روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

فإنه في إفادة كرم بني حنبل كما ترى لا خفاء فيه (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي باعوا ، فالأنفس بمنزلة المثمن ، والكفر بمنزلة الثمن لأن أنفسهم الخبيثة لا تشترى بل تباع وهو على الاستعارة أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه ، وقيل : هو بمعناه المشهور لأن المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب أتى بأعمال يظن أنها تخلصه فكأنه اشترى نفسه بها فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم وخلصوها فذمهم الله تعالى عليه ، واعترض بأنه كيف يدعي أنهم ظنوا ذلك مع قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) فإذا علموا مخالفة الحق كيف يظنون نجاتهم بما فعلوا وإرادة العقاب الدنيوي كترك الرئاسة غير صحيح لأن لا يشترى به الأنفس؟ ويمكن الجواب بأن المراد أنهم ظنوا على ما هو ظاهر حالهم من التصلب في اليهودية والخوف فيما يأتون ويذرون وادعاء الحقية فيه فلا ينافي عدم ظنهم في الواقع على ما تدل عليه الآية ، والمراد بما أنزل الله الكتاب المصدق ، وفي تبديل المجيء بالإنزال المشعر بأنه من العالم العلوي مع الإسناد إليه تعالى إيذان بعلو شأنه وعظمه الموجب للإيمان به ، وقيل : يحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل وأن يراد الجميع ، والكفر ببعضها كفر بكلها ، واختلف في ما الواقعة بعد بئس ألها محل من الإعراب أم لا فذهب الفراء إلى أنها لا محل لها وأنها مع بئس شيء واحد كحبذا ، وذهب الجمهور إلى أن لها محلا ، واختلف أهو نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى الأول على أنها تمييز ، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة ، وفاعل بئس مضمر مفسر بها ، والتقدير بئس هو شيئا اشتروا به ، و (أَنْ يَكْفُرُوا) هو المخصوص بالذمّ والتعبير بصيغة المضارع لإفادة الاستمرار على الكفر فإنه الموجب للعذاب المهين ، ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص محذوفا ، و (اشْتَرَوْا) صفة له ، والتقدير بئس شيء اشتروا به ، و (أَنْ يَكْفُرُوا) بدل من المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف ، وذهب الكسائي إلى النصب على التمييز أيضا إلا أنه قدر بعدها ما أخرى موصولة هي المخصوص بالذم ، و (اشْتَرَوْا) صلتها ، والتقدير بئس شيئا الذي اشتروا ، وذهب سيبويه إلى الثاني على أنها فاعل بئس وهي معرفة تامة ، والمخصوص محذوف أي شيء (اشْتَرَوْا) ، وعزى هذا إلى الكسائي أيضا ، وقيل : موصولة وهو أحد قولي الفارسي وعزاه ابن عطية إلى سيبويه وهو وهم ، ونقل المهدوي عن الكسائي أن ما مصدرية والمتحصل فاعل بئس واعترض بأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير ، ولك على هذا التقدير أن لا تجعل ذلك فاعلا بل تجعله المخصوص والفاعل مضمر والتمييز محذوف لفهم المعنى ، والتقدير ـ بئس اشتراء اشتراؤهم ـ فلا يلزم الاعتراض ، نعم يرد عود ضمير به على ما والمصدرية لا يعود عليها الضمير لأنها حرف عند غير الأخفش فافهم (بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) ـ البغي ـ في الأصل الظلم والفساد من قولهم ـ بغى ـ الجرح فسد قاله الأصمعي ، وقيل أصله الطلب ، وتختلف أنواعه ففي طلب زوال النعمة حسد ، والتجاوز على الغير ظلم ، والزنا فجور ، والمراد به هنا بمعونة المقام طلب ما ليس لهم فيؤول إلى الحسد ، وإلى ذلك ذهب قتادة وأبو العالية والسدي ، وقيل : الظلم وانتصابه على أنه مفعول له ليكفرون فيفيد أن كفرهم كان لمجرد العناد الذي هو نتيجة الحسد لا للجهل وهو أبلغ في الذم لأن الجاهل قد يعذر ، وذهب الزمخشري إلى أنه علة (اشْتَرَوْا) ورد بأنه يستلزم الفصل بالأجنبي وهو المخصوص بالذم وهو وإن لم يكن أجنبيا بالنسبة إلى فعل الذم وفاعله لكن لا خفاء في أنه أجنبي بالنسبة إلى الفعل الذي وصف به تمييز الفاعل ، والقول بأن المعنى ـ على ذم ما باعوا به أنفسهم حسدا وهو الكفر لا على ذم ما باعوا به أنفسهم وهو الكفر حسدا ـ تحكم ، نعم قد يقال : إنما يلزم الفصل بأجنبي إذا كان المخصوص مبتدأ خبره بئسما أما لو كان خبر مبتدأ محذوف ـ وهو المختار ـ فلا لأن الجملة حينئذ جواب للسؤال عن فاعل «بئس» فيكون الفصل بين المعلول وعلته بما هو بيان للمعلول ولا امتناع فيه ، وجعله بعضهم علة ل (اشْتَرَوْا) محذوفا فرارا من الفصل ، ومنهم من أعربه حالا ومفعولا

٣٢١

مطلقا لمقدر أي بغوا بغيا ، و (أَنْ يُنَزِّلَ) إما مفعول من أجله للبغي أي حسدا لأجل تنزيل الله ، وإما على إسقاط الخافض المتعلق بالبغي أي حسدا على (أَنْ يُنَزِّلَ) والقول بأنه في موضع خفض على أنه بدل اشتمال من ما في قوله : (بِما أَنْزَلَ اللهُ) بعيدا جدا ، وربما يقرب منه ما قيل : إنه في موضع المفعول الثاني ، والبغي بمعنى طلب الشخص ما ليس له يتعدى إليه بنفسه تارة ، وباللام أخرى ، والمفعول الأول هاهنا أعني محمدا عليه الصلاة والسلام محذوف لتعينه ؛ وللدلالة على أن الحسد مذموم في نفسه كائنا ما كان المحسود ـ كما لا يخفى ـ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «ينزل» بالتخفيف (مِنْ فَضْلِهِ) أراد به الوحي ، و (مِنْ) لابتداء الغاية صفة لموصوف محذوف أي شيئا كائنا (مِنْ فَضْلِهِ) وجوّز أبو البقاء أن تكون زائدة على مذهب الأخفش (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي على من يختاره للرسالة ، وفي البحر أن المراد به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم ، وكان من العرب ومن ولد إسماعيل ـ ولم يكن من ولده نبي سواه عليه الصلاة والسلام وإضافة ـ العباد ـ إلى ضميره تعالى للتشريف ، و (مِنْ) إما موصولة أو موصوفة.

(فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) تفريع على ما تقدم ، أي فرجعوا متلبسين (بِغَضَبٍ) كائن (عَلى غَضَبٍ) مستحقين له حسبما اقترفوا من الكفر والحسد. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الغضب «الأول» لعبادة العجل «والثاني» لكفرهم به صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقال قتادة : «الأول» كفرهم بالإنجيل «والثاني» كفرهم بالقرآن ، وقيل : هما الكفر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، أو قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] و (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] وغير ذلك من أنواع كفرهم ، وكفرهم الأخير بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى أن ـ فاء العطف ـ يقتضي صيرورتهم أحقاء بترادف الغضب لأجل ما تقدم ، وقولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) مثلا غير مذكور فيما سبق ، ويحتمل أن يراد بقوله سبحانه : (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) الترادف والتكاثر لا غضبان فقط ، وفيه إيذان بتشديد الحال عليهم جدا كما في قوله :

ولو كان رمحا واحدا لاتقيته

ولكنه رمح «وثان وثالث»

ومن الناس من زعم أن ـ الفاء فصيحة ـ والمعنى فإذا كفروا وحسدوا على ما ذكر (فَباؤُ) إلخ ، وليس بشيء. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) ـ اللام ـ في «الكافرين» للعهد ، والإظهار في موضع الإضمار للإيذان بعلية كفرهم لما حاق بهم ؛ ويحتمل أن تكون للعموم فيدخل المعهودون فيه على طرز ما مر. و ـ المهين ـ المذل ، وأصله مهون فأعل ، وإسناده إلى العذاب مجاز من الإسناد إلى السبب ـ والوصف به للتقييد ـ والاختصاص الذي يفهمه تقديم الخبر بالنسبة إليه ، فغير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير ـ لا للإهانة والإذلال ـ ولذا لم يوصف عذاب غيرهم به في القرآن فلا تمسك للخوارج بأنه خص العذاب ب «الكافرين» فيكون الفاسق كافرا لأنه معذب ولا للمرجئة أيضا.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ

٣٢٢

لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٢)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) ظرف ل (قالُوا) والجملة عطف على (قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) ولا غرض يتعلق بالقائل ، فلذا بني الفعل لما لم يسم فاعله ، والظاهر أنه من جانب المؤمنين.

(آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) الجمهور على أنه القرآن ، وقيل : سائر ما أنزل من الكتب الإلهية إجراء لما على العموم «ومع هذا» جلّ الغرض الأمر بالإيمان بالقرآن لكن سلك مسلك التعميم منه إشعارا بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به فيما في حيز الصلة وموافقته له في المضمون ، وتنبيها على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس إيمانا بما أنزل الله (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها ، وحذف الفاعل للعلم به إذ من المعلوم أنه لا ينزل الكتب إلا هو سبحانه ، ولجريان ذكره في الخطاب ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل ـ وهو الظاهر ـ وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغيا وحسدا على نزوله على من ليس منهم ـ وإما أنفسهم ـ ومعنى الإنزال عليهم تكليفهم بما في المنزل من الأحكام ، وذموا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن ـ ودسائس اليهود مشهورة ـ أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب بغير المراد منه (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) عطف على قالوا : والتعبير بالمضارع لحكاية الحال استغرابا للكفر بالشيء بعد العلم بحقيته أو للتنبيه على أن كفرهم مستمر إلى زمن الإخبار ،

٣٢٣

وقيل : استئناف ـ وعليه ابن الأنباري ـ ويجوز أن يكون حالا إما على مذهب من يجوز وقوع المضارع المثبت حالا مع الواو ، وإما على تقدير مبتدأ أي وهم يكفرون ، والتقييد بالحال حينئذ لإفادة بيان شناعة حالهم بأنهم متناقضون في إيمانهم لأن كفرهم بما وراءه حال الإيمان بالتوراة يستلزم عدم الإيمان به ـ وهذا أدخل في رد مقالتهم ـ ولهذا اختار هذا الوجه بعض الوجوه ـ ووراء ـ في الأصل مصدر لاشتقاق المواراة والتواري منه ، والمزيد فرع المجرد إلا أنه لم يستعمل فعله المجرد أصلا ثم جعل ظرف مكان ويضاف إلى الفاعل فيراد به المفعول وإلى المفعول فيراد به الفاعل أعني الساتر ، ولصدقه على الضدين ـ الخلف ، والأمام ـ عد من الأضداد وليس موضوعا لهما ، وفي الموازنة للأموي تصريح بأنه ليس منها وإنما هو من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء ـ خلفا كان أو قداما ـ إذا لم تره فأما إذا رأيته فلا يكون وراءك. والمراد هنا بما بعده قاله قتادة ـ أو بما سواه ـ وبه فسر (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] وأريد به القرآن كما عليه الجمهور. وقال الواحدي هو والإنجيل ، واحتمال أن يراد بما وراءه باطن معاني ما أنزل عليهم التي هي وراء ألفاظها ، وفيه إشعار بأن إيمانهم بظاهر اللفظ ليس بشيء إلا أن يراد بذلك الباطن القرآن ولا يخفى بعده.

