روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

الضمير إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن وأن غيرهم يحزن. والمراد بيان دوام الانتفاء لا بيان انتفاء الدوام كما يتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما تقرر في محله أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام ، وذكر بعض الناس أن العدول عن لا خوف لهم أو عندهم إلى ـ لا خوف عليهم ـ للإشارة إلى أنهم قد بلغت حالهم إلى حيث لا ينبغي أن يخاف أحد عليهم. وفي البحر أنه سبحانه كني بعليهم عن الاستيلاء والإحاطة إشارة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ألا ترى انصراف النفي على كونية الخوف عليهم ، ولا يلزم من نفي كونية استيلاء الخوف انتفاؤه في كل حال ، فلا دليل في الآية على نفي أهوال القيامة وخوفها عن المطيعين ، وأنت تعلم أن فيما أشرنا إليه كناية غنية عن مثله وكذا عما قيل إن نفي الاستيلاء للتعريض بالكفار ، والإشارة إلى أن الخوف مستول عليهم. هذا وقرأ الأعرج «هداي» بسكون الياء ، وفيه الجمع بين ساكنين وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الجحدري وغيره «هدي» بقلب الألف ياء وإدغامها في الياء على لغة هذيل. وقرأ الزهري وغيره «فلا خوف» بالفتح ، وابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين ، وكأنه حذف لنية الإضافة ، أو لكثرة الاستعمال ، أو لملاحظة اللام في الاسم ـ على ما في البحر ـ ليحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلا الجملتين وهو على قراءة الجمهور مبتدأ ، و (عَلَيْهِمْ) خبره أو أن (لا) عاملة عمل ليس كما قال ابن عطية والأول أولى.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ(٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى

٢٤١

لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(٥٩)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) عطف على (فَمَنْ تَبِعَ) قسيم له كأنه قال : ومن لم يتبعه ، وإنما أوثر عليه ما ذكر تعظيما لحال الضلالة وإظهارا لكمال قبحها أو لأن من لم يتبع شامل لمن لم تبلغه الدعوة ولم يكن من المكلفين فعدل عن ذلك لإخراجهم ، ولأنه شامل للفاسق بناء على أن المراد بالمتابعة المتابعة الكاملة ليترتب عليه عدم الخوف والحزن فلو قال سبحانه ذلك لزم منه خلوده في النار ولما قال ما قال لم يلزم ذلك بل خرج الفاسق من الصنفين ، ويعلم بالفحوى أن عليه خوفا وحزنا على قدر عدم المتابعة ـ ولو جعل قوله تعالى : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) حينئذ لنفي استمرار الخوف والحزن ، وأريد بمتابعة الهدى الإيمان به تعالى ـ كان داخلا في (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) إلا أن أولياء كتاب الله تعالى لا يرضون ذلك ولا يقبلون ـ وأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ـ وإيراد الموصول بصيغة الجمع للإشارة إلى كثرة الكفرة ، والمتبادر من الكفر الكفر بالله تعالى ، ويحتمل أن يكون كفروا وكذبوا متوجهين إلى الجار والمجرور فيراد بالكفر بالآيات إنكارها بالقلب ، وبالتكذيب إنكارها باللسان. والآية في الأصل العلامة الظاهرة بالقياس إلى ذي العلامة ، ومنه آية القرآن لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها والذي قبلها ، أو لأنها علامة على معناها وأحكامها ، وقيل : سميت آية لأن الآية تطلق على الجماعة أيضا ، كما قال أبو عمرو يقال : خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم ، وهي جماعة من القرآن وطائفة من الحروف ، وذكر بعضهم أنها سميت بذلك لأنها عجب يتعجب من إعجازه ، كما يقال : فلان آية من الآيات ، وفي أصلها ووزنها أقوال : فمذهب سيبويه والخليل أن أصلها أيية ـ بفتحات ـ قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها على خلاف القياس ـ كغاية وراية ـ إذ المطرد عند اجتماع حرفي علة إعلال الآخر لأنه محل التغيير ، ومذهب الكسائي أن أصلها آيية ـ كفاعلة ـ وكان القياس أن تدغم كدابة ، إلا أنه ترك ذلك تخفيفا فحذفوا عينها ، ومذهب الفراء أن وزنها فعلة ـ بسكون العين ـ من تأيّ القوم إذا اجتمعوا ، وقالوا في الجمع : آياء كأفعال ، فظهرت الياء ، والهمزة الأخيرة بدل ياء والألف الثانية بدل من همزة هي فاء الكلمة ، ولو كان عينها واوا لقالوا في الجمع : آواء ، ثم إنهم قلبوا الياء الساكنة ألفا على غير القياس لعدم تحركها وانفتاح ما قبلها. ومذهب الكوفيين أن وزنها ـ أيية ـ كنبقة فأعلت وهو في الشذوذ كالأول ، وقيل : وزنها فعلة بضم العين ، وقيل : أصلها أياة فقدمت اللام وأخرت العين ـ وهو ضعيف ـ وكل الأقوال فيها لا تخلو عن شذوذ ، ولا بدع فهي آية ، والمراد بالآيات هنا الكتب المنزلة أو الأنبياء ، أو القرآن ، أو الدوال عليه سبحانه من كتبه ومصنوعاته ، وينزل المعقول منزلة الملفوظ ليتأتى التكذيب ، وأتى سبحانه بنون العظمة لتربية المهابة وإدخال الروعة ، وأضاف تعالى الآيات إليها لإظهار كمال قبح التكذيب بها ، وأشار ب (أُولئِكَ) إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة للإشعار بتميز (أُولئِكَ) بذلك الوصف تميزا مصححا للإشارة الحسية مع الإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ خبره

٢٤٢

أصحاب وهو جمع صاحب ، وجمع فاعل على أفعال شاذ (١) كما في البحر ، ومعنى الصحبة الاقتران بالشيء ، والغالب في العرف أن تطلق على الملازمة ، وهذه الجملة خبر عن الذين ، ويحتمل أن يكون اسم الإشارة بدلا منه أو عطف بيان ، والأصحاب خبره ، والجملة الاسمية بعد في حيز النصب على الحالية لورود التصريح في قوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها) [التغابن : ١٠] وجوّز كونها حالا من النار لاشتمالها على ضميرها ، والعامل معنى الإضافة أو اللام المقدرة ، أو في حيز الرفع على أنها خبر آخر ـ لأولئك ـ على رأي من يرى ذلك ، قال أبو حيان : ويحتمل أن تكون مفسرة لما أبهم في (أَصْحابُ النَّارِ) مبينة أن هذه الصحبة لا يراد منها مطلق الاقتران بل الخلود ، فلا يكون لها إذ ذاك محل من الإعراب ، والخلود هنا الدوام على ما انعقد عليه الإجماع ، ومن البديع ما ذكره بعضهم أن في الآيتين نوعا منه ، يقال له الاحتباك ، ويا حبذاه لو لا الكناية المغنية عما هناك.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) خطاب لطائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الخطاب العام ، وإقامة دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والتذكير بصنوف الإنعام ، وجعله سبحانه بعد قصة آدم ، لأن هؤلاء بعد ما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح ، وأمروا ونهوا وحرضوا على اتباع ـ النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم ـ ظهر منهم ضد ذلك ، فخرجوا عن جنة الإيمان الرفيعة ، وهبطوا إلى أرض الطبيعة ، وتعرضت لهم الكلمات ـ إلا أنهم لم يتلقوها بالقبول ـ ففات منهم ما فات ، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد من الأوامر والنواهي. و (بَنِي) جمع ابن شبيه بجمع التكسير لتغير مفرده ، ولذا ألحق في فعله تاء التأنيث ـ كقالت بنو عامر ـ وهو مختص بالأولاد الذكور ، وإذا أضيف عم في العرف ـ الذكور والإناث ـ فيكون بمعنى الأولاد ـ وهو المراد هنا ـ وذكر الساليكوتي أنه حقيقة في الأبناء الصلبية ـ كما بين في الأصول ـ واستعماله في العام مجاز ، وهو محذوف اللام ، وفي كونها ـ ياء أو واوا ـ خلاف ، فذهب إلى الأول ابن درستويه وجعله من البناء ، لأن الابن فرع الأب ومبني عليه ، ولهذا ينسب المصنوع إلى صانعه ، فيقال للقصيدة مثلا : بنت الفكر ، وقد أطلق في شريعة من قبلنا على بعض المخلوقين ـ أبناء الله تعالى ـ بهذا المعنى ، لكن لما تصوّر من هذا الجهلة الأغبياء ـ معنى الولادة ـ حظر ذلك حتى صار التفوه به كفرا ، وذهب إلى الثاني الأخفش ، وأيده بأنهم قالوا : البنوّة ، وبأن حذف ـ الواو ـ أكثر ، وقد حذفت في ـ أب وأخ ـ وبه قال الجوهري : ولعل الأول أصح ، ولا دلالة في البنوة. لأنهم قالوا أيضا : الفتوة ، ولا خلاف في أنها من ذوات ـ الياء ـ وأمر الأكثرية سهل ، وعلى التقديرين في وزن ـ ابن ـ هل هو فعل أو فعل؟ خلاف و «إسرائيل» اسم أعجمي ، وقد ذكروا أنه مركب من ـ إيل ـ اسم من أسمائه تعالى ، و «إسرا» وهو العبد ، أو الصفوة أو الإنسان أو المهاجر ـ وهو لقب سيدنا يعقوب عليه‌السلام ـ وللعرب فيه تصرفات ، فقد قالوا : (إِسْرائِيلَ) بهمزة بعد الألف وياء بعدها ـ وبه قرأ الجمهور ـ «وإسراييل» ـ بياءين بعد الألف ـ وبه قرأ أبو جعفر وغيره ـ «وإسرائيل» ـ بهمزة ولام ، وهو مروي عن ورش ـ «وإسرأل» ـ بهمزة مفتوحة ومكسورة بعد الراء ، ولام ـ «وإسرأل» ـ بألف ممالة ـ بعدها لام خفيفة ـ وبها ولا إمالة ـ وهي رواية عن نافع ـ وقراءة الحسن وغيره «وإسرائين» بنون بدل اللام ، كما في قوله : (٢)

__________________

(١) والصحبة والصحابة ـ أسماء جموع وكذا صحب على الأصح خلافا للأخفش ا ه منه.

(٢) كذا بخط المؤلف والمشهور.

قالت وكنت رجلا فطينا

هذا لعمر الله إسرائينا

ا ه مصححه.

٢٤٣

تقول أهل السوء لما جينا

هذا ورب البيت «إسرائينا»

وأضاف سبحانه هؤلاء المخاطبين إلى هذا اللقب ـ تأكيدا لتحريكهم إلى طاعته ـ فإن في (إِسْرائِيلَ) ما ليس في اسمه الكريم ـ يعقوب ـ وقولك : يا ابن الصالح أطع الله تعالى ، أحث للمأمور من قولك : يا ابن زيد ـ مثلا ـ أطع ، لأن الطبائع تميل إلى اقتفاء أثر الآباء ـ وإن لم يكن محمودا ـ فكيف إذا كان؟ ويستعمل مثل هذا في مقام الترغيب والترهيب ـ بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة ـ وهي من بيت النبوّة أحسن ـ والسيئة في نفسها سيئة ـ وهي من بيت النبوّة أسوأ ، و (اذْكُرُوا) أمر من الذكر ـ بكسر الذال وضمها ـ بمعنى واحد ، ويكونان باللسان والجنان ، وقال الكسائي : هو بالكسر ـ للسان ـ وبالضم ـ للقلب ـ وضد الأول الصمت ، وضد الثاني النسيان.

