روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١٥٧)

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) أي الخفاف الأحلام أو المستمهنوها بالتقليد المحض ، والاعراض عن التدبر ، والمتبادر منهم ما يشمل سائر المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين ، واليهود ، والمشركين ، وروي عن السدي الاقتصار على الأول ، وعن ابن عباس الاقتصار على الثاني ، وعن الحسن الاقتصار على الثالث ، ولعل المراد بيان طائفة نزلت هذه

٤٠١

الآية في حقهم لا حمل الآية عليها لأن الجمع فيها محلى باللام ، وهو يفيد العموم فيدخل فيه الكل ، والتخصيص بالبعض لا يدعو إليه داع ، وتقديم الأخبار بالقول على الوقوع لتوطين النفس به فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما ، والعلم به قبل الوقوع أبعد من الاضطراب ، ولما أن فيها إعداد الجواب والجواب المعد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وفي المثل ـ قبل الرمي يراش السهم ـ وليكون الوقوع بعد الأخبار معجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : إن الوجه في التقديم هو التعليم والتنبيه على أن هذا القول أثر السفاهة فلا يبالي به ولا يتألم منه ويرد عليه ـ أن التعليم ـ والتنبيه المذكورين يحصلان بمجرد ذكر هذا السؤال ، والجواب ولو بعد الوقوع ، وقال القفال : إن الآية نزلت بعد تحويل القبلة ، وإن لفظ (سَيَقُولُ) مراد منه الماضي ، وهذا كما يقول الرجل إذا عمل عملا فطعن فيه بعض أعدائه : أنا أعلم أنهم سيطعنون في ـ كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فيذكرونه مرات أخرى ـ ويؤيد ذلك ما

رواه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال : لما قدم رسول صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل الله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) إلى آخر الآية فقال : (السُّفَهاءُ) وهم اليهود (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) إلى آخر الآية وفي رواية أبي إسحاق وعبيد بن حميد ، وأبي حاتم عنه زيادة فأنزل الله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) إلخ ، ومناسبة الآية لما قبلها أن الأولى قدح في الأصول ، وهذا في أمر متعلق بالفروع ، وإنما لم يعطف تنبيها على استقلال كل منهما في الشناعة.

(مِنَ النَّاسِ) في موضع نصب على الحال ، والمراد منهم الجنس ، وفائدة ذكره التنبيه على كمال سفاهتهم بالقياس إلى الجنس ، وقيل : الكفرة ، وفائدته بيان أن ذلك القول المحكي لم يصدر عن كل فرد فرد من تلك الطوائف بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في آسن الفساد ، والأول أولى كما لا يخفى (ما وَلَّاهُمْ) أي أي شيء صرفهم ، وأصله من الولي ، وهو حصول الثاني بعد الأول من غير فصل والاستفهام للإنكار (عَنْ قِبْلَتِهِمُ) يعني بيت المقدس وهي فعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة ، وأصلها الحالة التي كان عليها المقابل إلا أنها في العرف العام اسم للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة (الَّتِي كانُوا عَلَيْها) أي على استقبالها ، والموصول صفة القبلة ، وفي وصفها بذلك بعد إضافتها إلى ضمير المسلمين تأكيد للإنكار ومدار هذا الإنكار بالنسبة إلى اليهود زعمهم استحالة النسخ وكراهتهم مخالفته صلى الله تعالى عليه وسلم لهم في القبلة حتى أنهم قالوا له : ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك ، ولعلهم ما أرادوا بذلك إلا فتنته عليه الصلاة والسلام ، وبالنسبة إلى مشركي العرب القصد إلى الطعن في الدين وإظهار أن كلا التوجه إليها ، والانصراف عنها بغير داع إليه حتى أنهم كانوا يقولون : إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها وليرجعن إلى دينهم أيضا وبالنسبة إلى المنافقين مختلف باختلاف أصولهم فإن فيهم اليهود وغيرهم ، واختلف الناس في مدة بقائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستقبلا بيت المقدس ، ففي رواية البخاري ما علمت ، وفي رواية مالك بن أنس تسعة أشهر أو عشرة أشهر ، وعن معاذ ثلاثة عشر شهرا ، وعن الصادق سبعة أشهر ، وهل استقبل غيره قبل بمكة أم لا؟ قولان أشهرهما الثاني وهو المروي أيضا عن الصادق رضي الله تعالى عنه.

(قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي جميع الأمكنة والجهات مملوكة له تعالى مستوية بالنسبة إليه عز شأنه لا اختصاص لشيء منها به جل وعلا إنما العبرة لامتثال أمره فله أن يكلف عباده باستقبال أي مكان وأي جهة شاء (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي طريق مستو وهو ما تقتضيه الحكمة من التوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى ، والجملة بدل اشتمال مما تقدم وهو إشارة إلى مصحح التولية وهذا إلى مرجحها كأنه قيل : إن التولية المذكورة هداية يخص الله تعالى بها من يشاء ويختار من عباده وقد خصنا بها فله الحمد.

٤٠٢

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) اعتراض بين كلامين متصلين وقعا خطابا له صلى الله تعالى عليه وسلم استطرادا لمدح المؤمنين بوجه آخر أو تأكيدا لرد الإنكار بأن هذه الأمة وأهل هذه الملة شهداء عليكم يوم الجزاء وشهاداتهم مقبولة عندكم فأنتم إذا أحق باتباعهم والاقتداء بهم فلا وجه لإنكاركم عليهم ، وذلك إشارة إلى الجعل المدلول عليه ـ بجعلناكم ـ وجيء بما يدل على البعد تفخيما. والكاف مقحم للمبالغة وهو إقحام مطرد ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، وأصل التقدير ـ جعلناكم أمة وسطا ـ جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر ، وأقحمت الكاف فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك الجعل البديع جعلناكم لا جعلا آخر أدنى منه كذا قالوا ، وقد ذكرنا قبل أن (كَذلِكَ) كثيرا ما يقصد بها تثبيت ما بعدها وذلك لأن وجه الشبه يكون كثيرا في النوعية والجنسية كقولك ـ هذا الثوب كهذا الثوب ـ في كونه خزا أو بزا ، وهذا التشبيه يستلزم وجود مثله وثبوته في ضمن النوع فأريد به على طريق الكناية مجرد الثبوت لما بعده ، ولما كانت الجملة تدل على الثبوت كان معناها موجودا بدونها وهي مؤكدة له فكانت كالكلمة الزائدة ، وهذا معنى قولهم : إن الكاف مقحمة لا أنها زائدة كما يوهمه كلامهم ، وأما استفادة كون ما بعدها عجيبا فليس إلا لأن ما ليس كذلك لا يحتاج لبيان فلما اهتم بإثباته في الكلام البليغ علم أنه أمر غريب ، أو لحمل البعد المفهوم من ذلك على البعد الرتبي ، ومن الناس من جعل (كَذلِكَ) للتشبيه ـ بجعل ـ مفهوم من الكلام السابق أي مثل ما جعلناكم مهديين ، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل ـ جعلناكم أمة وسطا ـ ويرد على ذلك أن المحل المشبه به غير مختص بهذه الأمة لأن مؤمني الأمم السابقة كانوا أيضا مهتدين إلى صراط مستقيم ، وكانت قبلة بعضهم أفضل القبل أيضا ، والجعل المشبه مختص بهم فلا يحسن التشبيه على أنه لا يفهم من السابق سوى أن التوجه إلى كل واحد القبلتين في وقته ـ صراط مستقيم والأمر به في ذلك الوقت هداية ولا يفهم منه أن قبلتهم أفضل القبل ، والناسخ لا يلزم أن يكون خيرا من المنسوخ اللهم إلا أن يكون مراد القائل ـ كما جعلنا قبلتكم الكعبة التي هي أفضل القبل في الواقع جعلنا ـ إلا أنه على ما فيه لا يحسم الإيراد كما لا يخفى. ومعنى (وَسَطاً) خيارا أو عدولا وهو في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه ـ كالمركز ـ ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكونها أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط كالجود بين الإسراف ، والبخل والشجاعة بين الجبن والتهور ، والحكمة بين الجربزة والبلادة ، ثم أطلق على المتصف بها إطلاق الحال على المحل واستوى فيه الواحد وغيره لأنه بحسب الأصل جامد لا تعتبر مطابقته ، وقد يراعى فيه ذلك وليس هذا الإطلاق مطردا كما يظن من قولهم : خير الأمور الوسط إذ يعارضه قولهم ـ على الذم أثقل من مغن وسط ـ لأنه كما قال الجاحظ يختم على القلب ويأخذ بالأنفاس وليس بجيد فيطرب ولا برديء فيضحك ، وقولهم : أخو الدون الوسط بل هو وصف مدح في مقامين في النسب لأن أوسط القبيلة أعرقها وصميمها ، وفي الشهادة كما هنا لأنه العدالة التي هي كمال القوة العقلية والشهوية والغضبية أعني استعمالها فيما ينبغي على ما ينبغي ، ولما كان علم العباد لم يحط إلا بالظاهر أقام الفقهاء الاجتناب عن الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر مقام ذلك ـ وسموه عدالة ـ في إحياء الحقوق فليحفظ ، وشاع عن أبي منصور الاستدلال بالآية ـ على أن الإجماع حجة إذ لو كان ما اتفقت عليه الأمة باطلا لانثلمت به عدالتهم وهو مع بنائه على تفسير الوسط بالعدول وللخصم أن يفسره بالخيار فلا يتم إذ كونهم خيارا لا يقتضي خيريتهم في جميع الأمور فلا ينافي اتفاقهم على الخطأ ـ لا يخلو عن شيء ، أما أولا فلأن العدالة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد إذ لا فسق فيه كيف والمجتهد المخطئ مأجور ، وأما ثانيا فلأن المراد كونهم (وَسَطاً) بالنسبة إلى سائر الأمم ، وأما ثالثا فلأنه لا معنى لعدالة المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل واحد ، وأما رابعا فلأنه لا يلزم أن يكونوا عدولا في جميع الأوقات بل وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة ، وأما خامسا فلأن قصارى ما تدل عليه بعد

٤٠٣

اللتيا والتي حجية إجماع كل الأمة أو كل أهل الحل والعقد منهم وذا متعذر ، ولا تدل على حجية إجماع مجتهدي كل عصر والمستدل بصدد ذلك ، وأجيب عن الأول ، والثاني بأن العدالة بالمعنى المراد تقتضي العصمة في الاعتقاد والقول والفعل وإلا لما حصل التوسط بين الإفراط والتفريط وبأنه عبارة عن حالة متشابهة حاصلة عن امتزاج الأوساط من القوى التي ذكرناها فلا يكون أمرا نسبيا ، وعن الثالث بأن المراد أن فيهم من يوجد على هذه الصفة ، فإذا كنا لا نعرفهم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماعهم كيلا يخرج من يوجد على هذه الصفة ـ لكن يدخل المعتبرون في اجتماعهم ـ ومتى دخلوا وحصل الخطأ انثلمت عدالة المجموع.

