روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

القذف في قلوبهما «ببابل» الباء بمعنى في وهي متعلقة ـ بأنزل ـ أو بمحذوف وقع حالا من (الْمَلَكَيْنِ) أو من الضمير في (أُنْزِلَ) وهي كما قال ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما : بلد في سواد الكوفة ، وقيل : بابل العراق ، وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين ، وقيل : جبل دماوند ، وقيل : بلد بالمغرب ـ والمشهور اليوم الثاني ـ وعند البعض هو الأول ، قيل وسميت بابل لتبلبل الألسنة فيها عند سقوط صرح نمرود ، وأخرج الدينوري في المجالسة وابن عساكر من طريق نعيم ابن سالم ـ وهو متهم ـ عن أنس بن مالك قال : لما حشر الله تعالى الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحا شرقية وغربية وقبلية وبحرية فجمعتهم إلى بابل فاجتمعوا يومئذ ينظرون لما حشروا له إذ نادى مناد من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره واقتصد إلى البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء فقام يعرب بن قحطان فقيل له : يا يعرب بن قحطان بن هود أنت هو فكان أول من تكلم بالعربية فلم يزل المنادي ينادي من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن فسميت بابل وكان اللسان يومئذ بابليا ، وعندي في القولين تردد يلف عدم قبول ، والذي أميل إليه أن بابل اسم أعجمي كما نص عليه أبو حيان لا عربي كما يشير إليه كلام الأخفش ، وأنه في الأصل اسم للنهر الكبير في بعض اللغات الأعجمية القديمة وقد أطلق على تلك الأرض لقرب الفرات منها ، ولعل ذلك من قبيل تسمية بغداد دار السلام بناء على أن السلام اسم لدجلة ، وقد رأيت لذلك تفصيلا لا أدريه اليوم في أي كتاب. وأظنه قريبا مما ذكرته فليحفظ ، ومنع بعضهم الصلاة بأرض بابل احتجاجا بما أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن حبيبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة ، وقال الخطابي : في إسناد هذا الحديث مقال ، ولا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة بها ، ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه عن أن يتخذها وطنا ومقاما فإذا أقام بها كانت صلاته فيها وهذا من باب التعليق في علم البيان ، أو لعل النهي له خاصة ألا ترى قال : نهاني ، ومثله حديث آخر نهاني أقرأ ساجدا أو راكعا ولا أقول نهاكم ، وكان ذلك إنذارا منه بما لقي من المحنة في تلك الناحية (هارُوتَ وَمارُوتَ) عطف بيان ـ للملكين ـ وهما اسمان أعجميان لهما منعا من الصرف للعلمية والعجمة وقيل : عربيان من الهرت والمرت بمعنى الكسر ؛ وكان اسمهما قبل عزا وعزايا فلما قارفا الذنب سميا بذلك ، ويشكل عليه منعهما من الصرف ، وليس إلا العلمية ، وتكلف له بعضهم بأنه يحتمل أن يقال : إنهما معدولان من الهارت والمارت ، وانحصار العدل في الأوزان المحفوظة غير مسلم ، وهو كما ترى ، وقرأ الحسن والزهري برفعهما على أن التقدير هما هاروت وماروت ، ومما يقضي منه العجب ما قاله الإمام القرطبي : إن هاروت وماروت بدل من الشياطين على قراءة التشديد ، و (ما) في (وَما أُنْزِلَ) نافية ، والمراد من الملكين جبرائيل وميكائيل لأن اليهود زعموا أن الله تعالى أنزلهما بالسحر ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ هارُوتَ وَمارُوتَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبابِلَ) وعليه فالبدل إما بدل بعض من كل ، ونص عليهما بالذكر لتمردهما ، ولكونهما رأسا في التعليم ، أو بدل كل من كل إما بناء على أن الجمع يطلق على الاثنين أو على أنهما عبارتان عن قبيلتين من الشياطين لم يكن غيرهما بهذه الصفة ، وأعجب من قوله هذا قوله : وهذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل وأصح ما قيل فيها ، ولا تلتفت إلى ما سواه ، ولا يخفى لدى كل منصف أنه لا ينبغي لمؤمن حمل كلام الله تعالى ـ وهو في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة ـ على ما هو أدنى من ذلك وما هو إلا مسخ لكتاب الله تعالى عز شأنه وإهباط له عن شأوه ومفاسد قلة البضاعة لا تحصى ، وقيل إنهما بدل من الناس أي (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ) خصوصا (هارُوتَ وَمارُوتَ) والنفي هو النفي.