(وَهُوَ الْحَقُ) الضمير عائد لما وراءه حال منه ، وقيل : من فاعل يكفرون والجملة الحالية المقترنة بالواو لا يلزم أن يعود منها ضمير إلى ذي الحال ـ كجاء زيد والشمس طالعة ـ وعلى فرض اللزوم ينزل وجود الضمير فيما هو من تتمتها منزلة وجوده فيها ، والمعنى وهم مقارنون لحقيته أي عالمون بها وهو أبلغ في الذم من كفرهم بما هو حق في نفسه ، والأول أولى لظهوره ولا تفوت تلك الأبلغية عليه أيضا إذ تعريف الحق للإشارة إلى أن المحكوم عليه مسلم الاتصاف به معروفة من قبيل ـ والدك العبد ـ فيفيد أن كفرهم به كان لمجرد العناد ، وقيل: التعريف لزيادة التوبيخ والتجهيل بمعنى أنه خاصة الحق الذي يقارن تصديق كتابهم ولو لا الحال أعني (مُصَدِّقاً) لم يستقم الحصر لأنه في مقابلة كتابهم وهو حق أيضا ، وفيه أنه لا يستقيم ولو لوحظ الحال بناء على تخصيص ذي الضمير بالقرآن لأن الإنجيل حق مصدق للتوراة أيضا ، نعم لو أريد بالحق الثابت المقابل للمنسوخ لاستقام الحصر مطلقا إلا أنه بعيد (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) حال مؤكدة لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضا ، فالتصديق لازم لا ينتقل ، وقد قررت مضمون الخبر لأنها كالاستدلال عليه ، ولهذا تضمنت رد قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) حيث إن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها ، واحتمال أن يراد مما معهم التوراة والإنجيل كما في البحر لأنهما أنزلا على بني إسرائيل وكلاهما غير مخالف للقرآن مخالف لما يقتضيه الذوق سباقا وسياقا.

(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ)؟ أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول ذلك تبكيتا لهم حيث قتلوا الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة وهي لا تسوّغه ، ويحتمل أن يكون أمرا لمن يريد جدالهم كائنا من كان والفاء جواب شرط مقدر أي (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) «فلم» إلخ ، و «ما» استفهامية حذفت ألفها لأجل ـ لام ـ الجر ويقف البزي في مثل ذلك بالهاء وغيره بغيرها ، وإيراد صيغة المضارع مع الظرف الدال على المضي للدلالة على استمرارهم على القتل في الأزمنة الماضية ، وقيل : لحكاية تلك الحال ، والمراد بالقتل معناه الحقيقي وإسناده إلى الأخلاف المعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلم مع أن صدوره من الأسلاف مجاز للملابسة بين الفاعل الحقيقي وما أسند إليه ، وهذا كما يقال لأهل قبيلة ـ أنتم قتلتم زيدا ـ إذا كان القاتل آباءهم ، وقيل : القتل مجاز عن الرضا أو العزم عليه ، ولا يخفى أن الاعتراض على الوجه الأول أقوى تبكيتا منه على الآخرين فتدبر ، وفي إضافة (أَنْبِياءَ) إلى الاسم الكريم تشريف عظيم وإيذان بأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله تعالى أن يعظم وينصر لا أن يقتل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تكرير للاعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهويل أي (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فلم تقتلونهم وقد حذف من كل واحدة من الشرطيتين ما

٣٢٤

حذف ثقة بما أثبت في الأخرى على طريق الاحتباك ، وقيل : إن المذكور قبل جواب لهذا الشرط بناء على جواز تقديمه وهو رأي الكوفيين وأبى زيد ، واختاره في البحر ، وقال الزجاج : (إِنْ) هنا نافية ولا يخفى بعده.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) داخل تحت الأمر فهو من تمام التبكيت والتوبيخ وكذا ما يأتي بعد لا تكرير لما قص من قبل ، والمراد (بِالْبَيِّناتِ) الدلائل الدالة على صدقه عليه‌السلام في دعوته والمعجزات المؤيدة لنبوته كالعصا ، واليد ، وانفلاق البحر مثلا ، وقيل : الأظهر أن يراد بها الدلائل الدالة على الوحدانية فإنه أدخل في التقريع بما بعد ، وعندي الحمل على العموم بحيث يشمل ذلك أيضا أولى وأظهر (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي الذي صنعه لكم السامري من حليكم إلها (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد مجيء موسى عليه‌السلام بها ومن عد التوراة وانفجار الماء منها لم يرد الجميع بل الجنس لأن ذلك كان بعد قصة العجل وكلمة (ثُمَ) على هذا للاستبعاد لئلا يلغو القيد. وقد يقال : الضمير لمتقدم معنى وهو الذهاب إلى الطور فكلمة (ثُمَ) على حقيقتها ، وعد ما ذكرنا من البينات حينئذ ظاهر ، ويشير هذا العطف على (١) أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات وذلك أعظم ذنبا وأكثر شناعة لحالهم ، والتزم بعضهم ـ رجوع الضمير إلى البينات بحذف المضاف أي من بعد تدبر الآيات ليظهر ذلك ، وعود الضمير إلى العجل ، والمراد بعد وجوده أي عبدتم الحادث الذي حدث بمحضركم ليكون فيه التوبيخ العظيم ـ لا يخفى ما فيه من البعد العظيم المستغنى عنه بما أشرنا إليه (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي واضعون الشيء في غير محله اللائق به أو مخلون بآيات الله تعالى ، والجملة حال مؤكدة للتوبيخ والتهديد وهي جارية مجرى القرينة على إرادة العبادة من الاتخاذ ، وفيها تعريض بأنهم صرفوا العبادة عن موضعها الأصلي إلى غير موضعها وإيهام المبالغة من حيث إن إطلاق الظلم يشعر بأن عبادة العجل كل الظلم وأن من ارتكبها لم يترك شيئا من الظلم واختار بعضهم كونها اعتراضا لتأكيد الجملة بتمامها دون تعرض لبيان الهيئة الذي تقتضيه الحالية أي وأنتم قوم عادتكم الظلم واستمر منكم ، ومنه عبادة العجل ، والذي دعاه إلى ذلك زعم أنه يلزم على الحالية أن يكون تكرارا محضا فإن عبادة العجل لا تكون إلا ظلما بخلافه على هذا فإنه يكون بيانا لرذيلة لهم تقتضي ذلك ، وفيه غفلة عما ذكرنا ، وإذا حمل الاتخاذ على الحقيقة نحو ـ اتخذت خاتما ـ تكون الحالية أولى بلا شبهة لأن الاتخاذ لا يتعين كونه ظلما إلا إذا قيد بعبادته كما لا يخفى (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي قلنا لهم خذوا ما أمرتكم به في التوراة بجد وعدم فتور (وَاسْمَعُوا) ـ أي سماع تقبل وطاعة إذ لا فائدة في الأمر بالمطلق بعد الأمر بالأخذ بقوة بخلافه على تقدير التقييد فإنه يؤكده ويقرره لاقتضائه كمال إبائهم عن قبول ما آتاهم إياه ولذا رفع الجبل عليهم وكثيرا ما يراد من السماع القبول ومن ذلك سمع الله لمن حمده وقوله :

دعوت الله حتى خفت أن لا

يكون الله «يسمع» ما أقول

(قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي سمعنا قولك (خُذُوا وَاسْمَعُوا) وعصينا أمرك فلا نأخذ ولا نسمع سماع الطاعة ، وليس هذا جوابا ل (اسْمَعُوا) باعتبار تضمنه أمرين لأنه يبقى خذوا بلا جواب ، وذهب الجم إلى ذلك وأوردوا هنا سؤالا وجوابا ، حاصل الأول أن السماع في الأمر إن كان على ظاهره فقولهم سمعنا طاعة وعصينا مناقض وإن كان القبول فإن كان في الجواب كذلك كذب وتناقض وإلا لم يكن له تعلق بالسؤال ، وزبدة الجواب أن السماع هناك مقيد والأمر مشتمل على أمرين سماع قوله وقبوله بالعمل فقالوا نمتثل أحدهما دون الآخر ، ومرجعه إلى القول

__________________

(١) كذا في الأصل ولعلها إلى

٣٢٥

بالموجب ، ونظيره (يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) [التوبة : ٦١] وقيل : المعنى قالوا بلسان القال سمعنا وبلسان الحال عصينا ، أو سمعنا أحكاما قبل وعصينا فنخاف أن نعصي بعد سماع قولك هذا ، وقيل : (سَمِعْنا) جواب (اسْمَعُوا وَعَصَيْنا) جواب (خُذُوا) وقال أبو منصور : إن قولهم عصينا ليس على أثر قولهم (سَمِعْنا) بل بعد زمان كما في قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) فلا حاجة إلى الدفع بما ذكر ، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى جميع ذلك بعد ما سمعت كما لا يخفى.

(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) عطف على (قالُوا) أو مستأنف أو حال بتقدير قد أو بدونه. والعامل (قالُوا) و ـ الإشراب ـ مخالطة المائع الجامد ، وتوسع فيه حتى صار في اللونين ، ومنه بياض مشرب بحمرة ، والكلام على حذف مضاف أي حب العجل ، وجوز أن يكون العجل مجازا عن صورته فلا يحتاج إلى الحذف ، وذكر ـ القلوب ـ لبيان مكان الإشراب ، وذكر المحل المتعين يفيد مبالغة في الإثبات ؛ والمعنى داخلهم حب العجل ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به كما داخل الصبغ الثوب وأنشدوا :

إذا ما القلب «أشرب» حب شيء

فلا تأمل له عنه انصرافا

وقيل : ـ أشربوا ـ من أشربت البعير إذا شددت في عنقه حبلا كأن العجل شد في قلوبهم لشغفهم به ؛ وقيل : من الشراب ومن عادتهم أنهم إذا عبروا عن مخامرة حب أو بغض استعاروا له اسم الشراب إذ هو أبلغ منساغ في البدن ، ولذا قال الأطباء : الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن ، وقال الشاعر :

تغلغل حيث لم يبلغ «شراب»

ولا حزن ولم يبلغ سرور

وقيل : من الشرب حقيقة ، وذلك أن السدي نقل أن موسى عليه‌السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم اشربوا فشربوا جميعهم فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه ، ولا يخفى أن قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمُ) يبعد هذا القول جدا على أن ما قص الله تعالى لنا في كتابه عما فعل موسى عليه‌السلام بالعجل يبعد ظاهر هذه الرواية أيضا ، وبناء ـ أشربوا ـ للمفعول يدل على أن ذلك فعل بهم ولا فاعل سواه تعالى. وقالت المعتزلة : هو على حد قول القائل ـ أنسيت كذا ـ ولم يرد أن غيره فعل ذلك به وإنما المراد نسيت وأن الفاعل من زين ذلك عندهم ودعاهم إليه كالسامري (بِكُفْرِهِمْ) أي بسبب كفرهم لأنهم كانوا مجسمة يجوزون أن يكون جسم من الأجسام إلها أو حلولية يجوزون حلوله فيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم ، وثعبان العصا كان لا يبقى زمانا ممتدا ولا يبعد من أولئك أن يعتقدوا عجلا صنعوه على هيئة البهائم إلها وإن شاهدوا ما شاهدوا من موسى عليه‌السلام لما ترى من عبدة الأصنام الذين كان أكثرهم أعقل من كثير من بني إسرائيل ، وقيل : الباء بمعنى مع أي مصحوبا بكفرهم فيكون ذلك كفرا على كفر.

(قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) أي بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون ، وإسناد الأمر إلى الإيمان وإضافته إلى ضميرهم للتهكم كما في قوله تعالى : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود : ٨٧] والمخصوص بالذم محذوف ـ أي قتل الأنبياء ـ وكذا وكذا ، وجوّز أن يكون المخصوص مخصوصا بقولهم : عصينا أمرك ، وأراه على القرب بعيدا.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال لها ، وجواب الشرط ما فهم من قوله تعالى : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ) إلى آخر الآيات المذكورة في رد دعواهم الإيمان ، أو الجملة الانشائية السابقة ـ إما بتأويل أو بلا تأويل ـ وتقرير ذلك (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ما رخص لكم إيمانكم بالقبائح التي فعلكم ، بل منع عنها فتناقضتم في دعواكم له فتكون باطلا ، أو (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بها ف (بِئْسَما) أمركم به (إِيمانُكُمْ) بها أو فقد أمركم إيمانكم بالباطل ، لكن

٣٢٦

الإيمان بها لا يأمر به فإذن لستم بمؤمنين ، والملازمة بين الشرط والجزاء «على الأول» بالنظر إلى نفس الأمر ، وإبطال الدعوى بلزوم التناقض «وعلى الثاني» تكون الملازمة بالنظر إلى حالهم من تعاطي القبائح مع ادعائهم الإيمان ، والمؤمن من شأنه أن لا يتعاطى إلا ما يرخصه إيمانه ، وإبطال التالي بالنظر إلى نفس الأمر ـ واستظهر بعضهم في هذا ـ ونظائره كون الجزاء معرفة السابق أي (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تعرفون أنه بئس المأمور به ، وقيل: (إِنْ) نافية ، وقيل : للتشكيك ـ وإليه يشير كلام الكشاف ـ وفيه أن المقصد إبطال دعوتهم بإبراز إيمانهم القطعي العدم منزلة ما لا قطع بعدمه للتبكيت والإلزام ـ لا للتشكيك ـ على أنه لم يعهد استعمال (إِنْ) لتشكيك السامع ـ كما نص عليه بعض المحققين ـ وقرأ الحسن ومسلم بن جندب ـ بهو إيمانكم ـ بضم الهاء ووصلها بواو (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) رد لدعوى أخرى لهم بعد رد دعوى ـ الإيمان بما أنزل عليهم ـ ولاختلاف الغرض لم يعطف أحدهما على الآخر مع ظهور المناسبة المصححة للذكر ، والآية نزلت ـ فيما حكاه ابن الجوزي ـ عند ما قالت اليهود : إن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه. وقال أبو العالية والربيع : سبب نزولها قولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ١١١] إلخ و (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) [المائدة : ١٨] إلخ و (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) [البقرة : ٨٠ ، آل عمران : ٢٤] إلخ ، وروي مثله عن قتادة. والضمير في (قُلْ) إما للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لمن يبغي إقامة الحجة عليهم ، والمراد من (الدَّارُ الْآخِرَةُ) الجنة ـ وهو الشائع ـ واستحسن في البحر تقدير مضاف أي نعيم (الدَّارُ الْآخِرَةُ).

(عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه ، وقيل : المراد ـ بالعندية ـ المكانة والمرتبة والشرف ، وحملها ـ على عندية المكان ـ كما قيل به ـ احتمالا ـ بعيد (خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) أي مخصوصة بكم كما تزعمون ـ والخالص ـ الذي لا يشوبه شيء ، أو ما زال عنه شوبه ، ونصب (خالِصَةً) على الحال من (الدَّارُ) الذي هو اسم كان و (لَكُمُ) خبرها قدم للاهتمام ـ أو لإفادة الحصر ـ وما بعده للتأكيد ، هذا إن جوّز مجيء الحال من اسم كان وهو الأصح ، ومن لم يجوّز بناء على أنه ليس بفاعل جعلها حالا من الضمير المستكن في الخبر ، وقيل : (خالِصَةً) هو الخبر و (لَكُمُ) ظرف لغو لكان أو ل (خالِصَةً) ولا يخفى بعده ـ فإنه تقييد للحكم قبل مجيئه ـ ولا وجه لتقديم متعلق الخبر على الاسم مع لزوم توسط الظرف بين الاسم والخبر ، وأبعد المهدوي ، وابن عطية أيضا فجعلا (خالِصَةً) حالا و (عِنْدَ اللهِ) هو الخبر ، مع أن الكلام لا يستقل به وحده. و (دُونِ) هنا للاختصاص وقطع الشركة ، يقال : هذا لي دونك ، وأنت تريد لا حق لك فيه معي ولا نصيب ، وهو متعلق ب (خالِصَةً) والمراد ب (النَّاسِ) الجنس وهو الظاهر ، وقيل : المراد بهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون ، وقيل : النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحده ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ قالوا : ويطلق (النَّاسِ) ويراد به الرجل الواحد ، ولعله لا يكون إلا مجازا بتنزيل الواحد منزلة الجماعة (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن الجنة (خالِصَةً) لكم ، فإن من أيقن أنه من أهل الجنة اختار أن ينتقل إلى دار القرار ، وأحب أن يخلص من المقام في دار الأكدار ، كما روي عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة ، فقال له الحسن : ما هذا بزي المحاربين ، فقال : يا بني ـ لا يبالي أبوك سقط على الموت ، أم سقط عليه الموت ـ وكان عبد الله بن رواحة ينشد وهو يقاتل الروم:

يا حبذا الجنة واقترابها

طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها

وقال عمار بصفين : غدا نلقى الأحبة ، محمدا وصحبه. وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال : حبيب جاء على فاقة. وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة قال : «يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل» ويعلم من ذلك أن تمني الموت لأجل الاشتياق إلى دار النعيم ولقاء الكريم غير منهي عنه ، إنما

٣٢٧

المنهي عنه تمنيه لأجل ضر أصابه ـ فإنه آثر الجزع وعدم الرضا بالقضاء ـ وفي الخبر «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، وإن كان ولا بد فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي» والمراد ـ بالتمني ـ قول الشخص : ليت كذا ، وليت من أعمال القلب أو الاشتهاء بالقلب ومحبة الحصول مع القول ، فمعنى الآية سلوا الموت باللسان ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو اشتهوه بقلوبكم وسلوه بألسنتكم ـ قاله قوم ـ وعلى التقديرين ـ الأمر بالتمني حقيقة ، واحتمال أن يكون المراد ـ تعرضوا للموت ولا تحترزوا عنه كالمتمني فحاربوا من يخالفكم ولا تكونوا من أهل الجزية والصغار ، أو كونوا على وجه يكون المتمنون للموت المشتهون للجنة عليه من العمل الصالح ـ مما لا تساعده الآثار ، فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا «لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه» وأخرج البيهقي عنه مرفوعا «لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه» والبخاري مرفوعا عنه أيضا «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا» وقرأ ابن أبي إسحاق (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) ـ بكسر الواو ـ وحكى الحسن بن إبراهيم عن أبي عمرو ـ فتحها ـ وروي عنه أيضا اختلاس ضمتها (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) الظاهر أنه جملة مستأنفة معترضة غير داخلة تحت الأمر سيقت من جهته تعالى لبيان ما يكون منهم من الإحجام الدال على كذبهم في دعواهم ، والمراد لن يتمنوه ما عاشوا ، وهذا خاص بالمعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روي عن نافع رضي الله تعالى عنه قال : خاصمنا يهودي وقال : إن في كتابكم (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) إلخ ، فأنا أتمنى الموت ، فما لي لا أموت ، فسمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فغضب ، فدخل بيته وسل سيفه وخرج ، فلما رآه اليهودي فرّ منه ، وقال ابن عمر : أما والله لو أدركته لضربت عنقه ، توهم هذا الكلب اللعين الجاهل أن هذا لكل يهودي أو لليهود في كل وقت لا إنما هو لأولئك الذين كانوا يعاندون ويجحدون نبوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن عرفوا ، وكانت المحاجة معهم باللسان دون السيف. ويؤيد هذا ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس موقوفا «لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات» وهذه الجملة إخبار بالغيب ومعجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفيها دليل على اعترافهم بنبوّته صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهم لو لم يتيقنوا ذلك ما امتنعوا من التمني ، وقيل : لا دليل ، بل الامتناع كان بصرف الصرفة كما قيل في عدم معارضة القرآن ، والقول بأنه كيف يكون ذلك معجزة مع أنه لا يمكن أن يعلم أنه لم يتمن أحد ، والتمني أمر قلبي لا يطلع عليه ، مجاب عنه بأنا لا نسلم أن المراد بالتمني هنا الأمر القلبي ، بل هو أن يقول : ليت كذا ونحوه كما مر آنفا ، ولو سلم أنه أمر قلبي فهذا مذكور على طريق المحاجة وإظهار المعجزة فلا يدفع إلا بالإظهار والتلفظ كما إذا قال رجل لامرأته : أنت طالق إن شئت أو أحببت ، فإنه يعلق بالإخبار لا بالإضمار ، فحيث ثبت عدم تلفظهم بالإخبار ، وبأنه لو وقع لنقل واشتهر لتوفر الدواعي إلى نقله لأنه أمر عظيم يدور عليه أمر عظيم يدور عليه أمر النبوّة ، فإنه بتقدير عدمه يظهر صدقه ، وبتقدير حصوله يبطل القول بنبوته ثبت كونه معجزة أيده بها ربه ، ومن حمل التمني على المجاز لا يرد عنده هذا السؤال ، ولا يحتاج إلى هذا الجواب ، وقد علمت ما فيه. وذهب جمهور المفسرين إلى عموم حكم الآية لجميع اليهود في جميع الأعصار ، ولست ممن يقول بذلك وإن ارتضاه الجم الغفير ، وقالوا : إنه المشهور الموافق لظاهر النظم الكريم ، اللهم إلا أن يكون ذلك بالنسبة إلى جميع اليهود المعتقدين نبوّته صلى الله تعالى عليه وسلم الجاحدين لها في جميع الأعصار ـ لا بالنسبة إلى اليهود مطلقا في جميعها ـ ومع هذا لي فيه نظر بعد (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة للنار كالكفر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، والقرآن ، وقتل الأنبياء ، و «ما» موصولة ، والعائد محذوف أو مصدرية ولا حذف ، واليد كناية عن نفس الشخص ، ويكنى بها عن القدرة أيضا لما أنها من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعه ، ومدار أكثر منافعه ، ولا يجعل الإسناد مجازيا ؛ واليد على حقيقتها فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم كتحريف التوراة ليشمل ما قدموا بسائر

٣٢٨

الأعضاء ، وهو أبلغ في الذم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تذييل للتهديد والتنبيه على أنهم ظالمون في ادعاء ما ليس لهم ونفيه عن غيرهم ، والمراد ـ بالعلم ـ إما ظاهر معناه ، أو أنه كني به عن المجازاة ـ وأل ـ إما للعهد وإيثار الإظهار على الإضمار للذم ، وإما للجنس فيدخل المعهودون فيه على طرز ما تقدم.