«وعلى العموم» فإما أن يكون مشتركا بينهما ، أو موضوعا لمعنى عام شامل لهما «والظاهر» هو الأول ، والمقصود من الأمر بذلك ـ الشكر على النعمة والقيام بحقوقها ـ لا مجرد الاخطار بالجنان ، أو التفوه باللسان ، وإضافة النعمة إلى ضميره تعالى لتشريفها ، وإيجاب تخصيص شكرها به سبحانه ، وقد قال بعض المحققين : إنها تفيد الاستغراق ـ إذ لا عهد ـ ولمناسبته بمقام الدعوة إلى الإيمان ، فهي شاملة للنعم العامة والخاصة بالمخاطبين ، وفائدة التقييد بكونها عليهم أنها ـ من هذه الحيثية أدعى للشكر ـ فإن الإنسان حسود غيور ، وقال قتادة : أريد بها ما أنعم به على آبائهم ـ مما قصه سبحانه في كتابه ـ وعليهم من فنون النعمة التي أجلها ـ إدراك زمن أشرف الأنبياء ـ وجعلهم من جملة أمة الدعوة له ، ويحتاج تصحيح الخطاب حينئذ إلى اعتبار التغليب ، أو جعل نعم الآباء نعمهم ، فلا جمع بين الحقيقة والمجاز ـ كما وهم ـ ويجوز في الياء من (نِعْمَتِيَ) الإسكان والفتح ، والقراء السبعة متفقون على الفتح ، و (أَنْعَمْتُ) صلة (الَّتِي) والعائد محذوف ، والتقدير ـ أنعمتها ـ وقرئ ـ اذكروا ـ بالدال المهملة المشددة على وزن افتعلوا (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) يقال : أوفى ووفى ـ مخففا ومشددا ـ بمعنى ، وقال ابن قتيبة : يقال : أوفيت بالعهد ووفيت به ، وأوفيت الكيل لا غير ، وجاء ـ أوفى ـ بمعنى ارتفع كقوله :

ربما «أوفيت» في علم

ترفعن ثوبي شمالات

«والعهد» يضاف إلى كل ممن يتولى أحد طرفيه ، والظاهر هنا أن الأول مضاف إلى الفاعل ، والثاني إلى المفعول ، فإنه تعالى أمرهم بالإيمان والعمل وعهد إليهم بما نصب من الحجج العقلية والنقلية الآمرة بذلك ، ووعدهم بحسن الثواب على حسناتهم والمعنى (أَوْفُوا بِعَهْدِي) بالإيمان والطاعة (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) بحسن الإثابة ، ولتوسط الأمر صح طلب الوفاء منهم. واندفع ما قال العلامة التفتازاني على ما فيه أنه لا معنى لوفاء غير الفاعل بالعهد ، وقيل : ـ وهو المفهوم من كلام قتادة ومجاهد ـ أن كليهما مضاف إلى المفعول والمعنى ـ أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان (١) والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة ، وتفصيل العهدين قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى قوله سبحانه : (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ) [المائدة : ١٢] إلخ ، ويحوج هذا إلى اعتبار أن عهد الآباء عهد الأبناء لتناسبهم في الدين ، وإلا فالمخاطبون ب (أَوْفُوا) ما عوهدوا بالعهد المذكور في الآية ، وقيل : إن فسر ـ الإيفاء ـ بإتمام العهد تكون الإضافة إلى المفعول في الموضعين ، وإن فسر بمراعاته تكون الإضافة الأولى للفاعل والثانية للمفعول وفيه تأمل ، ولا يخفى أن للوفاء عرضا عريضا ، فأول المراتب الظاهرة منا الإتيان بكلمتي الشهادة ، ومنه تعالى حقن الدماء والمال وآخرها منا الفناء حتى عن الفناء ، ومنه تعالى التحلية بأنوار الصفات والأسماء ـ فما روي من الآثار على اختلاف

__________________

(١) ذكر الالتزام لأنه قد يعوق عن الفعل عائق ، ويعد وافيا ا ه منه.

٢٤٤

أسانيدها صحة وضعفا في بيان الوفاء بالعهدين ، فبالنظر إلى المراتب المتوسطة ، وهي لعمري كثيرة ـ ولك أن تقول : «أول» المراتب منا توحيد الأفعال ، «وأوسطها» توحيد الصفات.

«وآخرها» توحيد الذات ، ومنه تعالى ما يفيضه على السالك في كل مرتبة مما تقتضيه تلك المرتبة من المعارف والأخلاق ، وقرأ الزهري «أوّف» بالتشديد ، فإن كان موافقا للمجرد فذاك ؛ وإن أريد به التكثير ـ والقلب إليه يميل ـ فهو إشارة إلى عظيم كرمه وإحسانه ، ومزيد امتنانه ، حيث أخبر وهو الصادق ، أنه يعطي الكثير في مقابلة القليل ، وهو صرح بذلك في قوله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الإنعام: ١٦٠] وانجزام الفعل لوقوعه في جواب الأمر ، والجزم إما به نفسه أو بشرط مقدر وهو اختيار الفارسي ونص سيبويه.

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) الرهبة الخوف مطلقا ، وقيل : مع تحرز ، وبه فارق الاتقاء لأنه مع حزم ولهذا كان الأول للعامة ، والثاني للأئمة ، والأشبه بمواقع الاستعمال أن الاتقاء التحفظ عن المخوف ، وأن يجعل نفسه في وقاية منه ، والرهبة نفس الخوف ، وفي الأمر بها وعيد بالغ ، وليس ذلك للتهديد والتهويل كما في (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] كما وهم لأن هذا مطلوب وذاك غير مطلوب كما لا يخفى (وَإِيَّايَ) ضمير منفصل منصوب المحل بمحذوف يفسره المذكور ، والفاء عند بعضهم جزائية زحلقت من الجزاء المحذوف إلى مفسره ليكون دليلا على تقدير الشرط ، ويحتمل أن تكون مفسرة للفاء الجزائية المحذوفة مع الجزاء ، ومن أطلق الجزائية عليها فقد توسع ، ولا يجوز أن تكون عاطفة لئلا يجتمع عاطفان ، واختار صاحب المفتاح أنها للعطف على الفعل المحذوف ، فإن أريد التعقيب الزماني أفادت طلب استمرار الرهبة في جميع الأزمنة بلا تخلل فاصل وإن أريد الرتبي كان مفادها طلب الترقي من رهبة إلى رهبة أعلى ولا يقدح في ذلك اجتماعها مع واو العطف مثلا لأنها لعطف المحذوف على ما قبله وهذه الفاء لعطف المذكور على المحذوف وكون فارهبون مفسرا للمحذوف لا يقتضي اتحاده به من جميع الوجوه وأن لا يفيد معنى سوى التفسير حتى لا يصح جعلها عاطفة واستحسن هذا بعض المتأخرين لاشتماله على معنى بديع خلت عنه الجزائية ، وقال بعضهم كالمتوسط في المسألة : إنها عاطفة بحسب الأصل ، وبعد الحذف زحلقت وجعلت جزائية وعلى كل تقدير فالآية الكريمة آكد في إفادة التخصيص من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] وعد من وجوه التأكيد تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا أحدهما مظهر والآخر مضمر تقديره إياي ارهبوا (فَارْهَبُونِ) وما في ذلك من تكرير الرهبة وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء والمعنى إن كنتم متصفين بالرهبة فخصوني بالرهبة ، وحذف متعلق الرهبة للعموم أي ارهبوني في جميع ما تأتون وتذرون ، وقيل : ارهبون في نقض العهد ؛ ولعل التخصيص به مستفاد من ذكر الأمر بالرهبة معه ثم الخوف خوفان ، خوف العقاب وهو نصيب أهل الظاهر ، وخوف إجلال وهو نصيب أهل القلوب. وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن المعنى ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره ـ ظاهر في قسم أهل الظاهر وهو المناسب بحال هؤلاء المخاطبين ـ الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ـ وحذفت ياء الضمير من ارهبون لأنها فاصلة ، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) عطف على ما قبله ، وظاهره أنه أمر لبني إسرائيل ، وقيل : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود ورؤسائهم فهو أمر لهم ، وأفرد سبحانه الإيمان بعد اندراجه في (أَوْفُوا بِعَهْدِي) بمجموع الأمر به والحث عليه المستفاد من قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) للإشارة إلى أنه المقصود ، والعمدة للوفاء بالعهود ، و (بِما) موصولة ، و (أَنْزَلْتُ) صلته والعائد محذوف أي أنزلته ومصدقا حال إما من الموصول أو من ضميره المحذوف. واللام في (لِما) مقوية ،

٢٤٥

والمراد بما أنزلت القرآن ، وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه والمراد بما معكم التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعية مئنة لتكرار المراجعة إليها والوقوف على تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقا لها ، ومعنى تصديقه لها أنه نازل حسبما نعت فيها ، أو مطابق لها في أصل الدين والملة أو لما لم ينسخ كالقصص والمواعظ وبعض المحرمات ـ كالكذب ، والزنا ، والربا ـ أو لجميع ما فيها والمخالفة في بعض جزئيات الأحكام التي هي للأمراض القلبية كالأدوية الطبية للأمراض البدنية المختلفة بحسب الأزمان والأشخاص ليست بمخالفة في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث إن كلّا منها حق في عصره متضمن للحكمة التي يدور عليها فلك التشريع ، وليس في التوراة ما يدل على أبدية أحكامها المنسوخة حتى يخالفها ما ينسخها بل إن نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها وانتهاء وقتها الذي شرعت للمصلحة فيه وليس هذا من البداء في شيء كما يتوهمون ، فإذن المخالفة في تلك الأحكام المنسوخة إنما هو اختلاف العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتقدم ، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم ، وإلى ذلك يشير ما أخرجه الإمام أحمد وغيره عن جابر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال حين قرأ بين يديه عمر رضي الله تعالى عنه شيئا من التوراة : «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية الدارمي «والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني» وتقييد المنزل بكونه ـ مصدقا لما معهم ـ لتأكيد وجوب الامتثال فإن إيمانهم بما معهم يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا ، ومن الناس من فسر المنزل بالكتاب ـ والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وما معهم بالتوراة والإنجيل ، وليس فيه كثير بعد إلا أن البعيد من وجه جعل ـ مصدقا ـ حالا من الضمير المرفوع والأبعد جعل ما مصدرية ، ومصدقا حال من ـ ما ـ الثانية ، وأبعد منه جعله حالا من المصدر المقدر.

