥٣٠

أن الجمع خلاف الأولى من التفريق على الأقراء أو الأشهر ، وقد علمت أن تقسيم أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم غير تقسيمه ، وأجيب عما في خبر عويمر بأنها وقاعة حال ـ فلعلها من المستثنيات ـ لما أن مقام اللعان ضيق فيغتفر فيه مثل ذلك ويعذر فيه الغيور ؛ وأعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما وحملوا الآية على أن المراد التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق لما أن وظيفة الشارع بيان الأمور الشرعية واللام ليست نصا في العهد بل الظاهر منها الجنس وأيضا تقييد الطلاق بالرجعي يدع ذكر الرجعة بقوله سبحانه : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) تكرارا إلا أن يقال المطلوب هاهنا الحكم المردد بين الإمساك والتسريح ، وأيضا لا يعلم على ذلك الوجه حكم الطلاق الواحد إلا بدلالة النص ، وهذا الوجه مع كونه أبعد عن توهم التكرار ودلالته على حكم الطلاق الواحد بالعبارة يفيد حكما زائدا وهو التفريق ، ودلالة الآية حينئذ على ما ذهبوا إليه ظاهرة إذا كان معنى مرتين مجرد التنكير يردون التثنية على حد (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] أي كرة بعد كرة لا كرتين ثنتين إلا أنه يلزم عليه إخراج التثنية عن معناها الظاهر ، وكذا إخراج ـ الفاء ـ أيضا وجعل ما بعدها حكما مبتدأ وتخييرا مطلقا عقيب تعليمهم كيفية التطليق وليس مرتبا على الأول ضرورة أن التفريق المطلق لا يترتب عليه أحد الأمرين لأنه إذا كان بالثلاث لا يجوز بعده الإمساك ولا التسريح وتحمل ـ الفاء ـ حينئذ على الترتيب الذكري ـ أي إذا علمتم كيفية الطلاق فاعلموا أن حكمه الإمساك أو التسريح ـ فالامساك في الرجعي والتسريح في غيره ، وإذا كان معنى ـ مرتين ـ التفريق مع التثنية كما قال به المحققون ـ بناء على أنه حقيقة في الثاني ظاهر في الأول إذ لا يقال لمن دفع إلى آخر درهمين مرة واحدة أنه أعطاه مرتين حتى يفرق بينهما وكذا لمن طلق زوجته ثنتين دفعة أنه طلق مرتين ـ اندفع حديث ارتكاب خلاف الظاهر في التثنية كما هو ظاهر ، وفيما بعدها أيضا لصحة الترتب ويكون عدم جواز الجمع بين التطليقتين مستفادا من (مَرَّتانِ) الدالة على التفريق والتثنية ، وعدم الجمع بين الثالثة مستفادا من قوله سبحانه : (أَوْ تَسْرِيحٌ) حيث رتب على ما قبله بالفاء قيل : إنه مستفاد من دلالة النص هذا ثم من أوجب التفريق ذهب إلى أنه لو طلق غير مفرق وقع طلاقه وكان عاصيا وخالف في ذلك الإمامية وبعض من أهل السنة ـ كالشيخ أحمد بن تيمية ومن اتبعه ـ قالوا : لو طلق ثلاثا بلفظ واحد لا تعد له أربعا بالإجماع وكذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجزه إجماعا ، ومثل ذلك ما لو حلف ليصلين على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألف مرة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف مرة فإنه لا يكون بارا ما لم يأت بآحاد الألف ، وتمسكا بما أخرجه مسلم. وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه.

وذهب بعضهم إلى أن مثل ذلك ما لو طلق في مجلس واحد ثلاث مرات فإنه لا يقع إلا واحدة أيضا لما

أخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال : طلقتها ثلاثا قال : في مجلس واحد؟ قال : نعم قال : فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت فراجعها» والذي عليه أهل الحق اليوم خلاف ذلك كله.

والجواب عن الاحتجاج بالآية أنها كما علمت ليست نصا في المقصود ، وأما الحديث فقد أجاب عنه جماعة قال السبكي : وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ فكانوا أولا يصدقون في إرادة التأكيد لديانتهم فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع الثلاث ، واعترضه العلامة ابن حجر قائلا : إنه عجيب فإن