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، و ـ تجد ـ من وجد بعقله بمعنى علم المتعدية إلى مفعولين ، والضمير مفعول أول ، و (أَحْرَصَ) مفعول ثان ، واحتمال أنها من وجد بمعنى لقي وأصاب فتتعدى إلى واحد ، و (أَحْرَصَ) حال لا يتأتى على مذهب من يقول إن إضافة أفعل محضة كما سيأتي ، والضمير عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت ، وقيل : على جميعهم ، وقيل : على علماء بني إسرائيل و ـ أل ـ في الناس للجنس ، وهو الظاهر ، وقيل : للعهد ، والمراد جماعة عرفوا بغلبة الحرص عليهم ، وتنكير (حَياةٍ) لأنه أريد بها فرد نوعي ، وهي الحياة المتطاولة ، فالتنوين للتعظيم ، ويجوز أن يكون للتحقير ، فإن الحياة الحقيقية هي الأخروية (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) [العنكبوت : ٦٤] ويجوز أن يكون التنكير للإبهام ، بل قيل : إنه الأوجه أي على حياة مبهمة غير معلومة المقدار ، ومنه يعلم حرصهم على الحياة المتطاولة من باب الأولى وجوز أبو حيان أن يكون الكلام على حذف مضاف أو صفة أي طول حياة أو حياة طويلة ، وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى ذلك ، والجملة إما حال من فاعل «قل» ـ وعليه الزجاج ـ وإما معترضة لتأكيد عدم تمنيهم الموت ، وقرأ أبيّ ـ على الحياة ـ بالألف واللام (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) هم المجوس ووصفوا بالإشراك لأنهم يقولون بالنور والظلمة وكانت تحيتهم إذا عطس العاطس عش ألف سنة ، وقيل : مشركو العرب الذين عبدوا الأصنام وهذا من الحمل على المعنى كأنه قال : أحرص من الناس ومن الذين إلخ. بناء على ما ذهب إليه ابن السراج ، وعبد القاهر والجزولي وأبو علي من أن إضافة أفعل المضاف إذا أريد الزيادة على ما أضيف إليه لفظية لأن المعنى على إثبات (مِنَ) الابتدائية ، والجار والمجرور في محل نصب مفعولة ، وسيبويه يجعلها معنوية بتقدير اللام ، والمرد بالناس على هذا التقدير ما عدا اليهود لما تقرر أن المجرور ـ بمن ـ مفضول عليه بجميع أجزائه أو الأعم ولا يلزم تفضيل الشيء على نفسه لأن أفعل ذو جهتين ثبوت أصل المعنى والزيادة فكونه من جملتهم بالجهة الأولى دون الثانية وجيء ـ بمن ـ في الثانية لأن من شرط أفعل المراد به الزيادة على المضافة إليه أن يضاف إلى ما هو بعضه لأنه موضوع لأن يكون جزءا من جملة معينة بعده مجتمعة منه ومن أمثاله ، ولا شك أن اليهود غير داخلين في الذين أشركوا فإن الشائع في القرآن ذكرهما متقابلين ، ويجوز أن يكون ذلك من باب الحذف أي ـ وأحرص من الذين ـ وهو قول مقاتل ؛ ووجه الآية على مذهب سيبويه ، وعلى التقديرين ذكر ـ المشركين ـ تخصيص بعد التعميم على الوجه الظاهر في ـ اللام ـ لإفادة المبالغة في حرصهم والزيادة في توبيخهم وتقريعهم حيث كانوا مع كونهم أهل كتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا ، أحرص ممن لا يرجو ذلك ، ولا يؤمن ببعث ، ولا يعرف إلا الحياة العاجلة ، وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العذاب ، ومن توقع شرا كان أنفر الناس عنه ، وأحرصهم على أسباب التباعد منه. ومن الناس من جوز كون (مِنَ الَّذِينَ) صفة لمحذوف معطوف على الضمير المنصوب في (لَتَجِدَنَّهُمْ) والكلام على التقديم والتأخير ، أي (لَتَجِدَنَّهُمْ) وطائفة من ـ الذين أشركوا أحرص الناس ـ ولا أظن يقدم على مثل ذلك في كتاب الله تعالى من له أدنى ذوق ، لأنه ـ وإن كان معنى صحيحا في نفسه ـ إلا أن التركيب ينبو عنه ، والفصاحة تأباه ، ولا ضرورة تدعو إليه لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة ، نعم يحتمل أن يكون هناك محذوف ـ هو مبتدأ ـ والمذكور صفته ، أو المذكور خبر مبتدأ محذوف صفته.

٣٢٩

(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) وحذف موصوف الجملة فيما إذا كان بعضا من سابقه المجرور ب (مِنَ) أو ـ في ـ جائز في السعة ، وفي غيره مختص بالضرورة نحو أنا ابن نجلا وطلاع الثنايا. وحينئذ يراد ب (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) اليهود لأنهم قالوا : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ووضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالشرك ، وجوّز بعضهم أن يراد بذلك الجنس ، ويراد بمن (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) اليهود ، والمراد كل واحد منهم ـ وهو بعيد ـ وجملة (يَوَدُّ) إلخ ، على الوجهين الأولين مستأنفة ، كأنه قيل : ما شدة حرصهم ، وقيل : حال من (الَّذِينَ) أو من ضمير (أَشْرَكُوا) أو من الضمير المنصوب في (لَتَجِدَنَّهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) جواب (لَوْ) محذوف ـ أي لسر بذلك ـ وكذا مفعول (يَوَدُّ) أي طول الحياة ، وحذف لدلالة (لَوْ يُعَمَّرُ) عليه كما حذف الجواب لدلالة (يَوَدُّ) عليه ، وهذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان ، وذهب بعض الكوفيين ـ في مثل ذلك ـ إلى أن (لَوْ) مصدرية بمعنى ـ أن ـ فلا يكون لها جواب ، وينسبك منها مصدر هو مفعول (يَوَدُّ) كأنه قال : «يود أحدهم» تعمير ألف سنة ، وقيل : (لَوْ) بمعنى ليت ولا يحتاج إلى جواب والجملة محكية ب (يَوَدُّ) في موضع المفعول ، وهو ـ وإن لم يكن قولا ولا في معناه ـ لكنه فعل قلبي يصدر عنه الأقوال فعومل معاملتها ، وكان أصله ـ لو أعمر ـ إلا أنه أورد بلفظ الغيبة لأجل مناسبة (يَوَدُّ) فإنه غائب ، كما يقال : حلف ليفعلن ـ مقام لأفعلن ـ وهذا بخلاف ما لو أتى بصريح القول ، فإنه لا يجوز قال : ليفعلن ، وإذا قلنا : إن (لَوْ) التي للتمني مصدرية لا يحتاج إلى اعتبار الحكاية ، وابن مالك رضي الله تعالى عنه موضوعا له ـ كليت ـ ونحو لو تأتيني فتحدثني ـ بالنصب ـ أصله وددت لو تأتيني إلخ ، فحذف فعل التمني لدلالة (لَوْ) عليه ، وقيل : هي (لَوْ) الشرطية أشربت معنى التمني ، ومعنى (أَلْفَ سَنَةٍ) الكثرة ليشمل من (يَوَدُّ) أن لا يموت أبدا ، ويحتمل أن يراد (أَلْفَ سَنَةٍ) حقيقة ـ والألف ـ العدد المعلوم من الألفة ، إذ هو مؤلف من أنواع الأعداد بناء على متعارف الناس ، وإن كان الصحيح أن العدد مركب من الوحدات التي تحته ـ لا الإعداد ـ وأصل (سَنَةٍ) سنوة ، لقولهم : سنوات ، وقيل : سنهة ـ كجبهة ـ لقولهم : سانهته ، وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون ، وسمع أيضا في الجمع سنهات (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ما) حجازية أو تميمية ، وهو ضمير عائد إلى (أَحَدُهُمْ) اسمها ـ أو مبتدأ ـ و (بِمُزَحْزِحِهِ) خبرها أو خبره ـ والباء ـ زائدة ، و (أَنْ يُعَمَّرَ) فاعل «مزحزحه» والمعنى ـ ما أحدهم يزحزحه من العذاب تعميره ـ وفيه إشارة إلى ثبوت من ـ يزحزحه التعمير ـ وهو (مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [الكهف : ٨٨ ، سبأ : ٣٧] ولا يجوز عند المحققين أن يكون الضمير المرفوع للشأن لأن مفسره جملة ، ولا تدخل ـ الباء ـ في خبر (ما) وليس إلا إذا كان مفردا عند غير الفراء ، وأجاز ذلك أبو علي ، وهو ميل منه إلى مذهب الكوفيين من أن مفسر ضمير الشأن يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسنادا معنويا نحو ما هو بقائم زيد ؛ نعم جوّزوا أن يكون لما دل عليه (يُعَمَّرُ) و (أَنْ يُعَمَّرَ) بدل منه ، أي ما تعميره (بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ) اعترض بأن فيه ضعفا للفصل بين البدل والمبدل منه ، وللإبدال من غير حاجة إليه ، وأجاب بعض المحققين أنه لما كان لفظ ـ التعمير ـ غير مذكور ، بل ضميره حسن الإبدال ؛ ولو كان التعمير مذكورا بلفظه لكان الثاني تأكيدا ـ لا بدلا ـ ولكونه في الحقيقة تكريرا يفيد فائدته من تقرير المحكوم عليه اعتناء بشأن الحكم بناء على شدة حرصه على التعمير ـ ووداده إياه ـ جاز الفصل بينه وبين المبدل منه بالخبر ، كما في التأكيد في قوله تعالى : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [هود : ١٩ ، يوسف : ٣٧ ، فصلت : ٧] وقيل : هو ضمير مبهم يفسره البدل فهو راجع إليه لا إلى شيء متقدم مفهوم من الفعل ، والتفسير بعد الإبهام ليكون أوقع في نفس السامع ، ويستقر في ذهنه كونه محكوما عليه بذلك الحكم والفصل بالظرف بينه وبين مفسره جائز ـ كما يفهمه كلام الرضيّ في بحث أفعال المدح والذم ـ واحتمال أن يكون (هُوَ) ضمير فصل قدم مع الخبر بعيد ـ والزحزحة ـ التبعيد ، وهو مضاعف من زح يزح زحا ، ككبكب من كب ـ وفيه مبالغة ـ لكنها متوجهة إلى النفي