(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به لما أنكم تعرفون حقيقة الأمر وحقيته. وقد كنتم من قبل تقولون إنا نكون أول من يتبعه فلا تضعوا موضع ما يتوقع فيكم ، ويجب منكم ما يبعد صدوره عنكم ويحرم عليكم من كونكم أول كافر به. و (أَوَّلَ) في المشهور أفعل لقولهم : هذا أول منك ولا فعل له لأن فاءه وعينه واو. وقد دل الاستقراء على انتفاء الفعل لما هو كذلك وإن وجد فنادر. وما في الشافية من أنه من وول بيان للفعل المقدر. وقيل : أصله ـ أوأل ـ من وأل وأولا إذا لجأ ثم خفف بإبدال الهمزة واوا ثم الإدغام وهو تخفيف غير قياسي ، والمناسبة الاشتقاقية أن الأول الحقيقي ـ أعني ذاته تعالى ـ ملجأ للكل وإن قلنا وأل بمعنى تبادر فالمناسبة أن التبادر سبب الأولية ، وقيل أوأل من آل بمعنى رجع ، والمناسبة الاشتقاقية على قياس ما ذكر سابقا ، وإنما لم يجمع على أو أول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع ، وقال الدريدي : هو فوعل فقلبت الواو الأولى همزة ، وأدغمت واو فوعل في عين الفعل ، ويبطله ظاهرا منع الصرف وهو خبر عن ضمير الجمع ، ولا بد هنا عند الجمهور من تأويل المفضل عليه بجعله مفردا للفظ جمع المعنى أي (أَوَّلَ) فريق مثلا أو تأويل المفضل أي لا يكن كل واحد منكم ، والمراد عموم السلب كما في (لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) [القلم : ١٠] وبعض الناس ـ لا يوجب في مثل هذا ـ المطابقة بين النكرة التي أضيف إليها أفعل التفضيل وما جرى هو عليه بل يجوز الوجهان عنده كما في قوله :

وإذا هم طعموا فألأم طاعم

وإذا هم جاعوا فشر جياع

ومن أوجب أول البيت كالآية ونهيهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العرب أقدم منهم لما أن المراد التعريض ـ فأول ـ الكافرين غيرهم أو (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ) من أهل الكتاب والخطاب للموجودين في زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم بل للعلماء منهم ، وقد يقال الضمير راجع إلى ما معكم والمراد من ـ لا تكونوا أول كافر ـ بما

٢٤٦

معكم ـ لا تكونوا أول كافر ـ ممن كفر بما معه ـ ومشركو مكة ـ وإن سبقوهم في الكفر بما يصدق القرآن حيث سبقوا بالكفر به وهو مستلزم لذلك لكن ليسوا ممن كفر بما معه ، والفرق بين لزوم الكفر والتزامه غير بين إلا أنه يخدش هذا الوجه ، إن هذا واقع في مقابلة (آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) فيقتضي اتحاد متعلق الكفر والإيمان ، وقيل : يقدر في الكلام مثل ، وقيل : يقدر ـ ولا تكونوا أول كافر ـ وآخره وقيل : (أَوَّلَ) زائدة ، والكل بعيد ، وبحمل التعريض على سبيل الكناية يظهر وجه التقييد بالأولية ، وقيل : إنها مشاكلة لقولهم إنا نكون أول من يتبعه ، وقد يقال : إنها بمعنى السبق ، وعدم التخلف ، فافهم (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) الاشتراء مجاز عن الاستبدال لاختصاصه بالأعيان إما باستعمال المقيد في المطلق ـ كالمرسن في الأنف ـ أو تشبيه الاستبدال المذكور في كونه مرغوبا فيه بالاشتراء الحقيقي ، والكلام على الحذف ـ أي لا تستبدلوا بالإيمان بآياتي ، والاتباع لها ـ حظوظ الدنيا الفانية القليلة المسترذلة بالنسبة إلى حظوظ الآخرة وما أعد الله تعالى للمؤمنين من النعيم العظيم الأبدي ، والتعبير عن ذلك ـ بالثمن ـ مع كونه مشتري لا مشترى به للدلالة على كونه كالثمن في الاسترذال والامتهان ، ففيه تقريع وتجهيل قوي حيث إنهم قلبوا القضية وجعلوا المقصود آلة والآلة مقصودة وإغراب لطيف حيث جعل المشتري ثمنا بإطلاق الثمن عليه ، ثم جعل الثمن مشترى بإيقاعه بدلا لما جعله ثمنا بإدخال الباء عليه «فإن قيل» : الاشتراء بمعنى الاستبدال بالإيمان بالآيات إنما يصح إذا كانوا مؤمنين بها ثم تركوا ذلك للحظوظ الدنيوية وهم بمعزل عن الإيمان ، أجيب بأن مبنى ذلك على أن الإيمان بالتوراة الذي يزعمونه إيمان بالآيات كما أن الكفر بالآيات كفر بالتوراة فيتحقق الاستبدال ، ومن الناس من جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي التي وقفوا عليها في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوراة والكتب الإلهية أو ما علموه من نعته الجليل وخلقه العظيم عليه الصلاة والسلام ، وقد كانوا يأخذون كل عام شيئا معلوما من زروع أتباعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن بينوا ذلك لهم وتابعوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفوتهم ذلك فضلوا وأضلوا ، وقيل : كان ملوكهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا ، وقيل : غير ذلك ، وقد استدل بعض أهل العلم بالآية على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى والعلم ، وروي في ذلك أيضا أحاديث لا تصح. وقد صح أنهم قالوا : «يا رسول الله أنأخذ على التعليم أجرا؟ فقال : إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى» وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز ذلك وإن نقل عن بعضهم الكراهة ، ولا دليل في الآية على ما ادعاه هذا الذاهب كما لا يخفى والمسألة مبينة في الفروع.

(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الاشتراء بآيات الله تعالى الثمن القليل والعرض الزائل ، وإنما ذكر في الآية الأولى (فَارْهَبُونِ) وهنا (فَاتَّقُونِ) لأن الرهبة دون التقوى فحيثما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم وحثهم على ذكر النعمة التي يشتركون فيها أمرهم بالرهبة التي تورث التقوى ويقع فيها الاشتراك ولذا قيل الخشية ملاك الأمر كله ، وحيثما أراد بالخطاب فيما بعد ـ العلماء منهم ، وحثهم على الإيمان ومراعاة الآيات ـ أمرهم بالتقوى التي أولها ترك المحظورات وآخرها التبري مما سوى غاية الغايات ، وليس وراء عبادان قرية.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) هذا النهي مع ما بعده معطوف على مجموع الآية التي قبله وهي قوله تعالى : (وَآمِنُوا) إلخ ، وهذا كما قالوا في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد: ٣] إن مجموع الوصفين الأخيرين بعد اعتبار التعاطف معطوف على مجموع الأولين كذلك ، ويجوز العطف على جملة واحدة من الجمل السابقة إلا أن المناسبة على الأول أشد والملاءمة أتم. واللبس (١) بفتح اللام الخلط ، وفعله لبس من باب ضرب

__________________

(١) وأما ـ اللبس ـ بضم اللام وفعله من باب علم فمعناه پوشيدن جامه كما في التاج ، ويفهم ذلك من الصحاح ا ه منه.

٢٤٧

ويكون بمعنى الاشتباه إما بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز : والباء إما للتعدية أو للاستعانة واللام في ـ الحق والباطل ـ للعهد أي لا تخلطوا الحق المنزل في التوراة بالباطل الذي اخترعتموه وكتبتموه أو لا تجعلوا ذلك ملتبسا مشتبها غير واضح لا يدركه الناس بسبب الباطل وذكره ، ولعل الأول أرجح لأنه أظهر وأكثر لا لأن جعل وجود الباطل سببا لالتباس الحق ليس أولى من العكس لما أنه لما كان المذموم هو التباس الحق بالباطل ـ وإن لزمه العكس وكان هذا طارئا على ذلك ـ استحق الأولوية التي نفيت (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) مجزوم بالعطف على (تَلْبِسُوا) فالنهي عن كل واحد من الفعلين ، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار ـ أن ـ وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم. وروى الجرمي إن النصب بنفس الواو ـ وهي عندهم بمعنى مع ـ وتسمى واو الجمع وواو الصرف لأنها مصروف بها الفعل عن العطف ، والمراد لا يكن منكم لبس الحق على من سمعه وكتمان الحق وإخفاؤه عمن لم يسمعه ، والقصد أن ينعى عليهم سوء فعلهم الذي هو الجمع بين أمرين كل منهما مستقل بالقبح ، ووجوب الانتهاء وطريق واسع إلى الإضلال والإغواء ، وحيث كان التلبيس بالنسبة إلى من سمع ، والكتمان إلى من لم يسمع اندفع السؤال بأن النهي عن الجمع بين شيئين إنما يتحقق إذا أمكن افتراقهما في الجملة وليس ـ لبس الحق بالباطل مع كتمان الحق كذلك ـ ضرورة أن لبس الحق بالباطل كتمان له ، وكرر الحق إما لأن المراد بالأخير ليس عين الأول بل هو نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة وإما لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح باسم الحق ما ليس في ضميره ، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ـ وتكتمون ـ وخرجت على أن الجملة في موضع الحال ـ أي وأنتم تكتمون أو كاتمين ـ وفي جواز اقتران الحال المصدرة بالمضارع بالواو قولان ، وليس للمانع دليل يعتمد عليه ، وهذه الحال عند بعض المحققين لازمة والتقييد لإفادة التعليل كما في ـ لا تضرب زيدا وهو أخوك ـ وعليه يكون المراد بكتمان الحق ما يلزم من لبس الحق بالباطل لا إخفائه عمن لا يسمع ، وجوز أن تكون معطوفة على جملة النهي على مذهب من يرى جواز ذلك ـ وهو سيبويه وجماعة ـ ولا يشترط التناسب في عطف الجمل (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية ومفعول (تَعْلَمُونَ) محذوف اقتصارا ـ أي وأنتم من ذوي العلم ـ ولا يناسب من كان عالما أن يتصف بالحال الذي أنتم عليه ، ولا يبعد أن يكون الحذف للاختصار ـ أي وأنتم تعلمون أنكم لابسون كاتمون ـ أو تعلمون صفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو البعث والجزاء ، والمقصود من تقييد النهي بالعلم زيادة تقبيح حالهم لأن الإقدام على هاتيك الأشياء القبيحة مع العلم بما ذكر أفحش من الإقدام عليها مع الجهل ـ وليس من يعلم كمن لا يعلم ـ وجوز ابن عطية أن تكون هذه الجملة معطوفة وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي ، وإن لم تكن مناسبة في الاخبار ، وهي عنده شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وليست شاهدة بالعلم على الإطلاق إذ هم بمراحل عنه ، واستدل بالآية على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه بالشروط المعروفة لدى العلماء (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) المراد بهما ـ سواء كانت اللام للعهد أو للجنس ـ صلاة المسلمين وزكاتهم لأن غيرهما مما نسخه القرآن ملتحق بالعدم ، والزكاة في الأصل النماء والطهارة ، ونقلت شرعا لإخراج معروف فإن نقلت من الأول فلأنها تزيد بركة المال وتفيد النفس فضيلة الكرم ، أو لأنها تكون في المال النامي وإن نقلت من الثاني فلأنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل. واستدل بالآية حيث كانت خطابا لليهود من قال : إن الكفار مخاطبون بالفروع واحتمال أن يكون الأمر فيها بقبول الصلاة المعروفة والزكاة والإيمان بهما ، أو أن يكون أمرا للمسلمين ـ كما قاله الشيخ أبو منصور ـ خلاف الظاهر فلا ينافي الاستدلال بالظاهر ، وقدم الأمر بالصلاة لشمول وجوبها ولما فيها من الإخلاص والتضرع للحضرة ، وهي أفضل العبادات البدنية وقرنها بالزكاة لأنها أفضل العبادات المالية ، ثم من قال : لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قال إنما جاء هذا بعد أن بين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أركان ذلك وشرائطه ، ومن قال بجوازه قال بجواز أن يكون الأمر لقصد أن يوطن السامع نفسه ـ كما يقول السيد لعبده

