روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

والتزلزل ، فالجملة على التقديرين اعتراضية بين كلامين متصلين معنى ، أحدهما ما تقدم ، والثاني قوله سبحانه وتعالى :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) أخرج أحمد وجماعة عن كعب بن مالك قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فوجد امرأته قد نامت فأيقظها وأرادها فقالت : إني قد نمت فقال : ما نمت ، ثم وقع بها ، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فنزلت. وفي رواية ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله ثم أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أعتذر إلى الله تعالى وإليك من نفسي هذه الخاطئة فإنها زينت لي فواقعت أهلي هل تجد لي من رخصة؟ قال : لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن وأمر الله تعالى رسوله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال : (أُحِلَّ لَكُمْ) إلخ ـ وليلة الصيام ـ الليلة التي يصبح منها صائما فالإضافة لأدنى ملابسة ، والمراد بها الجنس وناصبها ـ الرفث ـ المذكور أو المحذوف الدال هو عليه بناء على أن المصدر لا يعمل متقدما ، وجوز أن يكون ظرفا ـ لأحل ـ لأن إحلال الرفث في ليلة الصيام وإحلال الرفث الذي فيها متلازمان ، و (الرَّفَثُ) من رفث في كلامه وأرفث وترفث أفحش وأفصح بما يكنى عنه ، والمراد به هنا الجماع لأنه لا يكاد يخلو من الإفصاح ، وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أنشد وهو محرم :

وهن يمشين بنا هميسا

إن صدق الطير ننك لميسا

فقيل له : أرفثت؟ فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء ، فالرفث فيه يحتمل أن يكون قولا وأن يكون فعلا ، والأصل فيه أن يتعدى ـ بالباء ـ وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ولم يجعل من أول الأمر كناية عنه لأن المقصود هو الجماع فقصرت المسافة ، وإيثاره هاهنا على ما كني به عنه في جميع القرآن من التغشية والمباشرة واللمس والدخول ونحوها استقباحا لما وجد منهم قبل الإباحة ، ولذا سماه اختيانا فيما بعد ، والنساء جمع نسوة فهو جمع الجمع أو جمع امرأة على غير اللفظ وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للاختصاص إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختص بالمفضي إما بتزويج أو ملك ، وقرأ عبد الله ـ الرفوث ـ (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن قاله ابن عباس حين سأله نافع بن الأزرق وأنشد رضي الله تعالى عنهما لما قال له هل تعرف العرب ذلك؟ قول الذبياني :

إذا ما الضجيع ثنى عطفه

تثنت عليه فكانت «لباسا»

ولما كان الرجل والمرأة يتعانقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه كل واحد بالنظر إلى صاحبه باللباس أو لأن كل واحد منهما يستر صاحبه ويمنعه عن الفجور ، وقد جاء في الخبر «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه» والجملتان مستأنفتان استئنافا نحويا والبياني يأباه الذوق ، ومضمونهما بيان لسبب الحكم السابق وهو قلة الصبر عنهن كما يستفاد من الأولى ، وصعوبة اجتنابهن كما تفيده الثانية ـ ولظهور احتياج الرجل إليهن وقلة صبره ـ قدم الأولى ، وفي الخبر «لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم وأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا» (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) جملة معترضة بين قوله تعالى : (أُحِلَ) إلخ وبين ما يتعلق به أعني (فَالْآنَ) إلخ لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم قبل الإحلال ، ومعنى (عَلِمَ) تعلق علمه ، و ـ الاختيان ـ تحرك

٤٦١

شهوة الإنسان لتحري الخيانة أو الخيانة البليغة فيكون المعنى تنقصون أنفسكم تنقيصا تاما بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب ، ويؤول إلى معنى تظلمونها بذلك ، والمراد الاستمرار عليه فيما مضى قبل إخبارهم بالحال كما ينبئ عنه صيغتا الماضي والمضارع وهو متعلق العلم ، وما تفهمه الصيغة الأولى من تقدم كونهم على الخيانة على العلم يأبى حمله على الأزلي الذاهب إليه البعض (فَتابَ عَلَيْكُمْ) عطف على (عَلِمَ) والفاء لمجرد التعقيب ، والمراد قبل توبتكم حين تبتم عن المحظور الذي ارتكبتموه (وَعَفا عَنْكُمْ) أي محا أثره عنكم وأزال تحريمه ، وقيل : الأول لإزالة التحريم وهذا لغفران الخطيئة (فَالْآنَ) مرتب على قوله سبحانه وتعالى (أُحِلَّ لَكُمْ) نظرا إلى ما هو المقصود من الإحلال وهو إزالة التحريم أي حين نسخ عنكم تحريم القربان وهو ليلة الصيام كما يدل عليه الغاية الآتية فإنها غاية للأوامر الأربعة التي هذا ظرفها ، والحضور المفهوم منه بالنظر إلى فعل نسخ التحريم وليس حاضرا بالنظر إلى الخطاب بقوله تعالى : (بَاشِرُوهُنَ) ، وقيل : إنه وإن كان حقيقة في الوقت الحاضر إلا أنه قد يطلق على المستقبل القريب تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا أو أنه مستعمل في حقيقته والتقدير قد أبحنا لكم مباشرتهن ، وأصل المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة وأطلقت على الجماع للزومها لها.

(وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي اطلبوا (ما) قدره (اللهُ) تعالى (لَكُمْ) في اللوح من الولد ، وهو المروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم. والمراد الدعاء بطلب ذلك بأن يقولوا : اللهم ارزقنا ما كتبت لنا ، وهذا لا يتوقف على أن يعلم كل واحد أنه قدر له ولد ، وقيل : المراد ما قدره لجنسكم والتعبير ب (ما) نظرا إلى الوصف كما في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥] وفي الآية دلالة على أن المباشر ينبغي أن يتحرى بالنكاح حفظ النسل ـ لا قضاء الشهوة فقط ـ لأنه سبحانه وتعالى جعل لنا شهوة الجماع لبقاء نوعنا إلى غاية كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية ، ومجرد قضاء الشهوة لا ينبغي أن يكون إلا للبهائم ، وجعل بعضهم هذا الطلب كناية عن النهي عن العزل ، أو عن إتيان المحاش ، وبعض فسر من أول مرة ما كتب بما سن وشرع من صب الماء في محله ، أي اطلبوا ذلك دون العزل والإتيان المذكورين ـ والمشهور حرمتهما ـ أما الأول فالمذكور في الكتب فيه أنه لا يعزل الرجل عن الحرة بغير رضاها ، وعن الأمة المنكوحة بغير رضاها أو رضا سيدها على الاختلاف بين الإمام وصاحبيه ، ولا بأس بالعزل عن أمته بغير رضاها إذ لا حق لها.

وأما الثاني فسيأتي بسط الكلام فيه على أتم وجه إن شاء الله تعالى. وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه تفسير ذلك بليلة القدر. وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا وعن قتادة أن المراد (ابْتَغُوا) الرخصة (الَّتِي كَتَبَ اللهُ) تعالى (لَكُمْ) فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، وعليه تكون الجملة كالتأكيد لما قبلها ، وعن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف تقرأ هذه الآية (ابْتَغُوا) أو «اتبعوا»؟ فقال : أيهما شئت ، وعليك بالقراءة الأولى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الليل كله (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) أي يظهر (لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره ، وحمله على الفجر الكاذب المستطيل الممتد كذنب السرحان وهم (مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) وهو ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة آخر الليل (مِنَ الْفَجْرِ) بيان لأول الخيطين ـ ومنه يتبين الثاني ـ وخصه بالبيان لأنه المقصود وقيل : بيان لهما بناء على أن (الْفَجْرِ) عبارة عن مجموعهما لقول الطائي : * وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه* فهو على وزان قولك : حتى يتبين العالم من الجاهل من القوم ، وبهذا البيان خرج الخيطان عن الاستعارة إلى التشبيه لأن شرطها عندهم تناسيه بالكلية ، وادعاء أن المشبه هو المشبه به لو لا القرينة والبيان ينادي على أن المراد ـ مثل هذا الخيط وهذا الخيط ـ إذ هما لا يحتاجان إليه ، وجوّز أن