٣٣٠

على حد ما قيل : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] فيؤول ـ إلى أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ـ التعمير ، وصح ذلك مع أن التعمير يفيد رفع العذاب مدة البقاء ، لأن الإمهال بحسب الزمان وإن حصل ، لكنهم لاقترافهم المعاصي بالتعمير زاد عليهم من حيث الشدة فلم يؤثر في إزالته أدنى تأثير بل زاد فيه حيث استوجبوا بمقابلة (أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] عذاب الأبد (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي عالم بخفيات أعمالهم ـ فهو مجازيهم لا محالة ـ وحمل ـ البصر ـ على ـ العلم ـ هنا وإن كان بمعنى الرؤية صفة لله تعالى أيضا لأن بعض الأعمال لا يصح أن يرى ـ على ما ذهب إليه بعض المحققين ـ وفي هذه الجملة من التهديد والوعيد ما هو ظاهر ، و «ما» إما موصولة أو مصدرية ، وأتى بصيغة المضارع لتواخي الفواصل ، وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب «تعلمون» ـ بالتاء ـ على سبيل الالتفات (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) أخرج ابن أبي شيبة في مسنده ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الشعبي ، أنه دخل عمر رضي الله تعالى عنه مدراس اليهود يوما فسألهم عن جبريل ، فقالوا : ذاك عدونا ، يطلع محمدا على أسرارنا ، وأنه صاحب كل خسف وعذاب ، وميكائيل صاحب الخصب والسلام. فقال : ما منزلتهما من الله تعالى؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ـ وبينهما عداوة ـ فقال : لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين ، ولأنتم أكفر من الحمير ، ومن كان عدوا لأحدهما فهو عدو لله. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي ، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : «لقد وافقك ربك يا عمر» قال عمر : لقد رأيتني بعد ذلك أصلب من الحجر ، وقيل : نزلت في عبد الله بن صوريا ـ كان يهوديا من أحبار فدك ـ سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن ينزل عليه فقال : «جبريل» فقال : ذاك عدونا عادانا مرارا ، وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بخت نصر ، فبعثنا من يقتله فرآه ببابل ، فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه ، وإلا فبم تقتلونه؟ وصدقه الرجل المبعوث ورجع إلينا ، وكبر بختنصر وقوي وغزانا ، وخرّب بيت المقدس ، روى ذلك بعض الحفاظ ، وقال العراقي : لم أقف له على سند ، فلعل الأول أقوى منه ـ وإن أوهم صنيع بعضهم العكس ـ و (لِجِبْرِيلَ) علم ملك كان ينزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالقرآن ، وهو اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة ، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله وجعله مركبا تركيب مزج من مضاف ومضاف إليه ، فمنعه من الصرف للعلمية ، والتركيب ليس بشيء لأن ما يركب هذا التركيب يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف. فكونه لم يسمع فيه الإضافة أو البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج ، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة ، أفصحها وأشهرها (لِجِبْرِيلَ) كقنديل ، وهي قراءة أبي عمرو. ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم. وهي لغة الحجاز ، قال ورقة بن نوفل :

«وجبريل» يأتيه وميكال معهما

من الله وحي يشرح الصدر منزل

الثانية كذلك إلا أنها ـ بفتح الجيم ـ وهي قراءة ابن كثير والحسن وابن محيصن. قال الفراء : لا أحبها لأنه ليس في الكلام فعليل ـ وليس بشيء ـ لأن الأعجمي إذا عربوه قد يلحقونه بأوزانهم ـ كلجام ـ وقد لا يلحقونه كإبريسم ـ وجبريل من هذا القبيل ، مع أنه سمع ـ سموأل ـ لطائر ، الثالث «جبرئيل» كسلسبيل ، وبها قرأ حمزة والكسائي وحماد عن أبي بكر عن عاصم ، وهي لغة قيس وتميم وكثير من أهل نجد ، وحكاها الفراء واختارها الزجاج ، وقال : هي أجود اللغات ، وقال حسان :

شهدنا فما يلقى لنا من كتيبة

مدى الدهر إلا «جبرئيل» أمامها

«الرابعة» كذلك إلا أنها بدون ـ ياء بعد الهمزة ـ وهي رواية يحيى بن آدم ، عن أبي بكر ، عن عاصم ، وتروى عن

٣٣١

يحيى بن يعمر «الخامسة» كذلك إلا أن ـ اللام مشددة ـ وهي قراءة أبان عن عاصم ، ويحيى بن يعمر أيضا «السادسة» «جبرائل» ـ بألف وهمزة بعدها مكسورة بدون ياء ـ وبها قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعكرمة «السابعة» مثلها مع زيادة ـ ياء بعد الهمزة ـ «الثامنة» «جبراييل» بياءين بعد الألف ، وبها قرأ الأعمش وابن يعمر ، ورواها الكسائي عن عاصم «التاسعة» «جبرال» «العاشرة» «جبريل» ـ بالياء والقصر ـ وهي قراءة طلحة بن مصرف «الحادية عشرة» «جبرين» ـ بفتح الجيم والنون ـ «الثانية عشرة» كذلك إلا أنها ـ بكسر الجيم ـ وهي لغة أسد «الثالثة عشرة» «جبراين» قال أبو جعفر النحاس : جمع (لِجِبْرِيلَ) جمع تكسير على ـ جبارين ـ على اللغة العالية ، واشتهر أن معناه عبد الله ، على أن ـ جبر ـ هو الله تعالى ـ وإيل ـ هو العبد ، قيل : عكسه ، ورده بعضهم بأن المعهود في الكلام العجمي تقديم المضاف إليه على المضاف ، وفيه تأمل.

(فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) جواب الشرط إما نيابة أو حقيقة والمعنى من عاداه منهم فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي لأنه نزل كتابا مصدقا للكتب المتقدمة ، أو فالسبب في عداوته أنه نزل عليك ، وليس المبتدأ على هذا الأخير محذوفا ، و ـ أنه ـ نزله ـ خبره حتى يرد أن الموضع للمفتوحة بل أن ـ الفاء ـ داخلة على السبب ، ووقع جزاء باعتبار الإعلام والاخبار بسببيته لما قبله فيؤول المعنى إلى من عاداه فأعلمكم بأن سبب عداوته كذا فهو كقولك : إن عاداك فلان فقد آذيته أي فأخبرك بأن سبب عداوتك أنك آذيته ، وقيل : الجزاء محذوف بحيث لا يكون المذكور نائبا وعنه يقدر مؤخرا عنه ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة والمعنى من عاداه ـ لأنه نزله على قلبك ـ فليمت غيظا ، أو فهو عدوّ لي وأنا عدوه والقرينة على حذف الثاني الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم ، واحتمال أن يكون (مَنْ كانَ عَدُوًّا) إلخ استفهاما للاستبعاد ، أو التهديد ويكون فإنه تعليل العداوة وتقييدا لها أو تعليل الأمر بالقول مما لا ينبغي أن يرتكب في القرآن العظيم ، والضمير الأول البارز لجبريل ، والثاني للقرآن كما يشير إليه الأحوال لأنها كلها من صفات القرآن ظاهرا ، وقيل : الأول لله تعالى والثاني لجبريل أي ـ فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك ـ وفي كل من الوجهين إضمار يعود على ما يدل عليه السياق ، وفي ذلك من فخامة الشأن ما لا يخفى ، ولم يقل سبحانه عليك كما في قوله تعالى : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه : ٢] بل قال : (عَلى قَلْبِكَ) لأنه القابل الأول للوحي إن أريد به الروح ، ومحل الفهم والحفظ إن أريد به العضو بناء على نفي الحواس الباطنة ، وقيل : كني بالقلب عن الجملة الإنسانية كما يكنى ببعض الشيء عن كله ، وقيل : معنى (نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) جعل (قَلْبِكَ) متصفا بأخلاق القرآن ومتأدبا بآدابه كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها «كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه» وكان الظاهر أن يقول على قلبي لأن القائل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لكنه حكى ما قال الله تعالى له وجعل القائل كأنه الله تعالى لأنه سفير محض (بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة أو باختياره ، أو بتيسيره وتسهيله ، وأصل معنى ـ الاذن ـ في الشيء الاعلام بإجازته والرخصة فيه فالمعاني المذكورة كلها مجازية ، والعلاقة ظاهرة ، والمنتخب ـ كما في المنتخب ـ المعنى الأول والمعتزلة ـ لما لم يقولوا بالكلام النفسي وإسناد الاذن إليه تعالى باعتبار الكلام اللفظي يحتاج إلى تكلف ـ اقتصر الزمخشري على الوجه الأخير ، والقول : إن الاذن بمعنى الأمر إن أريد بالتنزيل معناه الظاهر ، وبمعنى التيسير إن أريد به التحفيظ والتفهيم مما لا وجه له.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب الإلهية التي معظمها التوراة وانتصاب (مُصَدِّقاً) على الحال من الضمير المنصوب في (نَزَّلَهُ) إن كان عائدا للقرآن وإن كان لجبريل فيحتمل وجهين ، أحدهما أن يكون حالا من المحذوف

٣٣٢

لفهم المعنى كما أشرنا إليه ، والثاني أن يكون حالا من جبريل ، والهاء إما للقرآن أو لجبريل فإنه مصدق أيضا لما بين يديه من الرسل والكتب (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) معطوفان على (مُصَدِّقاً) فهما حالان مثله ، والتأويل غير خفي ، وخص المؤمنين ـ بالذكر لأنه على غيرهم عمى ، وقد دلت الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه ، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة ، ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة العظيمة الرفيعة عند الله تعالى ، قيل : وتعلقت الباطنية بهذه الآية وقالوا : إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورد عليهم بأنه معجزة ظاهرة وباطنة وإن الله تعالى سماه قرآنا وكتابا وعربيا ، وإن جبريل نزل به والملهم لا يحتاج إليه.