٢٤٨

إني أريد أن آمرك بشيء فلا بد أن تفعله (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي صلوا مع المصلين وعبر بالركوع عن الصلاة احترازا عن صلاة اليهود فإنها لا ركوع فيها وإنما قيد ذلك بكونه مع الراكعين لأن اليهود كانوا يصلون وحدانا فأمروا بالصلاة جماعة لما فيها من الفوائد ما فيها ، واستدل به بعضهم على وجوبها ومن لم يقل به حمل الأمر على الندب أو المعية على الموافقة وإن لم يكونوا معهم وقيل : الركوع ـ الخضوع والانقياد لما يلزمهم من الشرع قال الأضبط السعدي :

لا تذل الفقير علّك أن

«تركع» يوما والدهر قد رفعه

ولعل الأمر به حينئذ بعد الأمر بالزكاة لما أنها مظنة ترفع فأمروا بالخضوع لينتهوا عن ذلك إلا أن الأصل في إطلاق الشرع المعاني الشرعية : وفي المراد بالراكعين قولان : فقيل ، النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وقيل : الجنس وهو الظاهر «ومن باب الإشارة» في قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَ) إلخ أي لا تقطعوا على أنفسكم طريق الوصول إلى الحق بالباطل الذي هو تعلق القلب بالسوي ـ فإن أصدق كلمة قالها شاعر ـ لكمة لبيد.

ألا كل شيء ما خلا الله باطل ولا (تَكْتُمُوا الْحَقَ) بالتفاتكم إلى غيره سبحانه (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه ليس لغيره وجود حقيقي أو لا تخلطوا صفاته تعالى الثابتة الحقة بالباطل الذي هو صفات نفوسكم ولا تكتموها بحجاب صفات النفس (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) من علم توحيد الأفعال أن مصدر الفعل هو الصفة فكما لم تسندوا الفعل إلى غيره لا تثبتوا صفته لغيره (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بمراقبة القلوب (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي بالغوا في تزكية النفس عن الصفات الذميمة لتحصل لكم التحلية بعد التخلية. أو أدوا زكاة الهمم فإن لها زكاة كزكاة النعم بل إن لكل شيء زكاة كما قيل :

كل شيء له «زكاة» تؤدى

و ـ زكاة ـ الجمال رحمة مثلي

(وَارْكَعُوا) أي اخضعوا لما يفعل بكم المحبوب ، فالخضوع علامة الرضا الذي هو ميراث تجلي الصفات العلى ، وحاصله ارضوا بقضائي عند مطالعة صفاتي فإن لي أحبابا لسان حال كل منهم يقول :

وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم

عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل

ثم إنه تعالى لما أمرهم بفعل الخير شكرا لما خصهم به من النعم حرضهم على ذلك من مأخذ آخر بقوله سبحانه : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) والهمزة فيه للتقرير مع توبيخ وتعجيب و ـ البر ـ سعة المعروف والخير ، ومنه البر ، والبرية للسعة ، ويتناول كل خير ، والنسيان ـ كما في البحر ـ السهو الحادث بعد العلم. والمراد به هنا الترك لأن أحدا لا ينسى نفسه بل يحرمها ويتركها كما يترك الشيء المنسي مبالغة في عدم المبالاة والغفلة فيما ينبغي أن يفعله ، وقد نزلت هذه الآية ـ على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ في أحبار المدينة كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يتبعونه وقيل : إنهم كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون فالمراد بالبر هنا إما الإيمان أو الإحسان ، وتركه بعضهم على ظاهره متناولا كل خير على ما قال السدي : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية ، والتوبيخ ليس على أمر الناس (بِالْبِرِّ) نفسه بل لمقارنته بالنسيان المذكور (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) أي التوراة ، والجملة حال من فاعل (أَتَأْمُرُونَ) ، والمراد التبكيت وزيادة التقبيح (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أصل هذا الكلام ونحوه عند الجمهور كان بتقديم حرف العطف على الهمزة لكن لما كان للهمزة صدر الكلام قدمت على حرف العطف ، وبعضهم ذهب إلى أنه لا تقديم ولا تأخير ويقدر بين الهمزة وحرف العطف ما يصح العطف عليه ، و ـ العقل ـ في الأصل المنع والإمساك ، ومنه ـ عقال البعير ـ سمي به النور الروحاني الذي به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح ويعقل

٢٤٩

على ما يحسن ، والفعل يحتمل أن يكون مطلقا أجري مجرى اللازم ، ويحتمل أن يكون متعديا مقدرا لمفعول ، والمعنى ـ أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون سوء خاتمته ووخامة عاقبته ـ أو (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح صنيعكم شرعا لمخالفة ما تتلونه في التوراة. وعقلا لكونه جمعا بين المتنافيين ، فإن المقصود من الأمر (بِالْبِرِّ) الإحسان والامتثال ، والزجر عن المعصية ، ونسيانهم أنفسهم ينافي كل هذه الأغراض ، ولا نزاع في كون قبح الجمع بين ذلك عقلا بمعنى كونه باطلا فعلى هذا لا حجة للمعتزلة في الآية على القبح العقلي الذي يزعمونه بل قد ادعى بعض المحققين أنها دليل على خلاف ما ذهبوا إليه لأنه سبحانه رتب التوبيخ على ما صدر منهم بعد تلاوة الكتاب وكذا لا حجة فيها لمن زعم أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأن التوبيخ على جمع الأمرين بالنظر للثاني فقط لا منع الفاسق عن الوعظ فإن النهي عن المنكر لازم ولو لمرتكبه فإن ترك النهي ذنب وارتكابه ذنب آخر ، وإخلاله بأحدهما لا يلزم منه الإخلال بالآخر ، ثم إن هذا التوبيخ والتقريع ـ وإن كان خطابا لبني إسرائيل ـ إلا أنه عام ـ من حيث المعنى ـ لكل واعظ يأمر ولا يأتمر ، ويزجر ولا ينزجر ، ينادي الناس البدار البدار ، ويرضى لنفسه التخلف والبوار ، ويدعو الخلق إلى الحق ، وينفر عنه ، ويطالب العوام بالحقائق ولا يشم ريحها منه. وهذا هو الذي يبدأ بعذابه قبل عبدة الأوثان ، ويعظم ما يلقى لوفور تقصيره يوم لا حاكم إلا الملك الديان.

وعن محمد بن واسع قال : بلغني أن أناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار ، فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة ، قالوا : كنا نأمركم بها ، ونخالف إلى غيرها ، هذا ومن الناس من جعل هذا الخطاب للمؤمنين ، وحمل الكتاب على القرآن ، فيكون ذلك من تلوين الخطاب ـ كما في ـ (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي) [يوسف : ٢٩] والظاهر يبعده (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) لما أمرهم سبحانه بترك الضلال والإضلال والتزام الشرائع ، وكان ذلك شاقا عليهم ـ لما فيه من فوات محبوبهم وذهاب مطلوبهم ـ عالج مرضهم بهذا الخطاب ، و «الصبر» حبس النفس على ما تكره ، وقدمه على الصلاة ـ لأنها لا تكمل إلا به ـ أو لمناسبته لحال المخاطبين ، أو لأن تأثيره ـ كما قيل ـ في إزالة ما لا ينبغي ، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ـ واللام ـ فيه للجنس ، ويجوز أن يراد بالصبر نوع منه ـ وهو الصوم ـ بقرينة ذكره مع الصلاة ـ والاستعانة بالصبر ـ على المعنى الأول لما يلزمه من انتظار الفرج والنجح ـ توكلا على من لا يخيب المتوكلين عليه ـ ولذا قيل : الصبر مفتاح الفرج ، وبه ـ على المعنى الثاني ـ لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس الموجبين للانقطاع إلى الله تعالى ـ الموجب لإجابة الدعاء ـ وأما الاستعانة ب (الصَّلاةِ) فلما فيها من أنواع العبادة ، مما يقرب إلى الله تعالى قربا يقتضي الفوز بالمطلوب والعروج إلى المحبوب ، وناهيك من عبادة تكرر في اليوم والليلة خمس مرات يناجي فيها العبد علام الغيوب ، ويغسل بها العاصي درن العيوب ، وقد روى حذيفة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا حزنه أمر صلى ، وروى أحمد أنه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة ، وحمل الصلاة على الدعاء في الآية وكذا في الحديث لا يخلو عن بعد ، وأبعد منه كون المراد بالصبر الصبر على الصلاة.

(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) الضمير للصلاة ـ كما يقتضيه الظاهر ، وتخصيصها ـ برد الضمير إليها ـ لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر ، ومعنى ـ كبرها ـ ثقلها وصعوبتها على من يفعلها ، على حد قوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣] والاستثناء مفرغ أي (لَكَبِيرَةٌ) على كل أحد (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) وهم المتواضعون المستكينون ، وأصل ـ الخشوع ـ الإخبات ، ومنه الخشعة ـ بفتحات ـ الرمل المتطامن ، وإنما لم تثقل عليهم ، لأنهم عارفون بما يحصل لهم فيها متوقعون ما ادخر من ثوابها فتهون عليهم ، ولذلك قيل : من

٢٥٠

عرف ما يطلب ، هان عليه ما يبذل ، ومن أيقن بالخلف ، جاد بالعطية ، وجوّز رجوع الضمير إلى ـ الاستعانة ـ على حد (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ورجح بالشمول ، وما يقال : إن الاستعانة ليست ب (لَكَبِيرَةٌ) لا طائل تحته ، فإن الاستعانة ب (الصَّلاةِ) أخص من فعل الصلاة لأنها أداؤها ـ على وجه الاستعانة بها على الحوائج ـ أو على سائر الطاعات لاستجرارها ذلك ، وقيل : يجوز أن يكون من أسلوب (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٨] وقوله :