وعن الرابع بأن (جَعَلْناكُمْ) يقتضي تحقق العدالة بالفعل ، واستعمال الماضي بمعنى المضارع خلاف الظاهر. وعن الخامس بأن الخطاب للحاضرين ـ أعني الصحابة كما هو أصله ـ فيدل على حجية الإجماع في الجملة ، وأنت تعلم أن هذا الجواب الأخير لا يشفي عليلا ، ولا يروي غليلا ، لأنه بعيد بمراحل عن مقصود المستدل ، على أن من نظر بعين الإنصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم ، وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها ، نعم ذهب بعض الشيعة إلى أن الآية خاصة بالأئمة الاثني عشر ، ورووا عن الباقر أنه قال : نحن الأمة الوسط ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحجته في أرضه ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه : نحن الذين قال الله تعالى فيهم : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) وقالوا : قول كل واحد من أولئك حجة فضلا عن إجماعهم ، وأن الأرض لا تخلو عن واحد منهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها ، ولا يخفى أن دون إثبات ما قالوه خرط القتاد (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي سائر الأمم يوم القيامة بأن الله تعالى قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وهو غاية ـ للجعل ـ المذكور مترتبة عليه. أخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا؟ فيقولون : لا ، فيقال له : هل بلغت قومك؟ فيقول : نعم ، فيقال له : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته ، فيدعى محمد وأمته فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون : نعم. فيقال : وما علمكم؟ فيقولون : جاءنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) وفي رواية «فيؤتى بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم» وذلك قوله عزوجل : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وكلمة الاستعلاء لما في ـ الشهيد ـ من معنى الرقيب ، أو لمشاكلة ما قبله ، وأخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الثاني اختصاصهم ـ بكون الرسول شهيدا عليهم ـ وقيل : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصلح إلا بشهادة العدول الأخيار (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ويزكيكم ويعلم بعدالتكم ، والآثار لا تساعد ذلك على ما فيه (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) وهي صخرة بيت المقدس ، بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قبلته صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة كانت بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة ـ بل يجعلها بينه وبينه ـ و (الَّتِي) مفعول ثان ـ لجعل ـ لا صفة (الْقِبْلَةَ) والمفعول الثاني محذوف أي (الْقِبْلَةَ) كما قيل. وقال أبو حيان : إن ـ الجعل ـ تحويل الشيء من حالة إلى أخرى ، فالمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني ، كما في ـ جعلت الطين خزفا ـ فينبغي أن يكون المفعول الأول هو الموصول ، والثاني هو (الْقِبْلَةَ) وهو المنساق إلى الذهن بالنظر الجليل ، ولكن التأمل الدقيق يهدي إلى ما ذكرنا لأن (الْقِبْلَةَ) عبارة عن الجهة التي تستقبل للصلاة ـ وهو كلي ـ والجهة التي كنت عليها جزئي من جزئياتها ، ـ فالجعل ـ المذكور من باب تصيير الكلي جزئيا ، ولا شك أن الكلي يصير جزئيا ـ كالحيوان يصير إنسانا ـ دون العكس ،

٤٠٤

والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ـ كما هو الآن ـ (وَما جَعَلْنَا) قبلتك بيت المقدس لشيء من الأشياء (إِلَّا لِنَعْلَمَ) أي في ذلك الزمان (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) أي يتبعك في الصلاة إليها ، والالتفات إلى الغيبة مع إيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة للإشارة إلى علة الاتباع.

(مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) أي يرتد عن دين الإسلام فلا يتبعك فيها ألفا لقبلة آبائه ، و (مَنْ) هذه للفصل كالتي في قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠] والكلام من باب الاستعارة التمثيلية بجامع أن المنقلب يترك ما في يديه ويدبر عنه على أسوأ أحوال الرجوع ، وكذلك المرتد يرجع عن الإسلام ويترك ما في يديه من الدلائل على أسوأ حال. و «نعلم» حكاية حال ماضية ، و (يَتَّبِعُ) و (يَنْقَلِبُ) بمعنى الحدوث ـ والجعل ـ مجاز باعتبار أنه كان الأصل استقبال الكعبة أو المعنى (ما جعلنا) قبلتك بيت المقدس (إِلَّا لِنَعْلَمَ) الآن بعد التحويل إلى الكعبة من يتبعك حينئذ (مِمَّنْ) لا يتبعك كبعض أهل الكتاب ارتدوا لما تحولت (الْقِبْلَةَ) فنعلم على حقيقة الحال. والحاصل أن ما فعلناه كان لأمر عارض ـ وهو امتحان الناس ـ إما في وقت ـ الجعل ـ أو في وقت التحويل ، وما كان لعارض يزول بزواله ، وقيل : المراد ب (الْقِبْلَةَ) الكعبة بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي إليها بمكة ، والمعنى ما رددناك (إِلَّا لِنَعْلَمَ) الثابت الذي لا يزيغه شبهة ولا يعتريه اضطراب ممن يرتد بقلقلة واضطراب بسبب التحويل بأنه إن كان الأول حقا فلا وجه للتحويل عنه ، وإن كان الثاني فلا معنى للأمر بالأول ـ والجعل ـ على هذا حقيقة ، و (يَتَّبِعُ) للاستمرار بقرينة مقابله ، ويضعف هذا القول أنه يستلزم دعوى نسخ (الْقِبْلَةَ) مرتين ، واستشكلت الآية بأنها تشعر بحدوث ـ العلم ـ في المستقبل ـ وهو تعالى لم يزل عالما ـ وأجيب بوجوه «الأول» أن ذلك على سبيل التمثيل ، أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم «الثاني» أن المراد ـ العلم ـ الحالي الذي يدور عليه ـ فلك الجزاء ـ أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل ، فالعلم مقيد بالحادث ، والحدوث راجع إلى القيد «الثالث» أن المراد ليعلم الرسول والمؤمنون ، وتجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك إليه تنبيها على كرامة القرب والاختصاص فهو كقول الملك : فتحنا البلد ، وإنما فتحها جنده «الرابع» أنه ضمن العلم معنى التمييز أو أريد به التمييز في الخارج ، وتجوز بإطلاق اسم السبب على المسبب ، ويؤيده تعديه ب (مَنْ) كالتمييز ـ وبه فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ ويشهد له قراءة «ليعلم» على البناء للمفعول حيث إن المراد ليعلم كل من يأتي منه ـ العلم ـ وظاهر أنه فرع تمييز الله وتفريقه بينهما في الخارج بحيث لا يخفى على أحد «الخامس» أن المراد به الجزاء ، أي لنجازي الطائع والعاصي ، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن بالعلم «السادس» أن «نعلم» للمتكلم مع الغير ، فالمراد ليشترك ـ العلم ـ بيني وبين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين ، ويرد على هذا أن مخالفته مع جعلنا آب عنه ، مع أن تشريك الله تعالى مع غيره في ضمير واحد غير مناسب ، ثم العلم إن كان مجازا عن التمييز ـ فمن ، وممن ـ مفعولاه بواسطة وبلا واسطة ، وإن كان حقيقة فإمّا أن يكون من الإدراك المعدى إلى مفعول واحد ـ فمن ـ موصولة في موضع نصب به ، و (مِمَّنْ) حال أي متميزا (مِمَّنْ) أو من ـ العلم ـ المعدى إلى مفعولين ف (مَنْ) استفهامية في موضع المبتدأ ، و (يَتَّبِعُ) في موضع الخبر ، والجملة في موضع المفعولين (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) حال من فاعل (يَتَّبِعُ) وبهذا يندفع قول أبي البقاء : إنه لا يجوز أن تكون (مَنْ) استفهامية لأنه لا يبقى لقوله تعالى : (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) متعلق لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده ، ولا معنى لتعلقه ب (يَتَّبِعُ) والكلام دال على هذا التقدير ـ فلا يرد أنه لا قرينة عليه ـ ثم إن جملة (وَما جَعَلْنَا) إلخ ، معطوفة كالجملتين التاليتين لها على مجموع السؤال والجواب بيان لحكمة التحويل ، وقيل : معطوفة على (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ويحتاج إلى أن يقال حينئذ : إنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بأداء مضمون

٤٠٥

هذا الكلام بألفاظه إذ لا يصح ضمير المتكلم في كلامه عليه الصلاة والسلام ، وفيه بعد ما كما لا يخفى (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) أي شاقة ثقيلة ، والضمير لما دل عليه قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا) إلخ من الجعلة ، أو التولية ، أو الردة ، أو التحويلة ، أو الصيرورة ، أو المتابعة ، أو القبلة ، وفائدة اعتبار التأنيث ـ على بعض الوجوه ـ الدلالة على أن هذا الرد والتحويل بوقوعه مرة واحدة ، واختصاصه بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت ثقيلة عليهم حيث لم يعهدوه سابقا ، والقول بأن تأنيث «كبيرة» يجعله صفة حادثة ، وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر فيرجع إلى ـ الجعل ـ أو الرد أو التحويل بدون تكلف تكلف عريّ عن الفائدة (وَإِنْ) هي المخففة من الثقيلة المفيدة لتأكيد الحكم ألغيت عن العمل فيما بعدها بتوسط «كان» ـ واللام ـ هي الفاصلة بين المخففة والنافية وزعم الكوفيون أن (إِنْ) هي النافية ـ واللام ـ بمعنى إلا ، وقال البصريون : لو كان كذلك لجاز أن يقال : جاء القوم لزيدا على معنى إلا زيدا ـ وليس فليس ـ وقرئ (لَكَبِيرَةً) بالرفع ففي «كان» ضمير القصة ، و «كبيرة» خبر مبتدأ محذوف ، أي لهي «كبيرة» والجملة خبر «كان» وقيل : إن كانت زائدة كما في قوله : * وإخوان لنا كانوا كرام* واعترض بأنه إن أريد أن «كان» مع اسمها زائدة كانت «كبيرة» بلا مبتدأ (وَإِنْ) المخففة بلا جملة ، ومثله خارج عن القياس ، وإن أريد أن «كان» وحدها كذلك والضمير باق على الرفع بالابتداء ـ فلا وجه لاتصاله واستتاره ـ وأجيب بأنه لما وقع بعد «كان» وكان من جهة المعنى في موقع اسم «كان» جعل مستترا تشبيها بالاسم ، وإن كان مبتدأ تحقيقا ، ولا يخفى أنه من التكلف غايته ، ومن التعسف نهايته (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أي إلى سر الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا أو تفصيلا ، والمراد بهم (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) من الثابتين على الإيمان الغير المتزلزلين المنقلبين على أعقابهم.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي صلاتكم إلى القبلة المنسوخة ، ففي الصحيح أنه لما وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى القبلة قالوا : يا رسول الله ، فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ، فنزلت ، فالإيمان مجاز من إطلاق اللازم على ملزومه ، والمقام قرينة وهو التفسير المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره من أئمة الدين ـ فلا معنى لتضعيفه كما يحكيه صنيع بعضهم ـ وقيل : المراد ثباتكم على الإيمان أو إيمانكم بالقبلة المنسوخة ـ واللام ـ في (لِيُضِيعَ) متعلقة بخبر (كانَ) المحذوف ـ كما هو رأي البصريين ـ وانتصاب الفعل بعدها بأن مضمرة أي ما كان مريدا ـ لأن يضيع ـ وفي توجيه النفي إلى إرادة الفعل مبالغة ليست في توجيهه إليه نفسه ، وقال الكوفيون : اللام زائدة وهي الناصبة للفعل ، و (لِيُضِيعَ) هو الخبر ، ولا يقدح في عملها زيادتها كما لا تقدح زيادة حروف الجر في العمل ، وبهذا يندفع استبعاد أبي البقاء خبرية (لِيُضِيعَ) بأن ـ اللام لام الجر ـ (وَإِنْ) بعدها مرادة فيصير التقدير ما كان الله إضاعة إيمانكم ـ فيحوج للتأويل ـ لكن أنت تعلم أن هذا الذي ذهب إليه الكوفيون بعيد من جهة أخرى لا تخفى.

(إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) تذييل لجميع ما تقدم ، فإن اتصافه تعالى بهذين الوصفين يقتضي لا محالة أن الله لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم ـ والباء ـ متعلقة ب (لَرَؤُفٌ) وقدم على (رَحِيمٌ) لأن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة ، وهي رفع المكروه وإزالة الضرر كما يشير إليه قوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما ـ والرحمة ـ أعم منه ، ومن الإفضال ودفع الضرر أهم من جلب النفع ، وقول القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله : لعل تقديم ـ الرءوف ـ مع أنه أبلغ ـ محافظة على الفواصل ـ ليس بشيء لأن فواصل القرآن لا يلاحظ فيها الحرف الأخير كالسجع ـ فالمراعاة حاصلة على كل حال ـ ولأن الرحمة حيث وردت في القرآن قدمت ولو في غير الفواصل كما في قوله تعالى : (رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) [الحديد : ٢٧] في

٤٠٦

وسط الآية ، وكلام الجوهري في هذا الموضع خزف لا يعول عليه ، وقول عصام : ـ إنه لا يبعد أن يقال : ـ الرءوف ـ إشارة إلى المبالغة في رحمته لخواص عباده ـ والرحيم ـ إشارة إلى الرحمة لمن دونهم فرتبا على حسب ترتيبهم ، فقدم ـ الرءوف ـ لتقدم متعلقه شرفا وقدرا ـ لا شرف ولا قدر ، بل ولا عصام له لأنه تخصيص لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا استعمال وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص «لرءوف» بالمد ، والباقون بغير مد كندس.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) أي كثيرا ما نرى تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء متشوفا للوحي ، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقع في قلبه ، ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لما أن اليهود كانوا يقولون : يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا ، ولما أنها قبلة أبيه إبراهيم عليه‌السلام ، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان ، والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسأل ذلك من ربه بل كان ينتظر فقط إذ لو وقع السؤال لكان الظاهر ذكره ، ففي ذلك دلالة على كمال أدبه صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقال قتادة والسدي وغيرهما : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى الكعبة ، فعلى هذا يكون السؤال واقعا منه عليه الصلاة والسلام ، ولم يذكر لأن (تَقَلُّبَ) الوجه نحو السماء التي هي قبلة الدعاء يشير إليه في الجملة ، ولعل ذلك بعد حصول الإذن له بالدعاء لما أن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إليه فيكون فتنة لقومهم ، ويؤيد ذلك ما في بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استأذن جبريل أن يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله تعالى قد أذن له بالدعاء كذا يفهم من كلامهم ، والذي أراه أنه لا مانع من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم وسؤاله التحويل لمصلحة ألهمها ومنفعة دينية فهمها ، ولا يتوقف ذلك على الاستئذان ، ولا الإذن الصريحين لأن من نال قرب النوافل مستغن عن ذلك فكيف من حصل له مقام قرب الفرائض حتى غدا سيد أهله ، ومن علم مرتبة الحبيب عد جميع ما يصدر منه في غاية الكمال مع مراعاة نهاية الأدب ، وأما معاتبته صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض ما صدر فليس لنقص فيه ولا لإخلال بالأدب عند فعله حاشاه ثم حاشاه ، ولكن الأسرار خفية ، وحكم ربانية علمها من علمها وجهلها من جهلها ، بقي هل دعا صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الحادثة صريحا أم لا؟ الظاهر الثاني بناء على ما صح عندنا من ظواهر الأخبار حيث لم يكن فيها سوى حب التحويل ، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن البراء قال : صلينا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ، ثم علم الله تعالى هوى نبيه عليه الصلاة والسلام فنزلت (قَدْ نَرى) الآية ، وليس في الآية ما يدل صريحا على أحد الأمرين ، وأما الإشارة فقد تصلح لهذا وهذا كما لا يخفى ، وهذا ومن الناس من جعل (قَدْ) هنا للتقليل زعما منه أن وقوع التقلب قليلا أدل على كمال أدبه صلى الله تعالى عليه وسلم ، واعترض بأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة لا يقال له : قلب بصره إلى السماء ، وإنما يقال : قلب إذا داوم فالكثرة تفهم من الآية لا محالة ـ لأن التقلب ـ الذي هو مطاوع التقليب يدل عليها ، وهل التكثير معنى مجازي ـ لقد ـ أو حقيقي؟ قولان نسب ثانيهما إلى سيبويه ، وهذه الكثرة أو القلة هنا منصرفة إلى التقلب ، وذكر بعض النحاة أن «قد» تقلب المضارع ماضيا ، ومنه ما هنا ، وقوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) [النور : ٦٤] (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ) [الحجر : ٩٧] إلى غير ذلك (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) أي لنمكننك من استقبالها من قولك : وليته كذا إذا جعلته واليا له أو فلنجعلنك تلي جهتها دون جهة بيت المقدس من وليه دنا منه ووليته إياه أدنيته منه ، والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها ، وهي في الحقيقة داخلة على قسم محذوف تدل عليه اللام ، وجاء هذا الوعد على إضمار القسم مبالغة في وقوعه لأنه يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها ، وجاء قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ثم بإنجاز الوعد فيتوالى السرور مرتين ، ـ ونولي ـ

٤٠٧

يتعدى لاثنين الكاف الأول وقبلة الثاني ، وقوله تعالى : (تَرْضاها) أي تحبها وتميل إليها للأغراض الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته في موضع نصب صفة ـ لقبلة. ، ونكرها لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة فتعرف باللام ، وليس في اللفظ ما يدل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يطلب قبلة معينة (فَوَلِّ وَجْهَكَ) الفاء لتفريع الأمر على الوعد وتخصيص التولية بالوجه لما أنه مدار التوجه ومعياره ، وقيل : المراد به جميع البدن وكني بذلك عنه لأنه أشرف الأعضاء وبه يتميز بعض الناس عن بعض ، أو مراعاة لما قبل والتولية إذا كانت متعدية بنفسها إلى تمام المفعولين كانت مستعملة بأحد المعنيين المتقدمين ، وإذا كانت متعدية إلى واحد فمعناها الصرف إما عن الشيء أو إلى الشيء على اختلاف صلتها الداخلة على المفعول الثاني ، وهي هنا بهذا المعنى ـ فوجهك ـ مفعول أول وقوله تعالى : (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي نحوه كما روي عن ابن عباس ، أو قبله كما روي عن علي كرم الله وجهه ، أو تلقاءه كما روي عن قتادة ظرف مكان مبهم كمفسره منصوب على الظرفية أغنى غناء إلى فإن مؤدى ـ ولّ وجهك ـ نحو أو قبل أو تلقاء المسجد ـ وولّ وجهك إلى المسجد ـ واحد وإنما لم يجعل الأمر من المتعدية إلى مفعولين بأن يكون (شَطْرَ) مفعوله الثاني ـ كما قيل به ـ لأن ترتبه بالفاء وكونه إيجازا للوعد بأن الله تعالى يجعل مستقبل القبلة أو قريبا من جهتها بأن يؤمر بالصلاة إليها يناسبه أن يكون مأمورا بصرف الوجه إليها لا بأن يجعل نفسه مستقبلا لها أو قريبا من جهتها فإن المناسب لهذا فلنأمرنك بأن تولي ولأنه يلزم حينئذ أن يكون الواجب رعاية سمت الجهة لأن المسجد الحرام جهة القبلة فإذا كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مأمورا بجعل نفسه مستقبل جهة المسجد أو قريبا منها كان مأمورا باستقبال جهة الجهة أو بقرب جهة الجهة بخلاف ما إذا جعل من التولية بمعنى الصرف ، و ـ شطر ـ ظرفا فإنه يصير المعنى اصرف وجهك نحو المسجد الحرام وتلقاءه الذي هو جهة القبلة فيكون مأمورا بمسامتة الجهة وإصابته ـ قاله بعض المحققين ـ وقيل : الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصل فيكون بمعنى بعض الشيء ويتعين حينئذ جعله مفعولا ثانيا ـ وفيه أنه ـ وإن لم يلزم حينئذ وجوب رعاية جهة الجهة لكن عدم مناسبته بإنجاز الوعد باق ، والقول ـ بأن الشطر هنا بمعنى النصف ـ مما لا يكاد يصح ، و ـ الحرام ـ المحرم أي محرم فيه القتال ، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوا ، وفي ذكر المسجد الحرام الذي هو محيط بالكعبة دون الكعبة مع أنها القبلة التي دلت عليها الأحاديث الصحاح إشارة إلى أنه يكفي للبعيد محاذاة جهة القبلة وإن لم يصب عينها وهذه الفائدة لا تحصل من لفظ الشطر ـ كما قاله جمع ـ لأنه لو قيل : فولّ وجهك شطر الكعبة لكان المعنى اجعل صرف الوجه في مكان يكون مسامتا ومحاذيا للكعبة ـ وهذا هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. وأحمد وقول أكثر الخراسانيين من الشافعية ـ ورجحه حجة الإسلام في الاحياء إلا أنهم قالوا : يجب أن يكون قصد المتوجه إلى الجهة العين التي في تلك الجهة لتكون القبلة عين الكعبة ، وقال العراقيون والقفال منهم : يجب إصابة العين ، وقال الإمام مالك : إن الكعبة قبلة أهل المسجد ، والمسجد قبلة مكة ، وهي قبلة الحرم ، وهو قبلة الدنيا ، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا ما يدل عليه ، وهذا الخلاف في غير من يكون شاهدا أما هو فيجب عليه إصابة العين بالإجماع ، ولم يقيد سبحانه وتعالى التولية في الصلاة لأن المطلوب لم يكن سوى ذلك فأغنى عن الذكر ، وقيل : لأن الآية نزلت ، وهو صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة فأغنى التلبس بها عن ذكرها ، واستدل هذا القائل بما ذكره القاضي تبعا لغيره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين ، وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ـ فسمي المسجد مسجد القبلتين ـ وهذا ـ كما قال الإمام السيوطي ـ تحريف للحديث ، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