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) ـ العدو ـ للشخص ضد الصديق يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع ، وقد يؤنث ويثنى ويجمع ، وهو الذي يريد إنزال المضار به ، وهذا المعنى لا يصح إلا فينا دونه تعالى فعداوة الله هنا مجاز إما عن مخالفته تعالى وعدم القيام بطاعته لما أن ذلك لازم للعداوة ، وإما عن عداوة أوليائه ، وأما عداوتهم لجبريل والرسل عليهم‌السلام فصحيحة لأن الإضرار جار عليهم غاية ما في الباب أن عداوتهم لا تؤثر لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم ، وصدر الكلام على الاحتمال الأخير بذكره لتفخيم شأن أولئك الأولياء حيث جعل عداوتهم عداوته تعالى ، وأفرد الملكان بالذكر تشريفا لهما وتفضيلا كأنهما من جنس آخر تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات كقوله :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فان «المسك» بعض دم الغزال

وقيل : لأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما ، وقيل : للتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستجلاب العداوة من الله تعالى ، وإن من عادى أحدهم فكأنما عادى الجميع لأن الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد وإن اختلف بحسب التوهم والاعتقاد ، ولهذا أحب اليهود ميكائيل وأبغضوا جبريل ، واستدل بعضهم بتقديم جبريل على ميكائيل على أنه أفضل منه وهو المشهور ، واستدلوا عليه أيضا بأنه ينزل بالوحي والعلم وهو مادة الأرواح ، وميكائيل بالخصب والأمطار وهي مادة الأبدان ، وغذاء الأرواح أفضل من غذاء الأشباح ، واعترض بأن التقديم في الذكر لا يدل على التفضيل إذ يحتمل أن يكون ذلك للترقي أو لنكتة أخرى كما قدمت الملائكة على الرسل وليسوا أفضل منهم عندنا ، وكذا نزوله بالوحي ليس قطعيا بالأفضلية إذ قد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل فلا بد في التفضيل من نص جلي واضح ، وأنا أقول بالأفضلية وليس عندي أقوى دليلا من مزيد صحبته لحبيب الحق بالاتفاق وسيد الخلق على الإطلاق صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكثرة نصرته وحبه له ولأمته ، ولا أرى شيئا يقابل ذلك وقد أثنى الله تعالى عليه عليه‌السلام بما لم يثن به على ميكائيل بل ولا على إسرافيل وعزرائيل وسائر الملائكة أجمعين ، وأخرج الطبراني ـ لكن بسند ضعيف ـ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا أخبركم بأفضل الملائكة؟ جبرائيل» وأخرج أبو الشيخ عن موسى بن عائشة قال : «بلغني أن جبريل إمام أهل السماء» ومن شرطية والجواب ، قيل : محذوف وتقديره فهو كافر مجزي بأشد العذاب ، وقيل : فإن الله إلخ على نمط ما علمت ، وأتى باسم الله ظاهرا ولم يقل فانه عدو دفعا لانفهام غير المقصود أو التعظيم والتفخيم ، والعرب إذا فخمت شيئا كررته بالاسم الذي تقدم له ، ومنه (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ) [الحج : ٦٠]. وقوله :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

وأل في الكافرين للعهد وإيثار الاسمية للدلالة على التحقيق والثبات ، ووضع المظهر موضع المضمر للايذان بأن

٣٣٣

عداوة المذكورين كفر وأن ذلك بين لا يحتاج إلى الاخبار به وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور ، وقيل : يحتمل أنه تعالى عدل عن الضمير لعلمه أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله تعالى للمآل ـ وهو احتمال أبعد من العيوق ـ ويحتمل أن تكون ـ أل للجنس كما تقدم ، ومن الناس من روى أن عمر رضي الله تعالى عنه نطق بهذه الآية مجاوبا لبعض اليهود في قوله ذاك عدونا يعني جبريل فنزلت على لسان عمر وهو خبر ضعيف كما نص عليه ابن عطية ، والكلام في منع صرف ميكائيل كالكلام في جبريل ، واشتهر أن معناه عبيد الله وقيل : عبد الله وفيه لغات ، الأولى «ميكال» كمفعال ، وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة الحجاز ، الثانية كذلك إلا أن بعد الألف همزة ، وقرأ بها نافع. وابن شنبوذ لقنبل ، الثالثة كذلك إلا أنه بياء بعد الهمزة ، وبها قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر. وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي ، الرابعة «ميكئيل» كميكفيل ، وبها قرأ ابن محيصن. الخامسة كذلك إلا أنه لا ياء بعد الهمزة وقرئ بها ، السادسة «ميكاييل» بياءين بعد الألف أولهما مكسورة ، وبها قرأ الأعمش.

ولساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في هذين الملكين ـ بل وفي أخويهما إسرافيل وعزرائيلعليهما‌السلام أيضا ـ كلام مبسوط ، والمشهور أن جبرائيل هو العقل الفعال ، وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق الخلائق ، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية الموكلة بالحيوانات ، وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها بعضها بالوسائط التي هي أعوانه وبعضها بنفسه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) نزلت بسبب ابن صوريا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آيات فنتبعك ، وجعلت عطفا على قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا) إلخ عطف القصة على القصة (وَما يَكْفُرُ) عطف على جواب القسم فإنه كما يصدر باللام يصدر بحرف النفي ، و «الآيات» القرآن والمعجزات والاخبار عما خفي وأخفي في الكتب السابقة أو الشرائع والفرائض ، أو مجموع ما تقدم كله والظاهر الإطلاق ، و (الْفاسِقُونَ) المتمردون في الكفر الخارجون عن الحدود فإن من ليس على تلك الصفات من الكفرة لا يجترئ على الكفر بمثل هاتيك البينات ، قال الحسن إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره فإذا قيل : هو فاسق في الشرب فمعناه هو أكثر ارتكابا له وإذا قيل : هو فاسق في الزنا يكون معناه هو أشد ارتكابا له ، وأصله من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، واللام إما للعهد لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود ، وإما للجنس وهم داخلون كما مر غير مرة (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) نزلت في مالك بن الصيف قال : والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا ميثاق ، وقيل : في اليهود عاهدوا إن خرج لنؤمنن به ولنكونن معه على مشركي العرب فلما بعث كفروا به ، وقال عطاء : في اليهود عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير ، والهمزة للإنكار بمعنى ما كان ينبغي ، وفيه إعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها حتى صار سجية لهم وعادة ، وفي ذلك تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإشارة إلى أنه ينبغي أن لا يكترث بأمرهم وأن لا يصعب عليه مخالفتهم ، والواو للعطف على محذوف أي كفروا بالآيات وكلما عاهدوا ، وهو من عطف الفعلية على الفعلية لأن (كُلَّما) ظرف (نَبَذَهُ) والقرينة على ذلك المحذوف قوله تعالى : (وَما يَكْفُرُ بِها) إلخ ، وبعضهم يقدر المعطوف مأخوذا من الكلام السابق ويقول بتوسط الهمزة بين المعطوف والمعطوف عليه لغرض يتعلق بالمعطوف خاصة ، والتقدير عنده نقضوا هذا العهد وذلك العهد

٣٣٤

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا) وفيه مع ارتكاب ما لا ضرورة تدعو إليه أن الجمل المذكورة بقربه ليس فيها ذكر نقض العهد ، وقال الأخفش : هي زائدة ، والكسائي هي ـ أو ـ الساكنة حركت واوها بالفتح وهي بمعنى بل ولا يخفى ضعف القولين ، نعم قرأ ابن السماك العدوي وغيره (أَوَ) بالإسكان وحينئذ لا بأس بأن يقال : إنها إضرابية بناء على رأي الكوفيين وأنشدوا :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها «أو» أنت في العين أملح

والعطف ـ على هذا ـ على صلة الموصول الذي هو ـ اللام ـ في (الْفاسِقُونَ) ميلا إلى جانب المعنى وإن كان فيه مسخ ـ اللام ـ الموصولة ، كأنه قيل : إلا الذين فسقوا بل (كُلَّما عاهَدُوا) والقرينة على ذلك (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) إلخ ، وفيه ترق إلى الأغلظ فالأغلظ ، ولك أن لا تميل مع المعنى بل تعطف على الصلة ـ وأل ـ تدخل على الفعل بالتبعية في السعة كثيرا كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا) [الحديد : ١٨] لاغتفارهم في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل. ومن الناس من جوّز هذا العطف باحتماليه على القراءة الأولى أيضا ـ ولم يحتج إلى ذلك المحذوف ـ وقرأ الحسن وأبو رجاء «عوهدوا» وانتصاب (عَهْداً) على أنه مصدر على غير الصدر أي ـ معاهدة ـ ويؤيده أنه قرئ «عهدوا» أو على أنه مفعول به بتضمين (عاهَدُوا) معنى أعطوا (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي نقضه وترك العمل به ، وأصل ـ النبذ ـ طرح ما لا يعتد به ـ كالنعل البالية ـ لكنه غلب فيما من شأنه أن ينسى لعدم الاعتداد به ، ونسبة ـ النبذ ـ إلى ـ العهد ـ مجاز ـ والنبذ ـ حقيقة إنما هو في المتجسدات نحو (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) [القصص : ٤٠ ، الذاريات : ٤٠] ـ والفريق ـ اسم جنس لا واحد له يقع على القليل والكثير ، وإنما قال : (فَرِيقٌ) لأن منهم من لم ينبذه. وقرأ عبد الله «نقضه» قال في البحر : وهي قراءة تخالف سواد المصحف ـ فالأولى حملها على التفسير ـ وليس بالقوى إذ لا يظهر للتفسير دون ذكر المفسر خلال القراءة وجه (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يحتمل أن يراد ـ بالأكثر النباذون ـ وأن يراد من عداهم «فعلى الأول» يكون ذلك ردا لما يتوهم أن ـ الفريق ـ هم الأقلون بناء على أن المتبادر منه القليل «وعلى الثاني» رد لما يتوهم أن من لم ينبذ جهارا يؤمنون به سرا ، والعطف على التقديرين من عطف الجمل ، ويحتمل أن يكون من عطف المفردات بأن يكون أكثرهم معطوفا على (فَرِيقٌ) وجملة (لا يُؤْمِنُونَ) حال من (أَكْثَرُهُمْ) والعامل فيها (نَبَذَهُ وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ) ظرف ل «نبذ» والجملة عطف على سابقتها داخلة تحت الإنكار ، والضمير لبني إسرائيل لا لعلمائهم فقط ، والرسول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، والتكثير للتفخيم ، وقيل : عيسى عليه‌السلام ، وجعله مصدرا بمعنى الرسالة كما في قوله :

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بليلى ولا أرسلتهم برسول

خلاف الظاهر (مِنْ عِنْدِ اللهِ) متعلق بجاء أو بمحذوف وقع صفة للرسول لإفادة مزيد تعظيمه إذ قدر الرسول على قدر المرسل (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي من التوراة من حيث إنه صلى الله تعالى عليه وسلم جاء على الوصف الذي ذكر فيها ، أو أخبر بأنها كلام الله تعالى المنزل على نبيه موسى عليه‌السلام ، أو صدق ما فيها من قواعد التوحيد وأصول الدين ، وأخبار الأمم والمواعظ والحكم ، أو أظهر ما سألوه عنه من غوامضها ، وحمل بعضهم «ما» على العموم لتشمل جميع الكتب الإلهية التي نزلت قبل ، وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقا» بالنصب على الحال من النكرة الموصوفة (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي التوراة وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى الله تعالى عليه وسلم لا الذين كانوا في عهد سليمان عليه‌السلام ـ كما توهمه بعضهم من اللحاق ـ لأن ـ النبذ ـ عند مجيء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يتصور منهم ، وإفراد هذا ـ النبذ ـ بالذكر مع اندراجه في قوله تعالى : (أَوَكُلَّما