إن شرخ الشباب والشعر الأس

ود ما لم يعاص كان جنونا

والتأنيث مثله في قوله تعالى على رأي (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة : ٣٤] أو المراد كل خصلة منها ، وقيل : الضمير راجع إلى المذكورات المأمور بها والمنهي عنها ، ومشقتها عليهم ظاهرة ، وهو أقرب مما قاله الأخفش من رجوعه إلى إجابة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، والبعيد بل الأبعد عوده إلى الكعبة المفهومة من ذكر الصلاة (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) الظن في الأصل الحسبان ـ واللقاء ـ وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه ، والمراد من ملاقاة الرب سبحانه ، إما ملاقاة ثوابه أو الرؤية عند من يجوزها ، وكل منهما مظنون متوقع لأنه وإن علم الخاشع أنه لا بد من ثواب للعمل الصالح ، وتحقق أن المؤمن يرى ربه يوم المآب ـ لكن من أين يعلم ما يختم به عمله ـ ففي وصف أولئك بالظن إشارة إلى خوفهم ، وعدم أمنهم مكر ربهم (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩]. وفي تعقيب الخاشعين به حينئذ لطف لا يخفى ، إلا أن عطف (... أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) على ما قبله ـ يمنع حمل الظن على ما ذكر ـ لأن الرجوع إليه تعالى ـ المفسر بالنشور ـ أو المصير إلى الجزاء مطلقا ، مما لا يكفي فيه الظن والتوقع ـ بل يجب القطع به ـ اللهم إلا أن يقدر له عامل ـ أي ويعلمون ـ أو يقال : إن الظن متعلق بالمجموع من حيث هو مجموع ، وهو كذلك غير مقطوع به ـ وإن كان أحد جزئيه مقطوعا ـ أو يقال : إن الرجوع إلى الرب هنا المصير إلى جزائه الخاص ، أعني الثواب بدار السلام ، والحلول بجواره جل شأنه ـ والكل خلاف الظاهر ـ ولهذا اختير تفسير الظن باليقين مجازا ، ومعنى التوقع والانتظار في ضمنه ، ولقاء الله تعالى بمعنى الحشر إليه ، والرجوع بمعنى المجازاة ـ ثوابا أو عقابا ـ فكأنه عز شأنه قال : يعلمون أنهم يحشرون إليه فيجازيهم متوقعين لذلك ، وكأن النكتة في استعمال الظن المبالغة في إيهام أن من ظن ذلك لا يشق عليه ما تقدم ـ فكيف من تيقنه ـ والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية الربوبية ـ والمالكية للحكم ـ وجعل خبر «أن» في الموضعين اسما للدلالة على تحقق اللقاء والرجوع وتقررهما عنده ، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يعلمون وهي تؤيد هذا التفسير.

«ومن باب الإشارة» (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب وزكاء النفس ولا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) فطرتكم الذي يأمركم بالدين السالك بكم سبيل التوحيد (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتقيدون مطلقات صفاتكم الذميمة بعقال ما أفيض عليكم من الأنوار القديمة ، واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية (بِالصَّبْرِ) على ما يفعل بكم ، لكي تصلوا إلى مقام الرضا (وَالصَّلاةِ) التي هي المراقبة وحضور القلب لتلقي تجليات الرب ، وإن المراقبة لشاقة ـ إلا على ـ المنكسرة قلوبهم ، اللينة أفئدتهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة ، واستيلاء سطواتها القهرية ، فهم الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته ؛ فلا يجدون في الدار إلا شئون الملك اللطيف القهار (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة ، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب ، فكأنه قال سبحانه : إن لم تطيعوني لأجل سوابق

٢٥١

نعمتي ، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي ، ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم ، فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هو فرد من أفرادها (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) عطف على نعمتي من عطف الخاص على العام ، وهو مما انفردت به ـ الواو ـ كما في البحر ، ويسمى هذا النحو من العطف ـ بالتجريد ـ كأنه جرد المعطوف من الجملة ، وأفرد بالذكر اعتناء به ، والكلام على حذف مضاف ، أي فضلت آباءكم ـ وهم الذين كانوا قبل التغيير ، أو باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم ، قال الزجاج : والدليل على ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) إلخ ، والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله ، ولكنه تعالى أذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم ، والمراد ب (الْعالَمِينَ) سائر الموجودين في وقت التفضيل ، وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [المائدة : ٢٠] فلا يلزم من الآية تفضيلهم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا على أمته ، الذين هم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] وكذا لا يصح الاستدلال بها على أفضلية البشر على الملائكة من جميع الوجوه ـ ولو صح ذلك ـ يلزم تفضيل عوامهم على خواص الملائكة ، ولا قائل به.

«ومن اللطائف» أن الله سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) إلخ ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقل : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] فشتان من مشهوده فضل ربه ، ومن مشهوده فضل نفسه «فالأول» يقتضي الفناء «والثاني» يقتضي الإعجاب ، والحمد لله الذي فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) اليوم الوقت ، وانتصابه إما على الظرف والمتقى محذوف ـ أي واتقوا العذاب (يَوْماً) ـ وإما مفعول به ـ واتقاؤه ـ بمعنى ـ اتقاء ما فيه ـ إما مجازا بجعل الظرف عبارة عن المظروف أو كناية عنه للزومه له ، وإلا ـ فالاتقاء ـ من نفس ـ اليوم ـ مما لا يمكن ، لأنه آت لا محالة ، ولا بد أن يراه أهل الجنة والنار جميعا ، والممكن المقدور ـ اتقاء ـ ما فيه بالعمل الصالح ، و (تَجْزِي) من جزى بمعنى قضى ، وهو متعد بنفسه لمفعوله الأول ، وبعن للثاني ـ وقد ينزل منزلة اللازم للمبالغة ـ والمعنى لا تقضي يوم القيامة (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) مما وجب عليها ، ولا تنوب عنها ، ولا تحتمل مما أصابها ، أو لا تقضي عنها شيئا من الجزاء ، فنصب (شَيْئاً) إما على أنه ـ مفعول به ـ أو على أنه ـ مفعول مطلق ـ قائم مقام المصدر ، أي جزاء ما. وقرأ أبو السماك «ولا تجزئ» من أجزأ عنه إذا أغنى ، فهو لازم ، و (شَيْئاً) مفعول مطلق لا غير ، والمعنى لا تغني (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) من الإغناء ـ ولا تجديها نفعا ـ وتنكير الأسماء للتعميم في الشفيع والمشفوع ، وما فيه الشفاعة ، وفيه من التهويل والإيذان بانقطاع المطامع ما لا يخفى ، كما يشير إليه قوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٧] والجملة في المشهور صفة يوم والرابط محذوف ، أي «لا تجزي فيه» ولم يجوز الكسائي حذف المجرور إذا لم يتعين ، فلا تقول : رأيت رجلا أرغب ، وأنت تريد أرغب فيه ، ومذهبه في هذا التدريج ، وهو أن يحذف حرف الجر أولا حتى يتصل الضمير بالفعل ـ فيصير منصوبا ـ فيصح حذفه كما في قوله :

فما أدرى أغيّرهم تناء

وطول العهد أو مال أصابوا

يريد أصابوه ، وقد يجوز ـ على رأي الكوفيين ـ أن لا تكون الجملة صفة ، بل مضاف إليها «يوم» محذوف ـ لدلالة ما قبله عليه ـ فلا تحتاج إلى ضمير ، ويكون ذلك المحذوف ـ بدلا من المذكور ـ ومن ذلك ما حكاه الكسائي ـ أطعمونا لحما سمينا ، شاة ذبحوها ـ بجر شاة ـ على تقدير ـ لحم شاة ـ وحكى الفراء مثل ذلك ، ومنه قوله :

٢٥٢

رحم الله أعظما دفنوها

بسجستان طلحة الطلحات

في رواية من خفض طلحة ، والبصريون لا يجوّزون حذف المضاف ، وترك المضاف إليه على خفضه ، ويقولون بشذوذ ما ورد من ذلك ، وقرأ أبو سرار «لا تجزي نسمة عن نسمة» وهي بمعنى النفس.

(وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) الشفاعة ـ كما في البحر ـ ضم غيره إلى وسيلته ـ وهي من الشفع ضد الوتر ـ لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب ـ فيصير شفعا بعد أن كان فردا ـ و «العدل» الفدية ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وروي عنه أيضا ـ البدل ـ أي رجل مكان رجل ، وأصل «العدل» ـ بفتح العين ـ ما يساوي الشيء ـ قيمة وقدرا ـ وإن لم يكن من جنسه ـ وبكسرها ـ المساوي في الجنس والجرم ، ومن العرب من يكسر ـ العين ـ من معنى الفدية ، وذكر الواحدي أن (عَدْلٌ) الشيء ـ بالفتح والكسر ـ مثله ، وأنشد قول كعب بن مالك :

صبرنا لا نرى لله «عدلا»

على ما نابنا متوكلينا

وقال ثعلب : العدل الكفيل والرشوة ـ ولم يؤثر في الآية ـ والضميران المجروران ـ بمن ـ إما راجعان إلى النفس الثانية لأنها أقرب مذكور ولموافقته لقوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ولأنه المتبادر من قوله : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) ومعنى عدم قبول الشفاعة حينئذ أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها وإما إلى الأولى لأنها المحدث عنها ، والثانية فضلة ولأن المتبادر من نفي قبول الشفاعة أنها لو شفعت لم تقبل شفاعتها ، وحينئذ معنى عدم ـ أخذ العدل ـ من الأولى أنه لو أعطى عدلا من الثانية لم يؤخذ ، وكأن في الآية على هذا نوعا من الترقي ارتكب هنا وإن لم يرتكب في مقام آخر كأنه قيل : إن النفس الأولى لا تقدر على استخلاص صاحبتها من قضاء الواجبات وتدارك التبعات لأنها مشغولة عنها بشأنها ، ثم إن قدرت على نفي ما كان بشفاعة لا يقبل منها ، وإن زادت عليه بأن ضمت الفداء فلا يؤخذ منها ، وإن حاولت الخلاص بالقهر والغلبة ـ وأنى لها ذلك ـ فلا تتمكن منه ، واختار الكواشي جعل الضمير الأول للنفس الأولى ، والثاني للثانية على اللف والنشر لما فيه من إجراء الجملتين على المعنى الظاهر منهما ، ويهوّن أمر التفكيك الاتضاح ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ـ ولا تقبل ـ بالتاء ، وسفيان (يُقْبَلُ) بفتح الياء ، ونصب (شَفاعَةٌ) على البناء للفاعل ، وفيه التفات من ضمير المتكلم في (نِعْمَتِيَ) إلخ إلى ضمير الغائب وبناؤه للمفعول أبلغ.