٤٦٢

تكون (مِنَ) تبعيضية لأن ما يبدو جزء من «الفجر» كما أنه فجر بناء على أنه اسم للقدر المشترك بين الكل والجزء ، و (مِنَ) الأولى قيل : لابتداء للغاية ، وفيه أن الفعل المتعدي بها يكون ممتدا أو أصلا للشيء الممتد ، وعلامتها أن يحسن في مقابلتها (إِلى) أو ما يفيد مفادها ـ وما هنا ليس كذلك ـ فالظاهر أنها متعلقة ب (يَتَبَيَّنَ) بتضمين معنى التميز ، والمعنى حتى يتضح «لكم الفجر» متميزا عن غبش الليل ، فالغاية إباحة ما تقدم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) أحدهما من الآخر ويميز بينهما ، ومن هذا وجه عدم الاكتفاء ب (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) الفجر ، أو «يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر» لأن تبين الفجر له مراتب كثيرة ، فيصير الحكم مجملا محتاجا إلى البيان ، وما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال : أنزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) إلخ ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعد «من الفجر» فعلموا إنما يعني الليل والنهار ، فليس فيه نص على أن الآية قبل محتاجة إلى البيان بحيث لا يفهم منها المقصود إلا به وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز لجواز أن يكون الخيطان مشتهرين في المراد منهما ، إلا أنه صرح بالبيان لما التبس على بعضهم ، ويؤيد ذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصف من لم يفهم المقصود من الآية قبل التصريح ـ بالبلادة ـ ولو كان الأمر موقوفا على البيان لاستوى فيه الذكي والبليد ، فقد أخرج سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري. ومسلم وأبو داود والترمذي وجماعة عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال : لما أنزلت هذه الآية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) إلخ عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت انظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بالذي صنعت فقال : «إن وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل» وفي رواية «إنك لعريض القفا» وقيل : إن نزول الآية كان قبل دخول رمضان ـ وهي مبهمة ـ والبيان ضروري إلا أنه تأخر عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة وهو لا يضر ـ ولا يخفى ما فيه ـ وقال أبو حيان : إن هذا من باب النسخ ، ألا ترى أن الصحابة عملوا بظاهر ما دل عليه اللفظ ثم صار مجازا بالبيان ويرده على ما فيه أن النسخ يكون بكلام مستقل ولم يعهد نسخ هكذا وفي هذه الأوامر دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب بل على وقوعه بناء على القول بأن الحكم المنسوخ من حرمة الوقاع والأكل والشرب كانت ثابتة بالسنة ، وليس في القرآن ما يدل عليها ، و (أُحِلَ) أيضا يدل على ذلك إلا أنه نسخ بلا بدل وهو مختلف فيه ، واستدل بالآية على صحة صوم الجنب لأنه يلزم من إباحة المباشرة إلى تبين الفجر إباحتها في آخر جزء من أجزاء الليل متصل بالصبح فإذا وقعت كذلك أصبح الشخص جنبا فإن لم يصح صومه لما جازت المباشرة لأن الجنابة لازمة لها ومنافي اللازم مناف للملزوم ، ولا يرد خروج المني بعد الصبح بالجماع الحاصل قبله لأنه إنما يفسد الصوم لكونه مكمل الجماع فهو جماع واقع في الصبح ، وليس بلازم للجماع كالجنابة ، وخالف في ذلك بعضهم ومنع الصحة زاعما أن الغاية متعلقة بما عندها ، واحتج بآثار صح لدى المحدثين خلافها.

واستدل بها أيضا على جواز الأكل مثلا لمن شك في طلوع الفجر لأنه تعالى أباح ما أباح مغيّا بتبينه ولا تبين مع الشك خلافا لمالك. ومجاهد بها على عدم القضاء والحال هذه إذا بان أنه أكل بعد الفجر لأنه أكل في وقت اذن له فيه ، وعن سعيد بن منصور مثله ـ وليس بالمنصور ـ والأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم على أن أول النهار الشرعي طلوع الفجر فلا يجوز فعل شيء من المحظورات بعده وخالف في ذلك الأعمش ولا يتبعه إلا الأعمى ، فزعم أن أوله طلوع الشمس كالنهار العرفي وجوز فعل المحظورات بعد طلوع الفجر ، وكذا الإمامية وحمل (مِنَ الْفَجْرِ) على التبعيض وإرادة الجزء الأخير منه والذي دعاه لذلك خبر صلاة النهار عجماء وصلاة الفجر ليست بها فهي في الليل ،

٤٦٣

وأيده بعضهم بأن شوب الظلمة بالضياء كما أنه لم يمنع من الليلية بعد غروب الشمس ينبغي أن لا يمنع منها قبل طلوعها وتساوي طرفي الشيء مما يستحسن في الحكمة وإلى البدء يكون العود ، وفيه أن النهار في الخبر بعد تسليم صحته يحتمل أن يكون بالمعنى العرفي ولو أراده سبحانه وتعالى في هذا الحكم لقال : وكلوا واشربوا إلى النهار (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) مع أنه أخصر وأوفق مما عدل إليه فحيث لم يفعل فهم أن الأمر مربوط بالفجر لا بطلوع الشمس سواء عد ذلك نهارا أم لا ، وما ذكر من استحسان تساوي طرفي الشيء مع كونه ـ مما لا يسمن ولا يغني من جوع ـ في هذا الباب يمكن معارضته بأن جعل أول النهار كأول الليل وهما متقابلان مما يدل على عظم قدرة الصانع الحكيم وإلى الانتهاء غاية الإتمام ، ويجوز أن يكون حالا من الصيام فيتعلق بمحذوف ولا يجوز جعله غاية للإيجاب لعدم امتداده ، وعلى التقديرين تدل الآية على نفي كون الليل محل الصوم وأن يكون صوم اليومين صومة واحدة ، وقد استنبط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منها حرمة الوصال كما قيل ، فقد روى أحمد من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنه ، وقال : يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى ، و (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فإذا كان الليل فافطروا ، ولا تدل الآية على أنه لا يجوز الصوم حتى يتخلل الإفطار خلافا لزاعمه ، نعم استدل بها على صحة نية رمضان في النهار ، وتقرير ذلك أن قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا) إلخ معطوف على قوله : (بَاشِرُوهُنَ) إلى قوله سبحانه : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) وكلمة (ثُمَ) للتراخي والتعقيب بمهلة ـ واللام ـ في (الصِّيامِ) للعهد على ما هو الأصل ، فيكون مفاد (ثُمَّ أَتِمُّوا) إلخ الأمر ـ بإتمام الصيام ـ المعهود أي الإمساك المدلول عليه بالغاية سواء فسر بإتيانه تاما ، أو بتصييره كذلك متراخيا عن الأمور المذكورة المنقضية بطلوع الفجر تحقيقا لمعنى (ثُمَ) فصارت نية الصوم بعد مضي جزء من الفجر لأن قصد الفعل إنما يلزمنا حين توجه الخطاب ، وتوجهه ـ بالإتمام ـ بعد الفجر لأنه بعد الجزء الذي هو غاية لانقضاء الليل تحقيقا لمعنى التراخي ، والليل لا ينقضي إلا متصلا بجزء من الفجر ، فتكون النية بعد مضي جزء الفجر الذي به انقطع الليل ، وحصل فيه الإمساك المدلول عليه بالغاية ، فإن قيل : لو كان كذلك وجب وجوب النية بعد المضي ، أجيب بأن ترك ذلك بالإجماع ، وبأن إعمال الدليلين ـ ولو بوجه ـ أولى من إهمال أحدهما ، فلو قلنا بوجوب النية كذلك عملا بالآية بطل العمل بخبر «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل» ولو قلنا باشتراط النية قبله عملا بالخبر بطل العمل بالآية ، فقلنا بالجواز عملا بهما ، فإن قيل : مقتضى الآية ـ على ما ذكر ـ الوجوب وخبر الواحد لا يعارضها ، أجيب بأنها متروكة الظاهر بالإجماع فلم تبق قاطعة ـ فيجوز أن يكون الخبر بيانا لها ـ ولبعض الأصحاب تقرير الاستدلال بوجه آخر ، ولعل ما ذكرناه أقل مئونة فتدبر. وزعم بعض الشافعية أن الآية تدل على وجوب التبييت ، لأن معنى «ثم أتموا» صيروه تاما بعد الانفجار ، وهو يقتضي الشروع فيه قبله ـ وما ذاك إلا بالنية ـ إذ لا وجوب للإمساك قبل ، ولا يخفي ما فيه (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أي معتكفون فيها ـ والاعتكاف ـ في اللغة الاحتباس واللزوم مطلقا ، ومنه قوله :

فباتت بنات الليل حولي ـ عكفا

عكوف ـ بواك حولهن صريع

وفي الشرع لبث مخصوص ، والنهي عطف على أول الأوامر ـ والمباشرة فيه كالمباشرة فيه ـ وقد تقدم أن المراد بها الجماع ، إلا أنه لزم من إباحة الجماع إباحة اللمس والقبلة وغيرهما بخلاف النهي فإنه ـ لا يستلزم النهي عن الجماع ـ النهي عنهما ، فهما إما مباحان اتفاقا بأن يكونا بغير شهوة ، وإما حرامان بأن يكونا بها «يبطل الاعتكاف ما لم ينزل» وصحح معظم أصحاب الشافعي البطلان ـ وقيل : المراد من ـ المباشرة ـ ملاقاة البشرتين ففي الآية منع عن