٣٤١

(وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) أي ما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له : إنما نحن ابتلاء من الله عزوجل فمن تعلم منا وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى ثبت على الإيمان (فَلا تَكْفُرْ) باعتقاده وجواز العمل به ، وقيل : فلا تتعلم معتقدا أنه حق حتى تكفر ، وهو مبني ـ على رأي الاعتزال ـ من أن السحر تمويه وتخييل ومن اعتقد حقيته يكفر ، و (مِنْ) مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراق ، وإفراد ـ الفتنة ـ مع تعدد المخبر عنه لكونها مصدرا ، والحمل مواطأة للمبالغة ، والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه ، و (حَتَّى) للغاية ، وقيل بمعنى إلا ، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير (يُعَلِّمُونَ) والظاهر أن القول مرة واحدة والقول : بأنه ثلاث أو سبع أو تسع لا ثبت له ، واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما فقال مجاهد : إنهما لا يصل إليهما أحد من الناس وإنما يختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافة واحدة فيتعلمان منهما ، وقيل وهو الظاهر : إنهما كان يباشران التعليم بأنفسهما في وقت من الأوقات ، والأقرب أنهما ليسا إذ ذاك على الصورة الملكية ، وأما ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به قالت : كان لي زوج غاب عني فدخلت على عجوز فشكوت إليها فقالت : إن فعلت ما آمرك أجعله يأتيك فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما ، فقالا : ما جاء بك؟ فقلت : أتعلم السحر ، فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي ، فأبيت وقلت : لا ، قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي به ، إلى أن قالت : فذهبت فبلت فيه ، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب إلى السماء وغاب عني حتى ما أراه ، فجئتهما وذكرت لهما ، فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي فلن تريدي شيئا إلا كان ـ الخبر بطوله ـ فهو ونظائره ـ مما ذكره المفسرون من القصص في هذا الباب ـ مما لا يعول عليه ذوو الألباب ، والإقدام على تكذيب مثل هذه الامرأة الدوجندلية أولى من اتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي لم يصح فيها شيء عن رسول رب البرية صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويا ليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا يصدقها العاقل ولو كانت أضغاث أحلام ، واستدل بالآية من جوّز تعلم السحر ، ووجهه أن فيها دلالة على وقوع التعليم من الملائكة مع عصمتهم ، والتعلم مطاوع له ، بل هما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار كالايجاب والوجوب ، ولا يخفى أنه لا دليل فيها على الجواز مطلقا لأن ذلك التعليم كان للابتلاء والتمييز كما قدمنا ، وقد ذكر القائلون بالتحريم : أن تعلم السحر إذا فرض فشوّه في صقع ، وأريد تبيين فساده لهم ليرجعوا إلى الحق غير حرام كما لا يحرم تعلم الفلسفة للمنصوب للذب عن الدين برد الشبه ـ وإن كان أغلب أحواله التحريم ـ وهذا لا ينافي إطلاق القول به ، ومن قال : إن هاروت وماروت من الشياطين قال : إن معنى الآية ما يعلمان السحر أحدا حتى ينصحاه ويقولا : إنا مفتونان باعتقاد جوازه والعمل به فلا تكن مثلنا في ذلك فتكفر ، وحينئذ لا استدلال أصلا ، وما ذكرنا أن القول على سبيل النصح في هذا الوجه هو الظاهر ، وحكى المهدوي أنه على سبيل الاستهزاء لا النصيحة وهو الأنسب بحال الشياطين ، وقرأ طلحة بن مصرف ـ يعلمان ـ بالتخفيف من الإعلام وعليها حمل بعضهم قراءة التشديد ، وقرأ أبيّ بإظهار الفاعل (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) عطف على الجملة المنفية لأنها في قوة المثبتة كأنه قال : يعلمانهم بعد ذلك القول فيتعلمون ، وليس عطفا على المنفي بدون هذا الاعتبار كما توهمه أبو علي من كلام الزجاج ، وعطفه بعضهم على (يُعَلِّمانِ) محذوفا ، وبعضهم على (يَأْتُونَ) كذلك ، والضمير المرفوع لما دل عليه (أَحَدٍ) وهو الناس أو ـ لأحد ـ حملا له على المعنى كما في قوله تعالى (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] وحكى المهدوي جواز العطف على (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ) فمرجع