٥٣١

صريح مذهبنا تصديق مريد التأكيد بشرطه وإن بلغ في الفسق ما بلغ ، ثم نقل عن بعض المحققين أن أحسنها أنهم كانوا يعتادونه طلقة ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه استعجلوا وصاروا يوقعونه ثلاثا فعاملهم بقضيته وأوقع الثلاث عليهم ، فهو إخبار عن اختلاف عادة الناس لا عن تغيير حكم في مسألة ، واعترض عليه بعدم مطابقته للظاهر المتبادر من كلام عمر لا سيما مع قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الثلاث إلخ ، فهو تأويل بعيد لا جواب حسن فضلا عن كونه أحسن ، ثم قال : والأحسن عندي أن يجاب بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما استشار الناس علم فيه ناسخا لما وقع قبل فعمل بقضيته وذلك الناسخ إما خبر بلغه أو إجماع وهو لا يكون إلا عن نص ، ومن ثمّ أطبق علماء الأمة عليه ، وأخبار ابن عباس لبيان أن الناسخ إنما عرف بعد مضي مدة من وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى ، وأنا أقول الطلاق الثلاث في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحتمل أن يكون بلفظ واحد ، وحينئذ يكون الاستدلال به على المدعى ظاهرا ، ويؤيد هذا الاحتمال ظاهرا ما أخرجه أبو داود عنه إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا بفم واحدة فهي واحدة وحينئذ يجاب بالنسخ ، ويحتمل أن يكون بألفاظ ثلاثة في مجلس واحد مثل أنت طالق أنت طالق أنت طالق ، ويحمل ما أخرجه أبو داود على هذا بأن يكون ثلاثا متعلقا ـ يقال ـ لا صفة لمصدر محذوف أي طلاقا ثلاثا ولا تمييز للابهام الذي في الجملة قبله ، وبفم واحدة معناه متتابعا وحينئذ يوافق الخبر بظاهره أهل القول الأخير ، ويجاب عنه بأن هذا في الطلاق قبل الدخول فإنه كذلك لا يقع إلا واحدة كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لأن البينونة وقعت بالتطليقة الأولى فصادفتها الثانية وهي مبانة ، ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود والبيهقي عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتايعوا (١) فيها قال : أجيزوهن عليهم ، وهذه مسألة اجتهادية كانت على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يرو في الصحيح أنها رفعت إليه فقال فيها شيئا ، ولعلها كانت تقع في المواضع النائية في آخر أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيجتهد فيها من أوتي علما فيجعلها واحدة ، وليس في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تصريح بأن الجاعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل في قوله جعلوها واحدة إشارة إلى ما قلنا ، وعمر رضي الله تعالى عنه بعد مضي أيام من خلافته ظهر له بالاجتهاد أن الأولى القول بوقوع الثلاث لكنه خلاف مذهبنا ، وهو مذهب كثير من الصحابة حتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج مالك والشافعي وأبو داود والبيهقي عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن أبي إياس ابن البكير فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فما ذا تريان؟ فقال ابن الزبير : إن هذا الأمر ما لنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة : أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : الواحدة تبينها والثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجا غيره ، وقال ابن عباس مثل ذلك ، وإن حملت الثلاث في هذا الخبر على ما كان بلفظ واحد لئلا يخالف مذهب الإمام فإن عنده إذا طلق الرجل امرأته الغير المدخول بها ثلاثا بلفظ واحد وقعن عليها لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا بائنا فلم

__________________

(١) قوله : تتايع الناس هو بتاءين فوقيتين بعدهما ألف ومثناة تحتية بعدها عين مهملة وهو الوقوع في الشر من غير تماسك ولا توقف. وفي أصل المؤلف بتاء بعدها باء وهو تصحيف تدبر ا ه إدارة الطباعة المنيرية.

٥٣٢

يكن أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة كان هذا الخبر معارضا لما رواه مسلم مؤيدا للنسخ كالخبر الذي أخرجه الطبراني والبيهقي عن سويد بن غفلة قال : كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فقال لها : قتل علي كرم الله وجهه قالت : لتهنك الخلافة قال : يقتل عليّ وتظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق ثلاثا قال : فتلفعت بثيابها وقعدت حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فلما جاءها الرسول قالت : متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى ثم قال : لو لا أني سمعت جدي ـ أو حدثني ـ أبي أنه سمع جدي يقول أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم تحل به حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها ، وما أخرجه ابن ماجة عن الشعبي قال : قلت لفاطمة بنت قيس حدثيني عن طلاقك قالت : طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن فأجاز ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأما حديث ركانة فقد روي على أنحاء ، والذي صح ما أخرجه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي «أن ركانة طلق امرأته البتة فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك وقال : والله ما أردت إلا واحدة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : والله ما أردت إلّا واحدة؟ فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة قال : هو ما أردت فردها عليه» وهذا لا يصلح دليلا لتلك الدعوى لأن الطلاق فيه كناية ونية العدد فيها معتبرة ، وقد يستدل به على صحة وقوع الثلاث بلفظ واحد لأنه دل على أنه لو أراد ما زاد على الواحدة وقع وإلا لم يكن للاستخلاف فائدة والقياس على شهادات اللعان. ورمي الجمرات قياس في غير محله ، ألا ترى أنه لا يمكن الاكتفاء ببعض ذلك بوجه ويمكن الاكتفاء ببعض وحدات الثلاث في الطلاق وتحصل به البينونة بانقضاء العدة ويتم الغرض إجماعا ، ولعظم أمر اللعان لم يكتف فيه إلا بالإتيان بالشهادات واحدة واحدة مؤكدات بالأيمان مقرونة ، خامستها باللعن في جانب الرجل لو كان كاذبا وفي جانبها بالغضب لو كان صادقا فلعل الرجوع أو الإقرار يقع في البين فيحصل الستر أو يقام الحد ويكفر الذنب ، وأيضا الشهادات الأربع من الرجل منزلة منزلة الشهود الأربعة المطلوبة في رمي المحصنات مع زيادة كما يشير إليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ) [النور : ٤] مع قوله سبحانه بعده : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) [النور : ٦] إلخ فكما أن ـ شهادة الشهود ـ متعددة لا يكفي فيها اللفظ الواحد كذلك المنزل منزلتها ، ورمي الجمرات وتسبيعها أمر تعبدي وسره خفي فيحتاط له ويتبع المأثور فيه حذو القذة بالقذة ، وباب الطلاق ليس كهذين البابين على أن من الاحتياط فيه أن نوقعه ثلاثا بلفظ واحد ، ومجلس واحد ، ولا نلغي فيه لفظ الثلاث التي لم يقصد بها إلا إيقاعه على أتم وجه وأكمله ، وما ذكر في مسألة الحلف على أن لا يصلين ألف مرة من أنه لا يبر ما لم يأت بآحاد الألف فأمر اقتضاه القصد والعرف ، وذلك وراء ما نحن فيه كما لا يخفى ، ولهذا ورد عن أهل البيت ما يؤيد مذهب أهل السنة فقد أخرج البيهقي عن بسام الصيرفي قال : سمعت جعفر بن محمد يقول من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد برئت ، وعن مسلمة بن جعفر الأحمس ، قال : قلت لجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونه واحدة يروونها عنكم؟ قال : معاذ الله ما هذا من قولنا من طلق ثلاثا فهو كما قال ، وقد سمعت ما رويناه عن الحسن : وما أخذ به الإمامية يروونه عن علي كرم الله تعالى وجهه مما لا ثبت له والأمر على خلافه ، وقد افتراه على علي كرم الله تعالى وجهه شيخ بالكوفة وقد أقر بالافتراء لدى الأعمش رحمه‌الله تعالى فليحفظ ما تلوناه فإني لا أظنك تجده مسطورا في كتاب.