٤٦٤

مطلق المباشرة ـ وليس بشيء ـ فقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها ترجل رأس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو معتكف ، وفي تقييد ـ الاعتكاف بالمساجد ـ دليل على أنه لا يصح إلا في المسجد إذ لو جاز شرعا في غيره لجاز في البيت ـ وهو باطل بالإجماع ـ ويختص بالمسجد الجامع عند الزهري ، وروي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه مختص بمسجد له إمام ومؤذن راتب ، وقال حذيفة رضي الله تعالى عنه : يختص بالمساجد الثلاثة ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه لا يجوز إلا في المسجد الحرام ، وعن ابن المسيب لا يجوز إلا فيه أو في المسجد النبوي ، ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يصح في جميع المساجد مطلقا بناء على عموم اللفظ وعدم اعتبار أن المطلق ينصرف إلى الكامل ، واستدل بالآية على صحة اعتكاف المرأة في غير المسجد بناء على أنها لا تدخل في خطاب الرجال ، وعلى اشتراط الصوم في الاعتكاف لأنه قصر الخطاب على الصائمين ، فلو لم يكن الصوم من شرطه لم يكن لذلك معنى ، وهو المروي عن نافع مولى ابن عمر ، وعائشة رضي الله تعالى عنهم ، وعلى أنه لا يكفي فيه أقل من يوم ـ كما أن الصوم لا يكون كذلك ـ والشافعي رضي الله تعالى عنه لا يشترط يوما ولا صوما ، لما أخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» ومثله عن ابن مسعود ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان أخرجهما ابن أبي شيبة من طريقين إحداهما الاشتراط ، وثانيتهما عدمه ، وعلى أن المعتكف إذا خرج من المسجد فباشر خارجا جاز لأنه حصر المنع من المباشرة حال كونه فيه ، وأجيب بأن المعنى (لا تُبَاشِرُوهُنَ) حال ما يقال لكم : إنكم (عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) ومن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فاعتكافه باق ، ويؤيده ما روي عن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع ـ فنهوا عن ذلك ـ واستدل بها أيضا على أن الوطء يفسد الاعتكاف لأن النهي للتحريم ، وهو في العبادات يوجب الفساد ، وفيه أن المنهي عنه هنا ـ المباشرة حال الاعتكاف ـ وهو ليس من العبادات لا يقال : إذا وقع أمر منهي عنه في العبادة ـ كالجماع في الاعتكاف ـ كانت تلك العبادة منهية باعتبار اشتمالها على المنهي ومقارنتها إياه إذ يقال : فرق بين كون الشيء منهيا عنه باعتباره ما يقارنه ، وبين كون المقارن منهيا في ذلك الشيء والكلام في الأول ، وما نحن فيه من قبيل الثاني (تِلْكَ) أي الأحكام الستة المذكورة المشتملة على إيجاب وتحريم وإباحة (حُدُودُ اللهِ) أي حاجزة بين الحق والباطل (فَلا تَقْرَبُوها) كيلا يداني الباطل والنهي عن القرب من ـ تلك الحدود ـ التي هي الأحكام كناية عن النهي عن قرب الباطل لكون الأول لازما للثاني وهو أبلغ من (فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩] لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من الصريح ، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق الصريح ، وعلى هذا لا يشكل «لا تقربوها» في تلك الأحكام مع اشتمالها على ما سمعت ، ولا وقوع «فلا تعتدوها» وفي آية أخرى إذ قد حصل الجمع وصح «لا تقربوها» في الكل ، وقيل : يجوز أن يراد ب (حُدُودُ اللهِ) تعالى محارمه ومناهيه إما لأن الأوامر السابقة تستلزم النواهي لكونها مغياة بالغاية ، وإما لأن المشار إليه قوله سبحانه : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) وأمثاله ، وقال أبو مسلم : معنى «لا تقربوها» لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [الإنعام : ١٥٢ ، الإسراء : ٣٤] فيشمل جميع الأحكام ـ ولا يخفى ما في الوجهين من التكليف ـ والقول ـ بأن تلك إشارة إلى الأحكام ـ والحد ـ إما بمعنى المنع أو بمعنى الحاجز بين الشيئين ، فعلى الأول يكون المعنى تلك الأحكام ممنوعات الله تعالى عن الغير ليس لغيره أن يحكم بشيء (فَلا تَقْرَبُوها) أي لا تحكموا على أنفسكم أو على عباده من عند أنفسكم بشيء ـ فإن الحكم لله تعالى عز شأنه ـ وعلى الثاني يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين الألوهية والعبودية ، فالإله يحكم والعباد تنقاد ، فلا تقربوا الأحكام لئلا تكونوا مشركين بالله تعالى ـ لا يكاد يعرض على ذي لب فيرتضيه ، وهو بعيد بمراحل عن المقصود كما لا يخفى.

٤٦٥

(كَذلِكَ) أي مثل ذلك التبيين الواقع في أحكام الصوم (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) إما مطلقا أو الآيات الدالة على سائر الأحكام التي شرعها (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) مخالفة أوامره ونواهيه ، والجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير الأحكام السابقة والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل تقواكم ، ولما ذكر سبحانه الصيام وما فيه عقبه بالنهي عن الأكل الحرام المفضي إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه فقال :

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) والمراد من ـ الأكل ـ ما يعم الأخذ والاستيلاء ، وعبر به لأنه أهم الحوائج ـ وبه يحصل إتلاف المال غالبا ـ والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض ، فهو على حد (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] وليس من تقسيم الجمع على الجمع ، كما في ـ ركبوا دوابهم ـ حتى يكون معناه لا يأكل كل واحد منكم مال نفسه ، بدليل قوله سبحانه : (بَيْنَكُمْ) فإنه ـ بمعنى الواسطة ـ يقتضي أن يكون ما يضاف إليه منقسما إلى طرفين بكون الأكل والمال حال الأكل متوسطا بينهما ـ وذلك ظاهر على المعنى المذكور ـ والظرف متعلق ب (تَأْكُلُوا) كالجار والمجرور بعده ، أو بمحذوف حال من «الأموال» ـ والباء ـ للسببية والمراد من (بِالْباطِلِ) الحرام ، كالسرقة ، والغصب ، وكل ما لم يأذن بأخذه الشرع.

(وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) عطف على تأكلوا فهو منهي عنه مثله مجزوم بما جزم به وجوز نصبه بأن مضمرة ومثل هذا التركيب وإن كان للنهي عن الجمع إلا أنه لا ينافي أن يكون كل من الأمرين منهيا عنه والإدلاء في الأصل إرسال الحبل في البئر ثم استعير للتوصل إلى الشيء أو الإلقاء ـ والباء ـ صلة الإدلاء وجوز أن تكون سببية والضمير المجرور «للأموال» أي لا تتوصلوا ، أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى ـ الحكام ـ وقيل : لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ، وقرأ أبيّ «ولا تدلوا» (لِتَأْكُلُوا) بالتحاكم والرفع إليهم.

(فَرِيقاً) قطعة وجملة (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) أي بسبب ما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة ، ويحتمل أن تكون ـ الباء ـ للمصاحبة أي متلبسين ـ بالإثم. والجار والمجرور على الأول متعلق «بتأكلوا» وعلى الثاني حال من فاعله وكذلك (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ومفعول العلم محذوف أي ـ تعلمون ـ أنكم مبطلون ، وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل ، وحكم له الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه ، أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا أن عبدان بن أشوع الحضرمي ، وامرؤ القيس بن عابس اختصما في أرض ولم تكن بينة فحكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) [آل عمران : ٧٧] فارتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت.

واستدل بها على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا فلا يحل به الأخذ في الواقع ، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأبو يوسف ومحمد ويؤيده ما أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار».

وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا وباطنا ويكون كعقد عقداه بينهما ، وإن كان الشهود زورا كما روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت فادعى عند علي كرم الله تعالى وجهه أنه تزوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة : لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح فقال علي كرم الله تعالى وجهه : قد زوجك الشاهدان ، وذهب فيمن ادعى حقا في يدي رجل وأقام بينة تقتضي أنه له

٤٦٦

وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح له أخذه وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه وحمل الحديث على ذلك ، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه لأن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه يقول بذلك ، ولكن فيما سمعت والمسألة معروفة في الفروع والأصول ، ولها تفصيل في أدب القاضي فارجع إليه.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) أخرج ابن عساكر بسند ضعيف ـ أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم ، قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت ، وفي رواية أن معاذا قال : يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فيراد بالجمع على الرواية الأولى ما فوق الواحد أو ينزل الحاضرون المترقبون للجواب منزلة السائل وظاهره المتبادر على الرواية الثانية بناء على أن سؤال اليهود من بعض أصحابه بمنزلة السؤال منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو طريق علمهم ومستمد فيضهم ، و (الْأَهِلَّةِ) جمع هلال واشتقاقه من استهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، وسمي به القمر في ليلتين من أول الشهر أو في ثلاث أو حتى يحجر ؛ وتحجيره أن يستدير بخط دقيق ـ وإليه ذهب الأصمعي ـ أو حتى يبهر ضوؤه سواد الليل ، وغيا ذلك بعضهم بسبع ليال ـ وسمي بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره ـ أو بالتكبير ؛ ولهذا يقال أهلّ الهلال واستهل ولا يقال هلّ ، والسؤال يحتمل أن يكون عن الغاية والحكمة وأن يكون عن السبب والعلة ، ولا نص في الآية والخبر على أحدهما أما الملفوظ من الآية فظاهر ، وأما المحذوف فيحتمل أن يقدر ما سبب اختلافها وأن يقدر ما حكمته ، وهي وإن كانت في الظاهر سؤالا عن التعدد إلا أنها في الحقيقة متضمنة للسؤال عن اختلاف التشكلات النورية لأن التعدد يتبع اختلافها إذ لو كان الهلال على شكل واحد لا يحصل التعدد كما لا يخفى ، وأما الخبر فلأن ما فيه يسأل بها عن الجنس وحقيقته فالمسئول حينئذ حقيقة أمر الهلال وشأنه حال اختلاف تشكلاته النورية ، ثم عوده إلى ما كان عليه وذلك الأمر المسئول عن حقيقته يحتمل ذينك الأمرين بلا ريب فعلى الأول يكون الجواب بقوله تعالى : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) مطابقا مبينا للحكمة الظاهرة اللائقة بشأن التبليغ العام المذكرة لنعمة الله تعالى ومزيد رأفته سبحانه وهي أن يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية ويعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم ومعالم للعبادات الموقتة يعرف بها أوقاتها كالصيام والإفطار وخصوصا الحج ، فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء ولو كان الهلال مدورا كالشمس أو ملازما حالة واحدة لم يكد يتيسر التوقيت به ، ولم يذكر صلى الله تعالى عليه وسلم الحكمة الباطنة لذلك مثل كون اختلاف تشكلاته سببا عاديا أو جعليا لاختلاف أحوال المواليد العنصرية كما بين في محله لأنه مما لم يطلع عليه كل أحد ، وعلى الثاني يكون من الأسلوب الحكيم ، ويسمى القول بالموجب وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله ـ واختاره السكاكي. وجماعة ـ فيكون في هذا الجواب إشارة إلى أن الأولى على تقدير وقوع السؤال أن يسألوا عن الحكمة لا عن السبب لأنه لا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم ، والنبي إنما بعث لبيان ذلك لا لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليسوا ممن يطلع على دقائق علم الهيئة الموقوفة على الإرصاد والأدلة الفلسفية كما وهم لأن ذلك على فرض تسليمه في حق أولئك المشائين في ركاب النبوة ، والمرتاضين في رواق الفتوة ، والفائزين بإشراق الأنوار ، والمطلعين بأرصاد قلوبهم على دقائق الأسرار ، وإن لم يكن نقصا من قدرهم إلا أنه يدل على أن سبب الاختلاف ما بين في علم الهيئة من بعد القمر عن الشمس وقربه إليها وهو باطل عند أهل الشريعة فإنه مبني على أمور لم يثبت جزما شيء منها غاية الأمر أن الفلاسفة الأول تخيلوها موافقة لما أبدعه الحكيم المطلق