٤٠٨

إماما ولا هو الذي تحول في الصلاة ، فقد أخرج النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنا نغدو إلى المسجد فمررنا يوما ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت : حدث أمر ، فجلست فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) الآية ، فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنكون أول من صلى ، فصليناهما ، ثم نزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ. وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس ، فلما نزلت هذه الآية مرّ رجل ببني سلمة فناداهم وهم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس ، ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة ، فما ذكر مخالف للروايات الصحيحة الثابتة عند أهل هذا الشأن فلا يعول عليه. وقرأ أبي «تلقاء المسجد الحرام» وهي تؤيد القول الأول في (شَطْرَ) كما لا يخفى (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) عطف على (فَوَلِّ وَجْهَكَ) ومن تتمة إنجاز الوعد ـ والفاء ـ جواب الشرط لأن (حَيْثُ) إذا لحقه (ما) الكافة عن الإضافة يكون من كلم المجازاة ، والفراء لا يشترط ذلك فيها ، و (كان) تامة ـ أي في أي موضع وجدتم ـ وأصل ولوا وليوا فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذف أولهما وضم ما قبل الياء للمناسبة ـ فوزنه فعوا ـ وهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من السابق اعتناء به إذ الخطاب الوارد في شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عام حكمه ما لم يظهر اختصاصه به عليه الصلاة والسلام ، وفائدة تعميم الأمكنة ـ على ما ذهب إليه البعض ـ دفع توهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة ، وقيل : لما كان الصرف عن الكعبة لاستجلاب قلوب اليهود وكان مظنة أن لا يتوجه إليها في حضورهم أشار إلى تعميم التولية جميع الأمكنة أو يقال : صرح بأن التولية جهة الكعبة فرض مع حضور بيت المقدس ، ولأهله أيضا لئلا يظن أن حضور بيت المقدس يمنع التوجه إلى جهة الكعبة مع غيبتها فليفهم. وقرأ عبد الله «فولوا وجوهكم قبله».

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي من اليهود (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي التحويل أو التوجه المفهوم من التولية (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لا غيره لعلمهم بأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم لا يأمر بالباطل إذ هو النبي المبشر به في كتبهم وتحققهم أنه لا يتجاوز كل شريعة عن قبلتها إلى قبلة شريعة أخرى ، وأما اشتراك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإبراهيم عليه‌السلام في هذه القبلة فلاشتراكهما في الشريعة على ما ينبئ عنه قوله تعالى : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [البقرة : ١٣٥] ، ووقوفهم على ما تضمنته كتبهم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إلى القبلتين ، والجملة عطف على (قَدْ نَرى) بجامع أن السابقة مسوقة لبيان أصل التحويل وهذه لبيان حقيته قيل : أو اعتراضية لتأكيد أمر القبلة (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) اعتراض بين الكلامين جيء به للوعد والوعيد للفريقين من أهل الكتاب الداخلين تحت العموم السابق المشار إليهما فيما سيجيء قريبا إن شاء الله تعالى وهما من كتم ومن لم يكتم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تعملون بالتاء فهو وعد للمؤمنين ، وقيل : على قراءة الخطاب وعد لهم ، وقراءة الغيبة وعيد لأهل الكتاب مطلقا وقيل : الضمير على القراءتين لجميع الناس فيكون وعدا ووعيدا لفريقين من المؤمنين والكافرين.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) عطف على (وَإِنَّ الَّذِينَ) بجامع أن كلا منهما مؤكد لأمر القبلة ومبين لحقيته والمراد من الموصول الكفار من أولئك بدليل الجواب ولذا وضع المظهر موضع المضمر ومن خص ما تقدم بالكفار جعل هذا الوضع للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما ينافيه من الكتاب الصادح بحقية ما كابروا في قبوله (بِكُلِّ آيَةٍ) وحجة قطعية دالة على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق واللام موطئة لقسم محذوف (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) جواب القسم ساد مسد جواب الشرط لا جواب الشرط ، لما تقرر أن الجواب إذا كان القسم مقدما

٤٠٩

للقسم لا للشرط إن لم يكن مانع فكيف إذا كان كترك الفاء هاهنا فإنها لازمة في الماضي المنفي إذا وقع جزاء وهذا تسلية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قبولهم الحق ، والمعنى أنهم ما تركوا (قِبْلَتَكَ) لشبهة تدفعها بحجة وإنما خالفوك لمحض العناد وبحت المكابرة ، وليس المراد من التعليق بالشرط الإخبار عن عدم متابعتهم على أبلغ وجه وآكده بأن يكون المعنى أنهم لا يتبعونك أصلا ـ وإن أتيت بكل ـ حجة فاندفع ما قيل : كيف حكم بأنهم لا يتبعون وقد آمن منهم فريق واستغنى عن القول بأن ذلك في قوم مخصوصين أو حكم على الكل دون الأبعاض فإنه تكلف مستغنى عنه وإضافة القبلة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الله تعالى تعبده باستقبالها (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) أي لا يكون ذلك منك ومحال أن يكون فالجملة خبرية لفظا ومعنى سيقت لتأكيد حقية أمر القبلة كل التأكيد وقطع تمني أهل الكتاب فإنهم قالوا : يا محمد عد إلى قبلتنا ونؤمن بك ونتبعك مخادعة منهم لعنهم الله تعالى ، وفيها إشارة إلى أن هذه القبلة لا تصير منسوخة أبدا ، وقيل : إنها خبرية لفظا إنشائية معنى ومعناها النهي أي لا تتبع قبلتهم أي داوم على عدم اتباعها ، وأفرد القبلة وإن كانت مثناة إذ لليهود قبلة وللنصارى قبلة لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين فصار الاثنان واحدا من حيث البطلان ، وحسن ذلك المقابلة لأن قبلة (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) وقد يقال : إن الإفراد بناء على أن قبلة الطائفتين الحقة في الأصل بيت المقدس وعيسى عليه‌السلام لم يصل جهة الشرق حتى رفع وإنما كانت قبلته قبلة بني إسرائيل اليوم ثم بعد رفعه شرع أشياخ النصارى لهم الاستقبال إلى الشرق واعتذروا بأن المسيح عليه‌السلام فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء وذكروا لهم أن في الشرق أسرارا ليست في غيره ولهذا كان مولد المسيح شرقا كما يشير إليه قوله تعالى : (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) [مريم : ١٦] واستقبل المسيح حين صلب بزعمهم الشرق ، وقيل : إن بعض رهبانهم قال لهم : إني لقيت عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لي : إن الشمس كوكب أحبه يبلغ سلامي في كل يوم فمر قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم فصدقوا وفعلوا ، ويؤيد ذلك أنه ليس في الإنجيل استقبال الشرق ، وذهب ابن القيم إلى أن قبلة الطائفتين الآن لم تكن قبلة بوحي وتوقيف من الله تعالى بل بمشورة واجتهاد منهم ، أما النصارى فاجتهدوا وجعلوا الشرق قبلة وكان عيسى قبل الرفع يصلي إلى الصخرة ، وأما اليهود فكانوا يصلون إلى التابوت الذي معهم إذا خرجوا وإذا قدموا بيت المقدس نصبوه إلى الصخرة وصلوا إليه فلما رفع اجتهدوا فأدى اجتهادهم إلى الصلاة إلى موضعه وهو الصخرة وليس في التوراة الأمر بذلك ، والسامرة منهم يصلون إلى طورهم بالشام قرب بلدة نابلس ، وهذان القولان إن صحا يشكل عليهما القول بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة فتدبر.

ثم إن هذه الجملة أبلغ في النفي من الجملة الأولى من وجوه : كونها اسمية وتكرر فيها الاسم مرتين وتأكد نفيها بالباء وفعل ذلك اعتناء بما تقدم (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) أي أن اليهود لا تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ما داموا باقين على اليهودية والنصرانية وفي ذلك بيان لتصابهم في الهوى وعنادهم بأن هذه المخالفة والعناد لا يختص بك بل حالهم فيما بينهم أيضا كذلك ، والجملة عطف على ما تقدم مؤكدة لأمر القبلة ببيان أن إنكارهم ذلك ناشئ عن فرط العناد وتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي على سبيل الفرض وإلا فلا معنى لاستعمال أن الموضوعة للمعاني المحتملة بعد تحقق الانتفاء فيما سبق ، والمقصود بهذا الفرض ذكر مثال لاتباع الهوى وذكر قبحه من غير نظر إلى خصوصية المتبع والمتبع.

(مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي المعلوم الذي أوحي إليك بقرينة إسناد المجيء إليه ، والمراد بعد ما بان لك الحق (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي المرتكبين الظلم الفاحش ، وهذه الجملة أيضا تقرير لأمر «القبلة» وفيها وجوه من