(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا) في مقابلة الطلاق (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَ) أي من الصدقات فإن ذلك مناف للإحسان ومثلها في الحكم سائر أموالهن إلا أن التخصيص إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أن عدم حل الأخذ مما عدا ذلك من

٥٣٣

باب الأولى ، والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده أو حالا من (شَيْئاً) لأنه لو أخر عنه كان صفة له ، والتنوين للتحقير ، والخطاب مع الحكام ، وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع ، وقيل: إنه خطاب للأزواج ، ويرد عليه أن فيه تشويشا للنظم الكريم لأن قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا) أي الزوجان كلاهما أو أحدهما (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) بترك إقامة مواجب الزوجية غير منتظم معه لأن المعبر عنه في الخطاب الأزواج فقط ، وفي الغيبة الأزواج والزوجات ولا يمكن حمله على الالتفات إذ من شرطه أن يكون المعبر عنه في الطريقين واحدا ، وأين هذا الشرط نعم لهذا القيل وجه صحة لكنها لا تسمن ولا تغني ، وهو أن الاستثناء لما كان بعد مضي جملة الخطاب من أعم الأحوال أو الأوقات أو المفعول له على أن يكون المعنى بسبب من الأسباب إلا بسبب الخوف جاز تغيير الكلام من الخطاب إلى الغيبة لنكتة وهي أن لا يخاطب مؤمن بالخوف من عدم إقامة حدود الله ، وقرئ «تخافا» و «تقيما» بتاء الخطاب وعليها يهون الأمر فإن في ذلك حينئذ تغليب المخاطبين على الزوجات الغائبات ، والتعبير بالتثنية باعتبار الفريقين ، وقرأ حمزة ويعقوب «يخافا» على البناء للمفعول وإبدال (أَنْ) بصلته من ـ ألف الضمير ـ بدل اشتمال كقولك : خيف زيد تركه (حُدُودَ اللهِ) ويعضده قراءة عبد الله إلا أن تخافوا وقال ابن عطية : عدي «خاف» إلى مفعولين «أحدهما» أسند إليه الفعل «والآخر» بتقدير حرف جر محذوف فموضع (أَنْ) جرّ بالجار المقدر ، أو نصب على اختلاف الرأيين وردّه في البحر بأنه لم يذكره النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين ، وأصل «أحدهما» بحرف الجرّ ، وفي قراءة أبيّ «إلا أن يظنا» وهو يؤيد تفسير ـ الظن بالخوف ـ (فَإِنْ خِفْتُمْ) خطاب للحكام لا غير لئلا يلزم تغيير الأسلوب قبل مضي الجملة (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) التي حدّها لهم.

(فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي الزوجين ، وهذا قائم مقام الجواب أي فمروهما فإنه لا جناح (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) نفسها واختلعت لا على الزوج في أخذه ولا عليها في إعطائه إياه ، أخرج ابن جرير عن عكرمة أنه سئل هل كان للخلع أصل؟ قال : كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول : إن أوّل خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي امرأة ثابت بن قيس «أنها أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها قال زوجها : يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليّ حديقتي قال : ما تقولين؟ قالت : نعم وإن شاء زدته قال : ففرق بينهما» وفي رواية البخاري ـ أن المرأة اسمها جميلة وأنها بنت عبد الله المنافق ـ وهو الذي رجحه الحفاظ وكون اسمها زينب جاء من طريق الدارقطني قال الحافظ ابن حجر : فلعل لها اسمين أو أحدهما لقب وإلا فجميلة أصح ، وقد وقع في حديث آخر أخرجه مالك والشافعي وأبو داود أن اسم امرأة ثابت حبيبة بنت سهل ، قال الحافظ : والذي يظهر أنهما قضيتان وقعتا له في امرأتين لشهرة الحديثين وصحة الطريقين واختلاف السياقين (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى ما حد من الأحكام من قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) إلى هنا فالجملة فذلكة لذلك أوردت لترتيب النهي عليها (فَلا تَعْتَدُوها) بالمخالفة والرفض (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تذييل للمبالغة في التهديد والواو للاعتراض وفي إيقاع الظاهر موقع المضمر ما لا يخفى من إدخال الروعة وتربية المهابة ، وظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق لأن نفي الحل الذي هو حكم العقد في جميع الأحوال إلا حال الشقاق يدل على فساد العقد وعدم جوازه ظاهرا إلا أن يدل الدليل على خلاف الظاهر ، وعلى أنه لا يجوز أن يكون بجميع ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد لأن ـ في (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَ) تبعيضية فيكون مفاد الاستثناء حل أخذ شيء مما آتيتموهن حين الخوف ، وأما كلمة ما في قوله سبحانه : (فِيمَا افْتَدَتْ) فليست ظاهرة في العموم حتى ينافي ظهور الآية في

