روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

المشبهة إلى مرفوعها (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) أي وقته ذلك وبه يصح الحمل ، وقيل : ذو أشهر أو حج أشهر ، وقيل : لا تقدير ، ويجعل الحج الذي هو فعل من الأفعال عين الزمان مبالغة ، ولا يخفى أن المقصد بيان وقت الحج كما يدل عليه ما بعد فالتنصيص عليه أولى ، ومعنى قوله سبحانه وتعالى : (مَعْلُوماتٌ) معروفات عند الناس وهي شوال وذو القعدة. وعشر من ذي الحجة عندنا ، وهو المروي عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وابن عمر والحسن رضي الله تعالى عنهم ، وأيد بأن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج ـ وهو طواف الزيارة ـ وبأنه فسر يوم الحج الأكبر بيوم النحر ، وعند مالك الشهران الأولان وذو الحجة كله عملا بظاهر لفظ الأشهر ، ولأنّ أيام النحر يفعل فيها بعض أعمال الحج من طواف الزيارة ، والحلق ، ورمي الجمار ، والمرأة إذا حاضت تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيامه بعد العشرة ، ولأنه يجوز ـ كما قيل ـ تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر ، على ما روي عن عروة بن الزبير ـ ولأن ظواهر الأخبار ناطقة بذلك ، فقد أخرج الطبراني والخطيب وغيرهما بطرق مختلفة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عد «الثلاثة أشهر الحج» وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الشهران الأولان وتسع ذي الحجة بليلة النحر لأن الحج يفوت بطلوع الفجر من يوم النحر ، والعبادة لا تكون فائتة مع بقاء وقتها ، قاله الرازي ، وفيه أن فوته بفوت ركنه الأعظم ـ وهو الوقوف ـ لا بفوت وقته مطلقا ، ومدار الخلاف أنّ المراد بوقته وقت مناسكه وأعماله من غير كراهة وما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا ـ أو وقت إحرامه ـ والشافعي رضي الله تعالى عنه ـ على الأخير ـ والإحرام لا يصح بعد طلوع فجر يوم النحر لعدم إمكان الأداء ، وإن جاز أداء بعض أعمال الحج في أيام النحر ، ومالك على الثاني فإنه ـ على ما قيل ـ كره الاعتمار في بقية ذي الحجة ، لما روي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه كان يخوّف الناس بالدرّة وينهاهم عن ذلك فيهن ، وإنّ ابنه رضي الله تعالى عنه قال لرجل : إن أطعتني انتظرت حتى إذا هلّ المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.

والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على الأول لكون العاشر وقتا لأداء الرمي ، والحلق وغيرهما ، وغيرها من بقية أيام النحر ـ وإن كان وقتا لذلك أيضا ـ إلا أنه خصص بالعشر اقتضاء لما روي في الآثار من ذكر العشر ، ولعل وجهه أنّ المراد الوقت الذي يتمكن فيه المكلف من الفراغ عن مناسكه بحيث يحل له كل شيء وهو اليوم العاشر وما سواه من بقية أيام النحر ، فللتيسير في أداء الطواف ، ولتكميل الرمي ، و «الأشهر» مستعمل في حقيقته إلا أنه تجوز في بعض أفراده ، فإن أقل الجمع ثلاثة أفراد عند الجمهور فجعل بعض من فرد فردا ثم جمع ، وقيل : إنه مجاز فيما فوق الواحد بعلاقة الاجتماع ، وليس من الجمع حقيقة بناء على المذهب المرجوح فيه لأنه إنما يصح إطلاقه على اثنين فقط ، أو ثلاثة ـ لا على اثنين ـ وبعض ثالث ، والقول ـ بأن المراد به اثنان والثالث في حكم العدم ـ وقيل : المراد ثلاثة ، ولا تجوز في بعض الأفراد لأن أسماء الظروف تطلق على بعضها حقيقة لأنها على معنى ـ في ـ فيقال : رأيته في سنة كذا. أو شهر كذا أو يوم كذا. وأنت قد رأيته في ساعة من ذلك ـ ولعله قريب إلى الحق ـ وصيغة جمع المذكر في غير العقلاء تجيء ـ بالألف والتاء (فَمَنْ فَرَضَ) أي ألزم نفسه (فِيهِنَّ الْحَجَ) بالإحرام ، ويصير محرما ـ بمجرد النية ـ عند الشافعي لكون الإحرام التزام الكف عن المحظورات فيصير شارعا فيه بمجردها كالصوم ، وعندنا ـ لا ـ بل لا بد من مقارنة التلبية لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكر كما في تحريمه الصلاة ، ولما كان باب الحج أوسع من باب الصلاة كفى ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية ـ فارسيا كان أو عربيا ـ وفعل كذلك من سوق (الْهَدْيِ) أو تقليده ، واستدل بالآية على أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في تلك الأشهر ، كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعطاء وغيرهما. إذ لو جاز في غيرها ـ كما ذهب إليه الحنفية ـ لما كان لقوله سبحانه : (فِيهِنَ) فائدة ، وأجيب بأن فائدة

٤٨١

ذكر (فِيهِنَ) كونها وقتا لأعماله من غير كراهية فلا يستفاد منه عدم جواز الإحرام قبله ، فلو قدّم الإحرام انعقد حجا مع الكراهة ، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه يصير محرما بالعمرة ، ومدار الخلاف أنه ركن عنده ـ وشرط عندنا ـ فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت ، والكراهة جاءت للشبهة ، فعن جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج» (فَلا رَفَثَ) أي لا جماع ، أو لا فحش من الكلام (وَلا فُسُوقَ) ولا خروج عن حدود الشرع بارتكاب المحظورات ، وقيل : بالسباب والتنابز بالألقاب (وَلا جِدالَ) ولا خصام مع الخدم والرفقة.

(فِي الْحَجِ) أي في أيامه ، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإن زيارة البيت المعظم والتقرّب بها إلى الله تعالى من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك ، وإيثار النفي للمبالغة في النهي والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون ، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه منهيا عنه مطلقا فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح كلبس الحرير في الصلاة وتحسين الصوت بحيث تخرج الحروف عن هيئاتها في القرآن ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأولين بالرفع حملا لهما على معنى النهي أي لا يكونن (رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) والثالث ـ بالفتح ـ على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج ، وذلك أن قريشا كانت تقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة ، وبعد ما أمر الكل بالوقوف في عرفة ارتفع الخلاف فأخبر به ، وقرئ بالرفع (فِيهِنَ) ووجهه لا يخفى.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) بتأويل الأمر معطوف على (فَلا رَفَثَ) أي لا ترفثوا وافعلوا الخيرات ـ وفيه التفات ـ وحث على ـ الخير ـ عقيب النهي عن الشر ليستبدل به ، ولهذا خص متعلق العلم مع أنه تعالى عالم بجميع ما يفعلونه من خير أو شر ، والمراد من ـ العلم ـ إما ظاهره فيقدر بعد الفعل فيثيب عليه ، وإما المجازاة مجازا (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن المنذر وابن حبان والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون : نحن متوكلون ، وثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت ـ فالتزوّد ـ بمعناه الحقيقي ـ وهو اتخاذ الطعام للسفر ـ و (التَّقْوى) بالمعنى اللغوي ـ وهو الاتقاء من السؤال ـ وقيل : معنى الآية اتخذوا (التَّقْوى) زادكم لمعادكم فإنها خير زاد ، فمفعول (تَزَوَّدُوا) محذوف بقرينة خبر إن ـ وهو التقوى بالمعنى الشرعي ـ وكان مقتضى الظاهر أن يحمل (خَيْرَ الزَّادِ) على (التَّقْوى) فإن المسند إليه والمسند إذا كانا معرفتين يجعل ما هو مطلوب الإثبات مسندا ، والمطلوب هنا إثبات (خَيْرَ الزَّادِ) للتقوى لكونه دليلا على تزوّدها إلا أنه أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر للمبالغة لأنه حينئذ يكون المعنى إن الشيء الذي بلغكم أنه (خَيْرَ الزَّادِ) وأنتم تطلبون نعته هو (التَّقْوى) فيفيد اتحاد (خَيْرَ الزَّادِ) بها (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي أخلصوا لي التقوى فإن مقتضى العقل الخالص عن الشوائب ذلك وليس فيه ـ على هذا ـ شائبة تكرار مع سابقه لأنه حث على الإخلاص بعد الحث على التقوى.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي حرج في (أَنْ تَبْتَغُوا) أي تطلبوا (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي رزقا منه تعالى بالربح بالتجارة في مواسم الحج ، أخرج البخاري وغيره ـ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فنزلت ، واستدل بها على إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع المكاسب في الحج وإن ذلك لا يحبط أجرا ولا ينقص ثوابا ، ووجه الارتباط أنه تعالى لما نهى عن الجدال في الحج كان مظنة للنهي عن التجارة فيه أيضا لكونها مفضية في