٤١٠

التأكيد والمبالغة ، وهي القسم ، واللام الموطئة له ، وإن الفرضية ، وأن التحقيقية ، واللام في حيزها ، وتعريف الظالمين ، والجملة الاسمية ، وإذا الجزائية ، وإيثار «من الظالمين» على ـ ظالم أو الظالم ـ لإفادته أنه مقرر محقق وأنه معدود في زمرتهم عريق فيهم. وإيقاع ـ الاتباع ـ على ما سماه ـ هوى ـ أي لا يعضده برهان ، ولا نزل في شأنه بيان ، والإجمال والتفصيل وجعل الجائي نفس (الْعِلْمِ) وعد أيضا من ذلك عده واحدا «من الظالمين» مغمورا فيهم غير متعين كتعينهم فيما بين المسلمين ، فإن فيه مبالغة عظيمة للإشعار بالانتقال من مرتبة العدل إلى الظلم ، ومن مرتبة التعين والسيادة المطلقة إلى السفالة والمجهولية ، ولو جعل (كُنْتَ) في (كُنْتَ عَلَيْها) بمعنى صرت لكان أعلى كعبا في الإفادة. وأنت تعلم أن التركيب يقتضي المبالغة في الاستعمال لا المجهولية ، ولو اقتضاها فيه لكان العد معدودا في عداد المقبول ، وفي هذه المبالغات تعظيم لأمر الحق وتحريض على اقتفائه وتحذير عن متابعة الهوى ، واستعظام لصدور الذنب عن الأنبياء وذو المرتبة الرفيعة إلى تجديد الانذار عليه أحوج حفظا لمرتبته ، وصيانة لمكانته ، فلا حاجة إلى القول بأن الخطاب للنبي والمعني به غيره.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) مبتدأ وخبر ، والمراد بهم العلماء لأن ـ العرفان ـ لهم حقيقة ، ولذا وضع المظهر موضع المضمر ، ولأن ـ أوتوا ـ يستعمل فيمن لم يكن له قبول ، وآتينا أكثر ما جاء فيمن له ذلك ، وجوز أن يكون الموصول بدلا من الموصول الأول ، أو (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) فتكون الجملة حالا من (الْكِتابَ) أو من الموصول ، ويجوز أن يكون نصبا بأعني ، أو رفعا على تقديرهم ، وضمير (يَعْرِفُونَهُ) لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وإن لم يسبق ذكره ـ لدلالة قوله تعالى : (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) عليه ، فإن تشبيه معرفته بمعرفة ـ الأبناء ـ دليل على أنه المراد ، وقيل : المرجع مذكور فيما سبق صريحا بطريق الخطاب ، فلا حاجة إلى اعتبار التقديم المعنوي «غاية الأمر» أن يكون هاهنا التفات إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له عليه الصلاة والسلام من حيث ذاته ونسبه الزاهر ، بل من حيث كونه مسطورا في الكتاب منعوتا فيه بالنعوت التي تستلزم إفحامهم ، ومن جملتها أنه يصلي إلى القبلتين ، كأنه قال : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) الكتاب يعرفون من وصفناه فيه ، وأجيب بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وإن خوطب في الكلام الذي في شأن «القبلة» مرارا لكنه لا يحسن إرجاع الضمير إليه لأن هذه الجملة اعتراضية مستطردة بعد ذكر أمر «القبلة» وظهورها عند أهل الكتاب بجامع المعرفة الجلية مع الطعن ـ ولذا لم تعطف ـ فلو رجع الضمير إلى المذكور لأوهم نوع اتصال ـ ولم يحسن ذلك الحسن ـ ودليل الاستطراد (ولكل وجهة) نعم إن قيل : بمجرد الجواز فلا بأس به إذ هو محتمل ، ولعله الظاهر بالنظر الجليل ، وقيل : الضمير ـ للعلم ـ المذكور بقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أو القرآن بادعاء حضوره في الأذهان ، أو للتحويل لدلالة مضمون الكلام السابق عليه ، وفيه أن التشبيه يأبى ذلك لأن المناسب تشبيه الشيء بما هو من جنسه ، فكان الواجب في نظر البلاغة حينئذ كما يعرفون التوراة أو الصخرة ، وأن التخصيص بأهل الكتاب يقتضي أن تكون هذه المعرفة مستفادة من (الْكِتابَ) وقد أخبر سبحانه عن ذكر نعته صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل بخلاف المذكورات فإنها غير مذكور فيه ذكرها فيهما ـ والكاف ـ في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي (يَعْرِفُونَهُ) بالأوصاف المذكورة في (الْكِتابَ) بأنه النبي الموعود بحيث لا يلتبس عليهم عرفانا مثل ـ عرفانهم أبناءهم ـ بحيث لا تلتبس عليهم أشخاصهم بغيرهم ، وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية في أن كلّا منهما يتعذر الاشتباه فيه ، والمراد ـ بالأبناء ـ الذكور لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء ، وألصق وأعلق بقلوبهم من البنات ، فكان ظن اشتباه أشخاصهم أبعد ، وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس لأن الإنسان قد يمر عليه قطعة من

٤١١

الزمان لا يعرف فيها نفسه كزمن الطفولية ـ بخلاف الأبناء ـ فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه. وما حكي عن عبد الله بن سلام أنه قال في شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم : أنا أعلم به مني بابني ، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه : لم؟ قال : لأني لست أشك بمحمد أنه نبي ، فأما ولدي فلعل والدته خانت ، فقبل عمر رضي الله تعالى عنه رأسه ، فمعناه أني لست أشك في نبوته عليه الصلاة والسلام بوجه ، وأما ولدي فأشك في بنوته وإن لم أشك بشخصه ، وهو المشبه به في الآية فلا يتوهم منه أن ـ معرفة الأبناء ـ لا تستحق أن يشبه بها لأنها دون المشبه للاحتمال ، ولا يحتاج إلى القول بأنه يكفي في وجه الشبه كونه أشهر في المشبه به ـ وإن لم يكن أقوى ـ ومعرفة الأبناء ـ أشهر من غيرها ، ولا إلى تكلف أن المشبه به في الآية إضافة ـ الأبناء ـ إليهم مطلقا سواء كانت حقة أو لا. وما ذكره ابن سلام كونه ابنا له في الواقع (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) وهم الذين لم يسلموا.

(لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) الذي يعرفونه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة حالية ، و (يَعْلَمُونَ) إما منزلة منزلة اللازم ففيه تنبيه على كمال شناعة كتمان الحق وأنه لا يليق بأهل العلم ، أو المفعول محذوف أي «يعلمونه» فيكون حالا مؤكدة لأن لفظ (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) يدل على علمه إذ ـ الكتم ـ إخفاء ما يعلم ، أو يعلمون عقاب الكتمان ، أو أنهم (لَيَكْتُمُونَ) فتكون مبينة ، وهذه الجملة عطف على ما تقدم من عطف الخاص على العام ، وفائدته تخصيص من عاند وكتم بالذم ، واستثناء من آمن وأظهر علمه عن حكم الكتمان (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) استئناف كلام قصد به رد الكاتمين ، وتحقيق أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولذا فصل ، و (الْحَقُ) إما مبتدأ خبره الجار ـ واللام ـ إما للعهد إشارة إلى ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولذا ذكر بلفظ المظهر أو الحق الذي كتمه هؤلاء ووضع فيه المظهر موضع المضمر تقريرا لحقيته وتثبيتا لها ، أو للجنس وهو يفيد قصر جنس (الْحَقُ) على ما ثبت من الله أي أن (الْحَقُ) ذلك كالذي أنت عليه لا غيره كالذي عليه أهل الكتاب ، وإما خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ، أو هذا الحق ، و (مِنْ رَبِّكَ) خبر بعد خبر أو حال مؤكدة ـ واللام ـ حينئذ للجنس كما في (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢] ومعناه أن ما يكتمونه هو الحق ـ لا ما يدعونه ويزعمونه ـ ولا معنى حينئذ للعهد لأدائه إلى التكرار فيحتاج إلى تكلف. وقرأ الإمام علي كرم الله تعالى وجهه «الحق» بالنصب على أنه مفعول (يَعْلَمُونَ) أو بدل ، و (مِنْ رَبِّكَ) حال منه ، وبه يحصل مغايرته للأول وإن اتحد لفظهما ، وجوز النصب بفعل مقدر ـ كالزم ـ وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة من إظهار اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم ما لا يخفى.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي الشاكين أو المترددين في كتمانهم الحق عالمين به ، أو في أنه (مِنْ رَبِّكَ) وليس المراد نهي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك لأن النهي عن شيء يقتضي وقوعه أو ترقبه من المنهي عنه وذلك غير متوقع من ساحة حضرة الرسالة صلى الله تعالى عليه وسلم فلا فائدة في نهيه ، ولأن المكلف به يجب أن يكون اختياريا ، وليس الشك والتردد مما يحصل بقصد واختيار بل المراد إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه أحد كائنا من كان ، أو الأمر للأمة بتحصيل المعارف المزيلة لما نهى عنه فيجعل النهي مجازا عن ذلك الأمر وفي جعل امتراء الأمة امتراءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبالغة لا تخفى ، ولك أن تقول : إن الشك ونحوه وإن لم يكن مقدور التحصيل لكنه مقدور لإزالة البقاء ، ولعل النهي عنه بهذا الاعتبار ولهذا قال الله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) دون فلا تمتر ، ومن ظن أن منشأ الاشكال إفخام الكون لأنه هو الذي ليس مقدورا فلا ينهى عنه دون الشك والتردد لم يأت بشيء (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) أي لكل أهل ملة أو جماعة من المسلمين واليهود والنصارى أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية ، وتنوين ـ كل ـ عوض عن المضاف إليه و ـ وجهة ـ جاء

٤١٢

على الأصل والقياس جهة مثل عدة وزنة وهي مصدر بمعنى المتوجه إليه كالخلق بمعنى المخلوق وهو محذوف الزوائد لأن الفعل توجه أو اتجه ، والمصدر التوجه أو الاتجاه ، ولم يستعمل منه وجه كوعد ، وقيل : إنها اسم للمكان المتوجه إليه فثبوت الواو ليس بشاذ وقرأ أبيّ ـ ولكل قبلة ـ (هُوَ مُوَلِّيها) الضمير المرفوع عائد إلى ـ كل باعتبار لفظه ، والمفعول الثاني للوصف محذوف أي وجهه أو نفسه أي مستقبلها ، ويحتمل أن يكون الضمير لله تعالى أي ـ الله موليها ـ إياه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ «ولكل وجهة» بالإضافة ، وقد صعب تخريجها حتى تجرأ بعضهم على ردها وهو خطأ عظيم ، وخرجها البعض أن ـ كل ـ كان في الأصل منصوبا على أنه مفعول به لعامل محذوف يفسره (مُوَلِّيها) وضمير (هُوَ) عائد إلى الله تعالى قطعا ثم زيدت اللام في المفعول به صريحا لضعف العامل المقدر من جهتين ، كونه اسم فاعل وتقديم المعمول عليه والمفعول الآخر محذوف ـ أي لكل وجهة الله مولى موليها ـ ورد بأن لام التقوية لا تزاد في أحد مفعولي المتعدي لاثنين ، لأنه إما أن تزاد في الآخر ولا نظير له ، أو لا فيلزم الترجيح بلا مرجح ، وإن أجيب بإطلاق النحاة يقتضي جوازه ، والترجيح بلا مرجح مدفوع هنا بأنه ترجح بتقديمه وقيل : إن المجرور معمول للوصف المذكور على أنه مفعول به له واللام مزيدة ، أو أن الكلام من باب الاشتغال بالضمير ، ولا يخفى أن هذين التخريجين يحوج أولهما إلى إرجاع الضمير المجرور بالوصف إلى التولية ، وجعله مفعولا مطلقا كقوله : * هذا سراقة للقرآن يدرسه* لئلا يقال : كيف يعمل الوصف مع اشتغاله بالضمير ، وثانيهما إلى القول : بأنه قد يجيء المجرور من باب الاشتغال على قراءة من قرأ «والظالمين أعدلهم» والقول : بأن اللام أصلية ، والجار متعلق ـ بصلوا ـ محذوفا أو باستبقوا والفاء زائدة بعيد بل لا أكاد أجيزه ، وقرأ ابن عامر ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ مولاها ـ على صيغة اسم المفعول ـ أي هو قد ولي تلك الجهة ـ فالضمير المرفوع حينئذ عائد إلى كل البتة ، ولا يجوز رجوعه إلى الله تعالى لفساد المعنى ، وأخرج ابن جرير وابن أبي داود في المصاحف عن منصور قال : نحن نقرأ ـ ولكل جعلنا قبلة يرضونها ـ (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) جمع خيرة بالتخفيف وهي الفاضلة من كل شيء ، والتأنيث باعتبار الخصلة ، «واللام» للاستغراق فيعم المحلى أمر القبلة وغيره ، والخطاب للمؤمنين ، والاستباق متعد كما في التاج ، وقيل : لازم ، و «إلى» بعده مقدرة أي إذا كان كذلك فبادروا أيها المؤمنون ما به يحصل السعادة في الدارين من استقبال القبلة وغيره ولا تنازعوا من خالفكم إذ لا سبيل إلى الاجتماع على قبلة واحدة لجري العادة على تولية كل قوم قبلة يستقبلها ، وفي أمر المؤمنين بطلب التسابق فيما بينهم كما قال السعد : دلالة على طلب سبق غيرهم بطريق الأولى ، وقيل : الاقتصار على سبق بعضهم إشارة إلى أن غيرهم ليس في طريق الخير حتى يتصور أمر أحد بالسبق إلى الخير عليه ، ويجوز أن تكون «اللام» للعهد فالمراد بالخيرات الفاضلات من الجهات التي تسامت الكعبة ، وفيه إشارة إلى أن الصلاة إلى عين الكعبة أكثر ثوابا من الصلاة التي جهتها ، وقيل : يحتمل أن يراد بها الصلوات الفاضلات ، والمراد ـ بالاستباق ـ السرعة فيها والقيام بها في أول أوقاتها ، وفيه بعد ، وأبعد منه ما قيل : إن المعنى ـ فاستبقوا قبلتكم ـ وعبر عنها بالخيرات إشارة إلى اشتمالها على كل خير.