٥٣٤

الحكم المذكور بل فاء التفسير في (فَإِنْ خِفْتُمْ) يدل ظاهرا على أنه بيان للحكم المفهوم بطريق المخالفة عن الاستثناء ، وفائدته التنصيص على الحكم ونفي الجناح في هذا العقد فإن ثبوت الحل المستفاد من الاستثناء قد يجامع الجناح بأن يكون مع الكراهة ، نعم تحتمل العموم فلا تكون نصا في عدم جواز الخلع بجميع ما يساق ، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه : اخلعها ولو بقرطها ، ويؤيد الأول ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ثوبان قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» وقال : «المختلعات هن المنافقات» ويؤيد الثاني ما روي من بعض الطرق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجميلة «أتردّين عليه حديقته؟ فقالت : أردها وأزيد عليها فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أما الزائد فلا» وهذا وإن دل على نفي الزيادة دون جميع المهر إلا أنه يستفاد منه أن فيما افتدت به ليس على عمومه فيكون المراد به ما يستفاد من الاستثناء وهو البعض ، وأكثر الفقهاء على أن الخلع بلا شقاق وبجميع ما ساق مكروه لكنه نافذ لأن أركان العقد من الإيجاب والقبول وأهلية العاقدين مع التراضي متحقق والنهي لأمر مقارن كالبيع وقت النداء وهو لا ينافي الجواز ، وعلى أنه يصح بلفظ المفادات لأنه تعالى سمي الاختلاع افتداء ، واختلف في أنه إذا جرى بغير لفظ الطلاق فسخ أو طلاق ، ومن جعله فسخا احتج بقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقا ، والأظهر أنه طلاق وإليه ذهب أصحابنا وهو قول للشافعية لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض فحينئذ يكون (فَإِنْ طَلَّقَها) متعلقا بقوله سبحانه (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) تفسيرا لقوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) لا متعلقا بآية الخلع ليلزم المحذور ، ويكون ذكر الخلع اعتراضا لبيان أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى ، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين أو بعد الطلاق الموصوف بما تقدم.

(فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) أي من بعد ذلك التطليق (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أي تتزوّج زوجا غيره ، ويجامعها فلا يكفي مجرد العقد كما ذهب إليه ابن المسيب وخطؤه لأن العقد فهم من زوجا ، والجماع من تنكح ، وبتقدير عدم الفهم ، وحمل النكاح على العقد تكون الآية مطلقة إلا أن السنة قيدتها فقد أخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلّا مثل هدبة الثوب فتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» وعن عكرمة أن هذه الآية نزلت في هذه المرأة واسمها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك وكان نزل فيها (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) فيجامعها فإن طلقها بعد ما جامعها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ، وفي ذلك دلالة على أن الناكح الثاني لا بد أن يكون زوجا فلو كانت أمة وطلقت البتة ثم وطئها سيدها لا تحل للأول. وعلى أنه لو اشتراها الزوج من سيدها أو وهبها سيدها له بعد أن بت طلاقها لم يحل له وطؤها في الصورتين بملك اليمين (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وعلى أنّ الولي ليس شرطا في النكاح لأنه أضاف العقد إليها ، والحكمة في هذا الحكم ردع الزوج عن التسرع إلى الطلاق لأنه إذا علم أنه إذا بت الطلاق لا تحل له حتى يجامعها رجل آخر.

ولعله عدوه ارتدع عن أن يطلقها البتة لأنه وإن كان جائزا شرعا لكن تنفر عنه الطباع وتأباه غيرة الرجال ، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند مالك وأحمد والثوري والظاهرية وكثيرين ، واستدلوا على ذلك بما أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا أخبركم بالتيس