٤٦٧

كما يشير إليه كلام مولانا الشيخ الأكبر قدس‌سره في فتوحاته ، ومما ينادى على أن ما ذهبوا إليه مجرد تخيل لا تأباه الحكمة وليس مطابقا لما في نفس الأمران المتأخرين مما انتظم في سلك الفلاسفة كهرشل الحكيم وأتباعه أصحاب الرصد والزيج الجديد تخيلوا خلاف ما ذهب إليه الأولون في أمر الهيئة ، وقالوا : بأن الشمس مركز والأرض وكذا النجوم دائرة حولها وبنوا حكم الكسوف والخسوف ونحوه على ذلك وبرهنوا عليه وردوا مخالفيه ولم يتخلف شيء من أحكامهم في هذا الباب بل يقع حسبما يقع ما يقوله الأولون مبنيا على زعمهم فحيث اتفقت الأحكام مع اختلاف المبنيين وتضاد المشائين ، ورد أحد الزعمين بالآخر ارتفع الوثوق بكلا المذهبين ووجب الرجوع إلى العلم المقتبس من مشكاة الرسالة والمنقدح من أنوار شمس السيادة والبسالة ، والاعتماد على ما قاله الشارع الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إمعان النظر فيه وحمله على أحسن معانيه وإذا أمكن الجمع بين ما يقوله الفلاسفة كيف كانوا مما يقبله العقل وبين ما يقوله سيد الحكماء ونور أهل الأرض والسماء فلا بأس به بل هو الأليق الأحرى في دفع الشكوك التي كثيرا ما تعرض لضعفاء المؤمنين وإذا لم يمكن ذلك فعليك بما دارت عليه أفلاك الشرع وتنزلت به أملاك الحق.

إذا قالت حذام فصدقوها

فإن القول ما قالت حذام

وسيأتي تتمة لهذا المبحث إن شاء الله تعالى ، و «المواقيت» جمع ميقات صيغة آلة أي ما يعرف به الوقت ، والفرق بينه وبين المدة والزمان ـ على ما يفهم من كلام الراغب ـ أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك في الظاهر من مبدئها إلى منتهاها ، والزمان مدة مقسومة إلى السنين والشهور والأيام والساعات ، والوقت الزمان المقدر والمعين ، وقرئ بإدغام نون (عَنِ) في (الْأَهِلَّةِ) بعد النقل والحذف ، واستدل بالآية على جواز الإحرام بالحج في كل السنة ، وفيه بعد بل ربما يستدل بها على خلاف ذلك لأنه لو صح لم يحتج إلى الهلال في الحج ، وإنما احتيج إليه لكونه خاصا بأشهر معلومة محتاجة في تمييزها عن غيرها إليه ، وإلى هذا ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة لأنه في بيان حكم الصيام ، وذكر شهر رمضان وبحث (الْأَهِلَّةِ) يلائم ذلك لأن الصوم مقرون برؤية الهلال وكذا الإفطار ، ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» أنه سبحانه ذكر قوانين جليلة من قوانين العدالة ، فمنها القصاص الذي فرض لإزالة عدوان القوة السبعية ، وهو ظل من ظلال عدله فإذا تصرف في عبده بإفنائه وقتله بسيف حبه عوضه عن حر روحه روحا ، وعن عبد قلبه قلبا ، وعن أنثى نفسه نفسا فإنّه كما (تِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) في قتلاكم ـ كتب على نفسه الرحمة في قتلاه ـ ففي بعض الآثار من طرق القوم أنه سبحانه يقول : من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته ولكم في مقاصة الله تعالى إياكم بما ذكر حياة عظيمة لا موت بعدها يا أولي العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي التعينات والإجرام لكي تتقوا تركه أو شرك وجودكم ، ومنها الوصية التي هي قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية وقصورها عما تقتضي الحكمة من التصرفات ووصية أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم المحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق ، ومنها الصيام ، وهو قانون فرض لإزالة تسلط القوى البهيمية ، وهو عند أهل الحقيقة الإمساك عن كل قول وفعل وحركة ليس بالحق للحق والأيام المعدودة هي أيام الدنيا التي ستنقرض عن قريب فاجعلها كلها أيام صومك واجعل فطرك في عيد لقاء الله تعالى ، وشهر رمضان هو وقت احتراق النفس واضمحلالها بأنوار تجليات القرب الذي أنزل فيه القرآن ، وهو العلم الإجمالي الجامع هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع ، ودلائل مفصلة من الجمع ، والفرق ـ فمن حضر منكم ذلك الوقت وبلغ مقام الشهود فليمسك عن كل شيء إلا له ، وبه ، وفيه ، ومنه ، وإليه ، ومن كان مبتلى بأمراض القلب والحجب النفسانية المانعة عن الشهود ؛ أو على سفر وتوجه إلى ذلك المقام فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إليه

٤٦٨

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) والوصول إلى مقام التوحيد ، والاقتدار بقدرته (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وتكلف الأفعال بالنفس الضعيفة (وَلِتُكْمِلُوا) عدة المراتب ولتعظموا الله تعالى على هدايته لكم إلى مقام الجمع (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بالاستقامة (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي) المختصون بي المنقطعون إلى عن معرفتي (فَإِنِّي قَرِيبٌ) منهم بلا أين ولا بين ولا إجماع ولا افتراق (أُجِيبُ) من يدعوني بلسان الحال ، والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله ، واستعداده (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) بتصفية استعدادهم وليشاهدوني عند التصفية حين أتجلى في مرايا قلوبهم لكي يستقيموا في مقام الطمأنينة وحقائق التمكين.

ولما كان للإنسان تلونات بحسب اختلاف الأسماء فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية ، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودا بمقتضى الحكمة إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذا وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك أباح له التنزل بعض الأحايين إلى مقارنة النفوس وهو الرفث إلى النساء وعلله بقوله سبحانه : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) أي لا صبر لكم عنها بمقتضى الطبيعة لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونهن بالتعلق الضروري (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) وتنقصونها حظوظها الباقية باستراق تلك الحظوظ الفانية في أزمنة السلوك والرياضة (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ) أي وقت الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء (بَاشِرُوهُنَ) بقدر الحاجة الضرورية (وَابْتَغُوا) بقوة هذه المباشرة (ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) من التقوى والتمكن على توفير حقوق الاستقامة والوصول إلى المقامات العقلية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) في ليالي الصحو حتى يظهر لكم بوادر الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها ثم كونوا على الإمساك الحقيقي بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة الأخرى فإن لكل حاضر سهما منها ولو لا ذلك لتعطلت مصالح المعاش ، وإليه الإشارة بخبر «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولي وقت مع حفصة وزينب» ، ولا تقاربوهن حال اعتكافكم وحضوركم في مقامات القربة والأنس ومساجد القلوب (وَلا تَأْكُلُوا) أموال معارفكم (بَيْنَكُمْ) بباطل شهوات النفس ، وترسلوا بها إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء (لِتَأْكُلُوا) الطائفة (مِنْ أَمْوالِ) القوى الروحانية بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) وهي الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ) للسالكين يعرف بها أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك وطواف بيت القلب ، والوقوف في عرفة العرفان ، والسعي من صفوة الصفا ومروة المروة ، وقيل : (الْأَهِلَّةِ) للزاهدين مواقيت أورادهم. وللصديقين مواقيت مراقباتهم ، والغالب على الأولين القيام بظواهر الشريعة ، وعلى الآخرين القيام بأحكام الحقيقة ، فإن تجلى عليهم بوصف الجلال طاشوا ، وإن تجلى عليهم بوصف الجمال عاشوا ، فهم بين جلال وجمال وخضوع ودلال نفعنا الله تعالى بهم ، وأفاض علينا من بركاتهم (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) أخرج ابن جرير والبخاري. عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله (وَلَيْسَ الْبِرُّ) الآية ، وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء كما صرح به الزهري في رواية ابن جرير عنه ـ ويعدون فعلهم ذلك برا ـ فبين لهم أنه ليس ببر (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) أي ـ بر من اتقى ـ المحارم والشهوات ، أو لكن ذا (الْبِرُّ) أو البار (مَنِ اتَّقى) والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقول ـ قل ـ فلا بد من الجامع بينهما فإما أن يقال : إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما اتفق ، فجمع بينهما في الجواب بناء على الاجتماع الاتفاقي في السؤال ، والأمر الثاني مقدر إلا أنه ترك ذكره إيجازا واكتفاء بدلالة الجواب عليه ، وإيذانا بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن يقع فيحتاج إلى السؤال عنه ، أو يقال : إن السؤال واقع (عَنِ الْأَهِلَّةِ) فقط وهذا مستعمل إما على الحقيقة

٤٦٩

مذكور للاستطراد حيث ذكر ـ مواقيت الحج ـ والمذكور أيضا من أفعالهم فيه إلا الخمس ، أو للتنبيه على أن اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر ، ولا يتعرضوا بما لا يهمهم عن أمر (الْأَهِلَّةِ) وإما على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم ، وترك المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال ، فالمعنى (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ) تعكسوا مسائلكم (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) ذلك ولم يجبر على مثله ، وجوز أن يكون العطف على قوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ) والجامع بينهما أن الأول قول لا ينبغي ، والثاني فعل لا ينبغي وقعا من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات.