٣٣٥

عاهَدُوا) إلخ ، لأنه معظم جناياتهم ، ولأنه تمهيد لما يأتي بعد. والمراد ـ بالإيتاء ـ إما إيتاء علمها فالموصول عبارة عن علمائهم ، وإما مجرد إنزالها عليهم فهو عبارة عن الكل ، ولم يقل : فريق منهم إيذانا بكمال التنافي بين ما ثبت لهم في حيز الصلة وبين ما صدر عنهم من النبذ (كِتابَ اللهِ) مفعول (نَبَذَ) والمراد به التوراة لما روي عن السدي أنه قال : لما جاءهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن ، فهذا قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ) إلخ ، ويؤيده أن النبذ يقتضي سابقة الأخذ في الجملة ـ وهو متحقق بالنسبة إليها ـ وأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول ، وأن مذمتهم في أنهم نبذوا الكتاب الذي أوتوه واعترفوا بحقيته أشد فإنه يفيد أنه كان مجرد مكابرة وعناد ، ومعنى نبذهم لها اطراح أحكامها ، أو ما فيها من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : القرآن ، وأيده أبو حيان بأن الكلام مع الرسول فيصير المعنى أنه يصدق ما بأيديهم من التوراة ، وهم بالعكس يكذبون ما جاء به من القرآن ويتركونه ولا يؤمنون به بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول ، وقيل : الإنجيل ـ وليس بشيء ـ وأضاف الكتاب إلى الاسم الكريم تعظيما له وتهويلا لما اجترءوا عليه من الكفر به.

(وَراءَ ظُهُورِهِمْ) جمع ـ ظهر ـ وهو معروف ، ويجمع أيضا على ـ ظهران ـ وقد شبه تركهم كتاب الله تعالى وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمى به وراء الظهر ، والجامع عدم الالتفات وقلة المبالاة ، ثم استعمل هاهنا ما كان مستعملا هناك ـ وهو النبذ وراء الظهر ـ والعرب كثيرا ما تستعمل ذلك في هذا المعنى ، ومنه قوله :

تميم بن مر لا تكونن حاجتي

بظهر ـ ولا يعيى عليك جوابها

ويقولون أيضا : جعل هذا الأمر دبر أذنه ويريدون ما تقدم (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) جملة حالية ، أي نبذوه مشبهين بمن لا يعلم أنه كتاب الله تعالى أو لا يعلمه أصلا أو لا يعلمونه على وجه الإتقان ، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذا على تقدير أن يراد الأحبار ، وفيه إيذان بأن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون ؛ وفي الوجهين الأولين زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة ، ومن فسر كتاب الله تعالى بالقرآن جعل متعلق العلم أنه كتاب الله أي كأنهم لا يعلمون أن القرآن كتاب الله تعالى مع ثبوت ذلك عندهم وتحققه لديهم ، وفيه إشارة إلى أنهم نبذوه لا عن شبهة ولكن بغيا وحسدا ، وجعل المتعلق ـ أنه نبي صادق ـ بعيد ، وقد دل الآيتان قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) إلخ ، وقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ) إلخ بناء على احتمال أن يكون الأكثر غير النابذين ، على أن جلّ اليهود أربع فرق ، ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب ، وهم الأقلون المشار إليهم ب (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدي الحدود ، وهم المعنيون بقوله تعالى : (نَبَذَ فَرِيقٌ) منهم وفرقة لم يجاهروا ، ولكن نبذوا لجهلهم ـ وهم الأكثرون ـ وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها سرا ، وهم المتجاهلون (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) عطف على «نبذ» والضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب ـ على ما تقدم عن السدي ، وقيل : عطف على مجموع ما قبله عطف القصة على ـ القصة ، والضمير للذين تقدموا من اليهود ، أو الذين كانوا في زمن سليمان عليه‌السلام ، أو الذين كانوا في زمن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو ما يتناول الكل لأن ذاك غير ظاهر إذ يقتضي الدخول في حيز ل (ما) واتباعهم هذا ليس مترتبا على مجيء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفيه أن ما علمت من قول السدي يفتح باب الظهور ، اللهم إلا أن يكون المبني غيره ، وقيل : عطف على اشربوا وهو في غاية البعد ، بل لا يقدم عليه من جرع جرعة من الإنصاف ، والمراد ـ بالاتباع ـ التوغل والإقبال على الشيء بالكلية ، وقيل : الاقتداء ، و (ما) موصولة و (تَتْلُوا) صلتها ، ومعناه تتبع أو تقرأ ـ وهو حكاية حال ماضية ، والأصل ـ

٣٣٦

تلت ـ وقول الكوفيين إن المعنى ما كانت (تَتْلُوا) محمول على ذلك ـ لا أن كان هناك مقدرة ـ والمتبادر من الشياطين مردة الجن وهو قول الأكثرين ، وقيل : المراد بهم شياطين الإنس ، وهو قول المتكلمين من المعتزلة وقرأ الحسن والضحاك ـ الشياطون ـ على حد ما رواه الأصمعي عن العرب ـ بستان فلان حوله بساتون ـ وهو من الشذوذ بمكان حتى قيل : إنه لحن (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) متعلق ب (تَتْلُوا) وفي الكلام مضاف محذوف أي عهد ملكه وزمانه ، أو الملك مجاز عن العهد ، وعلى التقديرين (عَلى) بمعنى ـ في ـ كما أن ـ في ـ بمعنى على في قوله تعالى : (لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] وقد صرح في التسهيل بمجيئها للظرفية ومثل له بهذه الآية لأن الملك وكذا العهد لا يصلح كونه مقروءا عليه ، ومن الأصحاب من أنكر مجيء ـ على ـ بمعنى ـ في ـ وجعل هذا من تضمين تتلو معنى تتقول ، أو الملك عبارة عن الكرسي لأنه كان من آلات ملكه ، فالكلام على حد قرأت على المنبر ، والمراد بما يتلونه السحر ، فقد أخرج سفيان بن عيينة وابن جرير والحاكم ، وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ، فإذا سمع أحدهم بكلمة كذب عليها ألف كذبة ، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين فأطلع الله تعالى على ذلك سليمان بن داود فأخذها وقذفها تحت الكرسي فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع؟ قالوا نعم فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسختها الأمم فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر» وقيل : روي أن سليمان كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه خوفا على أنه إذا هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموهم أنها من علم سليمان ، ولا يخفى ضعف هذه الرواية ، وسليمان ـ كما في البحر ـ اسم أعجمي ، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة ، ونظيره من الأعجمية في أن آخره ألف ونون ـ هامان ، وماهان. وشامان ـ وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان لأن زيادتهما موقوفة على الاشتقاق والتصريف ، وهما لا يدخلان الأسماء الأعجمية وكثير من الناس اليوم على خلافه (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) اعتراض لتبرئة سليمان عليه‌السلام عما نسبوه إليه ، فقد أخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال : قال اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء ، وإنما كان ساحرا يركب الريح ، وعبر سبحانه عن السحر بالكفر بطريق الكناية رعاية لمناسبة (لكِنَ) الاستدراكية في قوله تعالى:

(وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) فإن (كَفَرُوا) معها مستعمل في معناه الحقيقي وجملة يعلمون حال من الضمير ، وقيل : من الشياطين ، ورد بأن لكن لا تعمل في الحال ، وأجيب بأن فيها رائحة الفعل وقيل بدل من كفروا ، وقيل استئناف والضمير ـ للشياطين ـ أو ـ للذين اتبعوا ـ و (السِّحْرَ) في الأصل مصدر سحر يسحر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدق ويخفى وهو من المصادر الشاذة ، ويستعمل بما لطف وخفي سببه ، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق ـ وليس به ـ إذ يجري فيه التعلم ويستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بارتكاب القبائح ، قولا كالرقى التي فيها ألفاظ الشرك ومدح الشيطان وتسخيره ، وعملا كعبادة الكواكب ، والتزام الجناية وسائر الفسوق ، واعتقادا كاستحسان ما يوجب التقرب إليه ومحبته إياه وذلك لا يستتب إلا بمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط التضام والتعاون فكما أن الملائكة لا تعاون إلا أخيار الناس المشبهين بهم في المواظبة على العبادة والتقرب إلى الله تعالى بالقول والفعل كذلك الشياطين لا تعاون إلا الأشرار المشبهين بهم في الخباثة والنجاسة قولا وفعلا واعتقادا ، وبهذا يتميز الساحر عن النبي والولي ، فلا يرد ما قال المعتزلة : من أنه لو أمكن للإنسان من جهة الشيطان ظهور الخوارق والإخبار عن المغيبات لاشتبه طريق النبوة بطريق السحر ، وأما ما يتعجب منه ـ كما يفعله

٣٣٧

أصحاب الحيل بمعونة الآلات المركبة على النسبة الهندسية تارة ، وعلى صيرورة الخلاء ملاء أخرى ، وبمعونة الأدوية كالنارنجيات أو يريه صاحب خفة اليد ـ فتسميته سحرا على التجوز وهو مذموم أيضا عند البعض ، وصرح النووي في الروضة بحرمته ، وفسره الجمهور بأنه خارق للعادة يظهر من نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة والجمهور على أن له حقيقة وأنه قد يبلغ الساحر إلى حيث يطير في الهواء ويمشي على الماء ويقتل النفس ويقلب الإنسان حمارا ، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى ولم تجر سنته بتمكين الساحر من فلق البحر وإحياء الموتى وإنطاق العجماء ، وغير ذلك من آيات الرسل عليهم‌السلام ، والمعتزلة ، وأبو جعفر الأسترآباذي من أصحابنا على أنه لا حقيقة له ، وإنما هو تخييل ، وأكفر المعتزلة من قال ببلوغ الساحر إلى حيث ما ذكرنا زعما منهم أن بذلك انسداد طريق النبوة وليس كما زعموا على ما لا يخفى ، ومن المحققين من فرق بين السحر والمعجزة باقتران المعجزة بالتحدي بخلافه فإنه لا يمكن ظهوره على يد مدعي نبوة كاذبا كما جرت به عادة الله تعالى المستمرة صونا لهذا المنصب الجليل عن أن يتسور حماه الكذابون وقد شاع أن العمل به كفر حتى قال العلامة التفتازاني : لا يروى خلاف في ذلك ، وعده نوعا من الكبائر مغاير الإشراك لا ينافي ذلك لأن الكفر أعم والإشراك نوع منه ، وفيه بحث : أما أولا فلأن الشيخ أبا منصور ذهب إلى أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا ، ولعل ما ذهب إليه العلامة مبني على التفسير أولا فإنه عليه مما لا يمترى في كفر فاعله ، وأما ثانيا فلأن المراد من الإشراك فيما عدا الكبائر مطلق الكفر وإلا تخرج أنواع الكفر منها ، ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث وما ليس بكفر ، وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب ، ومن قال لا تقبل فقد غلط فإن سحرة موسى قبلت توبتهم كذا في المدارك ، ولعله إلى الأصول أقرب ، والمشهور عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الساحر يقتل مطلقا إذا علم أنه ساحر ولا يقبل قوله أترك السحر وأتوب عنه فإن أقرّ بأني كنت أسحر مدة وقد تركت منذ زمان قبل منه ولم يقتل ، واحتج بما روي أن جارية لحفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها سحرتها فأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها ، وإنكار عثمان رضي الله تعالى عنه إنما كان لقتلها بغير إذنه. وبما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلوا ثلاث سواحر ، والشافعية نظروا في هذا الاحتجاج واعترضوا على القول بالقتل مطلقا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقتل اليهودي الذي سحره ، فالمؤمن مثله لقوله عليه‌السلام : «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» وتحقيقه في الفروع ، واختلف في تعليمه وتعلمه فقيل : كفر لهذه الآية إذ فيها ترتيب الحكم على الوصف المناسب وهو مشعر بالعلية ، وأجيب بأنا لا نسلم أن فيها ذلك لأن المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون السحر ، وقيل : إنهما حرامان ـ وبه قطع الجمهور ـ وقيل : مكروهان ـ وإليه ذهب البعض ـ وقيل : مباحان ، والتعليم المساق للذم هنا محمول على التعليم للإغواء والإضلال ، وإليه مال الإمام الرازي قائلا : اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ولو لم يعلم السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لا يقتل به ، فيفتي به في وجوب القصاص انتهى. والحق عندي الحرمة تبعا للجمهور إلا لداع شرعي ، وفيما قاله رحمه‌الله تعالى نظر «أما أولا» فلأنا لا ندعي أنه قبيح لذاته ، وإنما قبحه باعتبار ما يترتب عليه ، فتحريمه من باب سد الذرائع ـ وكم من أمر حرم لذلك ـ وفي الحديث «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه».