٥٣٥

المستعار؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له» وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي الله تعالى عنه قال : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رحمتهما ، والبيهقي عن سليمان بن يسار أن عثمان رضي الله تعالى عنه رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحللها لزوجها ففرق بينهما ، وقال : لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ، وعندنا هو مكروه. والحديث لا يدل على عدم صحة النكاح لما أن المنع عن العقد لا يدل على فساده ، وفي تسمية ذلك محللا ما يقتضي الصحة لأنها سبب الحل ، وحمل بعضهم الحديث على من اتخذه تكسبا أو على ما إذا شرط التحليل في صلب العقد لا على من أضمر ذلك في نفسه فإنه ليس بتلك المرتبة بل قيل : إن فاعل ذلك مأجور (فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي على الزوج الأول والمرأة (أَنْ يَتَراجَعا) أن يرجع كل منهما إلى صاحبه بالزواج بعد مضي العدة (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية التي حدها الله تعالى وشرعها وتفسير الظن بالعلم هاهنا قيل : غير صحيح لفظا ومعنى ، أما معنى فلأنه لا يعلم ما في المستقبل يقينا في الأكثر ، وأما لفظا فلأن أن المصدرية للتوقع وهو ينافي العلم ، ورد بأن المستقبل قد يعلم ويتيقن في بعض الأمور وهو يكفي للصحة ، وبأن سيبويه أجاز ـ وهو شيخ العربية ـ ما علمت إلا أن يقوم زيد والمخالف له فيه أبو علي الفارسي ، ولا يخفى أن الاعتراض الأول فيما نحن فيه مما لا يجدي نفعا لأن المستقبل وإن كان قد يعلم في بعض الأمور إلا أن ما هنا ليس كذلك وليس المراجعة مربوطة بالعلم بل الظن يكفي فيها (وَتِلْكَ) إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا (حُدُودَ اللهِ) أي أحكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة (يُبَيِّنُها) بهذا البيان اللائق ، أو (سيُبَيِّنُها) بناء على أن بعضها يلحقه زيادة كشف في الكتاب والسنة ، والجملة خبر على رأي من يجوّزه في مثل ذلك ، أو حال من (حُدُودَ اللهِ) والعامل معنى الإشارة ، وقرئ «نبينها» بالنون على الالتفات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يفهمون ويعملون بمقتضى العلم فهو للتحريض على العمل ـ كما قيل ـ أو لأنهم المنتفعون بالبيان ، أو لأن ما سيلحق بعض الحدود منه لا يعقله إلا الراسخون ، أو ليخرج غير المكلفين (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي آخر عدتهم فهو مجاز من قبيل استعمال الكل في الجزء إن قلنا : إن الأجل حقيقة في جميع المدة ـ كما يفهمه كلام الصحاح ـ وهو الدائر في كلام الفقهاء ، ونقل الأزهري عن الليث يدل على أنه حقيقة في الجزء الأخير ، وكلا الاستعمالين ثابت في الكتاب الكريم ، فإن كان من باب الاشتراك فذاك وإلا فالتجوّز من الكل إلى الجزء الأخير أقوى من العكس ـ والبلوغ ـ في الأصل الوصول وقد يقال لدنو منه ـ وهو المراد في الآية ـ وهو إمّا من مجاز المشارفة أو الاستعارة تشبيها للمتقارب الوقوع بالواقع ليصح أن يرتب عليه.

(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل لأنها حينئذ غير زوجة له ولا في عدّته فلا سبيل له عليها ـ والإمساك ـ مجاز عن المراجعة لأنها سببه ـ والتسريح ـ بمعنى الإطلاق وهو مجاز عن الترك ، والمعنى فراجعوهن من غير «ضرار» أو خلوهن حتى تنقضي عدّتهن من غير تطويل ، وهذا إعادة للحكم في صورة بلوغهنّ أجلهنّ اعتناء لشأنه ومبالغة في إيجاب المحافظة عليه ، ومن الناس من حمل ـ الإمساك بالمعروف ـ على عقد النكاح وتجديده مع حسن المعاشرة ـ والتسريح بالمعروف ـ على ترك العضل عن التزوّج بآخر ، وحينئذ لا حاجة إلى القول بالمجاز في «بلغن» ولا يخفى بعده عن سبب النزول ، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أنّ رجلا من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق زوجته حتى إذا انقضت عدّتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر يضارها فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) تأكيد للأمر ـ بالإمساك بالمعروف ـ وتوضيح لمعناه وهو أدل منه على الدوام والثبات ؛ وأصرح في الزجر عما كانوا يتعاطونه ، و (ضِراراً)