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) النصر في الأصل المعونة ، ومنه أرض منصورة ممدودة بالمطر ، والمراد به هنا ما يكون بدفع الضرر ـ أي ولا هم يمنعون من عذاب الله عزوجل ـ والضمير راجع إلى ما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة فيكون من قبيل ما تقدم ذكره معنى بدلالة لفظ آخر ، وإما إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة كما قيل في قوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] وأتى به مذكرا لتأويل النفوس بالعباد والأناسي ، وفيه تنبيه على أن تلك النفوس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطانه تعالى ، وأنهم ناس كسائر الناس في هذا الأمر ، وعوده إلى النفسين بناء على أن التثنية جمع ليس بشيء ، وجعل النفي ـ منسحبا على جملة اسمية للتقوى ، ورفع (هُمْ) على الابتداء والجملة بعده خبره ، وجعله مفعولا لما لم يسم فاعله والفعل بعده مفسّر فتوافق الجمل ـ لا أوافق على اختياره ـ وإن ذهب إليه بعض الأجلة ـ وتمسك المعتزلة بعموم الآية ، على نفي الشفاعة لأهل الكبائر ـ وكون الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم ـ لا يدفع العموم المستفاد من اللفظ ، وأجيب بالتخصيص من وجهين ، الأول بحسب المكان والزمان فإن مواقف القيامة ومقدار زمانها فيها سعة وطول ، ولعل هذه الحالة في ابتداء وقوعها وشدته ثم يأذن بالشفاعة ، وقد قيل : مثل ذلك في الجمع بين قوله تعالى : (فَلا

٢٥٣

أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] وقوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧] وكون مقام الوعيد يأبى عنه غير مسلم ، والثاني بحسب الأشخاص إذ لا بد لهم من التخصيص في غير العصاة لمزيد الدرجات فليس العام باقيا على عمومه عندهم وإلا اقتضى نفي زيادة المنافع وهم لا يقولون به ، ونحن نخصص في العصاة بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر ، وحيث فتح باب التخصيص نقول أيضا ذلك النفي مخصص بما قبل الإذن ، لقوله تعالى : (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ) [سبأ : ٢٣] وهو تخصيص له دليل ، وتخصيصهم لا يظهر له دليل على أن الشفاعة بزيادة المنافع يكاد أن لا تكون شفاعة وإلا لكنا شفعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الصلاة عليه مع أن الإجماع وقع منا ومنهم على أنه هو الشفيع ، وأيضا في قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [محمد : ١٩] ما يشير إلى الشفاعة التي ندعيها ـ ويحث على التخصيص الذي نذهب إليه ـ رزقنا الله تعالى الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة ، ولما قدم سبحانه ذكر نعمه إجمالا أراد أن يفصل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فقال : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) وهو على الشائع عطف على (نِعْمَتِيَ) بتقدير (اذْكُرُوا) كيلا يلزم الفصل بين المعطوفين بأجنبي وهو (اتَّقُوا) وقد تقدم قبل ما ينفعك هنا ، وقرئ ـ أنجيناكم ، وأنجيتكم ـ ونسبت الأولى للنخعي ، والآل قيل : بمعنى الأهل وإن ألفه بدل عن هاء ، وإن تصغيره أهيل ، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة وتلك الهمزة بدل من هاء ، وقيل : ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة والآل من يؤول إليك في قرابة أو رأي أو مذهب ، فألفه بدل من واو ، ولذلك قال يونس في تصغيره : أويل ، ونقله الكسائي نصا عن العرب ، وروي عن أبي عمر ـ غلام ثعلب ـ أن الأهل القرابة كان لها تابع أو لا ، والآل القرابة بتابعها فهو أخص من الأهل ، وقد خصوه أيضا بالإضافة إلى أولي الخطر فلا يضاف إلى غير العقلاء ولا إلى من لا خطر له منهم ، فلا يقال ـ آل الكوفة ، ولا ـ آل الحجام ـ وزاد بعضهم اشتراط التذكير فلا يقال ـ آل فاطمة ـ ولعل كل ذلك أكثريّ وإلا فقد ورد على خلاف ذلك ـ كآل اعوج ـ اسم فرس وآل المدينة وآل نعم ، وآل الصليب. وآلك ـ ويستعمل غير مضاف ـ كهم خير آل ـ ويجمع ـ كأهل ـ فيقال آلون : وفرعون لقب لمن ملك العمالقة ـ ككسرى لملك الفرس ، وقيصر لملك الروم ، وخاقان لملك الترك ، وتبع لملك اليمن ، والنجاشي لملك الحبشة ـ وقال السهيلي : هو اسم لكل من ملك القبط ومصر ، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة ، وقد اشتق منه باعتبار ما يلزمه فقيل : تفر عن الرجل إذا تجبر وعتا. واسم فرعون هذا الوليد بن مصعب ـ قاله ابن إسحاق ، وأكثر المفسرين ـ وقيل : أبوه مصعب بن ريان حكاه ابن جرير ، وقيل : قنطوس حكاه مقاتل ، وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا : إن اسمه قابوس ، وكنيته أبو مرة وكان من القبط ، وقيل : من بني عمليق أو عملاق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح عليه‌السلام ، وهم أمم تفرقوا في البلاد ، وروي أنه من أهل إصطخر ورد إلى مصر فصار بها ملكا ، وقيل : كان عطارا بأصفهان ركبته الديون فدخل مصر وآل أمره إلى ما آل ـ وحكاية البطيخ شهيرة ـ وقد نقلها مولانا مفتي الديار الرومية في تفسيره ، والصحيح أنه غير فرعون يوسف عليه‌السلام ، وكان اسمه ـ على المشهور ـ الريان بن الوليد ، وقد آمن بيوسف ومات في حياته وهو من أجداد فرعون المذكور على قول ، ويؤيد الغيرية أن بين دخول يوسف ودخول موسى عليهما‌السلام أكثر من أربعمائة سنة ، والمراد ب (آلِ فِرْعَوْنَ) هنا أهل مصر أو أهل بيته خاصة أو أتباعه على دينه ، وب (نَجَّيْناكُمْ) أنجينا آباءكم ، وكذا نظائره فلا حجة فيها لتناسخي ، وهذا في كلام العرب شائع كقول حسان :

ونحن قتلناكم ببدر فأصبحت

عساكركم في الهالكين «تجول»

و (يَسُومُونَكُمْ) من السوم ، وأصله الذهاب للطلب ، ويستعمل للذهاب وحده تارة ، ومنه السائمة ، وللطلب

٢٥٤

أخرى ، ومنه السوم في البيع ، ويقال : سامه كلفه العمل الشاق ، و ـ السوء ـ مصدر ساء يسوء ، ويراد به السيئ ، ويستعمل في كل ما يقبح ـ كأعوذ بالله تعالى من سوء الخلق و (سُوءَ الْعَذابِ) أفظعه وأشده بالنسبة إلى سائره ، وهو منصوب على المفعولية ل (يَسُومُونَكُمْ) بإسقاط حرف الجر أو بدونه ، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة ، وهي حكاية حال ماضية ، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من ضمير (نَجَّيْناكُمْ) أو (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ، وهو الأقرب ، والمعنى يولونكم أو يكلفونكم الأعمال الشاقة ، والأمور الفظيعة أو يرسلونكم إليها ويصرفونكم فيها أو يبغونكم سوء العذاب المفسر بما بعده. وقد حكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا ، وصنفهم في الأعمال ـ فصنف يبنون ، وصنف يحرثون ، وصنف يخدمون ـ ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية يؤديها كل يوم ، ومن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرا ، وجعل النساء يغزلن الكتان ، وينسجن (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) جملة حالية أو استئنافية كأنه قيل : ما الذي ساموهم إياه ، فقال : (يُذَبِّحُونَ) إلخ ، ويجوز أن تخرج على إبدال الفعل من الفعل كما في قوله تعالى : (يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) [الفرقان : ٦٨ ، ٦٩] ، وقيل : بالعطف وحذف حرفه لآية إبراهيم ، والمحققون على الفرق ، وحملوا (سُوءَ الْعَذابِ) فيها على التكاليف الشاقة غير الذبح ، وعطف للتغاير ، واعتبر هناك لا هنا على رأيهم لسبق (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥] ، وهو يقتضي التعداد ، وليس هنا ما يقتضيه ، والأبناء الأطفال الذكور ، وقيل : إنهم الرجال هذا وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل ، وفي بعض الأخبار أنه قتل أربعين ألف صبي ، وحكي أنه كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج ؛ والتجمع لإفساد أمره ، والمشهور حمل الأبناء على الأول ، وهو المناسب المتبادر ، وفي سبب ذلك أقوال وحكايات مختلفة ومعظمها يدل على أن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل ففعل ما فعل (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٨] وقرأ الزهري وابن محيض «يذبحون» مخففا ، وعبد الله «يقتّلون» مشددا (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) عطف على (يُذَبِّحُونَ) أي يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات ، وقيل : يفتشون في حيائهن ينظرون هل بهن حمل ـ والحياء الفرج ـ لأنه يستحى من كشفه ، والنساء جمع المرأة ، وفي البحر إنه تكسير لنسوة على وزن فعلة جمع قلة ، وزعم ابن السراج أنه اسم جمع ، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه ، وهي في الأصل البالغات دون الصغائر ، فهي على الوجه الأول مجاز باعتبار الأول للإشارة إلى أن استبقاءهم كان لأجل أن يصرن نساء لخدمتهم ، وعلى الثاني في تغليب البالغات على الصغائر ، وعلى الثالث حقيقة ، وقدم الذبح لأنه أصعب الأمور وأشقها عند الناس وإن كان ذلك الاستحياء أعظم من القتل لدى الغيور.

(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) إشارة إلى التذبيح والاستحياء أو إلى الإنجاء ، وجمع الضمير للمخاطبين ، ويجوز أن يشار ب (ذلِكُمْ) إلى الجملة وأصل البلاء الاختبار ، وإذا نسب إليه تعالى يراد منه ما يجري مجراه مع العباد على المشهور ، وهو تارة يكون بالمسار ليشكروا ، وتارة بالمضار ليصبروا ، وتارة بهما ليرغبوا ويرهبوا ـ فإن حملت الإشارة على المعنى الأول ـ فالمراد بالبلاء المحنة ، وإن على الثاني فالمراد به النعمة ، وإن على الثالث فالمراد به القدر المشترك كالامتحان الشائع بينهما ، ويرجح الأول التبادر ، والثاني أنه في معرض الامتنان ، والثالث لطف جمع الترغيب والترهيب ؛ ومعنى (مِنْ رَبِّكُمْ) من جهته تعالى إما بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه‌السلام وتوفيقه لتخليصكم أو بهما جميعا ، و (عَظِيمٌ) صفة بلاء وتنكيرهما للتفخيم ، والعظم بالنسبة للمخاطب ، والسامع لا بالنسبة إليه تعالى لأنه العظيم الذي لا يستعظم شيئا «ومن باب الإشارة» والتأويل (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) من قوى فرعون النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها. والنظر إلى نفسها المستعلية على إهلاك الوجود ، ومصر مدينة البدن المستعبدة ، وهي وقواها من الوهم ، والخيال والغضب ، والشهوة القوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله تعالى يعقوب الروح ، والقوى الطبيعية

٢٥٥

البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية أولئك يكلفونكم المتاعب الصعبة ، والأعمال الشاقة من جمع المال ، والحرص وترتيب الأقوات والملابس وغير ذلك ، ويستعبدونكم بالتفكر فيها والاهتمام بها لتحصل لكم لذة هي في الحقيقة عذاب وذلة لأنها تمنعكم عن مشاهدة الأنوار ، والتمتع بدار القرار (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) التي هي القوى الروحانية من القوى النظرية التي هي العين اليمنى للقلب ، والعملية التي هي العين اليسرى له ، والفهم الذي هو سمعه ، والسر الذي هو قلبه (وَيَسْتَحْيُونَ) قواكم الطبيعية ليستخدموها ويمنعوها عن أفعالها اللائقة بها ، وفي ذلك ـ الإنجاء ـ نعمة عظيمة من ربكم المرقي لكم من مقام إلى مقام ومشهد إلى مشهد حتى تصلوا إليه وتحطوا رحالكم بين يديه ، أو في مجموع ذلك امتحان لكم وظهور آثار الأسماء المختلفة عليكم فاشكروا واصبروا فالكل منه وكل ما فعل المحبوب محبوب.