٣٣٨

«وأما ثانيا» فلأن توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوع ، ألا ترى أن أكثر العلماء أو كلهم ـ إلا النادر ـ عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر ـ وكفى فارقا بينهما ما تقدم ، ولو كان تعلمه واجبا لذلك لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول مع أنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك ، أفتراهم أخلوا بهذا الواجب وأتى به هذا القائل ، أو أنه أخل به كما أخلوا «وأما ثالثا» فلأن ما نقل عن بعضهم غير صحيح ، لأن إفتاء المفتي بوجوب القود أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر لأن صورة إفتائه ـ على ما ذكره العلامة ابن حجر ـ إن شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالبا قتل الساحر. وإلا فلا ـ هذا وقد أطلق بعض العلماء (السِّحْرَ) على المشي بين الناس بالنميمة لأن فيها قلب الصديق عدوا والعدو صديقا ، كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذاب لما فيه من الاستمالة ، ويسمى سحرا حلالا ، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إن من البيان لسحرا» والقول بأنه مخرج مخرج الذم للفصاحة والبلاغة بعيد ـ وإن ذهب إليه عامر الشعبي راوي الحديث ـ وظاهر قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ) إلخ أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم ، وقيل : يدلونهم على تلك الكتب ، فأطلق على تلك الدلالة تعليما إطلاقا للسبب على المسبب ، وقيل : المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق تضر وتنفع ، وأن سليمان عليه‌السلام إنما تم له ما تم بذلك ـ والإطلاق عليه هو الإطلاق ـ وقيل : (يُعَلِّمُونَ) بمعنى (يُعَلِّمُونَ) من الإعلام وهو الإخبار ، أي يخبرونهم بما أو بمن يتعلمون به أو منه (السِّحْرَ) وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو «لكنّ» بالتشديد. وابن عامر وحمزة والكسائي ـ بالتخفيف وارتفاع ما بعدها بالابتداء والخبر ـ وهل يجوز إعمالها إذا خففت؟ فيه خلاف ، والجمع على المنع ـ وهو الصحيح ـ وعن يونس والأخفش الجواز ، والصحيح أنها بسيطة «ومنهم» من زعم أنها مركبة من «لا» النافية ـ وكاف الخطاب ـ «وأن» المؤكدة المحذوفة الهمزة للاستثقال ، وهو إلى الفساد أقرب (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) المراد الجنس ، وهو عطف على (السِّحْرَ) وهما واحد إلا أنه نزل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات كما في قوله : إلى الملك القرم وابن الهمام البيت ، وفائدة العطف التنصيص بأنهم ـ يعلمون ـ ما هو جامع بين كونه سحرا وبين كونه منزلا (عَلَى الْمَلَكَيْنِ) للابتلاء ، فيفيد ذمهم بارتكابهم النهي بوجهين ، وقد يراد بالموصول المعهود ـ وهو نوع آخر أقوى ـ فيكون من عطف الخاص على العام إشارة إلى كماله ، وقال مجاهد : هو دون (السِّحْرَ) وهو ـ ما يفرّق به بين المرء وزوجه ـ لا غير والمشهور الأول ، وجوز العطف على (ما تَتْلُوا) فكأنه قيل : اتبعوا السحر المدوّن في الكتب وغيره ، وهذان الملكان أنزلا لتعليم (السِّحْرَ) ابتلاء من الله تعالى للناس ، فمن تعلم وعمل به كفر ، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان ، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن قوم طالوت بالنهر ، وتمييزا بينه وبين المعجزة حيث إنه كثر في ذلك الزمان ، وأظهر السحرة أمورا غريبة وقع الشك بها في النبوة ، فبعث الله تعالى الملكين لتعليم أبواب السحر حتى يزيلا الشبه ويميطا الأذى عن الطريق ، قيل : كان ذلك في زمن إدريس عليه‌السلام ، وأما ما روي أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله تعالى به ، وقالوا له تعالى : لو كنا مكانهم ما عصيناك ، فقال : اختاروا ملكين منكم ، فاختاروهما ، فهبطا إلى الأرض ومثلا بشرين ، وألقى الله تعالى عليهما الشبق ، وحكما بين الناس ، فافتتنا بامرأة يقال لها زهرة ، فطلباها وامتنعت إلا أن يعبدا صنما ، أو يشربا خمرا ، أو يقتلا نفسا ففعلا ، ثم تعلمت منهما ما صعدت به إلى السماء ، فصعدت ومسخت هذا ـ النجم ـ وأرادا العروج فلم يمكنهما فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة ـ فاختارا عذاب الدنيا ـ فهما الآن يعذبان فيها ، إلى غير ذلك من الآثار التي بلغت طرقها نيفا وعشرين ، فقد أنكره جماعة منهم القاضي عياض ، وذكر أن ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت لم يرد منه شيء ـ لا سقيم ولا صحيح ـ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وليس هو شيئا يؤخذ بالقياس ـ وذكر في البحر أن جميع ذلك لا يصح منه شيء ، ولم يصح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يلعن الزهرة ، ولا ابن عمر رضي الله تعالى

٣٣٩

عنهما خلافا لمن رواه ، وقال الإمام الرازي بعد أن ذكر الرواية في ذلك : إن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة ، ونص الشهاب العراقي ، على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما مع الزهرة فهو كافر بالله تعالى العظيم ، فإن الملائكة معصومون (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ١٩ ، ٢٠] والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السماوات والأرض ، والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول. واعترض الإمام السيوطي على من أنكر القصة بأن الإمام أحمد. وابن حبان. والبيهقي ، وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على عليّ. وابن عباس. وابن عمر. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم بأسانيد عديدة صحيحة يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخرجيها ، وذهب بعض المحققين أن ما روي مروي حكاية لما قاله اليهود ـ وهو باطل في نفسه ـ وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية ، ولا يردّ ما قاله الإمام السيوطي عليه ، إنما يردّ على المنكرين بالكلية ، ولعل ذلك من باب الرموز والإشارات فيراد من الملكين العقل النظري والعقل العملي اللذان هما من عالم القدس ، ومن المرأة المسماة بالزهرة ـ النفس الناطقة ـ ومن تعرضهما لها تعليمهما لها ما يسعدها ، ومن حملها إياهما على المعاصي تحريضها إياهما بحكم الطبيعة المزاجية إلى الميل إلى السفليات المدنسة لجوهريهما ، ومن صعودها إلى السماء بما تعلمت منهما عروجها إلى الملأ الأعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب انتصاحها لنصحهما ، ومن بقائهما معذبين بقاؤهما مشغولين بتدبير الجسد وحرمانهما عن العروج إلى سماء الحضرة ، لأن طائر العقل لا يحوم حول حماها ، ومن الأكابر من قال في حل هذا الرمز : إن الروح والعقل اللذين هما من عالم المجردات قد نزلا من سماء التجرد إلى أرض التعلق ، فعشقا البدن الذي هو كالزهرة في غاية الحسن والجمال لتوقف كمالهما عليه ، فاكتسبا بتوسطه المعاصي والشرك وتحصيل اللذات الحسية الدنية ، ثم صعد إلى السماء بأن وصل بحسن تدبيرهما إلى الكمال اللائق به ، ثم مسخ بأن انقطع التعلق وتفرقت العناصر ، وهما بقيا معذبين بعذاب الحرمان عن الاتصال بعالم القدس متألمين بالآلام الروحانية منكوسي الحال حيث غلب التعلق على التجرد وانعكس القرب بالبعد ، وقيل : المقصود من ذلك الإشارة إلى أن من كان ملكا إن اتبع الشهوة هبط عن درجة الملائكة إلى درجة البهيمة ، ومن كان امرأة ذات شهوة إذا كسرت شهوتها ، وغلبت عليها صعدت إلى درج الملك واتصلت إلى سماء المنازل والمراتب ، وكتب بعضهم لحله.

مل وأيم الله نفسي نفسي

وطال في مكث حياتي حبسي

أصبح في مضاجعي وأمسي

أمسي كيومي وكيومي أمسي

يا حبذا يوم نزولي رمسي

مبدأ سعدي وانتهاء نحسي

وكل جنس لاحق بالجنس

من جوهر يرقى بدار الأنس

وعرض يبقى بدار الحس هذا ومن قال بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططا ؛ وقال غلطا ، وفتح بابا من السحر يضحك الموتى ، ويبكي الأحياء ، وينكس راية الإسلام ، ويرفع رءوس الكفرة الطغام كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء المحققين ، وقرأ ابن عباس والحسن وأبو الأسود والضحاك ـ «الملكين» ـ بكسر اللام ، حمل بعضهم قراءة الفتح على ذلك فقال هما رجلان إلا أنهما سميا ملكين باعتبار صلاحهما ، ويؤيده ما قيل : إنهما داود وسليمان ، ويرده قول الحسن إنهما علجان كانا ببابل العراق ، وبعضهم يقول : إنهما من الملائكة ظهرا في صورة الملوك ـ وفيه حمل الكسر على الفتح على عكس ما تقدم و ـ الإنزال ـ إما على ظاهره أو بمعنى

٣٤٠