٣٤٢

الضمير حينئذ ظاهر ، وقيل : في الكلام مبتدأ محذوف أي فهم يتعلمون فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها من عطف الاسمية على الفعلية ـ ونسب ذلك إلى سيبويه ـ وليس بالجيد ، وضمير (مِنْهُما) عائد على الملكين ، ومن (النَّاسَ) من جعله عائدا إلى السحر والكفر أو الفتنة والسحر ، وعطف (يَتَعَلَّمُونَ) على (يُعَلِّمُونَ) وحمل ما يعلمان على النفي ، و (حَتَّى يَقُولا) على التأكيد له أي لا يعلمان السحر لأحد بل ينهيانه (حَتَّى يَقُولا) إلخ فهو كقولك : ما أمرته بكذا حتى قلت له إن فعلت نالك كذا وكذا ، وجعل ـ ما أنزل ـ أيضا نفيا معطوفا على ـ ما كفر ـ وهو كما ترى (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي الذي أو شيئا يفرقون به وهو السحر المزيل بطريق السببية الألفة والمحبة بين الزوجين الموقع للبغضاء والشحناء الموجبتين للتفريق بينهما ؛ وقيل : المراد ما يفرق لكونه كفرا لأنه إذا تعلم كفر فبانت زوجته أو إذا تعلم عمل فتراه الناس فيعتقدون أنه حق فيكفرون فتبين أزواجهم ، و ـ المرء ـ الرجل ، والأفصح فتح الميم مطلقا ، وحكي الضم مطلقا ، وحكي الاتباع لحركة الاعراب ، ومؤنثه المرأة ، وقد جاء جمعه بالواو والنون فقالوا : المرءون ، والزوج امرأة الرجل ، وقيل : المراد به هنا القريب والأخ الملائم ، ومنه (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج : ٥ ، ق : ٧] و (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢] وقرأ الحسن والزهري وقتادة «المر» بغير همز مخففا ، وابن أبي إسحاق ـ «المرء» ـ بضم الميم مع الهمز ، والأشهب بالكسر والهمز ، ورويت عن الحسن ، وقرأ الزهري أيضا ـ «المر» ـ بالفتح وإسقاط الهمزة وتشديد الراء (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) الضمير للسحرة الذين عاد إليهم ضمير (فَيَتَعَلَّمُونَ) وقيل : لليهود الذين عاد إليهم ضمير (وَاتَّبَعُوا) وقيل ـ للشياطين ـ وضمير به عائد لما ، و (مِنْ) زائدة لاستغراق النفي كأنه قيل : وما يضرون به أحدا ، وقرأ الأعمش ـ بضاري ـ محذوف النون ، وخرج على أنها حذفت تخفيفا وإن كان اسم الفاعل ليس صلة ـ لأل ـ فقد نص ابن مالك على عدم الاشتراط لقوله :

ولسنا إذا تأتون سلمى بمدعي

لكم غير أنا إن نسالم نسالم

وقولهم : قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا ، وقيل : إنها حذفت للإضافة إلى محذوف مقدر لفظا على حد قوله : يا تيم تيم عدي في أحد الوجوه ، وقيل : للاضافة إلى (أَحَدٍ) على جعل الجار جزءا منه والفصل بالظرف مسموع كما في قوله :

هما أخوا في الحرب من لا أخا له

وإن خاف يوما كبوة فدعاهما

واختار ذلك الزمخشري ، وفيه أن جعل الجار جزء من المجرور ليس بشيء لأنه مؤثر فيه ، وجزء الشيء لا يؤثر فيه ، وأيضا الفصل بين المتضايفين بالظرف وإن سمع من ضرائر الشعر كما صرح به أبو حيان ولظن تعين هذا مخرجا قال ابن جني : إن هذه القراءة أبعد الشواذ (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) استثناء مفرغ من الأحوال والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير ـ ضارين ـ أو من مفعوله المعتمد على النفي أو الضمير المجرور في (بِهِ) أو المصدر المفهوم من الوصف ، والمراد من الإذن هنا التخلية بين المسحور وضرر السحر ـ قاله الحسن ـ وفيه دليل على أن فيه ضررا مودعا إذا شاء الله تعالى حال بينه وبينه ، وإذا شاء خلاه وما أودعه فيه ، وهذا مذهب السلف في سائر الأسباب والمسببات ، وقيل : الإذن بمعنى الأمر ويتجوز به عن التكوين بعلاقة ترتب الوجود على كل منهما في الجملة ، والقرينة عدم كون القبائح مأمورا بها ففيه نفي كون الأسباب مؤثرة بنفسها بل بجعله إياها أسبابا إما عادية أو حقيقية ، وقيل : إنه هنا بمعنى العلم ، وليس فيه إشارة إلى نفي التأثير بالذات كالوجهين الأولين.

(وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ) لأنهم يقصدون به العمل قصدا جازما وقصد المعصية كذلك معصية أو لأن العلم يدعو إلى العمل ويجر إليه لا سيما عمل الشر الذي هو هوى النفس ، فصيغة المضارع للحال على الأول وللاستقبال

٣٤٣

على الثاني (وَلا يَنْفَعُهُمْ) عطف على ما قبله للإيذان بأنه شر بحت وضرر محض لا كبعض المضار المشوبة بنفع وضرر لأنهم لا يقصدون به التخلص عن الاغترار بأكاذيب السحرة ولا إماطة الأذى عن الطريق حتى يكون فيه نفع في الجملة ، وفي الإتيان ب (لا) إشارة إلى أنه غير نافع في الدارين لأنه لا تعلق به بانتظام المعاش ولا المعاد وفي الحكم بأنه ضار غير نافع تحذير بليغ ـ لمن ألقى السمع وهو شهيد ـ عن تعاطيه وتحريض على التحرز عنه ، وجوز بعضهم أن يكون (لا يَنْفَعُهُمْ) على إضمار هو فيكون في موضع رفع وتكون الواو للحال ولا يخفى ضعفه (وَلَقَدْ عَلِمُوا) متعلق بقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ) إلخ ، وقصة السحر مستطردة في البين فالضمير لأولئك اليهود ، وقيل : الضمير لليهود الذين كانوا على عهد سليمان عليه‌السلام ، وقيل : للملكين لأنهما كانا يقولان (فَلا تَكْفُرْ) وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك (لَمَنِ اشْتَراهُ) أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ، واللام للابتداء وتدخل على المبتدأ ، وعلى المضارع ودخولها على الماضي مع قد كثير وبدونه ممتنع ، وعلى خبر المبتدأ إذا تقدم عليه ، وعلى معمول الخبر إذا وقع موقع المبتدأ ؛ والكوفيون يجعلونها في الجميع جواب القسم المقدر وليس في الوجود عندهم لام ابتداء كما يشير إليه كلام الرضيّ ، وقد علقت هنا ـ علم ـ عن العمل سواء كانت متعدية لمفعول أو مفعولين ـ فمن ـ موصولة مبتدأ و (اشْتَراهُ) صلتها وقوله تعالى : (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) جملة ابتدائية خبرها ، و ـ من ـ مزيدة في المبتدأ ، و (فِي الْآخِرَةِ) متعلق بما تعلق به الخبر أو حال من الضمير فيه أو من مرجعه ، و ـ الخلاق ـ النصيب ـ قاله مجاهد ـ أو القوام ـ قاله ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ، أو القدر ـ قاله قتادة ـ ومنه قوله :

فما لك بيت لدى الشامخات

وما لك في غالب من «خلاق»

قال الزجاج : وأكثر ما يستعمل في الخير ، ويكون للشر على قلة ، وذهب أبو البقاء تبعا للفراء إلى أن اللام موطئة للقسم ، و (مِنْ) شرطية مبتدأ و (اشْتَراهُ) خبرها و (ما لَهُ) إلخ جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف دل هو عليه لأنه إذا اجتمع قسم وشرط يجاب سابقهما غالبا ، وفيه ما فيه لأنه نقل عن الزجاج ردّ من قال بشرطية (مِنْ) هنا بأنه ليس موضع شرط ، ووجهه أبو حيان بأن الفعل ماض لفظا ومعنى لأن الاشتراء قد وقع فجعله شرطا لا يصح لأن فعل الشرط إذا كان ماضيا لفظا فلا بد أن يكون مستقبلا معنى ، وقد ذكر الرضيّ في ـ لزيد قائم ـ أن الأولى كون اللام فيه لام الابتداء مفيدة للتأكيد ولا يقدر القسم كما فعله الكوفية لأن الأصل عدم التقدير ، والتأكيد المطلوب من القسم حاصل من اللام ، والقول بأن اللام تأكيد للأولى أو زائدة مما لا يكاد يصح ، أما الأول فلأن بناء الكلمة إذا كان على حرف واحد لا يكرر وحده بل مع عماده إلا في ضرورة الشعر على ما ارتضاه الرضيّ ، وأما الثاني فلأن المعهود زيادة اللام الجارة وهي مكسورة في الاسم الظاهر.

(وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) اللام فيه لام ابتداء أيضا ، والمشهور أنها جواب القسم ، والجملة معطوفة على القسمية الأولى ، و (ما) نكرة مميزة للضمير المبهم في ـ بئس ـ والمخصوص بالذم محذوف ، و «شروا» يحتمل المعنيين والظاهر هو الظاهر ـ أي والله لبئس شيئا شروا به حظوظ أنفسهم ـ أي باعوها أو شروها في زعمهم ذلك الشراء ، وفي البحر بئسما باعوا أنفسهم السحر أو الكفر (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي مذمومية الشراء المذكور لامتنعوا عنه ، ولا تنافي بين إثبات العلم لهم أولا ونفيه عنهم ثانيا إما لأن المثبت لهم هو العقل الغريزي والمنفي عنهم هو الكسب الذي هو من جملة التكليف ، أو لأن الأول هو العلم بالجملة والثاني هو العلم بالتفصيل ، فقد يعلم الإنسان مثلا قبح الشيء ثم لا يعلم أن فعله قبيح فكأنهم علموا أن شراء النفس بالسحر مذموم لكن لم يتفكروا في أن ما يفعلونه هو من جملة ذلك القبيح أو لأنهم علموا العقاب ولم يعلموا حقيقته وشدته ، وإما لأن الكلام مخرج على تنزيل العالم

٣٤٤

بالشيء منزلة الجاهل ووجود الشيء منزلة عدمه لعدم ثمرته حيث إنهم لم يعملوا بعلمهم ، أو على تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل بناء على أن قوله تعالى (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) معناه لو كان لهم علم بذلك الشراء لامتنعوا منه أي ليس لهم علم فلا يمتنعون ، وهذا هو الخبر الملقى إليهم ، واعتراض العلامة بأن هذا الخبر لو فرض كونه ملقى إليهم فلا معنى لكونهم عالمين بمضمونه كيف وقد تحقق في (وَلَقَدْ عَلِمُوا) نقيضه وهو أن لهم علما به وبعد اللتيا والتي لا معنى لتنزيلهم منزلة الجاهل بأن ليس لهم علم بأن من اشتراه ـ ما له في الآخرة من خلاق ـ بل إن كان فلا بد أن ينزلوا منزلة الجاهل بأن لهم علما بذلك يجاب عنه : أما أولا فبأن الخطاب صريحا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتعريضا لهم ولذا أكد ، وأما ثانيا فبأن المستفاد من (وَلَقَدْ عَلِمُوا) ثبوت العلم لهم حقيقة والمستفاد من الخبر الملقى لهم نفي العلم عنهم تنزيلا ولا منافاة بينهما ، وأما ثالثا فبأن العالم إذا عمل بخلاف علمه كان عالما بأنه بمنزلة الجاهل في عدم ترتب ثمرة علمه ، ومقتضى هذا العلم أن يمتنع عن ذلك العمل ففيما نحن فيه كانوا عالمين فيه بأن ليس لهم علم وأنهم بمنزلة الجاهل في ذلك الشراء ، ومقتضى هذا العلم أن يمتنعوا عنه وإذا لم يمتنعوا كانوا بمنزلة الجاهل في عدم جريهم على مقتضى هذا العلم فألقى الخبر إليهم بأن ليس لهم علم مع علمهم به كذا قيل ، ولا يخفى ما فيه من شدة التكلف ، وأجاب بعضهم عما يتراءى من التنافي بأن مفعول (يُعَلِّمُونَ) ما دل عليه ل (لَبِئْسَ ما شَرَوْا) إلخ أعني مذمومية الشراء ، ومفعول (عَلِمُوا) أنه لا نصيب لهم في الآخرة ، والعلم بأنه لا نصيب لهم في الآخرة لا ينافي نفي العلم بمذمومية الشراء بأن يعتقدوا إباحته ـ فلا حاجة حينئذ إلى جميع ما سبق ـ وفيه أن العلم بكون الشراء المذكور موجبا للحرمان في الآخرة بدون العلم بكونه مذموما غاية المذمومية ـ مما لا يكاد يعقل عند أرباب العقول ـ والقول بأن مفعول (عَلِمُوا) محذوف ، أي لقد علموا أنه يضرهم ولا ينفعهم ، و (لَمَنِ اشْتَراهُ) مرتبط بأول القصة ، وضمير (لَبِئْسَ ما شَرَوْا لَمَنِ اشْتَراهُ) ركيك جدا ، وبئسما يشتري ، ودفع التنافي بأنه أثبت «أولا» العلم بسوء ما شروه بالكتاب بحسب الآخرة ، ثم ذم بالسوء مطلقا في الدين والدنيا ، لأن «بئس» للذم العام ، فالمنفي ـ العلم بالسوء المطلق ـ يعني (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ضرره في الدين والدنيا لامتنعوا ، إنما غرهم توهم النفع العاجل ، أو بأن المثبت أولا العلم بأن «ما شروه» ما لهم في الآخرة نصيب منه ، لا أنهم (شَرَوْا) أنفسهم به وأخرجوها من أيديهم بالكلية ، بل كانوا يظنون أن آباءهم الأنبياء يشفعونهم في الآخرة والعلم المنفي هو هذا العلم لا يخفى ما فيه «أما أولا» فلأن عموم الذم في «بئس» وإن قيل به لكنه بالنسبة إلى إفراد الفاعل في نفسها من دون تعرض للأزمنة والأمكنة ـ والتزام ذلك لا يخلو عن كدر ـ «وأما ثانيا» فلأن تخصيص النصيب ـ بمنه ـ مع كونه نكرة مقرونة ب (مِنْ) في سياق النفي المساق للتهويل مما لا يدعو إليه إلا ضيق العطن ، والجواب ـ بإرجاع ضمير (عَلِمُوا)(لِلنَّاسِ) أو (الشَّياطِينُ) و (اشْتَرَوْا) لليهود ـ ارتكاب للتفكيك من غير ضرورة تدعو إليه ، ولا قرينة واضحة تدل عليه ، وبعد كل حساب ـ الأولى عندي في الجواب ـ كون الكلام مخرجا على التنزيل ، ولا ريب في كثرة وجود ذلك في الكتاب الجليل ، والأجوبة التي ذكرت من قبل ـ مع جريان الكلام فيها على مقتضى الظاهر ـ لا تخلو في الباطن عن شيء فتدبر.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ

٣٤٥

بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(١٢٣)

٣٤٦

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) أي بالرسول ، أو بما أنزل إليه من الآيات ، أو بالتوراة (وَاتَّقَوْا) أي المعاصي التي حكيت عنهم (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) جواب (لَوْ) الشرطية ، وأصله ـ لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم ـ فحذف الفعل ، وغير السبك إلى ما ترى ليتوسل بذلك مع معونة المقام إلى الإشارة إلى ثبات المثوبة ، وثبات نسبة الخيرية إليها مع الجزم بخيريتها لأن الجملة إذا أفادت ثبات المثوبة كان الحكم بمنزلة التعليق بالمشتق ، كأنه قيل : (لَمَثُوبَةٌ) دائمة (خَيْرٌ) لدوامها وثباتها ، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه ، ولم يقل : لمثوبة الله ، مع أنه أخصر ليشعر التنكير بالتقليل ، فيفيد أن شيئا قليلا من ثواب الله تعالى في الآخرة الدائمة خير من ثواب كثير في الدنيا الفانية ، فكيف وثواب الله تعالى كثير دائم ، وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى ، وببيان الأصل انحل إشكالان «لفظي» وهو أن جواب «لو» إنما يكون فعلية ماضوية «ومعنوي» وهو أن خيرية ـ المثوبة : ثابتة لا تعلق لها بإيمانهم وعدمه ، ولهذين الإشكالين قال الأخفش واختاره جمع : لسلامته من وقوع الجملة الابتدائية في الظاهر جوابا ل (لَوْ) ولم يعهد ذلك في لسان العرب ـ كما في البحر ـ أن ـ اللام ـ جواب قسم محذوف والتقدير ـ ولو أنهم آمنوا واتقوا لكان خيرا لهم ولمثوبة عند الله خير ـ وبعضهم التزم التمني ـ ولكن من جهة العباد لا من جهته تعالى ـ خلافا لمن اعتزل دفعا لهما إذ لا جواب لها حينئذ ، ويكون الكلام مستأنفا ، كأنه لما تمنى لهم ذلك قيل : ما هذا التحسر والتمني؟ فأجيب بأن هؤلاء المبتذلين حرموا ما شيء قليل منه خير من الدنيا وما فيها ، وفي ذلك تحريض وحث على الإيمان ، وذهب أبو حيان إلى أن (خَيْرٌ) هنا للتفضيل لا للأفضلية على حد :