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) عطف على ما قبل ، و ـ الفرق ـ الفصل بين الشيئين ، وتعديته إلى البحر بتضمين معنى الشق ، أي فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض لأجلكم ، وبسبب إنجائكم. والباء للسببية الباعثة بمنزلة اللام ـ إذا قلنا بتعليل أفعاله تعالى ـ وللسببية الشبيهة بها في الترتيب على الفعل ، وكونه مقصودا منه ـ إن لم نقل به ـ وإنما قال سبحانه : (بِكُمُ) دون لكم ، لأن العرب ـ على ما نقله الدامغاني ـ تقول : غضبت لزيد ـ إذا غضبت من أجله وهو حي ـ وغضبت بزيد ـ إذا غضبت من أجله وهو ميت ـ ففيه تلويح إلى أن الفرق كان من أجل أسلاف المخاطبين ، ويحتمل أن تكون للاستعانة على معنى ـ بسلوككم ـ ويكون هناك استعارة تبعية بأن يشبه سلوكهم بالآلة في كونه واسطة في حصول الفرق من الله تعالى ، ويستعمل الباء. وقول الإمام الرازي قدس‌سره : ـ إنهم كانوا يسلكون ، ويتفرق الماء عند سلوكهم ، فكأنه فرق بهم ـ يرد عليه أن تفرق الماء كان سابقا على سلوكهم على ما تدل عليه القصة ، وقوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء : ٦٣] وما قيل : إن الآلة هي العصا ـ كما تفهمه الآية ـ غير مسلم. والمفهوم كونها آلة الضرب ـ لا الفرق ـ ولو سلم يجوز كون المجموع آلة ، على أن آلية السلوك على التجوز ، وقد يقال : إن الباء للملابسة ، والجار والمجرور ظرف مستقر واقع موقع الحال من الفاعل ، وملابسته تعالى معهم حين الفرق ملابسة عقلية ، وهو كونه ناصرا وحافظا لهم ، وهي ما أشار إليه موسى عليه‌السلام بقوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء : ٦٢] ومن الناس من جعله حالا من (الْبَحْرَ) مقدما ـ وليس بشيء ـ لأن الفرق مقدم على ملابستهم (الْبَحْرَ) اللهم إلا على التوسع ، واختلفوا في هذا البحر ، فقيل : القلزم ـ وكان بين طرفيه أربعة فراسخ ـ وقيل النيل ، والعرب تسمي الماء الملح ، والعذب بحرا ـ إذا كثر ، ومنه (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ (١) يَلْتَقِيانِ) [الرحمن : ١٩] وأصله السعة ، وقيل : الشق ، ومن الأول البحرة البلدة ، ومن الثاني البحيرة التي شقت أذنها ، وفي كيفية الانفلاق قولان «فالمشهور» كونه خطيا ، وفي بعض الآثار ما يقتضي كونه قوسيا ، إذ فيه أن الخروج من الجانب الذي دخلوا منه ، واحتمال الرجوع في طريق الدخول يكاد يكون باطلا لأن الأعداء في أثرهم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يتعلق بهذا المبحث.

(فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) في الكلام حذف يدل عليه المعنى والتقدير (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه (فَأَنْجَيْناكُمْ) أي من الغرق ، أو من إدراك فرعون وآله لكم ، أو مما تكرهون ، وكنى سبحانه بآل فرعون عن فرعون وآله كما يقال : بني هاشم ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء : ٧٠] يعني هذا الجنس الشامل لآدم ، أو اقتصر على ذكر الآل لأنهم إذا عذبوا بالإغراق كان مبدأ العناد ورأس الضلال أولى بذلك ، وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر من كتابه كقوله سبحانه (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) [الإسراء :

٢٥٦

١٠٣] (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) [القصص : ٤٠ والذاريات : ٤٠] وحمل الآل ـ على الشخص حيث إنه ثبت لغة كما في الصحاح ـ ركيك غير مناسب للمقام ، وإنما المناسب له التعميم ، وناسب نجاتهم ـ بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين ـ نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام من الذبح بإلقائه وهو طفل في البحر وخروجه منه سالما ، ولكل أمة نصيب من نبيها وناسب هلاك فرعون ـ وقومه بالغرق ـ هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم ، والغرق فيه إبطاء الموت ولا دم خارج وكان ما به الحياة وهو الماء كما يشير إليه قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] سببا لإعدامهم من الوجود ، وفيه إشارة إلى تقنيطهم وانعكاس آمالهم كما قيل :

إلى الماء يسعى من يغص بلقمة

«إلى أين» يسعى من يغص بماء

ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة ـ ولهذا كان الغريق المسلم شهيدا ـ جعله الله تعالى نكالا لمن ادعى الربوبية وقال أنا ربكم الأعلى وعلى قدر الذنب يكون العقاب. ويناسب دعوى الربوبية ، والاعتلاء انحطاط المدعى وتغييبه في قعر الماء ، ولك أن تقول لما افتخر فرعون بالماء كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] جعل الله تعالى هلاكه بالماء وللتابع حظ وافر من المتبوع ـ وكان ذلك الغرق ، والإنجاء ، والإغراق يوم عاشوراء ـ والكلام فيه مشهور (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) جملة حالية وفيها تجوز أي وآباؤكم ينظرون ، والمفعول محذوف أي جميع ما مر فإن أريد الاحكام فالنظر بمعنى العلم ـ وعليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ وإن نفس الأفعال من الغرق ، والإنجاء ، والإغراق فهو بمعنى المشاهدة ـ وعليه الجمهور ـ والحال على هذا من الفاعل وهو معمول بجميع الأفعال السابقة على التنازع ، وفائدته تقرير النعمة عليهم وكأنه قيل : وأنتم لا تشكون فيها ، وجوز أن يقدر المفعول خاصا أي غرقهم ، وإطباق البحر عليهم فالحال متعلق بالقريب ، وهو (أَغْرَقْنا) وفائدته تتميم النعمة فإن هلاك العدو نعمة ومشاهدته نعمة ، أخرى ، وفي قصص الكسائي أن بني إسرائيل حين عبروا البحر وقفوا ينظرون إلى البحر وجنود فرعون ، ويتأملون كيف يفعلون ، أو انفلاق البحر فيكون الحال متعلقا بالأصل في الذكر ، وهو (فَرَقْنا) وفائدته إحضار النعمة ليتعجبوا من عظم شأنها ، ويتعرفوا إعجازها ، وذلك الآل الغريق فالحال من مفعول (أَغْرَقْنا) متعلق به والفائدة تحقيق الإغراق وتثبيته ، وقيل : المراد ينظر بعضكم بعضا وأنتم سائرون في البحر ، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له : أين أصحابنا؟ فقال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم قالوا : لا نرضى حتى نراهم فأوحى الله تعالى أن قل بعصاك هكذا فقال بها على الحيطان فصار بها كوى فتراءوا وسمعوا كلام بعضهم بعضا فالحال متعلق ب (فَرَقْنا) وفائدته تتميم النعمة فإن كونهم مستأنسين يرى بعضهم ـ حال بعض آخر ـ نعمة أخرى ، وبعض الناس يجعل الفعل على هذا الوجه منزلا منزلة اللازم وليس بالبعيد نعم البعيد جعل النظر هنا مجازا عن القرب أي وأنتم بالقرب منهم أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم ـ أنت مني بمرأى ومسمع ـ أي قريب مني بحيث أراك وأسمعك ، وكذا جعله بمعنى الاعتبار أي وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت عليهم هذا وقد حكوا في كيفية خروج بني إسرائيل وتعنتهم وهم في البحر ، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده ، وفي مقدار الطائفتين حكايات مطولة جدا لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها والله تعالى أعلم بشأنها «والإشارة» في الآية أن البحر هو الدنيا وماءه شهواتها ولذاتها ، وموسى هو القلب ، وقومه صفات القلب ، وفرعون هو النفس الأمارة وقومه صفات النفس ، وهم أعداء موسى وقومه يطلبونهم ليقتلوهم ، وهم سائرون إلى الله تعالى ، والعدو من خلفهم ، وبحر الدنيا أمامهم ولا بد لهم في السير إلى الله تعالى من عبوره ولو يخوضونه بلا ضرب عصا لا إله إلا الله بيد موسى ـ

٢٥٧

القلب فإن له يدا بيضاء في هذا الشأن ـ لغرقوا كما غرق فرعون وقومه ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم ينفلق فكما أن يد موسى القلب شرط في الانفلاق كذلك عصا الذكر شرط فيه ، فإذا حصل الشرطان وضرب موسى بعصا الذكر مرة بعد أخرى ينفلق بإذن الله بحر الدنيا بالنفي وينشبك ماء الشهوات يمينا وشمالا ، ويرسل الله تعالى ريح العناية ، وشمس الهداية على قعر ذلك البحر فيصير يابسا من ماء الشهوات فيخرج موسى وقومه بعناية التوحيد إلى ساحل النجاة (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] ويقال لفرعون وقومه إذا غرقوا وأدخلوا نارا ألا : (بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود : ٤٤].

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) لما جاوز بنو إسرائيل البحر سألوا موسى عليه‌السلام أن يأتيهم بكتاب من عند الله فوعده سبحانه أن يعطيه التوراة وقبل موسى ذلك ، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة أو ذا الحجة وعشر المحرم فالمفاعلة على بابها ، وهي من طرف فعل ، ومن آخر قبوله مثل ـ عالجت المريض ـ وإنكار جواز ذلك لا يسمع مع وروده في كلام العرب وتصريح الأئمة به وارتضائهم له ، ويجوز أن يكون (واعَدْنا) من باب الموافاة وليس من الوعد في شيء وإنما هو من قولك موعدك يوم كذا وموضع كذا ، ويحتمل أن يكون بمعنى وعدنا وبه قرأ أبو عمرو أو يقدر الملاقاة أو يقال بالتفكيك إلى فعلين فيقدر الوحي في أحدهما ، والمجيء في الآخر ولا محذور في شيء كما حققه الدامغاني ، وقول أبي عبيدة : المواعدة لا تكون إلا من البشر غير مسلم ، وقول أبي حاتم : أكثر ما تكون من المخلوقين المتكافئين على تقدير تسليمه لا يضرنا ، و (أَرْبَعِينَ) مفعول به بحذف المضاف بأدنى ملابسة أي إعطاء أربعين أي عند انقضائها ، أو في العشر الأخير منها ، أو في كلها أو في أولها على اختلاف الروايات ، أو ظرف مستقر وقع صفة لمفعول محذوف ـ لواعدنا ـ أي واعدنا موسى أمرا كائنا في أربعين ، وقيل : مفعول مطلق أي واعدنا موسى مواعدة أربعين ليلة.