واستدل الشافعية بالآية على أن الصلاة في أول الوقت بعد تحققه أفضل وهي مسألة فرغ منها في الفروع ، ولبعض العارفين في الآية وجه آخر وهو أنه تعالى جعل الناس في أمور دنياهم وأخراهم على أحوال متفاوتة ، فجعل بعضهم أعوان بعض فواحد يزرع وآخر يطحن وآخر يخبز ، وكذلك في أمر الدين ، واحد يجمع الحديث. وآخر يحصل الفقه وآخر يطلب الأصول ، وهم في الظاهر مختارون ، وفي الباطن مسخرون ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «كل ميسر لما خلق له» ولهذا قال بعض الصالحين لما سئل عن تفاوت الناس في أفعالهم : كل ذلك طرق إلى

٤١٣

الله تعالى أراد أن يعمرها بعباده ومن تحرى وجه الله تعالى في كل طريق يسلكه وصل إليه لكن ينبغي تحري الأحسن من تلك الطرق إذ المراتب متفاوتة والشئون مختلفة ومظاهر الأسماء شتى ، وقيل : المراد بها أن لكل أحد قبلة فقبلة المقربين العرش والروحانيين الكرسي والكروبيين البيت المعمور والأنبياء قبلك بيت المقدس وقبلتك الكعبة ، وهي قبلة جسدك ، وأما قبلة روحك فأنا ، وقبلتي أنت كما يشير إليه «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) أين ظرف مكان تضمن معنى الشرط ، و (ما) مزيدة و (يَأْتِ) جوابها والمعنى في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة لطبعكم كالأرض أو المخالفة كالسماء أو المجتمعة الأجزاء كالصخرة أو المتفرقة التي يختلط بها ما فيها كالرمل يحشركم الله تعالى إليه لجزاء أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، والجملة معللة لما قبلها ، وفيها حث على الاستباق بالترغيب والترهيب وهي على حد قوله تعالى : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) [لقمان : ١٦] أو في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض الله تعالى أرواحكم إليه فهي على حد قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٨] ففيها حث على الاستباق باغتنام الفرصة فإن الموت لا يختص بمكان دون مكان ، أو (أَيْنَما تَكُونُوا) من الجهات المتقابلات يمنة ويسرة وشرقا وغربا يجعل الله تعالى صلاتكم مع اختلاف جهاتها في حكم صلاة متحدة الجهة كأنها إلى عين الكعبة أو في المسجد الحرام ـ فيأت بكم ـ مجاز عن جعل الصلاة متحدة الجهة وفائدة الجملة المعللة حينئذ بيان حكم الأمر بالاستباق ، ومنهم من قال : الخطاب في استبقوا إما عام للمؤمنين والكافرين ، وإما خاص بالمؤمنين فعلى الأول يراد هنا العموم أي في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة للحق أو المخالفة له ، وعلى الثاني الخصوص ـ أي أينما تكونوا في الصلاة أيها المؤمنون من الجهات المتقابلة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بعد أن تولوا جهة الكعبة يجعل الله تعالى صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة لاتحادكم في الجهة التي أمرتم بالاتجاه إليها ـ وليس بشيء كما لا يخفى (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن ذلك إماتتكم وإحياؤكم ، وجمعكم والجملة وتأكيد لما تقدم.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عطف على (فَاسْتَبِقُوا) و (حَيْثُ) ظرف لازم الإضافة إلى الجمل غالبا ، والعامل فيها ما هو في محل الجزاء لا الشرط فهي هنا متعلقة ـ بولّ ـ والفاء صلة للتنبيه على أن ما بعدها لازم لما قبلها لزوم الجزاء للشرط لأن ـ حيث ـ وإن لم تكن شرطية لكنها لدلالتها على العموم أشبهت كلمات الشرط ففيها رائحة الشرط ، ولا يجوز تعلقها ـ بخرجت ـ لفظا وإن كانت ظرفا له معنى لئلا يلزم عدم الإضافة والمعنى من أي موضع (خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ) من ذلك الموضع (شَطْرَ) إلخ (وَمِنْ) ابتدائية لأن الخروج أصل لفعل ممتد وهو المشي وكذا التولية أصل للاستقبال وقت الصلاة الذي هو ممتد ، وقيل : إن ـ حيث ـ متعلقة ـ بولّ ـ والفاء ليست زائدة ، وما بعدها يعمل فيما قبلها كما بين في محله إلا أنه لا وجه لاجتماع الفاء والواو فالوجه أن يكون التقدير افعل ما أمرت به من (حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ) فيكون (فَوَلِ) عطفا على المقدر ، ويجوز أن يجعل ـ من حيث خرجت ـ بمعنى أينما كنت وتوجهت فيكون ـ فول ـ جزاء له على أنها شرطية العامل فيها الشرط ـ ولا يخفى ما فيه من التكلف ـ والتخريج على قول ضعيف لم يذهب إليه إلا الفراء وهو شرطية ـ حيث ـ بدون ـ ما ـ حتى قالوا : إنه لم يسمع في كلام العرب ، ثم الأمر بالتولية مقيد بالقيام إلى الصلاة للإجماع على عدم وجوب استقبال القبلة في غير ذلك.

(وَإِنَّهُ) أي الاستقبال أو الصرف أو التولية والتذكير باعتبار أنها أمر من الأمور أو لتذكير الخبر أو لعدم الاعتداد

٤١٤

بتأنيث المصدر أو بذي التاء الذي لا معنى للمجرد عنه سواء كان مصدرا أو غيره ، وإرجاع الضمير للأمر السابق واحد الأوامر على قربه بعيد (لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي الثابت الموافق للحكمة.

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجازيكم بذلك أحسن الجزاء فهو وعيد للمؤمنين ، وقرئ ـ يعملون ـ على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين ، والجملة عطف على ما قبلها وهما اعتراض للتأكيد.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) معطوف على مجموع قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) إلخ أو على قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) إلخ عطف القصة على القصة وليس معطوفا على قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) الداخل تحت فاء السببية الدالة على ترتبه على قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) لأنه معلل بقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) وهو وإن كان علة ـ لولوا ـ لا لمحذوف ـ أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ـ والحجة في ذلك كما قيل به : إلا أنه يفهم منه كونه علة ـ لول ـ لأن انقطاع الحجة بالتولية إذا حصل للأمة كان حصوله بها للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الأولى ، ولو جعل الخطاب عاما للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والأمة ولم يلتزم تخصيصه بالأمة على حد خطابات الآية كان علة لهما وإنما كرر هذا الحكم لتعدد علله ، والحصر المستفاد من «إلا لنعلم» إلخ إضافي أو ادعائي فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل ، تعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بابتغاء مرضاته أولا ، وجري العادة الإلهية على أن يؤتى كل أهل ملة وجهة «ثانيا» ودفع حجج المخالفين «ثالثا» فإن التولية إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة لا الصخرة وهذا النبي يصلي إلى الصخرة فلا يكون النبي الموعود ، وبأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يدعي أنه صاحب شريعة ويتبع قبلتنا وبينهما تدافع لأن عادته سبحانه وتعالى جارية بتخصيص كل صاحب شريعة بقبلة ، وتدفع احتجاج المشركين بأنه عليه الصلاة والسلام يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته وترك سبحانه التعميم بعد التخصيص في المرتبة الثالثة اكتفاء بالعموم المستفاد من العلة ، وزاد (مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) دفعا لتوهم مخالفة حال السفر لحال الحضر بأن يكون حال السفر باقيا على ما كان كما في الصلاة حيث زيد في الحضر ركعتان أو يكون مخيرا بين التوجهين كما في الصوم. وقد يقال فائدة هذا التكرار الاعتناء بشأن الحكم لأنه من مظان الطعن وكثرة المخالفين فيه لعدم الفرق بين النسخ والبداء ، وقيل : لا تكرار فإن الأحوال ثلاثة ، كونه في المسجد ، وكونه في البلد خارج المسجد ، وكونه خارج البلد ، فالأول محمول على الأول ، والثاني على الثاني ، والثالث على الثالث ، ولا يخفى أنه مجرد تشبيه لا يقوم عليه دليل.