فخير كما لشركما فداء

والمثوبة مفعلة ـ بضم العين ـ من الثواب ، فنقلت ـ الضمة ـ إلى ما قبلها ، فهو مصدر ميمي ، وقيل : مفعولة وأصلها «مثووبة» فنقلت ـ ضمة الواو ـ إلى ما قبلها ، وحذفت لالتقاء الساكنين ، فهي من المصادر التي جاءت على مفعولة كمصدوقة ـ كما نقله الواحدي ـ ويقال : «مثوبة» ـ بسكون الثاء وفتح الواو ـ وكان من حقها أن تعلّ ، فيقال : «مثابة» ـ كمقامة ـ إلا أنهم صححوها كما صححوا في الأعلام مكوزة وبها قرأ قتادة وأبو السماك ؛ والمراد بها الجزاء والأجر ، وسمي بذلك لأن المحسن يثوب إليه ، والقول بأن المراد بها الرجعة إليه تعالى بعيد (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) المفعول محذوف بقرينة السابق ، أي إن ثواب الله تعالى (خَيْرٌ) وكلمة (لَوْ) إما للشرط ، والجزاء محذوف أي (آمَنُوا) وإما للتمني ولا حذف ، ونفي العلم على التقديرين بنفي ثمرته الذي هو العمل ، أو لترك التدبر ، هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» (وَاتَّبَعُوا) أي اليهود وهي القوى الروحانية (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) وهم من الانس المتمردون الأشرار ، ومن الجن الأوهام والتخيلات المحجوبة عن نور الروح المتمردة عن طاعة القلب العاصية لأمر العقل والشرع ، والنفوس الأرضية المظلمة القوية على عهد (مُلْكِ سُلَيْمانَ) الروح الذي هو خليفة الله تعالى في أرضه (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) بملاحظة السوي واتباع الهوى ، وإسناد التأثير إلى الأغيار (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) وستروا مؤثرية الله تعالى وظهوره الذي محا ظلمة العدم. (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) والشبه الصادة عن السير والسلوك إلى ملك الملوك (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) وهما العقل النظري والعقل العملي النازلان من سماء القدس إلى أرض الطبيعة المنكوسان في بئرها لتوجههما إليها باستجذاب النفس إياهما (بِبابِلَ) الصدر المعذبان بضيق المكان بين أبخرة حب الجاه ، ومواد الغضب ؛ وأدخنة نيران الشهوات المبتليان بأنواع المتخيلات ، والموهومات الباطلة من الحيل والشعوذة والطلسمات والنيرنجات (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا) له (إِنَّما نَحْنُ) امتحان وابتلاء من الله تعالى (فَلا تَكْفُرْ) وذلك لقوة النورية وبقية الملكوتية فيهما ، فإن العقل دائما ينبه صاحبه ـ إذا صحا عن سكرته وهب من

٣٤٧

نومته ـ عن الكفر والاحتجاب (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ) القلب والنفس ، أو بين الروح والنفس بتكدير القلب (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ) بزيادة الاحتجاب وغلبة هوى النفس (وَلا يَنْفَعُهُمْ) كسائر العلوم في رفع الحجاب وتخلية النفس وتزكيتها (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ) في مقام الفناء والرجوع إلى الحق سبحانه من نصيب لإقباله على العالم السفلي وبعده عن العالم العلوي بتكدر جوهر قلبه ، وانهماكه برؤية الأغيار (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) برؤية الأفعال من الله تعالى واتقوا الشرك بإثبات ما سواه لأثيبوا بمثوبة (مِنْ عِنْدِ اللهِ) تعالى دائمة ، ولرجعوا إليه ، وذلك (خَيْرٌ) لهم (لَوْ كانُوا) من ذوي العلم والعرفان والبصيرة والإيقان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) الرعي حفظ الغير لمصلحته سواء كان الغير عاقلا أو لا ، وسبب نزول الآية ـ كما أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ أن اليهود كانوا يقولون ذلك سرا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو سب قبيح بلسانهم ، فلما سمعوا أصحابه عليه الصلاة والسلام يقولون : أعلنوا بها ، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وروي أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه سمعها منهم ، فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأضربن عنقه ، قالوا : أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية ونهي المؤمنون سدا للباب ، وقطعا للألسنة وإبعادا عن المشابهة. وأخرج عبيد وابن جرير والنحاس عن عطاء قال : كانت (راعِنا) لغة الأنصار في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عنها في الإسلام ، ولعل المراد أنهم يكثرونها في كلامهم واستعملها اليهود سبا فنهوا عنها. وأما دعوى أنها لغة مختصة بهم فغير ظاهر لأنها محفوظة في لغة جميع العرب منذ كانوا ، وقيل : ومعنى هذه الكلمة عند اليهود لعنهم الله تعالى اسمع ـ لا سمعت ـ وقيل : أرادوا نسبته صلى الله تعالى عليه وسلم وحاشاه إلى الرعن ، فجعلوه مشتقا من الرعونة وهي الجهل والحمق ، وكانوا إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا : راعنا ، أي يا أحمق ـ فالألف حينئذ لمد الصوت ـ وحرف النداء محذوف ـ وقد ذكر الفراء أن أصل يا زيد يا زيدا ـ بالألف ـ ليكون المنادى بين صوتين ، ثم اكتفي بيا ونوى الألف ، ويحتمل أنهم أرادوا به المصدر ، أي ـ رعنت رعونة ـ أو أرادوا صرت راعنا وإسقاط ـ التنوين ـ على اعتبار الوقف ، وقد قرأ الحسن وابن أبي ليلى ، وأبو حيوة وابن محيصن ـ بالتنوين ـ وجعله الكثير صفة لمصدر محذوف ، أي قولا : (راعِنا) وصيغة فاعل حينئذ للنسبة ـ كلابن وتامر ـ ووصف القول به للمبالغة كما يقال : كلمة حمقاء ، وقرأ عبد الله وأبيّ «راعونا» على إسناد الفعل لضمير الجمع للتوقير ـ كما أثبته الفارسي ـ وذكر أن في مصحف عبد الله «ارعونا» وذهب بعض العلماء أن سبب النهي أن لفظ المفاعلة يقتضي الاشتراك في الغالب ـ فيكون المعنى عليه ـ ليقع منك رعي لنا ، ومنا رعي لك ، وهو مخل بتعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا يخفى بعده عن سبب النزول بمراحل (وَقُولُوا انْظُرْنا) أي انتظرنا وتأن علينا ، أو انظر إلينا ، ليكون ذلك أقوى في الإفهام والتعريف ، وكان الأصل أن يتعدى الفعل بإلى ، لكنه توسع فيه فتعدى بنفسه على حد قوله :