٥٣٦

نصب على العلية أو الحالية أي لا ترجعوهن للمضارة أو مضارين ، ومتعلق النهي القيد ـ واللام ـ في قوله تعالى: (لِتَعْتَدُوا) متعلق ب (ضِراراً) أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء ، واعترض بأن ـ الضرار ـ ظلم ـ والاعتداء ـ مثله فيؤول إلى (وَلا تُمْسِكُوهُنَ) ظلما لتظلموا وهو كما ترى ، وأجيب بأنّ المراد ـ بالضرار ـ تطويل المدة ـ وباعتداء ـ الإلجاء ، فكأنه قيل : لا تمسكوهنّ بالتطويل لتلجئوهنّ إلى الاختلاع والظلم قد يقصد ليؤدّي إلى ظلم آخر ، والمشهور أن هذا الوجه متعين على الوجه الأول في (ضِراراً) ولا يجوز عليه أن يكون هذا علة لما كان هو له إذ المفعول له لا يتعدّد إلا بالعطف ، أو على البدل ـ وهو غير ممكن لاختلاف الإعراب ـ ويجوز أن يكون كذلك على الوجه الثاني ، وجوّز تعلقه بالفعل مطلقا إذا جعلت ـ اللام ـ للعاقبة ، ولا ضرر في تعدّي الفعل إلى علة وعاقبة لاختلافهما وإن كانت ـ اللام ـ حقيقة فيهما على رأي ـ (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) المذكور وما فيه من البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها للعذاب ، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن المعاشرة ، ومنافع الدنيا من عدم رغبة النساء به بعد لاشتهاره بهذا الفعل القبيح (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ) المنطوية على الأحكام المذكورة في أمر النساء أو جميع آياته وهذه داخلة فيها (هُزُواً) مهزوءا بها بأن تعرضوا عنها ، وتتهاونوا في المحافظة عليها لقلة اكتراثكم بالنساء وعدم مبالاتكم بهن ، وهذا نهي أريد به الأمر بضده ، أي جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها. وأخرج ابن أبي عمرة وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : كان الرجل يطلق ثم يقول : لعبت ويعتق ، ثم يقول : لعبت ، فنزلت ، وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ثلاث هزلهنّ جد : النكاح والطلاق والرجعة» وعن أبي الدرداء «ثلاث اللاعب فيها كالجاد ، النكاح ، والطلاق والعتاق» وعن عمر رضي الله تعالى عنه «أربع مقفلات. النذر والطلاق والعتق والنكاح» (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها ـ والنعمة ـ إما عامة فعطف.

(وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) عليها من عطف الخاص على العام ، وإمّا أن تخص بالإسلام ونبوّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وخصا بالذكر ليناسب ما سبقه ، وليدل على أن ما كانوا عليه من الإمساك إضرارا من سنن الجاهلية المخالفة ، كأنه لما قيل : جدّوا في العمل بالآيات على طريق الكناية أكد ذلك بأنه شكر النعمة فقوموا بحقه ، ويكون العطف تأكيدا على تأكيد لأن الإسلام ونبوّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يشملان إنزال الكتاب والسنة ـ وهو قريب من عطف التفسير ـ ولا بأس أن يسمى عطف التقرير ، قيل : ولو عمم النعمة لم يحسن موقعه هذا الحسن ، ولا يخفى أنه في حيز المنع ، والظرف الأوّل متعلق بمحذوف وقع حالا من نعمة أو صفة لها على رأي من يجوّز حذف الموصول مع بعض الصلة ، ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله ـ تاء التأنيث ـ لأنه مبني عليها كما في قوله :

فلو لا رجاء النصر منك وهيبة

عقابك قد كانوا لنا كالموارد

والظرف الثاني متعلق بما عنده وأتى به تنبيها للمأمورين وتشريفا لهم ، و (ما) موصولة حذف عائدها من الصلة ، و (مَنْ) في قوله تعالى : (مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) بيانية ، والمراد بهما القرآن الجامع للعنوانين ، أو القرآن والسنة ، والإفراد بالذكر بعد الاندراج في المذكور إظهارا للفضل وإيماء إلى أن الشرف وصل إلى غاية لا يمكن معها الاندراج ، وذاك من قبيل :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

(يَعِظُكُمْ بِهِ) أي بما أنزل حال من فاعل (أَنْزَلَ) أو من مفعوله ، أو منهما معا ، وجوّز أن يكون (ما)