٤٨٢

الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها فعقب ذلك بذكر حكمها ، وذهب أبو مسلم إلى المنع عنها في الحج ، وحمل الآية على ما بعد الحج ، وقال : المراد واتقون في كل أفعال الحج ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح إلخ كقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠] وزيف بأن حمل الآية على محل الشبهة أولى من حملها على ما لا شبهة فيه ومحل الاشتباه هو التجارة زمان الحج. وأما بعد الفراغ فنفي الجناح معلوم وقياس الحج على الصلاة فاسد فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في أثنائها ، وأيضا الآثار لا تساعد ما قاله فقد سمعت ما أخرجه البخاري ، وقد أخرج أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال سألت ابن عمر فقلت : إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا قال : ألستم تلبون ألستم تطوفون بين الصفا والمروة ألستم ألستم؟؟ قلت : بلى قال : إن رجلا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) الآية فدعاه فتلا عليه حين نزلت وقال : «أنتم الحجاج» وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ فيما أخرجه البخاري وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عنه (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحج ، وكذلك روي عن ابن مسعود ، وأيضا ـ الفاء ـ في قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك مؤذن بأن المراد وقوع التجارة في زمان الحج ، نعم قال بعضهم : إذا كان الداعي للخروج إلى الحج هو التجارة أو كانت جزء العلة أضر ذلك بالحج لأنه ينافي الإخلاص لله تعالى به ـ وليس بالبعيد ـ و (أَفَضْتُمْ) من الإفاضة من فاض الماء إذا سال منصبا ، وأفضته أسلته والهمزة فيه للتعدية ، ومفعوله مما التزم حذفه للعلم به ، وأصله أفيضتم فنقلت حركة ـ الياء ـ إلى ـ الفاء ـ قبلها فتحركت ـ الياء ـ في الأصل وانفتح ما قبلها الآن فقلبت الفا ثم حذفت ، والمعنى هنا فإذا دفعتم أنفسكم بكثرة من عرفات و (مِنْ) لابتداء الغاية و (عَرَفاتٍ) موضع بمنى وهي اسم في لفظ الجمع فلا تجمع قال الفراء : ولا واحد له بصحة ، وقول الناس : نزلنا عرفة شبيه بمولد ـ وليس بعربي محض ـ واعترض عليهربخبر «الحج عرفة» روأجيب بأن عرفة فيه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة كما صرح به الراغب والبغوي والكرماني ، والذي أنكره استعماله في المكان ، فالاعتراض ناشئ من عدم فهم المراد ومن هنا قيل : إنه جمع عرفة وعليه صاحب شمس العلوم ، والتعدد حينئذ باعتبار تسمية كل جزء من ذلك المكان عرفة كقولهم : جب مذاكيره فلا يرد ما قاله العلامة : من أنه لو سلم كون عرفة عربيا محصنا فعرفة وعرفات مدلولهما واحد ، وليس ثمة أماكن متعددة كل منها عرفة لتجمع على عرفات ، وإنما نون وكسر مع أن فيه العلمية والتأنيث لأن تنوين جمع المؤنث في مقابلة نون جمع المذكر فإن النون في جمع المذكر قائم مقام التنوين الذي في الواحد في المعنى الجامع لأقسام التنوين وهو كونه علامة تمام الاسم فقط ، وليس في النون شيء من معاني الأقسام للتنوين فكذا التنوين في جمع المؤنث علامة لتمام الاسم فقط ، وليس فيها أيضا شيء من تلك المعاني سوى المقابلة وليس الممنوع من غير المنصرف هذا التنوين بل تنوين التمكين لأنه الدال على عدم مشابهة الاسم بالفعل وأن ذهاب الكسرة على المذهب المرضي تبع لذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف ، وهنا ليس كذلك ـ قاله الجمهور ـ وقال الزمخشري : إنما نون وكسر لأنه منصرف لعدم الفرعيتين المعتبرتين إذ التأنيث المعتبر مع العلمية في منع الصرف إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث بل علامة الجمع ، وإما أن يكون بتاء مقدرة كما في زينب ، واختصاص هذه التاء بجمع المؤنث يأبى تقدير تاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي تأنيث فهذه التاء كتاء بنت ليست للتأنيث بل عوض عن الواو المحذوفة ، واختصت بالمؤنث فمنعت تقدير التاء فعلى هذا لو سمي بمسلمات ، وبنت مؤنث كان منصرفا ، وقول ابن الحاجب : إن هذا يقتضي أنه إذا سمي بذلك منع صرفه ليس بشيء إذ الاقتضاء غير مسلم ، وكذا ما قاله عصام الدين من أن التأنيث لمنع الصرف لا يستدعي قوة ألا

٤٨٣

يرى أن طلحة يعتبر تأنيثه لمنع الصرف ولا يعتبر لتأنيث ضمير يرجع إليه لأن بناء الاستدلال ليس على اعتبار القوة والضعف بل على عدم تحقق التأنيث ، نعم يرد ما أورده الرضي من أنه لو لم يكن فيه تأنيث لما التزم تأنيث الضمير الراجع إليه ، ويجاب بأن اختصاص هذا الوزن بالمؤنث يكفي لإرجاع الضمير ولا يلزم فيه وجود التاء لفظا أو تقديرا وإنما سمي هذا المكان المخصوص بلفظ ينبئ عن المعرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فعرفه ، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو لأن جبريل كان يدور به في المشاعر فلما رآه قال : قد عرفت ، وروي عن عطاء أو لأن آدم وحواء اجتمعا فيه فتعارفا ، وروي عن الضحاك والسدي ؛ أو لأن جبريل عليه‌السلام قال لآدم فيه : اعترف بذنبك واعرف مناسكك قاله بعضهم ، وقيل : سمي بذلك لعلوه وارتفاعه ، ومنه عرف الديك ، واختير الجمع للتسمية مبالغة فيما ذكر من وجوهها كأنه عرفات متعددة وهي من الأسماء المرتجلة قطعا عند المحققين ، وعرفة يحتمل أن تكون منها وأن تكون منقولة من جمع عارف ولا جزم بالنقل إذ لا دليل على جعلها جمع عارف والأصل عدم النقل (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتلبية والتهليل والدعاء ، وقيل : بصلاة العشاءين لأن ظاهر الأمر للوجوب ولا ذكر واجب (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) إلا الصلاة ، والمشهور أن المشعر مزدلفة كلها ، فقد أخرج وكيع وسفيان وابن جرير والبيهقي وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة قال : هذا (الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) وأيد بأن الفاء تدل على أن الذكر (عِنْدَ الْمَشْعَرِ) يحصل عقيب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة ، وذهب كثير إلى أنه جبل يقف عليه الإمام في المزدلفة ويسمى قزح. وخص الله تعالى الذكر عنده مع أنه مأمور به في جميع «المزدلفة» لأنها كلها موقف إلا وادي محسر كما دلت عليه الآثار الصحيحة لمزيد فضله وشرفه وعن سعيد بن جبير ـ ما بين جبلي مزدلفة فهو (الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ومثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وإنما سمي ـ مشعرا ـ لأنه معلم العبادة ، ووصف ـ بالحرام ـ لحرمته ، والظرف متعلق باذكروا أو بمحذوف حال من فاعله (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي كما علمكم المناسك والتشبيه لبيان الحال وإفادة التقييد أي اذكروه على ذلك النحو ولا تعدلوا عنه ، ويحتمل أن يراد مطلق الهداية ومفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال أي (اذْكُرُوهُ) ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها.

و ـ ما ـ على المعنيين تحتمل أن تكون مصدرية فمحل (كَما هَداكُمْ) النصب على المصدرية بحذف الموصوف أي ذكرا مماثلا لهدايتكم ، وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب ، والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة ، ولذا لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها. وذهب بعضهم إلى أن ـ الكاف ـ للتعليل. وأنها متعلقة بما عندها و ـ ما ـ مصدرية لا غير أي (اذْكُرُوهُ) وعظموه لأجل هدايته السابقة منه تعالى لكم (وَإِنْ كُنْتُمْ) أي وإنكم (كُنْتُمْ) فخففت (أَنْ) وحذف الاسم وأهملت عن العمل ولزم اللام فيما بعدها ، وقيل : إن (أَنْ) نافية ، واللام بمعنى إلا (مِنْ قَبْلِهِ) أي ـ الهدي ـ والجار متعلق بمحذوف يدل عليه (لَمِنَ الضَّالِّينَ) ولم يعلقوه به لأن ما بعد ـ ال ـ الموصولة لا يعمل فيما قبلها وفيه تأمل ، والمراد من الضلال الجهل بالإيمان ومراسم الطاعات ، والجملة تذييل لما قبلها كأنه قيل : (اذْكُرُوهُ) الآن إذ لا يعتبر ذكركم السابق المخالف لما (هَداكُمْ) لأنه من الضلالة ، وحمله على الحال توهم بعيد عن المرام (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي من عرفة لا من ـ المزدلفة ـ والخطاب عام ، والمقصود إبطال ما كان عليه الحمس من الوقوف بجمع ، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم

٤٨٤

يفيض منها فذلك قوله سبحانه : (ثُمَّ أَفِيضُوا) الآية ومعناها (ثُمَّ أَفِيضُوا) أيها الحجاج من مكان أفاض جنس الناس منه قديما وحديثا ، وهو عرفة لا من مزدلفة ، وجعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة ؛ والجملة معطوفة على قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ) ولما كان المقصود من هذه التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة ؛ وأتى ـ بثم ـ إيذانا بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب ، والأخرى خطأ ، ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من المعطوف لأن الحصر ممنوع ، وكذا لا يضر انفهام التفاوت من كون أحدهما مأمورا به ، والآخر منهيا عنه كيفما كان العطف لأن المراد أن كلمة (ثُمَ) تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي ، وجوز أن يكون العطف على ـ فاذكروا ـ ويعتبر التفاوت بين الإفاضتين أيضا كما في السابق بلا تفاوت ، وبعضهم جعله معطوفا على محذوف أي أفيضوا إلى منى (ثُمَّ أَفِيضُوا) إلخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ـ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا» وإذا أريد بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منى ـ كما قال الجبائي ـ بقيت كلمة (ثُمَ) على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن الإفاضة من ـ عرفات ـ لأن الحاج إذا أفاضوا منها عند غروب الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى منى ، والخطاب على هذا عام بلا شبهة ، والمراد من الناس الجنس كما هو الظاهر ـ أي من حيث أفاض الناس كلهم قديما وحديثا ، وقيل : المراد بهم إبراهيم عليه‌السلام وسمي ناسا لأنه كان إماما للناس ، وقيل : المراد هو وبنوه ، وقرئ ـ «الناس» ـ بالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه‌السلام لقوله تعالى في حقه : (فَنَسِيَ) [طه : ١١٥] وكلمة ـ ثم ـ على هذه القراءة للإشارة إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناء على أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعا قديما كذا قيل فليتدبر (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للمستغفرين (رَحِيمٌ) بهم منعم عليهم (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) أي أديتم عباداتكم الحجية وفرغتم منها (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) أي كما كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخر ، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان أهل الجاهلية يجلسون بعد الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع فأنزل الله تعالى ذلك (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إما مجرور معطوف على الذكر بجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى ـ واذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ ـ أو على ما أضيف إليه بناء على مذهب الكوفيين المجوزين للعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض في السعة بمعنى ـ أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا ـ وإما منصوب بالعطف على (آباءَكُمْ) و (ذِكْراً) من فعل المبني للمفعول بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آبائكم ، أو بمضمر دل عليه المعنى أي ليكن ذكركم الله تعالى أشد من ذكركم آباءكم أو كونوا أشد ذكرا لله تعالى منكم لآبائكم كذا قيل ، واختار في البحر أن يكون (أَشَدَّ) نصب على الحال من ذكرا المنصوب ـ باذكروا ـ إذ لو تأخر عنه لكان صفة لو وحسن تأخر (ذِكْراً) لأنه كالفاصلة ولزوال قلق التكرار إذ لو قدم لكان التركيب فاذكروا الله كذكركم آباءكم ، أو اذكروا ذكرا أشد ، وفيه أن الظاهر على هذا الوجه أن يقال أو أشد بدون (ذِكْراً) بأن يكون معطوفا على كذكركم صفة للذكر المقدر وأن المطلوب الذكر الموصوف بالأشدية لا طلبه حال الأشدية (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) جملة معترضة بين الأمرين المتعاطفين للحث والإكثار من ذكر الله تعالى وطلب ما عنده ، وفيها تفصيل للذاكرين مطلقا حجاجا أو غيرهم كما هو الظاهر إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين ، وما نقل عن بعض المتصوفة من قولهم إن عبادتنا لذاته تعالى فارغة من