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) إخراج من الناس ، وهو بدل على المختار ، والمعنى عند القائلين : بأن الاستثناء من النفي إثبات لئلا يكون لأحد من الناس عليكم حجة (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالعناد فإن لهم عليكم حجة فإن اليهود منهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه وحبا لبلده ، والمشركين منهم يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم ، وتسمية هذه الشبهة الباطلة حجة مع أنها عبارة عن البرهان المثبت للمقصود لكونها شبيهة بها باعتبار أنهم يسوقونها مساقها ، واعترض بأن صدر الكلام لو تناول هذا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وإلا لم يصح الاستثناء لأن الحجة مختصة بالحقيقة ، ولا محيص سوى أن يراد بالحجة المتمسك حقا كان أو باطلا ، وأجيب بأنه لم يستثن شبهتهم عن الحجة بل ذواتهم عن الناس إلا أنه لزم تسمية شبهتهم حجة باعتبار مفهوم المخالفة فلا حاجة إلى تناول الصدر إياها ، وأنت تعلم أن مراد المعترض إن الاستثناء وإن كان من الناس إلا أنه يثبت به ما نفي عن المستثنى منه للمستثني بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات فإن كان الصدر مشتملا على ما أثبت للمستثني لزم الجمع وإلا لم

٤١٥

يتحقق الاستثناء بمقتضاه إذ الثابت للمستثنى منه شيء وللمستثني شيء آخر ، ولا محيص للتفصي عن ذلك إلا أن يراد بالحجة المتمسك أو ما يطلق عليه الحجة في الجملة فيتحقق حينئذ الاستثناء بمقتضاه لأن الشبهة حجة بهذا المعنى كالبرهان ، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، ولك أن تحمل الحجة على الاحتجاج والمنازعة كما في قوله تعالى : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) [الشورى : ١٥] فأمر الاستثناء حينئذ واضح إلا أن صوغ الكلام بعيد عن الاستعمال عند إرادة هذا المعنى ، وقيل : الاستثناء منقطع ، وهو من تأكيد الشيء بضده وإثباته بنفيه ، والمعنى إن يكن لهم حجة فهي الظلم والظلم لا يمكن أن يكون حجة فحجتهم غير ممكنة أصلا فهو إثبات بطريق البرهان على حد قوله :

ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم

«يلام» بنسيان الأحبة والوطن

وقرأ زيد بن عليّ رضي الله تعالى عنهما «ألا» بالفتح والتخفيف وهي حرف يستفتح به الكلام لينبه السامع إلى الإصغاء ، و (الَّذِينَ) مبتدأ خبره قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) والفاء زائدة فيه للتأكيد ، وقيل : لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وجوز أن يكون الموصول نصبا على شريطة التفسير ، والمشهور أن ـ الخشية ـ مرادفة للخوف أي فلا تخافوا الظالمين لأنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر ، وجوز عود الضمير إلى الناس وفيه بعد.

(وَاخْشَوْنِي) أي وخافوني فلا تخالفوا أمري فإني القادر على كل شيء ، واستدل بعض أهل السنة بالآية على حرمة التقية التي يقول بها الإمامية ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك في محله.

(وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الظاهر من حيث اللفظ أنه عطف على قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ) كأنه قيل : فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة ولأتم ـ إلخ فهو علة لمذكور أي أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدارين ، أما دنيا فلظهور سلطانكم على المخالفين ، وأما عقبى فلإثابتكم الثواب الأوفى ولا يرد الفصل بالاستثناء وما بعده لأنه ـ كلا فصل ـ إذ هو من متعلق العلة الأولى ، نعم اعترض ببعد المناسبة وبأن إرادة الاهتداء المشعر بها الترجي إنما تصلح علة للأمر بالتولية لا لفعل المأمور به كما هو الظاهر في المعطوف عليه فالظاهر معنى جعله علة لمحذوف أي وأمرتكم بالتولية ـ والخشية ـ لإتمام نعمتي عليكم وإرادتي اهتداءكم ـ والجملة المعللة معطوفة على الجملة المعللة السابقة ، أو عطف على علة مقدرة مثل (وَاخْشَوْنِي) لأحفظكم ولأتم إلخ. ورجح بعضهم هذا الوجه بما أخرجه البخاري في الأدب المفرد. والترمذي من حديث معاذ بن جبل «تمام النعمة دخول الجنة» ولا يخفى أنه على الوجه الأول قد يؤول الكلام إلى معنى ـ فاعبدوا ، وصلوا متجهين شطر المسجد الحرام لأدخلكم الجنة ـ والحديث لا يأبى هذا بل يطابقه حذو القذة بالقذة فكونه مرجحا لذلك بمعزل عن التحقيق «فإن قيل» إنه تعالى أنزل عند قرب وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم فكيف قال قبل ذلك بسنين في هذه الآية : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)؟ أجيب بأن تمام النعمة في كل وقت بما يليق به فتدبر.

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) متصل بما قبله ، فالكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، والتقدير ـ لأتم نعمتي عليكم ـ في أمر القبلة أو في الآخرة إتماما مثل إتمام إرسال الرسول ، وذكر الإرسال وإرادة الإتمام من إقامة السبب مقام المسبب ، و (فِيكُمْ) متعلق ـ بأرسلنا ـ وقدم على المفعول الصريح تعجيلا بإدخال السرور ولما في صفاته من الطول ، وقيل : متصل بما بعده أي اذكروني ذكرا مثل ذكري لكم بالإرسال ، أو اذكروني بدل إرسالنا فيكم رسولا فالكاف للمقابلة متعلق باذكروني ، ومنها يستفاد التشبيه لأن المتقابلين متشابهان ومتبادلان ، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير بعد التوحيد افتنان وجريان على سنن الكبرياء وإشارة إلى عظمة نعمة هذا

٤١٦

الإرسال ، وهذا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) صفة رسولا ، وفيه إشارة إلى طريق إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام لأن تلاوة الأمي الآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الأخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته (وَيُزَكِّيكُمْ) أي يطهركم من الشرك وهي صفة أخرى للرسول وأتى بها عقب التلاوة لأن التطهير عن ذلك ناشئ عن إظهار المعجزة لمن أراد الله تعالى توفيقه (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) صفة إثر صفة وأخرت لأن تعليم (الْكِتابَ) وتفهيم ما انطوى عليه من الحكمة الإلهية والأسرار الربانية إنما يكون بعد التخلي عن دنس الشرك ونجس الشك بالاتباع ، وأما قبل ذلك فالكفر حجاب ، وقدم التزكية على التعليم في هذه الآية وأخرها عنه في دعوة إبراهيم لاختلاف المراد بها في الموضعين ، ولكل مقام مقال ، وقيل : التزكية عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة إلا أنها وسطت بين التلاوة والتعليم المترتب عليها للإيذان بأن كلّا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة ، وقيل : قدمت التزكية تارة وأخرت أخرى لأنها علة غائية لتعليم (الْكِتابَ) والحكمة ، وهي مقدمة في القصد والتصور مؤخرة في الوجود والعمل فقدمت وأخرت رعاية لكل منهما ، واعترض بأن غاية التعليم صيرورتهم أزكياء عن الجهل لا تزكية الرسول عليه الصلاة والسلام إياها المفسرة بالحمل على ما يصيرون به أزكياء لأن ذلك إما بتعليمه إياهم أو بأمرهم بالعمل به فهي إما نفس التعليم أو أمر لا تعلق له به (١) ، وغاية ما يمكن أن يقال : إن التعليم باعتبار أنه يترتب عليه زوال الشك وسائر الرذائل تزكيته إياهم فهو باعتبار غاية وباعتبار مغيا ـ كالرمي. والقتل ـ في قولهم : رماه فقتله فافهم (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي وكان الظاهر و (ما لَمْ تَكُونُوا) ليكون من عطف المفرد على المفرد إلا أنه تعالى كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى الله تعالى عليه وسلم نعمة عظيمة ولولاه لكان الخلق متحيرين في أمر دينهم لا يدرون ما ذا يصنعون (فَاذْكُرُونِي) بالطاعة قلبا وقالبا فيعم الذكر باللسان والقلب والجوارح ، فالأول ـ كما في المنتخب ـ الحمد والتسبيح والتحميد وقراءة كتاب الله تعالى «والثاني» الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والوعد والوعيد وفي الصفات الإلهية والأسرار الربانية.

«والثالث» استغراق الجوارح في الأعمال المأمور بها خالية عن الأعمال المنهي عنها ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة سماها الله تعالى ذكرا في قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] وقال أهل الحقيقة : حقيقة ذكر الله تعالى أن ينسى كل شيء سواه (أَذْكُرْكُمْ) أي أجازكم بالثواب ، وعبر عن ذلك بالذكر للمشاكلة ولأنه نتيجته ومنشؤه ، وفي الصحيحين «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه» (وَاشْكُرُوا لِي) ما أنعمت به عليكم وهو ـ واشكروني ـ بمعنى ولي أفصح مع الشكر وإنما قدم الذكر على الشكر لأن في الذكر اشتغالا بذاته تعالى وفي الشكر اشتغالا بنعمته والاشتغال بذاته تعالى أولى من الاشتغال بنعمته.

(وَلا تَكْفُرُونِ) بجحد نعمتي وعصيان أمري وأردف الأمر بهذا النهي ليفيد عموم الأزمان وحذف ياء المتكلم تخفيفا لتناسب الفواصل وحذفت نون الرفع للجازم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) على الذكر والشكر وسائر الطاعات من الصوم والجهاد وترك المبالاة

__________________

(١) قوله : «أو أمر لا تعلق له به» كذا بخطه ولعل حق العبارة له تعلق به تأمل ا ه مصححه.

٤١٧

بطعن المعاندين في أمر القبلة (وَالصَّلاةِ) التي هي الأصل والموجب لكمال التقرب إليه تعالى.

(إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) معية خاصة بالعون والنصر ولم يقل مع المصلين لأنه إذا كان مع الصابرين كان مع المصلين من باب أولى لاشتمال الصلاة على الصبر (وَلا تَقُولُوا) عطف على (اسْتَعِينُوا) إلخ مسوق لبيان أنه لا غائلة للمأمور به وأن الشهادة التي ربما يؤدي إليها الصبر حياة أبدية (لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته وإعلاء كلمته وهم الشهداء واللام للتعليل لا للتبليغ لأنهم لم يبلغوا الشهداء قولهم : (أَمْواتٌ) أي هم أموات. (بَلْ أَحْياءٌ). أي بل هم أحياء ، والجملة معطوفة على (لا تَقُولُوا) إضراب عنه ، وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون في حيز القول ويصير المعنى بل ـ قولوا أحياء ـ لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا أمرهم بأن يقولوا في شأنهم إنهم أحياء وإن كان ذلك أيضا صحيحا (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ). أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم بالمشاعر لأنها من أحوال البرزخ التي لا يطلع عليها ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي ـ واختلف في هذه الحياة ـ فذهب كثير من السلف إلى أنها حقيقية بالروح والجسد ولكنا لا ندركها في هذه النشأة ، واستدلوا بسياق قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩] وبأن الحياة الروحانية التي ليست بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم امتياز بذلك على من عداهم ، وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون لا ينافي ذلك ـ فقد روي عن الحسن ـ أن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الرّوح (١) والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الوجع ، فوصول هذا الروح إلى الروح هو الرزق والامتياز ليس بمجرد الحياة بل مع ما ينضم إليها من اختصاصهم بمزيد القرب من الله عز شأنه ومزيد البهجة والكرامة ، وذهب البلخي إلى نفي الحياة بالفعل عنهم مطلقا ـ وأخرج الجملة الاسمية الدالة على الاستمرار المستوعب للأزمنة من وقت القتل إلى ما لا آخر له عن ظاهرها ـ وقال : معنى (بَلْ أَحْياءٌ) إنهم يحيون يوم القيامة فيجزون أحسن الجزاء ، فالآية على حد (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار : ١٣ ، ١٤] وفائدة الأخبار بذلك الرد على المشركين حيث قالوا : إن أصحاب محمد يقتلون أنفسهم ويخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم فكأنه قيل : ليس الأمر كما زعمتم بل يحيون ويخرجون ، وذهب بعضهم إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بما نالوا من الذكر الجميل والثناء الجليل كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة ، وحكي عن الأصم أن المراد بالموت والحياة الضلال والهدى أي لا تقولوا هم أموات في الدين ضالون عن الصراط المستقيم بل هم أحياء بالطاعة قائمون بأعبائها ، ولا يخفى أن هذه الأقوال ـ ما عدا الأولين ـ في غاية الضعف بل نهاية البطلان ، والمشهور ترجيح القول الأول ، ونسب إلى ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد والحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والجبائي والرماني وجماعة من المفسرين لكنهم اختلفوا في المراد بالجسد ، فقيل : هو هذا الجسد الذي هدمت بنيته بالقتل ولا يعجز الله تعالى أن يحل به حياة تكون سبب الحس والإدراك وإن كنا نراه رمة مطروحة على الأرض لا يتصرف ولا يرى فيه شيء من علامات الإحياء ، فقد جاء في الحديث «إن المؤمن يفسح له مد بصره ، ويقال له نم نومة العروس» مع أنا لا نشاهد ذلك إذ البرزخ برزخ آخر بمعزل عن أذهاننا وإدراك قوانا. وقيل : جسد آخر على صورة الطير تتعلق الروح فيه ، واستدل بما أخرجه عبد الرزاق عن عبد الله بن كعب بن مالك قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أرواح الشهداء في صور طير خضر معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله تعالى يوم القيامة» ولا يعارض هذا ما أخرجه

__________________

(١) ـ الروح ـ بفتح الراء الراحة والسرور ا ه ـ ادارة.

٤١٨

مالك وأحمد والترمذي وصححه والنسائي ، وابن ماجة عن كعب بن مالك : «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة ـ أو ـ شجر الجنة» ولا ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا «إن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش» لأن كونها في الأجواف أو في الحواصل يجامع كونها في تلك الصور إذ الرائي لا يرى سواها ، وقيل : جسد آخر على صور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال : رأيت فلانا ـ وإلى ذلك ذهب بعض الإمامية ـ واستدلوا بما أخرجه أبو جعفر مسندا إلى يونس بن ظبيان قال : كنت عند أبي عبد الله جالسا فقال : ما تقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت : يقولون : في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش ، فقال أبو عبد الله : سبحان الله! المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يؤنس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. ووجه الاستدلال إذا كان المراد ـ بالمؤمنين ـ الشهداء ظاهر ، وأما إذا كان المراد بهم سائر من آمن فيعلم منه حال الشهداء وأن أرواحهم ليست في الحواصل بطريق الأولى ، وعندي أن الحياة في البرزخ ثابتة لكل من يموت من شهيد وغيره ، وأن الأرواح ـ وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها ـ مغايرة لما يحس به من البدن لكن لا مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف ، وليس ذلك من التناسخ الذي ذهب إليه أهل الضلال ، وإنما يكون منه لو لم تعد إلى جسم نفسها الذي كانت فيه ـ والعود حاصل في النشأة الجنانية ـ بل لو قلنا بعدم عودها إليه والتزمنا العود إلى جسم مشابه لما كان في الدنيا مشتمل على الأجزاء النطقية الأصلية أو غير مشتمل لا يلزم ذلك التناسخ أيضا لأنهم قالوه على وجه نفوا به الحشر والمعاد ، وأثبتوا فيه سرمدية عالم الكون والفساد ، وأن أرواح الشهداء يثبت لها هذا التعلق على وجه يمتازون به عمن عداهم إما في أصل التعلق أو في نفس الحياة بناء على أنها من المشكك لا المتواطئ ، أو في نفس المتعلق به مع ما ينضم إلى ذلك من البهجة والسرور والنعيم اللائق بهم ، والذي يميل القلب إليه أن لهاتيك الأبدان شبها تاما صوريا بهذه الأبدان ، وأن المواد مختلفة والأجزاء متفاوتة ـ إذ فرق بين العالمين ، وشتان ما بين البرزخين ـ ويمكن حمل أحاديث الطير على تشبيه هذه الأبدان الغضة الطرية بسرعة حركتها وذهابها حيث شاءت بالطير الخضر ، وتحمل الصورة على الصفة كما حملت على ذلك في حديث «خلق آدم على صورة الرحمن» واستبعاد أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما تقدم محمول على ما يفهمه العامة من ظاهر اللفظ ، ولمزيد الإيضاح اللائق بعوام وقته عدل عنه إلى عبارة لا يتراءى منها شائبة استبعاد كما يتراءى من ظاهر الحديث حتى أن بعض العلماء لذلك حملوا «في» فيه على ـ على ـ وهو إما تجاهل أو جهل بأن صغر المتعلق أو ضيقه لو كان موجودا فيما نحن فيه لا يضر الروح شيئا ولا ينافي نعيمها ، أو ظن بأن لتلك الصورة روحا غير روح ـ الشهيد ـ فلا يمكن أن تتعلق بها روحان ، والأمر على خلاف ما يظنون ، وإن شئت قلت بتمثل الروح نفسها صورة لأن الأرواح في غاية اللطافة وفيها قوة التجسد كما يشعر به ظهور الروح الأمين عليه‌السلام بصورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه. وأما القول بحياة هذا الجسد الرميم مع هدم بنيته وتفرق أجزائه وذهاب هيئته ـ وإن لم يكن ذلك بعيدا عن قدرة من يبدأ الخلق ثم يعيده ـ لكن ليس إليه كثير حاجة ، ولا فيه مزيد فضل ، ولا عظيم منة ، بل ليس فيه سوى إيقاع ضعفة المؤمنين بالشكوك والأوهام وتكليفهم من غير حاجة بالإيمان بما يعدون قائله من سفهة الأحلام ، وما يحكى من مشاهدة بعض الشهداء الذين قتلوا منذ مائة سنين ، وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دما إذا رفعت العصابة عنها ؛ فذلك مما رواه ـ هيان بن بيان ـ وما هو إلا حديث خرافة وكلام يشهد على مصدقيه تقديم السخافة.

٤١٩

هذا ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات ، إما أن يكون دفعا لإيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ ـ وتلك خصوصية لهم وإن شاركهم في النعيم ـ بل وزاد عليهم بعض عباد الله تعالى المقربين ممن يقال في حقهم ذلك ، وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولم يروه أبدا ، وليس في الآية نهي عن نسبة الموت إليهم بالكلية بحيث إنهم ما ذاقوه أصلا ولا طرفة عين ، وإلا لقال تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) ماتوا ، فحيث عدل عنه إلى ما ترى علم أنهم امتازوا بعد أن قتلوا بحياة لائقة بهم مانعة عن أن يقال في شأنهم : (أَمْواتٌ) وعدل سبحانه عن ـ قتلوا ـ المعبر عنه في آل عمران إلى (يُقْتَلُ) روما للمبالغة في النهي ، وتأكيد الفعل في تلك السورة يقوم مقام هذا العدول هنا كما قرره بعض أحبابنا من الفضلاء المعاصرين ، والآية نزلت ـ كما أخرجه ابن مندة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ في شهداء بدر وكانوا عدة لياليه ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) عطف على قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا) إلخ عطف المضمون على المضمون ، والجامع أن مضمون الأولى طلب الصبر ، ومضمون الثانية بيان مواطنه ، والمراد لنعاملنكم معاملة المبتلى والمختبر ، ففي الكلام استعارة تمثيلية لأن الابتلاء حقيقة لتحصيل العلم ، وهو محال من اللطيف الخبير ـ والخطاب عام لسائر المؤمنين ـ وقيل : للصحابة فقط ، وقيل : لأهل مكة فقط.

(بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) أي بقليل من ذلك ، والقلة بالنسبة لما حفظهم عنه مما لم يقع بهم وأخبرهم سبحانه به قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم فإن مفاجأة المكروه أشد ، ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به ، وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة محمودة.

(وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) عطف إما على شيء ويؤيده التوافق في التنكير ومجيء البيان بعد كل وإما على (الْخَوْفِ) ويؤيده قرب المعطوف عليه ودخوله تحت (بِشَيْءٍ) والمراد من (الْخَوْفِ) خوف العدو ، ومن (الْجُوعِ) القحط إقامة للمسبب مقام السبب ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ومن نقص (الْأَمْوالِ) هلاك المواشي ، ومن نقص (الْأَنْفُسِ) ذهاب الأحبة بالقتل والموت ، ومن نقص (الثَّمَراتِ) تلفها بالجوائح ، ونص عليها مع أنها من (الْأَمْوالِ) لأنها قد لا تكون مملوكة ، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : (الْخَوْفِ) خوف الله تعالى (وَالْجُوعِ) صوم رمضان ، والنقص من (الْأَمْوالِ) الزكوات والصدقات ، ومن (الْأَنْفُسِ) الأمراض ، ومن (الثَّمَراتِ) موت الأولاد ، وإطلاق الثمرة على الولد مجاز مشهور لأن الثمرة كل ما يستفاد ويحصل ، كما يقال : ثمرة العلم العمل. وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى وحسنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم ، فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم ، فيقول الله تعالى : ما ذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد» واعترض ما قاله الإمام بعد تسلم أن الآية نزلت قبل فرضية الصوم والزكاة بأن خوف الله تعالى لم تزل قلوب المؤمنين مشحونة به قبل نزول الآية ، وكذا الأمراض وموت الأولاد موجودان قبل ، فلا معنى للوعد بالابتلاء بذلك ، وكذا لا معنى للتعبير عن الزكاة ـ وهي النمو والزيادة ـ بالنقص ، «وأجيب بأن كون قلوب المؤمنين مشحونة بالخوف قبل لا ينافي ابتلاءهم في الاستقبال بخوف آخر ، فإن الخوف يتضاعف بنزول الآيات ، وكذا الأمراض ، وموت الأولاد أمور متجددة يصح الابتلاء بها في الآتي من الأزمان ، والتعبير عن الزكاة ـ بالنقص ـ لكونها نقصا صورة ـ وإن كانت زيادة معنى ـ فعند الابتلاء سماها نقصا ، وعند الأمر بالأداء سماها زكاة يسهل أداؤها (وَبَشِّرِ

٤٢٠