(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) إذ ليس في العدول برا وباشروا الأمور عن وجوهها ، والجملة عطف على (وَلَيْسَ الْبِرُّ) إما لأنه في تأويل ـ ولا تأتوا البيوت من ظهورها ـ أو لكونه مقول القول ، وعطف الإنشاء على الإخبار جائز فيما له محل من الإعراب سيما بعد القول ، وقرأ ابن كثير وكثير بكسر باء (الْبُيُوتَ) حيثما وقع (وَاتَّقُوا اللهَ) في تغيير أحكامه ـ كإتيان البيوت من أبوابها ـ والسؤال عما لا يعني ، ومن الحكم والمصالح المودعة في مصنوعاته تعالى بعد العلم بأنه أتقن كل شيء ، أو في جميع أموركم.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفوزوا بالمطلوب من الهدى والبر ، فإن (مَنِ اتَّقى) الله تعالى تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه ؛ وانكشفت له دقائق الأسرار حسب تقواه (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي جاهدوا لإعزاز دين الله تعالى وإعلاء كلمته ـ فالسبيل ـ بمعنى الطريق مستعار لدين الله تعالى وكلمته لأنه يتوصل المؤمن به إلى مرضاته تعالى ، والظرفية التي هي مدلولة في ترشيح للاستعارة (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) أي يناجزونكم القتال من الكفار ، وكان هذا ـ على ما روي عن أبي العالية ـ قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة ـ المناجزين والمحاجزين ـ فيكون ذلك حينئذ تعميما بعد التخصيص المستفاد من هذا الأمر مقررا لمنطوقه ناسخا لمفهومه ـ أي لا تقاتلوا المحاجزين ـ وكذا المنطوق في النهي الآتي فإنّه على هذا الوجه مشتمل على النهي عن قتالهم أيضا ، وقيل : معناه الذين يناصبونكم القتال ، ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ ، والصبيان والنساء والرهبان فتكون الآية مخصصة لعموم ذلك الأمر مخرجة لمن لم يتوقع منهم وقيل : المراد ما يعم سائر الكفار فإنهم بصدد قتال المسلمين وقصده فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا ، ويؤيد الأول ما أخرجه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن البيت عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى الآية ، وجعل ما يفهم من الأثر ـ وجها رابعا في المراد بالموصول بأن يقال المراد به من يتصدى من المشركين للقتال في الحرم وفي الشهر الحرام كما فعل البعض ـ بعيد لأنه تخصيص من غير دليل وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم (وَلا تَعْتَدُوا) أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم فقد اعتديتم رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس ـ أو لا تعتدوا ـ بوجه من الوجوه كابتداء القتال أو قتال المعاهد أو المفاجأة به من غير دعوة أو قتل من نهيتم عن قتله قاله بعضهم ، وأيد بأن الفعل المنفي يفيد العموم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي المتجاوزين ما حد لهم وهو كالتعليل لما قبله ومحبته تعالى لعباده في المشهور عبارة عن إرادة الخير والثواب لهم ولا واسطة بين المحبة والبغض بالنسبة إليه عز شأنه وذلك بخلاف محبة الإنسان وبغضه فإن بينهما واسطة وهي عدمهما.

٤٧٠

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي وجدتموهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين سأله نافع بن الأزرق ، وأنشد عليه قول حسان رضي الله تعالى عنه :

فإمّا «يثقفن» بني لويّ

جذيمة إن قتلهم دواء

وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء عملا كان أو علما ويستعمل كثيرا في مطلق الإدراك ، والفعل منه ثقف ككرم وفرح (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي مكة وقد فعل بهم ذلك عام الفتح وهذا الأمر معطوف على سابقه ، والمراد افعلوا كل ما يتيسر لكم من هذين الأمرين في حق المشركين فاندفع ما قيل : إن الأمر بالإخراج لا يجامع الأمر بالقتل فإن القتل والإخراج لا يجتمعان ، ولا حاجة إلى ما تكلف من أن المراد إخراج من دخل في الأمان أو وجدوه بالأمان كما لا يخفى (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي شركهم في الحرم أشد قبحا فلا تبالوا بقتالهم فيه لأنه ارتكاب القبيح لدفع الأقبح فهو مرخص لكم ويكفر عنكم ، أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن المحبب للطباع السليمة أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها ، ومن هنا قيل :

لقتل بحد سيف أهون موقعا

على النفس من قتل «بحد فراق»

والجملة على الأول من باب التكمل والاحتراس لقوله تعالى : (وَاقْتُلُوهُمْ) إلخ عن توهم أن القتال في الحرم قبيح فكيف يؤمر به ، وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه : (وَأَخْرِجُوهُمْ) إلخ لبيان حال الإخراج والترغيب فيه ، وأصل ـ الفتنة ـ عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم استعمل في الابتلاء والعذاب والصد عن دين الله والشرك به ، وبالأخير فسرها أبو العالية في الآية (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) نهي للمؤمنين أن يبدءوا القتال في ذلك الموطن الشريف حتى يكون هم الذين يبدءون ، فالنهي عن المقاتلة التي هي فعل اثنين باعتبار نهيهم عن الابتداء بها الذي يكون سببا لحصولها ، وكذا كونها غاية باعتبار المفاتحة لئلا يلزم كون الشيء غاية لنفسه.

(فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) نفي للحرج عن القتال في الحرم الذي خاف منه المسلمون وكرهوه أي إن قاتلوكم هناك فلا تبالوا بقتالهم لأنهم الذين هتكوا الحرمة وأنتم في قتالهم دافعون القتل عن أنفسكم وكان الظاهر الإتيان بأمر المفاعلة إلا أنه عدل عنه إلى أمر فعل بشارة للمؤمنين بالغلبة عليهم أي هم من الخذلان وعدم النصر بحيث أمرتم بقتلهم ، وقرأ حمزة والكسائي ـ ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم ـ واعترض الأعمش على حمزة في هذه القراءة فقال له : أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟ فقال حمزة : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا : قتلنا ، وإذا ضرب منهم الرجل قالوا : ضربنا ، وحاصله أن الكلام على حذف المضاف إلى المفعول وهو لفظ بعض فلا يلزم كون المقتول قاتلا ، وأما إسناد الفعل إلى الضمير فمبني على أن الفعل الواقع من البعض برضا البعض الآخر يسند إلى الكل على التجوز في الإسناد فلا حاجة فيه إلى التقدير ، ولذا اكتفى الأعمش في السؤال بجانب المفعول ، وكذا قوله سبحانه : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ) جاز على حقيقة من غير تأويل لأن المعنى على السلب الكلي أي لا يقتل واحد منكم واحدا منهم حتى يقع منهم قتل بعضهم. ثم إن هذا التأويل مختص بهذه القراءة ولا حاجة إليه في ـ لا تقاتلوهم ـ لأن المعنى لا تفاتحوهم والمفاتحة لا تكون إلا بشروع البعض بقتال البعض قاله بعض المحققين ، وقد خفي على بعض الناظرين فتدبر (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) تذييل لما قبله أي يفعل بهم مثل ما فعلوا ، و (الْكافِرِينَ) إما من وضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالكفر أو المراد منه الجنس ويدخل المذكورون فيه دخولا أوليا. والجار في المشهور خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر ، واختار أبو البقاء أن الكاف بمعنى مثل مبتدأ وجزاء خبره إذ لا وجه للتقديم (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر بالتوبة منه كما روي عن مجاهد وغيره ، أو عنه وعن القتال كما قيل :

٤٧١

لقرينة ذكر الأمرين (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لهم ما قد سلف ، واستدل به في البحر على قبول توبة قاتل العمد إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل ، وقد أخبر سبحانه أنه يقبل التوبة منه (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) عطف على (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) والأول مسوق لوجوب أصل القتال ، وهذا لبيان غايته ، والمراد من «الفتنة» الشرك على ما هو المأثور عن قتادة والسدي وغيرهما ، ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإسلام أو السيف لقوله سبحانه (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي خالصا له كما يشعر به اللام ، ولم يجىء هنا كلمة ـ كله ـ كما في آية الأنفال لأن ما هنا في مشركي العرب ، وما هناك في الكفار عموما فناسب العموم هناك وتركه هنا (فَإِنِ انْتَهَوْا) تصريح بمفهوم الغاية فالمتعلق الشرك ـ والفاء ـ للتعقيب (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه ، والتقدير (فَإِنِ انْتَهَوْا) وأسلموا ـ فلا تعتدوا ـ عليهم لأن «العدوان على الظالمين» والمنتهون ليسوا بظالمين ، والمراد نفي الحسن والجواز لا نفي الوقوع لأن «العدوان» واقع على غير الظالمين ، والمراد من «العدوان» العقوبة بالقتل ، وسمي القتل عدوانا من حيث كان عقوبة ـ للعدوان ـ وهو الظلم كما في قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ)(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] وحسن ذلك لازدواج الكلام والمزاوجة هنا معنوية ويمكن أن يقال سمي جزاء الظلم ظلما لأنه وإن كان عدلا من المجازي لكنه ظلم في حق الظالم من عند نفسه لأنه ظلم بالسبب لإلحاق هذا الجزاء به وقيل : لا حذف والمذكور هو الجزاء على معنى فلا تعتدوا على المنتهين إما بجعل (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) بمعنى ـ فلا عدوان على غير الظالمين ـ المكنى به عن المنتهين ، أو جعل اختصاص العدوان بالظالمين كناية عن عدم جواز العدوان على غيرهم وهم المنتهون ، واعترض بأنه على التقدير الأول يصير الحكم الثبوتي المستفاد من القصر زائدا ، وعلى التقدير الثاني يصير المكنى عنه من المكنى به ، وجوز أن يكون المذكور هو الجزاء ومعنى (الظَّالِمِينَ) المتجاوزين عن حد حكم القتال ، كأنه قيل : (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى) المتجاوزين عما حده الله تعالى للقتال وهم المتعرضون للمنتهين ، ويؤول المعنى إلى أنكم إن تعرضتم للمتقين صرتم ظالمين وتنعكس الحال عليكم ـ وفيه من المبالغة في النهي عن قتال المنتهين ما لا يخفى ـ وذهب بعضهم إلى أن هذا المعنى يستدعي حذف الجزاء ، وجعل المذكور علة له على معنى (فَإِنِ انْتَهَوْا) فلا تتعرضوهم لئلا تكونوا ظالمين فيسلط الله عليكم من يعدو عليكم لأن ـ العدوان ـ لا يكون (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أو (فَإِنِ انْتَهَوْا) يسلط عليكم من يعدو عليكم على تقدير تعرضكم لهم لصيرورتكم ظالمين بذلك ، وفيه من البعد ما لا يخفى فتدبر.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ

٤٧٢

وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢١٣)

٤٧٣

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة قتالا خفيفا بالرمي بالسهام والحجارة ، فاتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه فكرهوا أن يقاتلوهم لحرمته. فقيل : هذا (الشَّهْرُ الْحَرامُ) بذلك ، وهتكه بهتكه فلا تبالوا به (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أي الأمور التي يجب أن يحافظ عليها ذوات (قِصاصٌ) أو مقاصة ، وهو متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق ، كأنه قيل : لا تبالوا بدخولكم عليه عنوة ، وهتك حرمة هذا الشهر ابتداء بالغلبة ، فإن (الْحُرُماتُ) يجري فيها ـ القصاص ـ فالصد قصاصه العنوة (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ)(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فذلكة لما تقدمه ، وهو أخص مفادا منه لأن الأول يشمل ما إذا هتك حرمة الإحرام والصيد والحشيش مثلا بخلاف هذا ، وفيه تأكيد لقوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) ولا ينافي ذلك فذلكيته معطوفا ـ بالفاء ـ والأمر للإباحة ـ إذ العفو جائز ـ و «من» تحتمل الشرطية والموصولية ، وعلى الثاني تكون ـ الفاء ـ صلة في الخبر ـ والباء ـ تحتمل الزيادة وعدمها ، واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح ؛ واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا وأتلفه يلزمه رد مثله ، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة ـ كما في ذوات الأمثال ـ وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له (وَاتَّقُوا اللهَ) في الانتصار لأنفسكم وترك الاعتداء بما لم يرخص لكم فيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالنصر والعون (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) عطف على قاتلوا أي وليكن منكم إنفاق ما في سبيله (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بترك الغزو والإنفاق فيه ، فهو متعلق بمجموع المعطوف والمعطوف عليه نهيا عن ضدهما تأكيدا لهما ، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد ـ عن أبي عمران ـ قال : كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم ، فقال الناس : ألقى بيديه إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس ، إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار ، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام ، وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرد علينا ما قلنا (وَأَنْفِقُوا) إلخ ، فكانت (التَّهْلُكَةِ) الإقامة في الأموال وإصلاحها ، وترك الغزو. وقال الجبائي : (التَّهْلُكَةِ) الإسراف في الإنفاق ، فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالإنفاق تحريا للطريق الوسط بين الإفراط والتفريط فيه ، وروى البيهقي في الشعب ـ عن الحسن ـ أنها البخل لأنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد فيكون النهي مؤكدا للأمر السابق ، واختار البلخي أنها اقتحام الحرب من غير مبالاة ، وإيقاع النفس في الخطر والهلاك ، فيكون الكلام متعلقا ب (قاتِلُوا) نهيا عن الإفراط والتفريط في الشجاعة ، وأخرج سفيان بن عيينة. وجماعة عن البراء بن عازب أنه قيل له : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) هو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل ، قال : لا ، ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه فيقول : لا يغفر الله تعالى لي أبدا ـ وروي مثله عن عبيدة السلماني ـ وعليه يكون متعلقا بقوله سبحانه : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهو في غاية البعد ، ولم أر من صحح الخبر عن البراء رضي الله تعالى عنه سوى الحاكم ـ وتصحيحه لا يوثق به ـ وظاهر اللفظ العموم ـ والإلقاء ـ تصيير الشيء إلى جهة السفل وألقى عليه مسألة مجاز ، ويقال لكل من أخذ في عمل ألقى يديه إليه وفيه ، ومنه قول لبيد في الشمس :

حتى إذا «ألقت» يدا في كافر

وأجن عورات الثغور ظلامها

وعدي ـ بإلى ـ لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء ـ والباء ـ مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي ، لأن ـ ألقى ـ يتعدى بنفسه كما في (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) [الشعراء : ٤٥] وزيادتها في المفعول لا تنقاس ، والمراد ـ بالأيدي ـ

٤٧٤

الأنفس مجازا ، وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور أفعالها بها ، وقيل : يحتمل أن تكون زائدة ـ والأيدي ـ بمعناها ، والمعنى لا تجعلوا (التَّهْلُكَةِ) آخذة بأيديكم قابضة إياها ، وأن تكون غير مزيدة ـ والأيدي ـ أيضا على حقيقتها ويكون المفعول محذوفا أي (لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) أنفسكم (إِلَى التَّهْلُكَةِ) وفائدة ذكر ـ الأيدي ـ حينئذ التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار ، و (التَّهْلُكَةِ) مصدر كالهلك والهلاك ، وليس في كلام العرب مصدر على تفعلة ـ بضم العين ـ إلا هذا في المشهور ، وحكى سيبويه عن العرب ـ تضره وتسره ـ أيضا بمعنى الضرر والسرور ، وجوز أن يكون أصلها ـ تهلكة بكسر اللام ـ مصدر هلك مشددا كالتجربة والتبصرة فأبدلت ـ الكسرة ضمة ـ وفيه أن مجيء تفعلة ـ بالكسر ـ من فعل المشدد الصحيح الغير المهموز شاذ ، والقياس تفعيل وإبدال ـ الكسرة بالضم من غير علة ـ في غاية الشذوذ ، وتمثيله بالجوار ـ مضموم الجيم ـ في جوار مكسورها ـ ليس بشيء ـ إذ ليس ذلك نصا في الابدال لجواز أن يكون بناء المصدر فيه على فعال ـ مضموم الفاء شذوذا ـ يؤيده ما في الصحاح جاورته مجاورة وجوارا وجوارا ـ والكسر أفصح ، وفرق بعضهم بين (التَّهْلُكَةِ) والهلاك بأن الأول ما يمكن التحرز عنه ، والثاني ما لا يمكن ، وقيل : الهلاك مصدر و (التَّهْلُكَةِ) نفس الشيء المهلك ، وكلا القولين خلاف المشهور ، واستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس ، وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين (وَأَحْسِنُوا) أي بالعود على المحتاج ـ قاله عكرمة ـ وقيل : أحسنوا الظن بالله تعالى (وَأَحْسِنُوا) في أعمالكم بامتثال الطاعات ولعله أولى.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ويثيبهم (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي اجعلوهما تامين إذا تصديتم لأدائهما لوجه الله تعالى فلا دلالة في الآية على أكثر من وجوب الإتمام بعد الشروع فيهما وهو متفق عليه بين الحنفية والشافعية رضي الله تعالى عنهم ، فإن إفساد الحج والعمرة مطلقا يوجب المضي في بقية الأفعال والقضاء ، ولا تدل على وجوب الأصل ، والقول بالدلالة بناء على أن الأمر ـ بالإتمام ـ مطلقا يستلزم الأمر بالأداء لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب ـ ليس بشيء ـ لأن الأمر بالإتمام يقتضي سابقية الشروع فيكون الأمر بالإتمام مقيدا بالشروع وادعاء أن المعنى ائتوا بهما حال كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان ، وهذا يدل على وجوبهما لأن الأمر ظاهر فيه ، ويؤيده قراءة «وأقيموا الحج والعمرة» ليس بسديد. «أما أولا» فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجها إلى القيد ـ أعني تامين ـ لا إلى أصل الإتيان كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «بيعوا سواء بسواء» «وأما ثانيا» فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي المشترك بين الواجب والمندوب ـ أعني طلب الفعل ـ والقرينة على ذلك الأحاديث الدالة على استحباب العمرة ، فقد أخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن ماجة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «الحج جهاد والعمرة تطوع» وأخرج الترمذي وصححه ـ عن جابر ـ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن العمرة ، أواجبة هي؟ قال : «لا ، وأن تعتمروا خير لكم» ويؤيد ذلك أن ابن مسعود صاحب هذه القراءة قال فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد : «الحج فريضة والعمرة تطوع» وأخرج ابن أبي داود في المصاحف ـ عنه أيضا ـ أنه كان يقرأ ذلك ثم يقول : والله لو لا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا لقلت : إن العمرة واجبة مثل الحج ، وهذا يدل على أنه رضي الله تعالى عنه لم يجعل الأمر بالنسبة إليها للوجوب لأنه لم يسمع شيئا فيه ـ ولعله سمع ما يخالفه ـ ولهذا جزم في الرواية الأولى عنه بفرضية الحج واستحباب العمرة ، وكأنه لذلك حمل الأمر في قراءته على القدر المشترك الذي قلناه لا غير بناء على امتناع استعمال المشترك في معنييه ؛ وعدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والميل إلى عدم تقدير فعل موافق للمذكور يراد به الندب ، نعم لا يعد ما ذكر صارفا