٤٨٥

الأغراض والاعراض جهل عظيم ربما يجر إلى الكفر كما قاله حجة الإسلام قدس‌سره لأن عدم التعليل في الأفعال مختص بذاته تعالى على أن البعض قائل بأن أفعاله سبحانه أيضا معللة بما تقتضيه الحكمة ، نعم إن عبادته تعالى قد تكون لطلب الرضا لا لخوف مكروه أو لنيل محبوب لكن ذا من أجل حسنات الأخرى يطلبه خلص عباده قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] وقرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة لا مجرد التفوه والنطق به ، وذهب الإمام وأبو حيان إلى أن التفصيل للداعين المأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك ، وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحا للإجابة ثم بين جل شأنه أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة ، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة حطا لطالب الدنيا عن ساحة عن الحضور ، ولا يخفى أن الأول هو المناسب لإبقاء الناس على عمومه والمطابق لما سيأتي من قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ) إلخ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) نعم سبب النزول ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ طائفة من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيطلبون الدنيا ، وطائفة من المؤمنين يجيئونه فيطلبون الدنيا والآخرة وهذا لا يقتضي التخصيص (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) أي اجعل كل إيتائنا ومنحتنا فيها فالمفعول الثاني متروك ونزل الفعل بالقياس منزلة اللازم ذهابا إلى عموم الفعل للإشارة إلى أن همته مقصورة على مطالب الدنيا (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) إخبار منه تعالى ببيان حال هذا النصف في الآخرة يعني أنه لا نصيب له فيها ولا حظ ، و ـ الخلاق ـ من خلق به إذا لاق ، أو من الخلق كأنه الأمر الذي خلق له وقدر ، وقيل : الجملة بيان لحال ذلك في الدنيا فهي تصريح بما علم ضمنا من سابقه تقريرا له وتأكيدا أي ليس له في الدنيا طلب خلاق في الآخرة ، وليس المراد أنه ليس له طلب في الآخرة للخلاق ليقال : إن هذا حكم كل أحد إذ لا طلب في الآخرة وإنما فيها الحظ والحرمان ، ويجاب بمنع عدم الطلب إذ المؤمنون يطلبون زيادة الدرجات والكافرون الخلاص من شدة العذاب ، و (مَنْ) صلة ، و ـ له ـ خبر مقدم والجار والمجرور بعده متعلق بما تعلق به أو حال مما بعده (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) يعني العافية والكفاف قاله قتادة ، أو المرأة الصالحة قاله علي كرم الله تعالى وجهه ، أو العلم والعبادة قاله الحسن ، أو المال الصالح قاله السدي ، أو الأولاد الأبرار ، أو ثناء الخلق قاله ابن عمر ، أو الصحة والكفاية والنصرة على الأعداء والفهم في كتاب الله تعالى ، أو صحبة الصالحين قاله جعفر ، والظاهر أن الحسنة وإن كانت نكرة في الإثبات وهي لا تعم إلا أنها مطلقة فتنصرف إلى الكامل والحسنة الكاملة في الدنيا ما يشمل جميع حسناتها وهو توفيق الخير وبيانها بشيء مخصوص ليس من باب تعيين المراد إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلا وإنما هو من باب التمثيل وكذا الكلام في قوله تعالى : (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) فقد قيل هي الجنة ، وقيل : السلامة من هول الموقف وسوء الحساب ، وقيل : الحور العين وهو مروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وقيل : لذة الرؤية (وقيل ، وقيل ..) والظاهر الإطلاق وإرادة الكامل وهو الرحمة والإحسان (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي احفظنا منه بالعفو والمغفرة واجعلنا ممن يدخل الجنة من غير عذاب ، وقال الحسن : احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى عذاب النار ، وقال علي كرم الله تعالى وجهه : عذاب النار الامرأة السوء أعاذنا الله تعالى منها وهو على نحو ما تقدم وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر دعوة يدعو بها هذه الدعوة كما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه وأخرجا عنه أيضا أنه قال : «إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل كنت تدعو الله تعالى بشيء؟ قال : نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ودعا له فشفاه» الله تعالى

٤٨٦

(أُولئِكَ) إشارة إلى الفريق الثاني والجملة في مقابلة (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) والتعبير باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بما سبق علة للحكم المذكور ولذا ترك العطف هاهنا لكونه كالنتيجة لما قبله ، قيل : وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل ، وجوز أن تكون الإشارة إلى كلا الفريقين المتقدمين فالتنوين في قوله تعالى : (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويع أي لكل منهم نصيب من جنس ما كسبوا ، أو من أجله ، أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه ، و ـ من ـ إما للتبعيض أو للابتداء ، والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل ، وفي الآية على الاحتمال الثالث وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظ السابق لأن المفهوم من (رَبَّنا آتِنا) الدعاء لا الكسب إلا أنه يسمى كسبا لأنه من الأعمال وقرئ ـ مما اكتسبوا ـ (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا ، وروي بمقدار فواق ناقة ، وروي بمقدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات ، والجملة تذييل لقوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) إلخ والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف أو مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كما وكيفا ، أو مجازاتهم عليها هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» و (لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا) بيوت قلوبكم من طرف حواسكم ولو ماتكم البدنية المأخوذة من المشاعر فإنها ظهور القلوب التي تلي البدن (وَلكِنَ) البر من اتقى شواغل الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس الأمارة وأتوا هاتيك البيوت (مِنْ أَبْوابِها) التي تلي الروح ، ويدخل منها الحق واتقوا الله عن رؤية تقواكم لعلكم تفوزون به (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) من قوى نفوسكم ودواعي بشريتكم فإن ذلك هو الجهاد الأكبر (وَلا تَعْتَدُوا) بإهمالها والوقوف مع حظوظها أو لا تتجاوزوا في القتال إلى أن تضعفوا البدن عن القيام بمراسم الطاعة ووظائف العبودية فرب مخمصة شر من التخم. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الواقفين مع نفوسهم أو المتجاوزين ظل الوحدة وهو العدالة (وَاقْتُلُوهُمْ) حيث وجدتموهم أي امنعوا هاتيك القوى عن شم لذائذ الشهوات والهوى حيث كانوا (وَأَخْرِجُوهُمْ) عن مكة الصدر كما أخرجوكم عنها واستنزلوكم إلى بقعة النفس وحالوا بينكم وبين مقر القلب وفتنتهم التي هي عبادة الهوى والسجود لأصنام اللذات أشد من الإماتة بالكلية أو بلاؤكم عند استيلاء النفس أشد عليكم من القتل الذي هو محو الاستعداد وطمس الغرائز لما يترتب على ذلك من ألم الفراق عن حضرة القدس الذي لا يتناهى (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهو مقام القلب إذا وافقوكم في توجهكم حتى ينازعوكم في مطالبكم ويجروكم عن دين الحق ويدعوكم إلى عبادة عجل النظر إلى الأغيار فإن نازعوكم (فَاقْتُلُوهُمْ) بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) الساترين للحق (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن نزاعهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقاتِلُوهُمْ) على دوام الرعاية وصدق العبودية (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ولا يحصل التفات إلى السوي (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) بتوجه الجمع إلى الجناب الأقدس والذات المقدس (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ) إلا على المجاوزين للحدود (الشَّهْرُ الْحَرامُ) الذي قامت به النفس لحقوقها (بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) الذي هو وقت حضوركم ومراقبتكم (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) فلا تبالوا بهتك حرمتها (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ما معكم من العلوم بالعمل به والإرشاد ـ ولا تلقوا بأيديكم إلى تهلكة التفريط وأحسنوا ـ بأن تكونوا مشاهدين ربكم في سائر أعمالكم إن الله يحب المشاهدين له ، ـ وأتموا حج ـ توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات لله بإتمام جميع المقامات والأحوال (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) بمنع أعداء النفوس أو مرض الفتور فجاهدوا في الله بسوق هدي النفس وذبحها بفناء كعبة القلب ، ولاختلاف النفوس في الاستعداد قال : ما استيسر ولا تحلقوا رءوسكم ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا فراغ الخاطر حتى يبلغ هدي النفس محله فحينئذ تأمنون من التشويش وتكدر الصفاء (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) ضعيف

٤٨٧

الاستعداد (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) أي مبتلى بالتعلقات ولم يتيسر له السلوك على ما ينبغي فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله أو فعل بر أو رياضة تقمع بعض القوى (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من المانع المحصر فمن تمتع بذوق تجلي الصفات متوسلا به إلى حج تجلي الذات فيجب عليه ما أمكن من الهدي بحسب حاله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) لضعف نفسه وانقهارها (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) أي فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في الجمع والفناء ، وهي العقل والوهم والمتخيلة (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) إلى مقام التفصيل والكثرة ، وهي الحواس الخمسة الظاهرة والغضب والشهوة لتكون عند الاستقامة في الأشياء بالله عزوجل (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) موجبة لأفاعيل عجيبة مشتملة على أسرار غريبة (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) من الكاملين الحاضرين مقام الوحدة لأن أولئك لا يخاطبون ولا يعاتبون ومن وصل فقد استراح (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) وهي مدة الحياة الفانية أو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين كما قال في البقرة (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨].