٥٣٧

مبتدأ وهذه الجملة خبره و (مِنَ الْكِتابِ) حال من العائد المحذوف ، وقيل : الجملة معترضة للترغيب والتعليل.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره والقيام بحقوقه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تذرون فليحذر من جزائه وعقابه ، أو أن (عَلِيمٌ) بكل شيء فلا يأمر إلا بما فيه الحكمة والمصلحة فلا تخالفوه ، وفي هذا العطف ما يؤكد الأوامر والأحكام السابقة ، وليس هذا من التأكيد المقتضي للفصل ، لأنه ليس إعادة لمفهوم المؤكد ولا متحدا معه.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي انقضت عدتهن كما يدل عليه السياق. (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) أي لا تمنعوهن ذلك ، وأصل العضل الحبس والتضييق ، ومنه عضلت الدجاجة بالتشديد إذا نشبت بيضتها ولم تخرج ، والفعل مثلث العين ، واختلف في الخطاب فقيل ـ واختاره الإمام ـ إنه للأزواج المطلقين حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم بعد مضي العدة ولا يدعونهن يتزوجن ظلما وقسرا لحمية الجاهلية ، وقد يكون ذلك بأن يدس إلى من يخبطهن ما يخيفه أو ينسب إليهن ما ينفر الرجل من الرغبة فيهن ، وعليه يحمل الأزواج على من يردن أن يتزوجنه ، والعرب كثيرا ما تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه ، وقيل ـ واختاره القاضي ـ إنه للأولياء ، فقد أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود وخلق كثير من طرق شتى عن معقل بن يسار قال : كانت لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة ، ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له : يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها ، والله لا ترجع إليك أبدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله تعالى حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله تعالى هذه الآية ، قال : ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه ، وفي لفظ فلما سمعها معقل قال : سمعا لربي وطاعة ثم دعاه فقال : أزوجك وأكرمك ، وعليه يحمل الأزواج على الذين كانوا أزواجا وخطاب التطليق حينئذ إما أن يتوجه لما توجه له هذا الخطاب ويكون نسبة التطليق للأولياء باعتبار التسبب كما ينبئ عنه التصدي للعضل ، وإما أن يبقى على ظاهره للأزواج المطلقين ويتحمل تشتيت الضمائر اتكالا على ظهور المعنى ، وقيل ـ واختاره الزمخشري ـ إنه لجميع الناس فيتناول عضل الأزواج والأولياء جميعا ، ويسلم من انتشار ضميري الخطاب والتفريق بين الاسنادين مع المطابقة لسبب النزول ، وفيه تهويل أمر العضل بأن من حق الأولياء أن لا يحوموا حوله وحق الناس كافة أن ينصروا المظلوم ، وجعل بعضهم الخطابات السابقة كذلك ، وذكر أن المباشرة لتوقفها على الشروط العقلية والشرعية توزعت بحسبها كما إذا قيل لجماعة معدودة أو غير محصورة. أدوا الزكاة وزوجوا الأكفاء وامنعوا الظلمة كان الكل مخاطبين والتوزع على ما مر ، هذا وليس في الآية على أي وجه حملت دليل على أنه ليس للمرأة أن تزوج نفسها كما وهم ونهي الأولياء عن العضل ليس لتوقف صحة النكاح على رضاهم بل لدفع الضرر عنهن لأنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن شرعا لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة أو مخافة البطش بهن ، وفي إسناد النكاح إليهن إيماء إلى عدم التوقف وإلا لزم المجاز وهو خلاف الظاهر ، وجوز في أن ينكحن وجهان : الأول أنه بدل اشتمال من الضمير المنصوب قبله. والثاني أن يكون على إسقاط الخافض والمحل إما نصب أو جر على اختلاف الرأيين (إِذا تَراضَوْا) ظرف ـ لا تعضلوا ـ والتذكير باعتبار التغليب والتقييد به لأن المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضي ، وقيل ظرف لأن ينكحن. وقوله تعالى : (بَيْنَهُمْ) ظرف للتراضي مفيد لرسوخه واستحكامه (بِالْمَعْرُوفِ) أي بما لا يكون مستنكرا شرعا ومروءة ، والباء إما متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل (تَراضَوْا) أو نعتا لمصدر محذوف أي تراضيا كائنا (بِالْمَعْرُوفِ) وإما بتراضوا أو بينكحن ، وفي التقييد بذلك إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر

٥٣٨

المثل ليس من باب العضل (ذلِكَ) إشارة إلى ما فصل والخطاب للجمع على تأويل القبيل أو لكل واحد واحد أو أن الكاف تدل على خطاب قطع فيه النظر عن المخاطب وحدة وتذكيرا وغيرهما.

والمقصود الدلالة على حضور المشار إليه عند من خوطب للفرق بين الحاضر والمنقضي الغائب أو للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليطابق ما في سورة الطلاق ، وفيه إيذان بأن المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد بل لا بد لتصور ذلك من مؤيد من عند الله تعالى : (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) خصه بالذكر لأنه المسارع إلى الامتثال إجلالا لله تعالى وخوفا من عقابه ، و (مِنْكُمْ) إما متعلق ـ بكان ـ على رأي من يرى ذلك وإما بمحذوف وقع حالا من فاعل (يُؤْمِنُ ذلِكُمْ) أي الاتعاظ به والعمل بمقتضاه (أَزْكى لَكُمْ) أي أعظم بركة ونفعا (وَأَطْهَرُ) أي أكثر تطهيرا من دنس الآثام ، وحذف لكم اكتفاء بما في سابقه ، وقيل : إن المراد أطهر لكم ولهم لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه من المصلحة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك فلا رأي إلا الاتباع ، ويحتمل تعميم المفعول في الموضعين ، ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا وفائدة الجملة الحث على الامتثال.

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لاستعطافهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن كما يقتضيه الظاهر ، وخصه بعضهم بالوالدات المطلقات وهو المروي عن مجاهد وابن جبير وزيد بن أسلم ، واحتج عليه بأمرين : الأول أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آيات الطلاق فكانت من تتمتها وإنما أتمها بذلك لأنه إذا حصلت الفرقة ربما يحصل التعادي والتباغض وهو يحمل المرأة غالبا على إيذاء الولد نكاية بالمطلق وإيذاء له وربما رغبت في التزوج بآخر وهو كثيرا ما يستدعي إهمال أمر الطفل وعدم مراعاته فلا جرم أمرهن على أبلغ وجه برعاية جانبه والاهتمام بشأنه ، والثاني أن إيجاب الرزق والكسوة فيما بعد للمرضعات يقتضي التخصيص إذ لو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا الرضاع ، وقال الواحدي : الأولى أن يخص بالوالدات حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة ولا يخفى أن الحمل على العموم أولى ولا يفوت الغرض من التعقيب ؛ وإيجاب الرزق والكسوة للمرضعات لا يقتضي التخصيص لأنه باعتبار البعض على أن على ما قيل : ليس في الآية ما يدل على أنه للرضاع ومن قال : إنه له جعل ذلك أجرة لهن إلا أنه لم يعبر بها وعبر بمصرفها الغالب حثا على إعطائها نفسها لذلك أو إعطاء ما تصرف لأجله فتدبر (حَوْلَيْنِ) أي عامين والتركيب يدور على الانقلاب وهو منصوب على الظرفية و (كامِلَيْنِ) صفته ، ووصف بذلك تأكيدا لبيان أن التقدير تحقيقي لا تقريبي مبني على المسامحة المعتادة (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) بيان للمتوجه عليه الحكم ، والجار في مثله خبر لمحذوف أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وجوز أن يكون متعلقا ـ بيرضعن ـ فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة للأم والأم ترضع له وكون الرضاع واجبا على الأب لا ينافي أمرهن لأنه للندب أو لأنه يجب عليهن أيضا في الصور السابقة. واستدل بالآية على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا يعتد به بعدهما فلا يعطى حكمه وأنه يجوز أن ينقص عنهما ، وقرئ «أن يتم» بالرفع واختلف في توجيهه فقيل : حملت أن المصدرية على ما أختها في الإهمال كما حملت أختها عليها في الإعمال في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كما تكونوا يولى عليكم» على رأي ، وقيل : ان يتموا بضمير الجمع باعتبار معنى من وسقطت الواو في اللفظ لالتقاء الساكنين فتبعها الرسم (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه ولم يعبر به مع أنه أخصر وأظهر للدلالة على علة الوجوب بما فيه من معنى الانتساب