٤٧٥

إلا إذا ثبت كونه قبل الآية ، أما إذا ثبت كونه بعدها فلا لأنه يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد لما أن الأمر ظاهر في الوجوب ، وليس مجملا في معانيه على الصحيح حتى يحمل الخبر على تأخير البيان ـ على ما وهم ـ والقول ـ بأن أحاديث الندب سابقة ولا تصرف الأمر عن ظاهره بل يكون ذلك ناسخا لها ـ سهو ظاهر لأن الأحاديث نص في الاستحباب ، والقرآن ظاهر في الوجوب فكيف يكون الظاهر ناسخا للنص ، والحال أن النص مقدم على الظاهر عند التعارض. ثم إن هذا الذي ذكرناه ـ وإن لم يكن مبطلا لأصل التأييد إلا أنه يضعفه جدا ، وادعى بعضهم أن الأحاديث الدالة على استحباب العمرة معارضة بما يدل على وجوبها منها ، فقد أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت» وأخرج أبو داود والنسائي أن رجلا قال لعمر : إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا فقال : هديت لسنة نبيك ، فإن هذا يدل على أن الإهلال بهما طريقة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأن الاستدلال بما حكاه الصحابي من سنته عليه الصلاة والسلام يكون استدلالا بالحديث الفعلي الذي رواه الصحابي ، والقول بأن ـ أهللت بهما ـ جملة مفسرة لقوله وجدت فيجوز أن يكون الوجوب بسبب الإهلال بهما فلا يدل الحديث على الوجوب ابتداء ليس بشيء لأن الجملة مستأنفة كأنه قيل : فما فعلت؟ فقال : أهللت فيدل على أن الوجدان سبب الإهلال دون العكس لأن مقصود السائل السؤال عن صحة إهلاله بهما فكيف يقول وجدتهما مكتوبين لأني أهللت بهما فإنه إنما يصح على تقدير علمه بصحة إهلاله بهما ، وجواب عمر رضي الله تعالى عنه بمعزل عن وجوب الإتمام لأن كون الشروع في الشيء موجبا لإتمامه ، لا يقال فيه إنه طريقة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل يقال في أداء المناسك والعبادات ، ويؤيد ذلك ما وقع في بعض الروايات ـ فأهللت ـ بالفاء الدالة على الترتب ، وما ذكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه معارض بما روي عنه من القول بالوجوب وبذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه وكان يقرأ : وأقيموا أيضا كما رواه عنه ابن جرير وغيره ، وكذا ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم انتهى. والإنصاف تسليم تعارض الأخبار ، وقد أخذ كل من الأئمة بما صح عنده والمسألة من الفروع ، والاختلاف في أمثالها رحمة وإن الحق أن الآية لا تصلح دليلا للشافعية ومن وافقهم كالإمامية علينا ، وليس فيها عند التحقيق أكثر من بيان وجوب إتمام أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرض لحالهما من الوجوب وعدمه ، ووجوب الحج مستفاد من قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] ومن ادعى من المخالفين أنها دليل له فقد ركب شططا وقال غلطا كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه إتمام الحج والعمرة لله أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، ومثله عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما عن الآخر وأن يعتمر في غير أشهر الحج ؛ وقيل : إتمامهما أن تكون النفقة حلالا ، وقيل : أن تحدث لكل منهما سفرا ، وقيل : أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ونحوها ، وقرئ «إلى البيت ، وللبيت» والأول مروي عن ابن مسعود ، والثاني عن عليّ كرم الله تعالى وجهه (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) مقابل لمحذوف أي هذا إن قدرتم على إتمامهما والإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى المنع مطلقا ، وليس الحصر مختصا بما يكون من العدو ، والإحصار بما يكون من المرض ، والخوف ـ كما توهم الزجاج ـ من كثرة استعمالهما كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده ، والدليل على ذلك أنه يقال : حصره العدو وأحصره كصده وأصده فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكرارا ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازا وكلاهما خلاف الأصل ، والمراد من الإحصار

٤٧٦

هنا حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما‌الله تعالى لقوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا حصر إلا حصر العدو فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بمواقع التنزيل. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما ، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث الحجاج بن عمرو «من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل» وروى الطحاوي من حديث عبد الرحمن بن زيد قال : «أهل رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع في الطريق إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال : ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل» وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس ، وروى البخاري مثله عنه ، وقال عروة : كل شيء حبس المحرم فهو إحصار ، وما استدل به الخصم مجاب عنه ، أما الأول فستعلم ما فيه ، وأما الثاني فإنه لا عبرة بخصوص السبب ، والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالا ، والقول بأن ـ أحصرتم ـ ليس عاما إذ الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء لأنه وإن لم يكن عاما لكنه مطلق فيجري على إطلاقه ، وأما الثالث فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه في تفسير الآية أنه كان يقول : «من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي» فكما خصص في الرواية الأولى عمم في هذه وهو أعلم بمواقع التنزيل والقول ـ بأن حديث الحجاج ضعيف ـ ضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن وقد روى أبو داود أن عكرمة سأل العباس وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فقالا : صدق ، وحمله على ما إذا اشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لضباعة : «حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني» لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى.

(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فعليكم أو فالواجب أو فاهدوا ما استيسر أي تيسر فهو كصعب واستصعب ، وليست السين للطلب ، و (الْهَدْيِ) مصدر بمعنى المفعول أي المهدي ولذلك يطلق على المفرد والجمع أو جمع هدية ـ كجدي وجدية ـ وقرئ هدي بالتشديد جمع هدية ـ كمطي ومطية ـ وهي في موضع الحال من الضمير المستكن ، والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : وما عظم فهو أفضل ، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه خص الهدي ببقرة أو جزور فقيل له : أو ما يكفيه شاة؟ فقال : لا ويذبحه حيث أحصر عند الأكثر لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل ، وعندنا يبعث من أحصر به ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل لقوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فإن حلق الرأس كناية عن الحل الذي يحصل بالتقصير بالنسبة للنساء ، والخطاب للمحصرين لأنه أقرب مذكور ، والهدي الثاني عين الأول كما هو الظاهر أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه وهو الحرم لقوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٣٣] (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] وما روي من ذبحه صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديبية مسلم لكن كونه ذبح في الحل غير مسلم ، والحنفية يقولون : إن محصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في طريق الحديبية أسفل مكة ، والحديبية متصلة بالحرم ، والذبح وقع في الطرف المتصل الذي نزله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبه يجمع بين ما قاله مالك وبين ما روى الزهري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحر في الحرم وكون الرواية عنه ليس

٤٧٧

بثبت في حيز المنع ، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان أو حرما وهو خلاف الظاهر إلا أنه لا يحتاج إلى تقدير العلم كما في السابق ، واستدل باقتصاره على الهدي في مقام البيان على عدم وجوب القضاء ، وعندنا يجب القضاء لقضاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية التي أحصروا فيها وكانت تسمى عمرة القضاء ، والمقام مقام بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام لا مقام بيان كل ما يجب عليه ولم يعلم من الآية حكم غير المحصر عبارة كما علم حكم المحصر من عدم جواز الحل له قبل بلوغ الهدي ، ويستفاد ذلك بدلالة النص وجعل الخطاب عاما للمحصر وغيره بناء على عطف (وَلا تَحْلِقُوا) على قوله سبحانه : (وَأَتِمُّوا) لا على (فَمَا اسْتَيْسَرَ) يقتضي بتر النظم لأن (فَإِذا أَمِنْتُمْ) عطف على (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) كما لا يخفى. و ـ المحل ـ بالكسر من حد ضرب يطلق للمكان كما هو الظاهر في الآية ، وللزمان ـ كما يقال ـ محل الدين لوقت حلوله وانقضاء أجله.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) يحتاج للحلق وهو مخصص لقوله سبحانه (وَلا تَحْلِقُوا) متفرع عليه.

(أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) من جراحة وقمل وصداع. (فَفِدْيَةٌ) أي فعليه فدية إن حاق.

(مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) بيان لجنس الفدية. وأما قدرها فقد أخرج في المصابيح عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه فقال : أيؤذيك هوامك؟ قال : نعم : قال : فاحلق رأسك وأطعم فرقا بين ستة مساكين ـ والفرق ثلاثة آصع ـ أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة» وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له : ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقال : لا قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك» وقد بين في هذه الرواية ما يطعم لكل مسكين ولم يبين محل الفدية ، والظاهر العموم في المواضع كلها كما قاله ابن الفرس ، وهو مذهب الإمام مالك (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من الأمن ضد الخوف ، أو الأمنة زواله فعلى الأول معناه فإذا كنتم في أمن وسعة ولم تكونوا خائفين ، وعلى الثاني فإذا زال عنكم خوف الإحصار ، ويفهم منه حكم من كان آمنا ابتداء بطريق الدلالة ـ والفاء ـ للعطف على (أُحْصِرْتُمْ) مفيدة للتعقيب سواء أريد حصر العدو أو كل منع في الوجود ، ويقال للمريض إذا زال مرضه وبرئ : آمن كما روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم من طريق إبراهيم فيضعف استدلال الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه.