ومن هنا قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد نعم العمش خير من العمى والقليل خير من الحرمان (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) على نفسه بالعزيمة (فَلا رَفَثَ) أي فلا يمل إلى الدنيا وزينتها (وَلا فُسُوقَ) ولا يخرج القوة الغضبية عن طاعة القلب بل لا يخرج عن الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) أي ولا ينازع أحدا في مقام التوجه إليه تعالى إذ الكل منه وإليه ومن نازعه في شيء ينبغي أن يسلمه إليه ويسلم عليه (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] وما تفعلوا من فضيلة في ترك شيء من هذه الأمور يعلمه الله ويثيبكم عليه ، وتزودوا من الفضائل التي يلزمها الاجتناب عن الرذائل (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) وتمامها بنفي السوي (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) فإن قضية العقل الخالص عن شوب الوهم وقشر المادة اتقاء الله تعالى ليس عليكم حرج عند الرجوع إلى الكثرة أن تطلبوا رفقا لأنفسكم على مقتضى ما حده المظهر الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا دفعتم أنفسكم من عرفات المعرفة (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) أي شاهدوا جماله سبحانه عند السر الروحي المسمى بالخفي وسمي مشعرا لأنه محل الشعور بالجمال ، ووصف بالحرام لأنه محرم أن يصل إليه الغير (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) إلى ذكره في المراتب (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها (لَمِنَ الضَّالِّينَ) عن هذه الأذكار في طلب الدنيا (ثُمَّ أَفِيضُوا) إلى ظواهر العبادات (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ) سائر الناس إليها وكونوا كأحدهم فإن النهاية الرجوع إلى البداية.

أو أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء عليهم‌السلام لأجل أداء الحقوق والشفقة على عباد الله تعالى بالإرشاد والتعليم (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) فقد كان الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم يغان على قلبه ويستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة ، ومن أنت يا مسكين بعده (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) وفرغتم من الحج (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) قبل السلوك (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) لأنه المبدأ الحقيقي فكونوا مشغولين به حسبما تقتضيه ذاته سبحانه فمن الناس من لا يطلب إلا الدنيا ولا يعبد إلا لأجلها وما له في مقام الفناء من نصيب لقصور همته واكتسابه الظلمة المنافية للنور ؛ ومنهم من يطلب خير الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذيب بنيران الطبيعة (أُولئِكَ لَهُمْ (١) نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) من حظوظ الآخرة والأنوار الباهرة واللذات الباقية والمراتب العالية والله سريع الحساب (وَاذْكُرُوا اللهَ) أي كبروه إدبار الصلوات وعند ذبح القرابين ، ورمي الجمار وغيرها.

(فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) وهي ثلاثة أيام التشريق وهو المروي في المشهور عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله

٤٨٨

تعالى عنهم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها أربعة أيام بضم يوم النحر إليها ، واستدل بعضهم للتخصيص بأن هذه الجملة معطوفة على قوله سبحانه (فَاذْكُرُوا اللهَ) إلخ فكأنه قيل فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله في أيام معدودات ، والفاء للتعقيب فاقتضى ذلك إخراج يوم النحر من الأيام ، ومن اعتبر العطف والتعقيب وجعل بعض يوم يوما استدل بالآية على ابتداء التكبير خلف الصلاة من ظهر يوم النحر ، واستدل بعمومها من قال : يكبر خلف النوافل واستشكل وصف أيام بمعدودات لأن أياما جمع يوم وهو مذكر ، و (مَعْدُوداتٍ) واحدها معدودة وهو مؤنث فكيف تقع صفة له فالظاهر معدودة ووصف جمع ما لا يعقل بالمفرد المؤنث جائز ، وأجيب بأن معدودات جمع معدود لا معدودة ، وكثيرا ما يجمع المذكر جمع المؤنث كحمامات وسجلات ، وقيل : إنه قدر اليوم مؤنثا باعتبار ساعاته ، وقيل : إن المعنى أنها في كل سنة معدودة ، وفي السنين معدودات فهي جمع معدودة حقيقة ولا يخفى ما فيه (فَمَنْ تَعَجَّلَ) أي عجل في النفر أو استعجل النفر من منى ، وقد ذكر غير واحد أن عجل واستعجل يجيئان مطوعين بمعنى عجل يقال : تعجل في الأمر واستعجل ، ومتعديين يقال : تعجل الذهاب ، والمطاوعة عند الزمخشري أوفق لقوله تعالى : (وَمَنْ تَأَخَّرَ) كما هي كذلك في قوله :

قد يدرك المتأني بعض حاجته

وقد يكون من «المستعجل» الزلل

لأجل المتأني ، وذهب بعض أرباب التحقيق إلى ترجيح التعدي لأن المراد بيان أمور ـ العجل ـ لا التعجل مطلقا ، وقيل : لأن اللازم يستدعي تقدير (فِي) فيلزم تعلق حرفي جر أحدهما المقدر والثاني (فِي يَوْمَيْنِ) بالفعل وذا لا يجوز ـ واليومان ـ يوم القر. ويوم الرءوس. واليوم الذي بعده. والمراد فمن نفر في ثاني أيام التشريق قبل الغروب ـ وبعد رمي الجمار عند الشافعية ـ وقبل طلوع الفجر من اليوم الثالث إذا فرغ من رمي الجمار عندنا ـ والنفر في أول يوم منها لا يجوز ـ فظرفية «اليومين» له على التوسع باعتبار أن الاستعداد له في اليوم الأول ، والقول بأن التقدير في أحد (يَوْمَيْنِ) إلا أنه مجمل فسر باليوم الثاني ، أو في آخر (يَوْمَيْنِ) خروج عن مذاق النظر (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) باستعجاله (وَمَنْ تَأَخَّرَ) في النفر حتى رمى في اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده عندنا ، وعند الشافعي بعده فقط (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بما صنع من التأخر ، والمراد التخيير بين ـ التعجل والتأخر ـ ولا يقدح فيه أفضلية الثاني خلافا لصاحب ـ الإنصاف ـ وإنما ورد ـ بنفي الإثم ـ تصريحا بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فيه ، فمن مؤثم للمعجل ، ومؤثم للمتأخر (لِمَنِ اتَّقى) خبر لمحذوف ـ واللام ـ إما للتعليل أو للاختصاص ، أي ذلك التخيير المذكور بقرينة القرب لأجل ـ المتقي ـ لئلا يتضرر بترك ما يقصده من ـ التعجيل والتأخر ـ لأنه حذر متحرز عما يريبه ، أو ذلك المذكور من أحكام الحج مطلقا نظرا إلى عدم المخصص القطعي ، وإن كانت عامة لجميع المؤمنين مختصة ـ بالمتقي ـ لأنه الحاج على الحقيقة ، والمنتفع بها ، والمراد من ـ التقوى ـ على التقديرين التجنب عما يؤثم من ـ فعل أو ترك ـ ولا يجوز حملها على التجنب عن الشرك لأن الخطاب في جميع ما سبق للمؤمنين ، واستدل بعضهم بالآية على أن الحاج إذا اتقى في أداء حدود الحج وفرائضه غفرت له ذنوبه كلها ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وأخرج ابن جرير عنه أنه فسر الآية بذلك ثم قال : إن الناس يتأولونها على غير تأويلها ، وهو من الغرابة بمكان.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع أموركم التي يتعلق بها العزم لتنتظموا في سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة ، أو احذروا الإخلال بما ذكر من أمور الحج (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء والبعث ، وأصل ـ الحشر ـ الجمع وضم المفرق وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به ، فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي له إلى ملازمة التقوى ، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ولتواخي الفواصل

٤٨٩

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) عطف على قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) والجامع أنه سبحانه لما ساق بيان أحكام الحج إلى بيان انقسام الناس في الذكر والدعاء في تلك المناسك إلى الكافر ، والمؤمن تممه سبحانه ببيان قسمين آخرين ـ المنافق والمخلص ـ وأصل ـ التعجب ـ حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه ، وهو هنا مجاز عما يلزمه من الروق والعظمة فإن الأمر الغريب المجهول يستطيبه الطبع ويعظم وقعه في القلوب ، وليس على حقيقته لعدم الجهل بالسبب أعني الفصاحة والحلاوة ، فالمعنى ومنهم من يروقك ويعظم في نفسك ما يقوله : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي في أمور الدنيا وأسباب المعاش ـ سواء كانت عائدة إليه أم لا ـ فالمراد من (الْحَياةِ) ما به الحياة والتعيش ، أو في معنى (الدُّنْيا) فإنها مرادة من ادعاء المحبة وإظهار الإيمان ـ فالحياة الدنيا ـ على معناها ، وجعله ظرفا للقول من قبيل قولهم في عنوان المباحث الفصل الأول في كذا والكلام في كذا أي المقصود منه ذلك ولا حذف في شيء من التقديرين على ما وهم وتكون الظرفية حينئذ تقديرية كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» أي في قتلها فالسبب الذي هو القتل متضمن للدية تضمن الظرف للمظروف وهذه هي التي يقال لها إنها سببية كذا في الرضي قاله بعض المحققين ، وجوز تعلق المجرور بالفعل قبله أي يعجبك في الدنيا قوله لفصاحته وطراوة ألفاظه ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة واللكنة أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك ، والآية كما قال السدي : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة «أقبل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك منه وقال : إنما جئت أريد الإسلام والله تعالى يعلم إني لصادق ثم خرج من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمر بزرع من المسلمين (١) وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر» وقيل : في المنافقين كافة (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أي بحسب ادعائه حيث يقول الله يعلم أن ما في قلبي موافق لما في لساني وهو معطوف على (يُعْجِبُكَ) وفي مصحف أبيّ ويستشهد الله ، وقرئ ويشهد الله بالرفع ، فالمراد بما في قلبه ما فيه حقيقة ، ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، والله يشهد على ما في قلبه على أن كلمة على لكون المشهود به مضرا له ، والجملة حينئذ اعتراضية.