٥٣٩

المشيرة إليه اللام وتسمى هذه الإشارة إدماجا عند أهل البديع وإشارة النص عندنا ، وقيل : عبر بذلك لأن الوالد قد لا تلزمه النفقة وإنما تلزم المولود له كما إذا كانت تحته أمة فأتت بولد فإن نفقته على مالك الأم لأنه المولود له دون الوالد ، وفيه بعد لأن المولود له لا يتناول الوالد والسيد تناولا واحدا وحكم العبيد دخيل في البين (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) أي إيصال ذلك إليهن أي الوالدات أجرة لهن ، واستئجار الأم جائز عند الشافعي وعندنا لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة (بِالْمَعْرُوفِ) أي بلا إسراف ولا تقتير أو حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه. (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسير للمعروف ولهذا فصل وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه ولا ينفي الجواز والإمكان الذاتي فلا ينتهض حجة للمعتزلة ، ونصب (وُسْعَها) على أنه مفعول ثان ـ لتكلف ـ وقرئ ولا تكلف بفتح ـ التاء ـ ولا نكلف ـ بالنون.

(لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم وهو الداعي للفصل ، والمضارة مفاعلة من الضرر ، والمفاعلة إما مقصودة والمفعول محذوف أي تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب ما ليس بعدل من الرزق والكسوة وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد وأن تقول بعد أن ألفها الصبي أطلب له ظئرا مثلا ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها ، أو يأخذ الصبي منها وهي تريد إرضاعه أو يكرهها على الإرضاع وإما غير مقصودة والمعنى لا يضر واحد منهما الآخر بسبب الولد ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب لا تضار بالرفع فتكون الجملة بمنزلة بدل الاشتمال مما قبلها ، وقرأ الحسن تضار بالكسر وأصله تضارر مكسور الراء مبنيا للفاعل وجوز فتحها مبنيا للمفعول ، ويبين ذلك أنه قرئ ـ ولا تضارر ، ولا تضارر ـ بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها ، وعلى تقدير البناء للمفعول يكون المراد لا نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج وأن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد ، والباء على كل تقدير سببية ولك أن تجعل فاعل بمعنى فعل والباء سيف خطيب ، ويكون المعنى لا تضر والدة ولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده وتفرط فيما ينبغي له وتدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ولا يضر الوالد ولده بأن ينزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حقه ، وقرأ أبو جعفر ـ لا تضار ـ بالسكون مع التشديد على نية الوقف ، وعن الأعرج ـ لا تضار ـ بالسكون والتخفيف ، وهو من ضار يضير ونوى الوقف كما نواه الأول ، وإلا لكان القياس حذف الألف ، وعن كاتب عمر رضي الله تعالى عنه ـ لا تضرر ـ والتعبير بالولد في الموضعين ، وإضافته إليها تارة وإليه أخرى للاستعطاف ، والإشارة إلى ما هو كالعلة في النهي ولذا أقام المظهر مقام المضمر ، ومن غريب التفسير ما رواه الإمامية عن السيدين الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أن المعنى ـ لا تضار ـ والدة بترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها الرضيع ـ ولا يضار ـ مولود له بمنعه عن الجماع كذلك لأجل ولده ، وحينئذ تتعين الباء للسببية ، ويجب أن يكون الفعلان مبنيين للمفعول ولا يظهر وجه لطيف للتعبير بالولد في الموضعين ، وتخرج الآية عما يقتضيه السياق ، وبعيد عن الباقر ، والصادق الإقدام على ما زعمه هذا الراوي الكاذب (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) عطف على قوله تعالى : «وعلى المولود له» إلخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة ومجاهد وعطاء وإبراهيم والشعبي وعبد الله بن عتبة وخلق كثير ، ويؤيده أن أل كالعوض من المضاف إليه الضمير ورجوع الضمير لأقرب مذكور وهو الأكثر في الاستعمال ، وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي ، وبه قال حماد ويؤيده قراءة ابن مسعود ، وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ، وقيل : عصباته ؛ وبه قال أبو زيد ، ويروى عن عمر رضي الله تعالى

٥٤٠