ومن الناس من ذهب إلى أن الأولى أن لا يقدر مفعول لأن المقصود بيان من وعد لا ما وعد ـ وينصب الأربعين على الإجراء مجرى المفعول به توسعا ، وفيه مبالغة بجعل ميقات الوعد موعودا وجعل الأربعين ظرفا لواعدنا على حد جاء زيد يوم الخميس ـ ليس بشيء كما لا يخفى ، و (مُوسى) اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة ، ويقال : هو مركب من «مو» وهو الماء «وشي» وهو الشجر وغيّر إلى «سي» بالمهملة وكأن من سماه به أراد ماء البحر والتابوت الذي قذف فيه ـ وخاض بعضهم في وزنه ـ فعن سيبويه إن وزنه مفعل (١) وقيل : إنه فعلى وهو مشتق من ماس يميس فأبدلت الياء واوا لضم ما قبلها كما قالوا طوبى ، وهي من ذوات الياء لأنها من طاب يطيب ، ويبعده أن الإجماع على صرفه نكرة ولو كان فعلى لم ينصرف لأن ألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة على أن زيادة الميم أولا أكثر من زيادة الألف آخرا ، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك الوقت بالليالي دون الأيام لأن افتتاح الميقات كان من الليل ، والليالي غرر شهور العرب لأنها وضعت على سير القمر ، والهلال إنما يهل بالليل ، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] أو إشارة إلى مواصلة الصوم ليلا ونهارا ولو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي فهم من قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها ، والقول بأن ذكر الليلة ـ كان للإشعار بأن وعد موسى عليه‌السلام كان بقيام الليل ـ ليس بشيء لأن المروي أن المأمور به كان

__________________

(١) وموسى : الحديدة المعلومة مذكر لا غير عند الآمدي. وقال الفراء : هي فعلى ويؤنث ، وفي البحر إنه مؤنث عربي مشتق من آسوت الشيء أصلحته ووزنه مفعل وأصله الهمز ، وقيل : اشتقاقه من أوسيت حلقت ولا أصل للواو في الهمز ا ه منه.

٢٥٨

الصيام لا القيام ، وقد يقال من طريق الإشارة : إن ذكر الليلة للرمز إلى أن هذه المواعدة كانت بعد تمام السير إلى الله تعالى ومجاوزة بحر العوائق والعلائق ، وهناك يكون السير في الله تعالى الذي لا تدرك حقيقته ، ولا تعلم هويته ، ولا يرى في بيداء جبروته إلا الدهشة والحيرة ، وهذا السير متفاوت باعتبار الأشخاص والأزمان ولي مع الله تعالى وقت يشير إلى ذلك (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) والاتخاذ يجيء بمعنى ابتداء صنعة فيتعدى لواحد نحو ـ اتخذت سيفا ـ أي صنعته. وبمعنى اتخاذ وصف فيجري مجرى الجعل ويتعدى لاثنين نحو ـ اتخذت زيدا صديقا ـ والأمران محتملان في الآية ، والمفعول الثاني على الاحتمال الثاني محذوف لشناعته أي (اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) الذي صنعه السامري إلها ، والذم فيه ظاهر لأنهم كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفا ، أو إلا هارون والسبعين الذين كانوا مع موسى عليه‌السلام ، وعلى الاحتمال الأول لا حاجة إلى المفعول الثاني ويؤيده عدم التصريح به في موضع من آيات هذه القصة ، والذم حينئذ لما ترتب على الاتخاذ من العبادة أو على نفس الاتخاذ لذلك ، والعرب تذم أو تمدح القبيلة بما صدر عن بعضها ، و (الْعِجْلَ) ولد البقرة الصغير وجعله الصوفية إشارة إلى عجل النفس الناقصة وشهواتها وكون ما اتخذوه عجلا ظاهر في أنه صار لحما ودما فيكون عجلا حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه فيما يأتي حقيقة أيضا وهو الذي ذهب إليه الحسن ، وقيل : أراد سبحانه بالعجل ما يشبهه في الصورة والشكل ونسبة الخوار إليه مجاز وهو الذي ذهب إليه الجمهور ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك.

ومن الغريب أن هذا إنما سمي عجلا لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى فاتخذوه إلها ، أو لقصر مدته حيث إن موسى عليه‌السلام بعد الرجوع من الميقات حرقه ونسفه في اليم نسفا ، والضمير في بعده راجع إلى موسى ، أي (بَعْدِهِ) ما رأيتم منه من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه ، وذكر الظرف للإيذان بمزيد شناعة فعلهم ، ولا يقتضي أن يكون (مُوسى) متخذا إلها ـ كما وهم ـ لأن مفهوم الكلام أن يكون الاتخاذ ـ بعد ـ موسى ومن أين يفهم اتخاذ موسى سيما في هذا المقام؟ ويجوز أن يكون في الكلام حذف ، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه (واعَدْنا) أي من بعد مواعدته ، وقيل : المحذوف الذهاب المدلول عليه ـ بالمواعدة ـ لأنها تقتضيه. والجملة الاسمية في موضع الحال ، ومتعلق الظلم الإشراك ، ووضع العبادة في غير موضعها ، وقيل : الكف عن الاعتراض على ما فعل السامري وعدم الإنكار عليه ـ وفائدة التقييد بالحال ـ الإشعار بكون الاتخاذ ـ ظلما ـ بزعمهم أيضا لو راجعوا عقولهم بأدنى تأمل ، وقيل : الجملة غير حال بل مجرد إخبار أن سجيتهم الظلم وإنما راج فعل السامري عندهم لغاية حمقهم وتسلط الشيطان عليهم ـ كما يدل على ذلك سائر أفعالهم ـ واتخاذ السامري لهم (الْعِجْلَ) دون سائر الحيوانات ، قيل : لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم على صور البقر فقالوا (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] فهجس في نفس السامري أن فتنتهم من هذه الجهة ، فاتخذ لهم ذلك ، وقيل : إنه كان هو من قوم يعبدون البقر ـ وكان منافقا ـ فاتخذ عجلا من جنس ما يعبده.

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ثُمَ) لتفاوت ما بين فعلهم القبيح ، ولطفه تعالى في شأنهم ، فلا يكون (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) تكرارا. و «عفا» بمعنى درس يتعدى ولا يتعدى ـ كعفت الدار ، وعفاها الريح ـ والمراد بالعفو هنا ـ محو الجريمة بالتوبة ـ وذلك موضوع موضع «ذلكم» والإشارة ـ للاتخاذ ـ كما هو الظاهر ، وإثبارها لكمال العناية بتمييزه ـ كأنه يجعل ظلمهم مشاهدا لهم ـ وصيغة البعيد مع قربه لتعظيمه ليتوسل بذلك إلى جلالة قدر «العفو» والمراد بالترجي ما علمت ، والمشهور هنا كونه مجازا عن طلب الشكر على «العفو» ومن قدر الإرادة من أهل السنة ـ أراد مطلق الطلب ـ وليس ذلك من الاعتزال ، إذ لا نزاع في أن الله تعالى قد يطلب من العباد ما لا يقع

٢٥٩

«والشكر» عند الجنيد هو العجز عن الشكر ، وعند الشبلي ـ التواضع تحت رؤية المنة ـ وقال ذو النون : «الشكر» لمن فوقك بالطاعة ، ولنظيرك بالمكافأة ، ولمن دونك بالإحسان.

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الْكِتابَ) التوراة ـ بإجماع المفسرين ـ وفي الفرقان أقوال «الأول» أنه هو التوراة أيضا ، والعطف من قبيل عطف الصفات للإشارة إلى استقلال كل منها ، فإن التوراة لها صفتان يقالان بالتشكيك ، كونها كتابا جامعا لما لم يجمعه منزل سوى القرآن ، وكونها فرقانا أي حجة تفرق بين الحق والباطل ـ قاله الزجاج ـ ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً) [الأنبياء : ٤٨] «الثاني» أنه الشرع الفارق بين الحلال والحرام ، فالعطف مثله في (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) [القدر : ٤] قاله ابن بحر «الثالث» أنه المعجزات الفارقة بين الحق والباطل ـ من العصا واليد وغيرهما ـ قاله مجاهد.

«الرابع» أنه النصر الذي فرق بين العدو والولي ، وكان آية لموسى عليه‌السلام ، ومنه قيل ليوم بدر : يوم الفرقان ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : إنه القرآن ، ومعنى إتيانه لموسى عليه‌السلام نزول ذكره له حتى آمن به ، حكاه ابن الأنباري ـ وهو بعيد ـ وأبعد منه ، ما حكي عن الفراء وقطرب ـ أنه القرآن ـ والكلام على حذف مفعول ـ أي ومحمدا الفرقان ـ وناسب ذكر الاهتداء إثر ذكر إتيان (مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) لأنهما يترتب عليهما ذلك لمن (أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧].

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) نعمة أخروية في حق المقتولين من بني إسرائيل حيث نالوا درجة الشهداء ، كما أن العفو نعمة دنيوية في حق الباقين ، وإنما فصل بينهما بقوله : (وَإِذْ آتَيْنا) إلخ ، لأن المقصود تعداد النعم ـ فلو اتصلا لصارا نعمة واحدة ـ وقيل : هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم ـ وليس بشيء ـ واللام في (لِقَوْمِهِ) للتبليغ ، وفائدة ذكره التنبيه على أن خطاب (مُوسى لِقَوْمِهِ) كان مشافهة لا بتوسط من يتلقى منه ـ كالخطابات المذكورة سابقا لبني إسرائيل ـ والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وإنما واحده امرئ ـ وقياسه أن لا يجمع ـ وشذ جمعه على ـ أقاويم ـ والمشهور اختصاصه بالرجال لقوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) [الحجرات : ١١] مع قوله: (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) [الحجرات : ١١] وقال زهير :

فما أدري وسوف إخال أدري

أ«قوم» آل حصن أم «نساء»

وقيل : لا اختصاص له بهم ، بل يطلق على النساء أيضا لقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [نوح : ١] والأول أصوب ، واندراج النساء على سبيل الاستتباع ، والتغليب والمجاز خير من الاشتراك ، وسمي الرجال قوما لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء ، وفي إقبال (مُوسى) عليهم بالنداء ، ونداؤه لهم ب (يا قَوْمِ) إيذان بالتحنن عليهم وأنه منهم وهم منه ، وهز لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم «ظلموا أنفسهم» والباء في (بِاتِّخاذِكُمُ) سببية وفي ـ الاتخاذ ـ هنا الاحتمالان السابقان هناك (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) الفاء للسببية ـ لأن الظلم سبب للتوبة ـ وقد عطفت ما بعدها على (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ) والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف ـ بالواو ـ وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف ، والتحقيق أنها لهما معا ، و «البارئ» هو الذي خلق الخلق بريا ـ من التفاوت ـ وعدم تناسب الأعضاء وتلاؤم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر والرقة ، والأخرى بخلافه ، ومتميزا بعضه عن بعض بالخواص والأشكال والحسن والقبح ـ فهو أخص من الخالق ـ وأصل التركيب لخلوص الشيء وانفصاله عن غيره إما على سبيل التفصي ـ كبرء المريض ـ أو الإنشاء ـ كبر الله تعالى آدم ـ أي خلقه ابتداء متميزا عن لوث الطين ، وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته حتى عرضوا

٢٦٠