(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي شديد المخاصمة في الباطل كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واستشهد عليه بقول مهلهل.

إن تحت الحجار حزما وجورا

وخصيما ألد ذا مقلاق

فألد صفة كأحمر بدليل جمعه على لد ومجيء مؤنثه لداء لا أفعل تفضيل والإضافة من إضافة الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على الإسناد المجازي وجعلها بعضهم بمعنى في على الظرفية التقديرية أي شديد في المخاصمة ؛ ونقل أبو حيان عن الخليل أن ألد أفعل تفضيل فلا بد من تقدير ، وخصامه ألد الخصام أو ألد ذوي الخصام ، أو يجعل وهو راجع إلى الخصام المفهوم من الكلام على بعد ، أو يقال الخصام جمع خصم كبحر وبحار وصعب وصعاب ، فالمعنى أشد الخصوم خصومة ، والإضافة فيه للاختصاص كما في أحسن الناس وجها ، وفي الآية إشارة إلى أن شدة المخاصمة مذمومة ، وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم» وأخرج أحمد عن أبي الدرداء «كفى بك إثما أن لا تزال مماريا وكفى بك ظالما أن لا تزال مخاصما وكفى بك كاذبا أن لا تزال محدثا إلا حديث في ذات الله عزوجل» وشدة الخصومة من صفات

__________________

(١) قوله : (بزرع من المسلمين) كذا بخطه ا ه.

٤٩٠

المنافقين لأنهم يحبون الدنيا فيكثرون الخصام عليها (وَإِذا تَوَلَّى) أي أدبر وأعرض قاله الحسن ، أو إذا غلب وصار واليا ـ قاله الضحاك ـ (سَعى) أي أسرع في المشي أو عمل (فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) ما أمكنه (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) كما فعله الأخنس ، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف ، أو بالظلم الذي يمنع الله تعالى بشؤمه القطر ، و (الْحَرْثَ) الزرع (وَالنَّسْلَ) كل ذات روح يقال نسل ينسل نسولا إذا خرج فسقط ، ومنه نسل وبر البعير أو ريش الطائر ، وسمي العقب من الولد نسلا لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه ، وذكر الأزهري أن (الْحَرْثَ) هنا النساء (وَالنَّسْلَ) الأولاد ، وعن الصادق أن الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس ، وقرئ ويهلك الحرث ، والنسل على أن الفعل للحرث والنسل ، والرفع للعطف على (سَعى) وقرأ الحسن بفتح اللام وهي لغة ـ أبى يأبى ـ وروي عنه ويهلك على البناء للمفعول (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) لا يرضى به فاحذروا غضبه عليه ، والجملة اعتراض للوعيد واكتفى فيها على الفساد لانطوائه على الثاني لكونه من عطف العام على الخاص ، ولا يرد أن الله تعالى مفسد للأشياء قبل الإفساد ، فكيف حكم سبحانه بأنه لا يحب الفساد ، لأنه يقال : الإفساد ـ كما قيل في الحقيقة ـ إخراج الشيء عن حالة محمودة ـ لا لغرض صحيح ـ وذلك غير موجود في فعله تعالى ولا هو آمر به ، وما نراه من فعله جل وعلا إفسادا فهو بالإضافة إلينا ، وأما بالنظر إليه تعالى فكله صلاح ، وأما أمره بإهلاك الحيوان مثلا لأكله فلإصلاح الإنسان الذي هو زبدة هذا العالم ، وأما إماتته فأحد أسباب حياته الأبدية ورجوعه إلى وطنه الأصلي ، وقد تقدم ما عسى أن تحتاجه هنا.

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) في فعلك (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) أي احتوت عليه وأحاطت به ، وصار كالمأخوذ بها ، و (الْعِزَّةُ) في الأصل خلاف الذل وأريد بها الأنفة والحمية مجازا. (بِالْإِثْمِ) أي مصحوبا أو مصحوبة به أو بسبب إثمه السابق ، ويجوز أن يكون ـ أخذ ـ من الأخذ بمعنى الأسر ، ومنه الأخيذ للأسير ، أي جعلته (الْعِزَّةُ) وحمية الجاهلية أسيرا بقيد الإثم لا يتخلص منه (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) مبتدأ وخبر أي كافيه (جَهَنَّمُ) وقيل : (جَهَنَّمُ) فاعل لحسبه ساد مسد خبره ، وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوي لاعتماده على ـ الفاء ـ الرابطة للجملة بما قبلها ، وقيل : «حسب» اسم فعل ماض بمعنى كفى ـ وفيه نظر ـ و (جَهَنَّمُ) علم لدار العقاب أو لطبقة من طبقاتها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث ، وهي من الملحق بالخماسي بزيادة الحرف الثالث ووزن فعنلل ، وفي البحر إنها مشتقة من قولها : ركية جهنام ـ إذا كانت بعيدة القعر ـ وكلاهما من الجهم ، وهي الكراهية ، والغلظ ، ووزنها فعنل. ولا يلتفت لمن قال : وزنها فنعلل كعرندس ، وأن فعنلا مفقود لوجود فعنل نحو دونك وخفنك وغيرهما ، وقيل : إنها فارسي وأصلها كهنام فعربت ـ بإبدال الكاف جيما وإسقاط الألف ـ والمنع من الصرف حينئذ للعلمية والعجمة (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) جواب قسم مقدر ؛ والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه ، و (الْمِهادُ) الفراش ، وقيل : ما يوطئ للجنب ـ والتعبير به للتهكم ـ وفي الآية ذم لمن يغضب إذا قيل له : (اتَّقِ اللهَ) ولهذا قال العلماء : إذا قال الخصم للقاضي : اعدل ونحوه له أن يعزره ، وإذا قال له : (اتَّقِ اللهَ) لا يعزره. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «إنّ من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه : اتق الله تعالى فيقول : عليك بنفسك عليك بنفسك» (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) أي يبيعها ببذلها في الجهاد على ما روي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في سرية الرجيع ، أو في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على ما أخرج ابن جرير عن أبي الخليل قال : سمع عمر رضي الله تعالى عنه إنسانا يقرأ هذه الآية فاسترجع وقال : قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلبا لرضاه ، ف (ابْتِغاءَ) مفعول له ، و (مَرْضاتِ) مصدر بني ـ كما في البحر ـ على التاء كمدعاة ، والقياس تجريده منها ، وكتب في المصحف ـ بالتاء ـ ووقف عليه ـ بالتاء والهاء ـ وأكثر الروايات أن الآية نزلت في

٤٩١

صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه ، فقد أخرج جماعة أنّ صهيبا أقبل مهاجرا نحو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فاتبعه نفر من المشركين فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال : يا معشر قريش ، لقد علمتم أني من أرماكم رجلا ؛ وايم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا : دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك ، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل ، فلما قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «أبا يحيى ربح البيع ربح البيع» وتلا له الآية. وعلى هذا يكون الشراء على ظاهره بمعنى الاشتراء.

وفي الكواشي أنها نزلت في الزبير بن العوام وصاحبه المقداد بن الأسود لما قال عليه الصلاة والسلام : «من ينزل خبيبا عن خشبته فله الجنة» فقال : أنا وصاحبي المقداد ـ وكان خبيب قد صلبه أهل مكة ـ وقال الإمامية وبعض منا : إنها نزلت في على كرم الله تعالى وجهه حين استخلفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على فراشه بمكة لما خرج إلى الغار ، وعلى هذا يرتكب في السراء مثل ما ارتكب أولا (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) أي المؤمنين حيث أرشدهم لما فيه رضاه ، وجعل النعيم الدائم جزاء العمل المنقطع وأثاب على شراء ملكه بملكه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه‌السلام فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا ، فأنكر ذلك عليهم المسلمون ، فقالوا : إنا نقوى على هذا وهذا ، وقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن التوراة كتاب الله تعالى فدعنا فلنعمل بها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب ، و (السِّلْمِ) بمعنى الإسلام ، و (كَافَّةً) في الأصل صفة من كف بمعنى منع ، استعمل بمعنى الجملة بعلاقة أنها مانعة للأجزاء عن التفرق ـ والتاء ـ فيه للتأنيث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كعامة وخاصة وقاطبة أو للمبالغة. واختار الطيبي الأول مدعيا أن القول بالأخيرين خروج عن الأصل من غير ضرورة ، والشمول المستفاد منه شمول الكل للأجزاء لا الكلي لجزئياته ولا الأعم منهما ، ولا يختص بمن يعقل ، ولا بكونه حالا ولا نكرة خلافا لابن هشام ـ وليس له في ذلك ثبت ـ وهو هنا حال من الضمير في (ادْخُلُوا) والمعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تدعوا شيئا من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى مكان لغيره من شريعة موسى عليه‌السلام ، وقيل : الخطاب للمنافقين ، و (السِّلْمِ) بمعنى الاستسلام والطاعة على ما هو الأصل فيه ، و (كَافَّةً) حال من الضمير أيضا ، أي استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملة واتركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا ، وقيل : الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان بشريعتهم ، والمراد من (السِّلْمِ) جميع الشرائع بذكر الخاص وإرادة العام بناء على القول بأن الإسلام شريعة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ، وحمل ـ اللام ـ على الاستغراق ، و (كَافَّةً) حال من (السِّلْمِ) والمعنى ادخلوا أيها المؤمنون بشريعة واحدة في الشرائع كلها ولا تفرقوا بينها ، وقيل : الخطاب للمسلمين الخلص ، والمراد من (السِّلْمِ) شعب الإسلام ، و (كَافَّةً) حال منه ، والمعنى (ادْخُلُوا) أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم (فِي) شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه ، وقال الزجاج في هذا الوجه : المراد من (السِّلْمِ) الإسلام ، والمقصود أمر المؤمنين بالثبات عليه ، وفيه أن التعبير عن الثبات على الإسلام بالدخول فيه بعيد غاية البعد ، وهذا ما اختاره بعض المحققين من ستة عشر احتمالا في الآية حاصلة من ضرب احتمالي (السِّلْمِ) في احتمالي (كَافَّةً) وضرب المجموع في احتمالات الخطاب ، ومبنى ذلك على أمرين ، أحدهما أن (كَافَّةً) لإحاطة الأجزاء ، والثاني أن محط الفائدة في الكلام القيد كما هو المقرر عند البلغاء ، ونص عليه