(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) الفاء واقعة في جواب ـ إذا والباء وإلى ـ صلة التمتع ، والمعنى فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة إلى وقت الحج أي قبل الانتفاع بالحج في أشهره ، وقيل : الباء سببية ومتعلق التمتع محذوف أي بشيء من محظورات الإحرام ولم يعينه لعدم تعلق الغرض بتعيينه ، والمعنى ومن استمتع بسبب أوان العمرة والتحلل منها باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج ، وفيه صرف التمتع عن المعنى الشرعي إلى المعنى اللغوي ، والثاني هو الانتفاع مطلقا ، والأول هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بمناسكها ثم يحرم بالحج من جوف مكة ويأتي بأعماله ويقابله القرآن وهو أن يحرم بهما معا ويأتي بمناسك الحج فيدخل فيها مناسك العمرة ، والإفراد وهو أن يحرم بالحج وبعد الفراغ منه بالعمرة (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الفاء واقعة في جواب (مِنَ) أي فعليه دم استيسر عليه بسبب التمتع فهو دم جبران لأن الواجب عليه أن يحرم للحج من الميقات فلما أحرم لا من الميقات أورث ذلك خللا فيه فجبر بهذا الدم ، ومن ثم لا يجب على المكي ومن في حكمه ، ويذبحه إذا أحرم

٤٧٨

بالحج ، ولا يجوز قبل الإحرام ولا يتعين له يوم النحر بل يستحب ولا يأكل منه ، وهذا مذهب الشافعي وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه دم نسك كدم القارن لأنه وجب عليه شكرا للجمع بين النسكين فهو كالأضحية ويذبح يوم النحر (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي الهدي وهو عطف على (فَإِذا أَمِنْتُمْ).

(فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) أي فعليه صيام وقرئ فصيام بالنصب أي فليصم ، وظرف الصوم محذوف إذ يمتنع أن يكون شيء من أعمال الحج ظرفا له ، فقال أبو حنيفة : المراد في وقت الحج مطلقا لكن بين الإحرامين إحرام الحج وإحرام العمرة وهو كناية عن عدم التحلل عنهما فيشمل ما إذا وقع قبل إحرام الحج سواء تحلل من العمرة أولا ، وما وقع بعده بدليل أنه إذا قدر على الهدي بعد صوم الثلاثة قبل التحلل وجب عليه الذبح ولو قدر عليه بعد التحلل لا يجب عليه لحصول المقصد بالصوم وهو التحلل ، وقال الشافعي : المراد وقت أداء الحج وهو أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل ، ولا يجوز الصوم عنده قبل إحرام الحج ، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه لأنه غاية ما يمكن في التأخير لاحتمال القدرة على الأصل وهو الهدي ، ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق لكون الصوم منهيا فيها ، وجوز بعضهم صوم الثلاثة الأخيرة احتجاجا بما أخرجه ابن جرير والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر قال : رخص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق مكانها ، وأخرج مالك عن الزهري قال : «بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال : إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى إلا من كان عليه صوم من هدي» وأخرج الدارقطني مثله من طريق سعيد بن المسيب ، وأخرج البخاري وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : لم يرخص صلى الله تعالى عليه وسلم في أيام التشريق أن يصمن إلا لمتمتع لم يجد هديا ، وبذلك أخذ الإمام مالك ولعل ساداتنا الحنفية عولوا على أحاديث النهي وقالوا : إذا فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم ولا يقضيه بعد أيام التشريق كما ذهب إليه الشافعية لأنه بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعا والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل ؛ وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة ..

(وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) أي فرغتم ونفرتم من أعماله ، فذكر الرجوع وأريد سببه ، أو المعنى إذا رجعتم من مني ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه ـ على ما هو الأصح عند معظم أصحابه : إذا رجعتم إلى أهليكم ، ويؤيده ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه «إذا رجعتم إلى أمصاركم» وأن لفظ الرجوع أظهر في هذا المعنى ، وحكم ناوي الإقامة بمكة توطنا حكم الراجع إلى وطنه لأن الشرع أقام موضع الإقامة مقام الوطن ، وفي البحر المراد بالرجوع إلى الأهل الشروع فيه ـ عند بعض ـ والفراغ بالوصول إليهم ـ عند آخرين ـ وفي الكلام التفات ، وحمل على معنى بعد الحمل (١) على لفظه في إفراده وغيبته ؛ وقرئ «سبعة» بالنصب عطفا على محل (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) لأنه مفعول اتساعا ، ومن لم يجوزه قدر ـ وصوموا ـ وعليه أبو حيان.

(تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) الإشارة إلى ـ الثلاثة ، والسبعة ـ ومميز العدد محذوف أي «أيام» وإثبات ـ التاء ـ في العدد مع حذف المميز أحسن الاستعمالين ، وفائدة الفذلكة أن لا يتوهم أن ـ الواو ـ بمعنى أو التخييرية ، وقد نص السيرافي في شرح الكتاب على مجيئها لذلك ، وليس تقدم الأمر الصريح شرطا فيه بل الخبر الذي هو بمعنى الأمر

__________________

(١) قوله : (وحمل على معنى بعد الحمل) كذا بخط المؤلف ولعله سقط (من) قلمه لفظ من سهوا أي وحمل على معنى من بعد الحمل إلخ ا ه مصححه.

٤٧٩

كذلك ، وأن يندفع التوهم البعيد الذي أشرنا إليه في مقدمة إعجاز القرآن ، وأن يعلم العدد جملة ـ كما علم تفصيلا ـ فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم ، ومن أمثالهم ـ علمان خير من علم ـ لا سيما وأكثر العرب لا يحسن الحساب ، فاللائق بالخطاب العامي الذي يفهم به الخاص والعام الذين هم من أهل الطبع ، لا أهل الارتياض بالعلم أن يكون بتكرار الكلام وزيادة الافهام والإيذان بأن المراد ـ بالسبعة ـ العدد دون الكثرة فإنها تستعمل بهذين المعنيين ، فإن قلت : ما الحكمة في كونها كذلك حتى يحتاج إلى تفريقها المستدعي لما ذكر؟ أجيب بأنها لما كانت بدلا عن (الْهَدْيِ) والبدل يكون في محل المبدل منه غالبا جعل الثلاثة بدلا عنه في زمن الحج وزيد عليها السبعة علاوة لتعادله من غير نقص في الثواب لأن الفدية مبنية على التيسير ، ولم يجعل ـ السبعة ـ فيه لمشقة الصوم في الحج ، وللإشارة إلى هذا التعادل وصفت ـ العشرة ـ بأنها (كامِلَةٌ) فكأنه قيل : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) في وقوعها بدلا من (الْهَدْيِ) وقيل : إنها صفة مؤكدة تفيد زيادة التوصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها كأنه قيل تلك عشرة كاملة فراعوا كمالها ولا تنقصوها ، وقيل : إنها صفة مبينة كمال العشرة فإنها عدد كمل فيه خواص الأعداد ، فإن الواحدة مبتدأ العدد ، والاثنين أول العدد ، والثلاثة أول عدد فرد ، والأربعة أول عدد مجذور ، والخمسة أول عدد دائر ، والستة أول عدد تام ، والسبعة عدد أول ، والثمانية أول عدد زوج الزوج ، والتسعة أول عدد مثلث ، والعشرة نفسها ينتهي إليها العدد فإن كل عدد بعدها مركب منها ومما قبلها قاله بعض المحققين.

وذكر الإمام لهذه الفذلكة مع الوصف عشرة أوجه ـ لكنها عشرة غير كاملة ـ ولو لا مزيد التطويل لذكرتها بما لها وعليها (ذلِكَ) إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله سبحانه : (فَمَنْ تَمَتَّعَ) عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ لا متعة ولا قران لحاضري المسجد لأن شرعهما للترفه بإسقاط أحد السفرتين وهذا في حق الآفاقي لا في حق أهل مكة ومن في حكمهم ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : إنها إشارة إلى الأقرب وهو الحكم المذكور أعني لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وإنما يلزم ذلك إذا كان المتمتع آفاقيا لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبورا بالدم ، والمكي لا يجب إحرامه من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوقع خللا في حجه فلا يجب عليه الهدي ولا بد له ، ويرده أنه لو كانت الإشارة للهدي والصوم لأتى ـ بعلى ـ دون اللام في قوله سبحانه :

(لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لأن الهدي وبدله واجب على المتمتع والواجب يستعمل بعلى ـ لا باللام ، وكون اللام واقعة موقع على كما قيل به في «اشترطي لهم الولاء» خلاف الظاهر ، والمراد بالموصول من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وأهل الحل عند طاوس ، وغير أهل مكة عند مالك رضي الله تعالى عنه ، والحاضر على الوجه الأول ضد المسافر ، وعلى الوجوه الأخر بمعنى الشاهد الغير الغائب ، والمراد من حضور الأهل حضور المحرم ، وعبر به لأن الغالب على الرجل كما قيل : أن يسكن حيث أهله ساكنون ، و ـ للمسجد الحرام ؛ إطلاقان ، أحدهما نفس المسجد ، والثاني الحرم كله ، ومنه قوله سبحانه : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الإسراء : ١] بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أسري به من الحرم لا من المسجد ، وعلى إرادة المعنى الأخير في الآية هنا أكثر أئمة الدين (وَاتَّقُوا اللهَ) في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه كما يستفاد من ترك المفعول ويدخل فيه الحج دخولا أوليا وبه يتم الانتظام (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن لم يتقه أي استحضروا ذلك لتمتنعوا عن العصيان ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة ؛ وإضافة شديد من إضافة الصفة

٤٨٠