٤٩٢

الشيخ في دلائل الإعجاز ، وإذا اعتبرت احتمال الحالية من الضمير والظاهر معا كما في قوله :

خرجت بها نمشي تجر وراءنا

على أثرينا ذيل مرط مرحل

بلغت الاحتمالات أربعة وعشرين ، ولا يخفى ما هو الأوفق منها بسبب النزول. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي «السلم» بفتح السين والباقون ـ بكسرها ـ وهما لغتان مشهورتان فيه ، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بمخالفة ما أمرتم به ، أو بالتفرق في جملتكم ، أو بالتفريق بالشرائع أو الشعب (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة أو مظهر لها ، وهو تعليل للنهي والانتهاء.

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) أي ملتم عن الدخول (فِي السِّلْمِ) وتنحيتم ، وأصله السقوط وأريد به ما ذكر مجازا.

(مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) أي الحجج الظاهرة الدالة على أنه الحق ، أو آيات الكتاب الناطقة بذلك الموجبة للدخول (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره لا يعجزه شيء من الانتقام منكم (حَكِيمٌ) لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين (هَلْ يَنْظُرُونَ) استفهام في معنى النفي ، والضمير للموصول السابق إن أريد به المنافقون أو أهل الكتاب ، أو إلى (مَنْ يُعْجِبُكَ) إن أريد به مؤمنو أهل الكتاب أو المسلمون. (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) بالمعنى اللائق به جل شئونه منزها عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات. (فِي ظُلَلٍ) جمع ظلة كقلة وكقلل وهي ما أظلك ، وقرئ ظلال كقلال (مِنَ الْغَمامِ) أي السحاب أو الأبيض منه (وَالْمَلائِكَةُ) يأتون ، وقرئ «والملائكة» بالجر عطف على ظلل أو الغمام ؛ والمراد مع (الْمَلائِكَةُ) أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء وينزل الله تعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي ، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال : يهبط حين يهبط وبينه وبين خاتمه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك العظمة صوتا تنخلع له القلوب ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن من الغمام ظللا يأتي الله تعالى فيها محفوفات بالملائكة ، وقرأ أبيّ «إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل» ومن الناس من قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفا فقال : في الآية الإسناد مجازي ، والمراد يأتيهم أمر الله تعالى وبأسه أو حقيقي ، والمفعول محذوف أي يأتيهم الله تعالى ببأسه ، وحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله سبحانه : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فإن العزة. والحكمة تدل على الانتقام بحق ، وهو البأس والعذاب ، وذكر الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ، ويكون ذكر الله تعالى حينئذ تمهيدا لذكرهم كما في قوله سبحانه : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٩] على وجه وخص الغمام بمحلية العذاب لأنه مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير ، ولا يخفى أن من علم أن الله تعالى أن يظهر بما شاء وكيف شاء ومتى شاء وأنه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق منزه عن التقيد مبرأ عن التعدد كما ذهب إليه سلف الأمة وأرباب القلوب من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يحتج إلى هذه الكلفات ، ولم يحم حول هذه التأويلات (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي أتم أمر العباد وحسابهم فأثيب الطائع وعوقب العاصي وأتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على (هَلْ يَنْظُرُونَ) لأنه خبر معنى ووضع الماضي موضع المستقبل لدنو وتيقن وقوعه. وقرأ معاذ بن جبل وقضاء الأمر عطفا على الملائكة (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) تذييل للتأكيد كأنه قيل : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) التي من جملتها الحساب أو الإهلاك ، وعلى قراءة معاذ عطف على (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي لا ينظرون إلا الإتيان وأمر ذلك إلى الله تعالى ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم ـ ترجع ـ على البناء للمفعول على أنه من الرجع ، وقرأ

٤٩٣

الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع ، وقرئ أيضا بالتذكير وبناء المفعول (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو الأصل في الخطاب أو لكل واحد ممن يصح منه السؤال ، والمراد بهذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد يقول لمن حضر سله كم أنعمت عليه ، وربط الآية بما قبلها على ما قيل : إن الضمير في (هَلْ يَنْظُرُونَ) إن كان لأهل الكتاب فهي كالدليل عليه وإن كان لمن (يُعْجِبُكَ) فهي بيان لحال المعاندين من أهل الكتاب بعد بيان حال المنافقين من أهل الشرك (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي علامة ظاهرة وهي المعجزات الدالة على صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال الحسن ، ومجاهد ، وتخصيص إيتاء المعجزات بأهل الكتاب مع عمومه للكل لأنهم أعلم من غيرهم بالمعجزات وكيفية دلالتها على الصدق لعلمهم بمعجزات الأنبياء السابقة وقد يراد بالآية معناها المتعارف وهو طائفة من القرآن وغيره ، وبينة من بان المتعدي ، فالسؤال على إيتاء الآيات المتضمنة لنعت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتحقيق نبوته والتصديق بما جاء به. و (كَمْ) إما خبرية والمسئول عنه محذوف ، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع كأنه قيل : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد ـ آتيناهم آيات كثيرة بينة ـ وزعم لزوم انقطاع الجملة على هذا التقدير ـ وهم كما ترى ، وإما استفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني ل (سَلْ) وقيل : في موضع المصدر أي سلهم هذا السؤال ، وقيل : في موضع الحال أي سلهم قائلا ـ كم آتيناهم ـ والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار ، وقيل : بمعنى التحقيق والتثبيت ، واعترض بأن معنى التقريع الاستنكار والاستبعاد وهو لا يجامع التحقيق ، وأجيب بأن التقريع إنما هو على جحودهم الحق وإنكاره المجامع لإيتاء الآيات لا على الإيتاء حتى يفارقه ، ومحلها النصب على أنها مفعول ثان ـ لآتينا ـ وليس من الاشتغال كما وهم أو الرفع بالابتداء على حذف العائد ، والتقدير ـ آتيناهموها ـ أو آتيناهم إياها ، وهو ضعيف عند سيبويه ، و (آيَةٍ) تمييز ، و (مِنْ) صلة أتي بها للفصل بين كون (آيَةٍ) مفعولا ـ لآتينا ـ وكونها مميزة ل (كَمْ) ويجب الإتيان بها في مثل هذا الموضع فقد قال الرضي : وإذا كان الفصل بين ـ كم ـ الخبرية ومميزها بفعل متعد وجب الإتيان بمن لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي نحو (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) [الدخان : ٢٥] (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) [الحجر : ٤] وحال ـ كم ـ الاستفهامية المجرور مميزها مع الفصل كحال ـ كم الخبرية في جميع ما ذكرنا انتهى. وحكي عنه أنه أنكر زيادة من في مميز الاستفهامية وهو محمول على الزيادة بلا فصل لا مطلقا فلا تنافي بين كلاميه (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) أي آياته فإنها سبب الهدي الذي هو أجل النعم ، وفيه وضع المظهر موضع المضمر بغير لفظه السابق لتعظيم الآيات ، وتبديلها تحريفها وتأويلها الزائغ ، أو جعلها سببا للضلالة وازدياد الرجس ، وعلى التقديرين لا حذف في الآية ، وقال أبو حيان حذف حرف الجر من (نِعْمَةَ) والمفعول الثاني ل (يُبَدِّلْ) والتقدير ومن يبدل بنعمة الله كفرا ، ودل على ذلك ترتيب جواب الشرط عليه وفيه ما لا يخفى ، وقرئ ـ ومن يبدل ـ بالتخفيف (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أي وصلته وتمكن من معرفتها ، وفائدة هذه الزيادة ـ وإن كان تبديل الآيات مطلقا مذموما ـ التعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها ، وفيه تقبيح عظيم لهم ونعي على شناعة حالهم واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة وبهذا يندفع ما يتراءى من أن التبديل لا يكون إلا بعد المجيء فما الفائدة في ذكره (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) تعليل للجواب أقيم مقامه والتقدير ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب ، ويحتمل أن يكون هو الجواب بتقدير الضمير أي شديد العقاب له وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي أوجدت حسنة وجعلت محبوبة في قلوبهم فتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار وأعرضوا عما سواها ولذا أعرض أهل الكتاب عن الآيات

٤٩٤

وبدلوها ، وفاعل التزيين بهذا المعنى حقيقة هو الله تعالى وإن فسر بالتحسين بالقول ونحوه من الوسوسة كما في قوله تعالى : (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ) [الحجر : ٣٩] كان فاعل ذلك هو الشيطان والآية محتملة لمعنيين ، والتزيين حقيقة فيهما على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) الموصول للعهد ، والمراد به فقراء المؤمنين كصهيب وبلال وعمار أي يستهزءون بهم على رفضهم الدنيا. وإقبالهم على العقبى ، و (مِنَ) للتعدية وتفيد معنى الابتداء كأنهم جعلوا لفقرهم ورثاثة حالهم منشأ للسخرية وقد يعدى السخر بالباء إلا أنه لغة رديئة ، والعطف على زين وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار ، وجوز أن تكون الواو للحال ويسخرون خبر لمحذوف أي وهم يسخرون ، والآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من رؤساء قريش بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا لاتبعه أشرافنا ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وقيل : نزلت في ابن سلول ، وقيل : في رؤساء اليهود ، ومن بني قريظة ، والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين وعن عطاء لا مانع من نزولها في جميعهم (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) هم الذين آمنوا بعينهم وآثر التعبير به مدحا لهم بالتقوى وإشعارا بعلة الحكم ، ويجوز أن يراد العموم ويدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا (فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) مكانا لأنهم في عليين وأولئك في أسفل السافلين ، أو مكانة لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل والمهانة ، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وإيثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها ، وفي ذلك من تسلية المؤمنين ما لا يخفى (وَاللهُ يَرْزُقُ) في الآخرة (مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بلا نهاية لما يعطيه ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : هذا الرزق في الدنيا ، وفيه إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير ، ويجوز أن يراد في الدارين فيكون تذييلا لكلا الحكمين (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) متفقين على التوحيد مقرين بالعبودية حين أخذ الله تعالى عليهم العهد ، وهو المروي عن أبيّ بن كعب ، أو بين آدم وإدريس عليهما‌السلام بناء على ما في روضة الأحباب أن الناس في زمان آدم كانوا موحدين متمسكين بدينه بحيث يصافحون الملائكة إلا قليل من قابيل ومتابعيه إلى زمن رفع إدريس ، أو بين آدم ونوح عليهما‌السلام على ما روى البزار وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان بينهما عشرة قرون على شريعة من الحق ، أو بعد الطوفان إذ لم يبق بعده سوى ثمانين رجلا وامرأة ثم ماتوا إلا نوحا وبنيه حام وسام ويافث وأزواجهم وكانوا كلهم على دين نوح عليه الصلاة والسلام فالاستغراق على الأول والأخير حقيقي ، وعلى الثاني والثالث ادعائي بجعل القليل في حكم العدم ، وقيل : متفقين على الجهالة والكفر بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا كفارا وذلك بعد رفع إدريس عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث نوح أو بعد موت نوح عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث هود عليه الصلاة والسلام (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) أي فاختلفوا فبعث إلخ وهي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، وإنما حذف تعويلا على ما يذكر عقبه (مُبَشِّرِينَ) من آمن بالثواب (وَمُنْذِرِينَ) من كفر بالعذاب وهم كثيرون ، فقد أخرج أحمد وابن حبان عن أبي ذر أنه سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كم الأنبياء؟ قال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قلت : يا رسول الله كم الرسل؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير» ولا يعارض هذا قوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) [النساء : ١٦٤] الآية لما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والجمعان منصوبان على الحال من النبيين ، والظاهر أنها حال مقدرة ، والقول بأنها حال مقارنة خلاف الظاهر.

(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) اللام للجنس ومعهم حال مقدرة من الكتاب فيتعلق بمحذوف ، وليس منصوبا بأنزل والمعنى أنزل جنس الكتاب مقدرا مقارنته ومصاحبته للنبيين حيث كان كل واحد منهم يأخذ الأحكام إما من كتاب

٤٩٥

يخصه أو من كتاب من قبله ، والكتب المنزلة مائة وأربعة في المشهور وأنزل على آدم عشر صحائف وعلى شيث ثلاثون وعلى إدريس خمسون وعلى موسى قبل التوراة عشرة والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وجوز كون اللام للعهد وضمير معهم للنبيين باعتبار البعض أي أنزل مع كل واحد من بعض النبيين كتابه ولا يخفى ما فيه من الركة (بِالْحَقِ) متعلق ب (أَنْزَلَ) أو حال من (الْكِتابَ) أي متلبسا شاهدا به (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) علة للإنزال المذكور أوله وللبعث ، وهذا البعث المعلل هو المتأخر عن الاختلاف فلا يضر تقدم بعثة آدم وشيث وإدريس عليهم الصلاة والسلام بناء على بعض الوجوه السابقة والحكم بمعنى الفصل بقرينة تعلق بين به ولو كان بمعنى القضاء لتعدى بعلى ؛ والضمير المستتر راجع إلى الله سبحانه ويؤيده قراءة الجحدري فيما رواه عنه مكي لنحكم بنون العظمة أو إلى النبي وأفرد الفعل لأن الحاكم كل واحد من النبيين ، وجوز رجوعه إلى الكتاب والإسناد حينئذ مجازي باعتبار تضمنه ما به الفصل ، وزعم بعضهم أنه الأظهر إذ لا بد في عوده إلى الله تعالى من تكلف في المعنى أي يظهر حكمه وإلى النبي من تكلف في اللفظ حيث لم يقل ليحكموا ، ومما ذكرنا يعلم ما فيه من الضعف ، والمراد من الناس المذكورون والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التعيين.

(فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في الحق الذي اختلفوا فيه بناء على أن وحدة الأمة بالاتفاق على الحق وإذا فسرت الوحدة بالاتفاق على الجهالة والكفر يكون الاختلاف مجازا عن الالتباس والاشتباه اللازم له والمعنى فيما التبس عليهم (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) أي في الحق بأن أنكروه وعاندوه أو في الكتاب المنزل متلبسا به بأن حرفوه وأولوه بتأويلات زائغة والواو حالية (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف وإزاحة الشقاق أي عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل مزيحا للاختلاف سببا لرسوخه واستحكامه ، وبهذا يندفع السؤال بأنه لما لم يكن الاختلاف إلا من الذين أوتوه ـ فالاختلاف لا يكون سابقا على البعثة ـ وحاصله أن المراد هاهنا استحكام الاختلاف واشتداده ، وعبر عن ـ الإنزال بالإيتاء ـ للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق فإن ـ الإنزال ـ لا يفيد ذلك ، وقيل : عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين ، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي رسخت في عقولهم الحجج الظاهرة الدالة على الحق ، و (مِنْ) متعلقة ب (اخْتَلَفُوا) محذوفا ، والحصر على تسليم أن يكون مقصودا مستفاد من المقام أو من حذف الفعل ، ووقوع الظرف بعد حرف الاستثناء لفظا ، أو من تقدير المحذوف مؤخرا ـ وفي الدر المصون تجويز تعلقه بما اختلف قبله ـ ولا يمنع منه إلا كما قاله أبو البقاء ، وللنحاة في هذا المقام كلام محصله أنّ استثناء شيئين بأداة واحدة بلا عطف غير جائز مطلقا عند الأكثرين ، لا على وجه البدل ولا غيره ـ ويجوز عند جماعة مطلقا ـ وفصل بعضهم إن كان المستثنى منه مذكورا مع كل من المستثنيين وهما بدلان جاز ـ وإلا فلا ـ واستدل من أجاز مطلقا بقوله تعالى : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) وأجاب من لم يجوّز بأن النصب بفعل مقدر أي «اتبعوا» وبأن الظرف يكفيه رائحة الفعل فيجوز فيه ما لا يجوز في غيره ـ قاله الرضيّ ـ وهو مبنى الاختلاف في الآية ، وقوله تعالى : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) متعلق بما تعلق به (مِنْ) و ـ البغي ـ الظلم أو الحسد ، و (بَيْنَهُمْ) متعلق بمحذوف صفة (بَغْياً) وفيه إشارة ـ على ما أرى ـ إلى أن هذا ـ البغي ـ قد باض وفرخ عندهم ، فهو يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم ، ولا ملجأ له سواهم ، وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيه ـ وهو فائدة التوصيف بالظرف ـ وقيل : أشار بذلك إلى أن البغي أمر مشترك بينهم وأنّ كلهم سفل ، ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها (فَهَدَى اللهُ

٤٩٦

الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) أي بأمره أو بتوفيقه وتيسيره ، و (مِنْ) بيان (لِمَا) والمراد للحق الذي اختلف الناس فيه ـ فالضمير عام شامل للمختلفين السابقين واللاحقين ـ وليس راجعا إلى الذين أوتوه كالضمائر السابقة ، والقرينة على ذلك عموم الهداية للمؤمنين السابقين على اختلاف أهل الكتاب واللاحقين بعد اختلافهم ، وقيل : المراد من (الَّذِينَ آمَنُوا) أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، والضمير في (اخْتَلَفُوا) للذين أوتوه أي الكتاب ، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : (اخْتَلَفُوا) في يوم الجمعة ، فأخذ اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد (فَهَدَى اللهُ) تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليوم الجمعة ، و (اخْتَلَفُوا) في القبلة ، فاستقبلت النصارى المشرق ، واليهود بيت المقدس وهدي الله تعالى أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للقبلة. و (اخْتَلَفُوا) في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك و (اخْتَلَفُوا) في الصيام ، فمنهم من يصوم النهار والليل ، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام ، فهدى الله أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك. و (اخْتَلَفُوا) في إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فقالت اليهود : كان يهوديا ، وقالت النصارى : كان نصرانيا ، وجعله الله تعالى : (حَنِيفاً مُسْلِماً) [آل عمران : ٦٧] فهدى الله تعالى أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك. (وَاخْتَلَفُوا) في عيسى عليه الصلاة والسلام ، فكذبت به اليهود وقالوا لأمّه بهتانا عظيما ، وجعلته النصارى إلها وولدا ، وجعله الله تعالى روحه وكلمته ، فهدى الله تعالى أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك وقراءة أبيّ بن كعب «فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ليكونوا شهداء على الناس».

(وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه ، والجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ

٤٩٧

وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٢٧)

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والخوف والبرد وسوء العيش وأنواع الأذى. حتى بلغت القلوب الحناجر ، وقيل : في غزوة أحد ، وقال عطاء : لما دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد الضر عليهم ، لأنهم خرجوا بغير مال وتركوا ديارهم وأموالهم بيد المشركين ، وآثروا رضا الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأسر قوم من الأغنياء النفاق فأنزل الله تطييبا لقلوبهم هذه الآية ، والخطاب إما للمؤمنين خاصة ، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولهم ، ونسبة ـ الحسبان ـ إليه عليه الصلاة والسلام إما لأنه لما كان يضيق صدره الشريف من شدائد المشركين نزل منزلة من يحسب أن يدخل الجنة بدون تحمل المكاره ، وإما على سبيل التغليب كما في قوله سبحانه : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨] و (أَمْ) منقطعة ـ والهمزة المقدّرة ـ لإنكار ذلك الحسبان وأنه لا ينبغي أن يكون ، وقيل : متصلة بتقدير معادل ، وقيل : منقطعة بدون تقدير ، وفي الكلام التفات إلا أنه غير صريح من الغيبة إلى الخطاب لأن قوله سبحانه : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) كلام مشتمل على ذكر الأمم السابقة والقرون الخالية ، وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد ، وإظهار المعجزات تشجيعا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين ، أو للمؤمنين خاصة ـ فكانوا من هذا الوجه مرادين غائبين ـ ويؤيده (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ فإذا قيل : بعد (أَمْ حَسِبْتُمْ) كان نقلا من الغيبة إلى الخطاب ، أو لأنّ الكلام الأول تعريض للمؤمنين بعدم التثبت والصبر على أذى المشركين ، فكأنه وضع موضع كان من حق المؤمنين

٤٩٨

التشجيع والصبر تأسيا بمن قبلهم ، كما يدل عليه ما أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والإمام أحمد عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لقينا من المشركين فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله تعالى لنا / فقال : «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فتخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه» ثم قال : «والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون» وهذا هو المضرب عنه ـ ببل ـ التي تضمنتها (أَمْ) أي دع ذلك ـ أحسبوا أن يدخلوا الجنة ـ فترك هذا إلى الخطاب وحصل الالتفات معنى ، ومما ذكر يعلم وجه ربط الآية بما قبلها ، وقيل : وجه ذلك أنه سبحانه لما قال : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وكان المراد بالصراط الحق الذي يفضي اتباعه إلى دخول الجنة بين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال الشدائد والتكليف (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) الواو للحال ، والجملة بعدها نصب على الحال أي غير آتيكم (وَلَمَّا) جازمة ـ كلم ـ وفرق بينهما في كتب النحو ، والمشهور أنها بسيطة ، وقيل : مركبة من ـ لم وما النافية ـ وهي نظيرة قد في أنّ الفعل المذكور بعدها منتظر الوقوع.

(مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي مثل مثلهم وحالهم العجيبة ، فالكلام على حذف مضاف ، و (الَّذِينَ) صفة لمحذوف أي المؤمنين ، و (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلق ب (خَلَوْا) وهو كالتأكيد لما يفهم منه.

(مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) بيان ـ للمثل ـ على الاستئناف سواء قدّر كيف ذلك المثل أو لا ، وجوّز أبو البقاء كونها حالية بتقدير قد (وَزُلْزِلُوا) أي أزعجوا إزعاجا شديدا بأنواع البلاء.

(حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي انتهى أمرهم من البلاء إلى حيث اضطروا إلى أن (يَقُولَ الرَّسُولُ) وهو أعلم الناس بما يليق به تعالى ، وما تقتضيه حكمته ، والمؤمنون المقتدون بآثاره ، المهتدون بأنواره (مَتى) يأتي (نَصْرُ اللهِ) طلبا وتمنيا له ، واستطالة لمدة الشدة ـ لا شكا وارتيابا ـ والمراد من (الرَّسُولُ) الجنس لا واحد بعينه ، وقيل : وهو اليسع ، وقيل : شعياء ، وقيل : أشعياء ، وعلى التعيين يكون المراد من (الَّذِينَ خَلَوْا) قوما بأعيانهم ـ وهم أتباع هؤلاء الرسل ـ وقرأ نافع (يَقُولَ) بالرفع على أنها حكاية حال ماضية و (مَعَهُ) يجوز أن يكون منصوبا ب (يَقُولَ) أي إنهم صاحبوه في هذا القول وأن يكون منصوبا ب (آمَنُوا) أي وافقوه في الإيمان (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) استئناف نحوي على تقدير القول أي فقيل لهم حينئذ ذلك تطييبا لأنفسهم بإسعافهم بمرامهم وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقق مضمونها وتقريره ما لا يخفى ، واختيار حكاية الوعد بالنصر لما أنها في حكم إنشاء الوعد للرسول والاقتصار على حكايتها دون حكاية النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخلف ، وقيل : لما كان السؤال ـ بمتى ـ يشير إلى استعلام القرب تضمن الجواب القرب واكتفى به ليكون الجواب طبق السؤال ، وجوز أن يكون هذا واردا من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا واردا عند وقوع المحكي ، والقول بأن هذه الجملة : مقول الرسول و (مَتى نَصْرُ اللهِ) تعالى مقول من معه على طريق اللف والنشر الغير المرتب ليس بشيء ، إما لفظا فلأنه لا يحسن تعاطف القائلين دون المقولين ، وإما معنى فلأنه لا يحسن ذكر قول الرسول (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) في الغاية التي قصد بها بيان تناهي الأمر في الشدة ، والقول ـ بأن ترك العطف للتنبيه على أن كلّا مقول لواحد منهما ، واحتراز عن توهم كون المجموع مقول واحد وتنبيه على أن الرسول قال لهم في جوابهم وبأن منصب الرسالة يستدعي تنزيه الرسول عن التزلزل ـ لا

٤٩٩

ينبغي أن يلتفت إليه لأنه إذا ترك العطف لا يكون معطوفا على القول الأول فكيف التنبيه على كون كل مقولا لواحد منهما ، ولا نأمن وراء منع كون منصب الرسالة يستدعي ذلك التنزيه وليس التزلزل والانزعاج أعظم من الخوف ، وقد عرى الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يصرح به كثير من الآيات ، وفي الآية رمز إلى أن الوصول إلى الجناب الأقدس لا يتيسر إلا برفض اللذات ومكابدة المشاق كما ينبئ عنه خبر «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» وأخرج الحاكم وصححه عن أبي مالك قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي نجاه الله تعالى من السيئات ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد افتتن» «ومن باب الإشارة في الآيات» (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يدعي المحبة ويتكلم في دقائق الأسرار ويظهر خصائص الأحوال وهو في مقام النفس الأمارة (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) من المعارف والإخلاص بزعمه (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) شديد الخصومة لأهل الله تعالى في نفس الأمر (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) بإلقاء الشبه على ضعفاء المريدين (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) ويحصد بمنجل تمويهاته زرع الإيمان النابت في رياض قلوب السالكين ويقطع نسل المرشدين (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) فكيف يدعي هذا الكاذب محبة الله تعالى ويرتكب ما لا يحبه (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) حملته الحمية النفسانية حمية الجاهلية على الإثم لجاجا وحبا لظهور نفسه وزعما منه أنه أعلم بالله سبحانه من ناصحه (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي يكفيه حبسه في سجين الطبيعة وظلماتها ، وهذه صفة أكثر أرباب الرسوم الذين حجبوا عن إدراك الحقائق بما معهم من العلوم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ) يبذل نفسه في سلوك سبيل الله طلبا لرضاه ولا يلتفت إلى القال والقيل ولا يغلو لديه في طلب مولاه جليل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) وتسليم الوجود لله تعالى والخمود تحت مجاري القدرة لكم وعليكم كافة فإن زللتم عن مقام التسليم والرضا بالقضاء من بعد ما جاءتكم دلائل تجليات الأفعال والصفات ، فاعلموا أن الله تعالى عزيز غالب يقهركم ، حكيم لا قهر إلا على مقتضى الحكمة ، هل ينظرون إلا أن يتجلى الله سبحانه في ظلل صفات قهرية من جملة تجليات الصفات وصور ملائكة القوى السماوية ، وقضي الأمر بوصول كل إلى ما سبق له في الأزل (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) بالفناء (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) على الفطرة ودين الحق في عالم الإجمال ثم اختلفوا في النشأة بحسب اختلاف طبائعهم وغلبة صفات نفوسهم واحتجاب كل بمادة بدنه (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) ليدعوهم من الخلاف إلى الوفاق ومن الكثرة إلى الوحدة ومن العداوة إلى المحبة فتفرقوا وتحزبوا عليهم وتميزوا ، فالسفليون ازدادوا خلافا وعنادا ؛ والعلويون هداهم الله تعالى إلى الحق وسلكوا الصراط المستقيم (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا) جنة المشاهدة ومجالس الأنس بنور المكاشفة (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) حال السالكين قبلكم مستهم بأساء الفقراء وضراء المجاهدة وكسر النفس بالعبادة حتى تضجروا من طول مدة الحجاب وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال وطلبوا نصر الله تعالى بالتجلي ، فأجيبوا : إذا بلغ السيل الزبى ، وقيل : لهم (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ) برفع الحجاب وظهور آثار الجمال (قَرِيبٌ) ممن بذل نفسه وصرف عن غير مولاه حسنه وتحمل المشاق وذبح الشهوات بسيف الأشواق :

ومن لم يمت في حبه لم يعش به

ودون اجتناء النحل ما جنت النحل

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح : «كان عمرو بن الجموح شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال : يا رسول الله بما ذا نتصدق وعلى من ننفق؟ فنزلت» وفي رواية عطاء عنه لا إنها نزلت في رجل أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن لي دينارا فقال : أنفقه على نفسك فقال : إن لي دينارين فقال :

٥٠٠