ظاهرات الجمال والحسن ينظر

ن كما ينظر «الأراك .. الظباء»

وقيل : هو من نظر البصيرة ، والمراد به التفكر والتدبر فيما يصلح حال المنظور في أمره والمعنى تفكر في أمرنا وخير الأمور عندي أوسطها إلا أنه ينبغي أن يقيد نظر العين بالمقترن بتدبير الحال لتقوم هذه الكلمة مقام الأولى خالية من التدليس ، وبدأ بالنهي لأنه من باب التروك فهو أسهل ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس قبل بالنهي ، وقرأ أبيّ والأعمش ـ أنظرنا ـ بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار ومعناه أمهلنا حتى نتلقى عنك ونحفظ ما نسمعه منك ، وهذه القراءة تشهد للمعنى الأول على قراءة الجمهور إلا أنها على شذوذها لا تأبى ما اخترناه

٣٤٨

(وَاسْمَعُوا) أي ما أمرتكم به ونهيتكم عنه بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتكم عنه ولا تتركوا ما أمرتكم به أو هو أمر بحسن الاستماع بأن يكون بإحضار القلب وتفريغه عن الشواغل حتى لا يحتاج إلى طلب صريح المراعاة ففيه تنبيه على التقصير في السماع حتى ارتكبوا ما تسبب للمحذور ، والمراد سماع القبول والطاعة فيكون تعريضا لليهود حيث قالوا : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [البقرة : ٩٣] وإذا كان المراد سماع هذا الأمر والنهي يكون تأكيدا لما تقدم.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) اللام للعهد فالمراد بالكافرين اليهود الذين قالوا ما قالوا تهاونا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم المعلوم مما سبق بقرينة السياق ووضع المظهر موضع المضمر إيذانا بأن التهاون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفر يوجب أليم العذاب ، وفيه من تأكيد النهي ما فيه ، وجعلها للجنس ـ فيدخل اليهود كما اختاره أبو حيان ـ ليس بظاهر على ما قيل : لأن الكلام مع المؤمنين فلا يصلح هذا أن يكون تذييلا.

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) الودّ محبة الشيء وتمني كونه ، ويذكر ويراد كل واحد منهما قصدا والآخر تبعا ، والفارق كون مفعوله جملة إذا استعمل في التمني ومفردا إذا استعمل في المحبة فتقول على الأول : وددت لو تفعل كذا ، وعلى الثاني وددت الرجل ، ونفيه كناية عن الكراهة وأتى ب (ما) للإشارة إلى أن أولئك متلبسون بها و (مِنْ) للتبيين ، وقيل : للتبعيض وفي إيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه بما بين وإقامة المظهر موضع المضمر إشعار بأن كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق إلا أن كفرهم يمنعهم وإن الكفر شر كله لأنه الذي يورث الحسد ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير ولا يحبه كما أن الإيمان خير كله لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى ، و (لَا) صلة لتأكيد النفي وزيدت له هنا دون قوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١] لما أن مبنى النفي الحسد ، واليهود بهذا الداء أشهر لا سيما وقد تقدم ما يفيد ابتلاءهم به فلم يلزم من نفي ودادتهم هذه نفي ودادة المشركين لها ولم يكن ذلك في (لَمْ يَكُنِ) وسبب نزول الآية أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه فأكذبهم الله تعالى بذلك ، وقيل : نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير وفصلت عما قبل ، وإن اشتركا في بيان قبائح اليهود مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين لاختلاف الغرضين فإن الأول لتأديب المؤمنين وهذا لتكذيب أولئك الكافرين ، ولأجل هذا الاختلاف فصل السابق عن سابقه ، ومما ذكرنا يعلم وجه تعلق الآية بما قبلها ، والقول : بأن ذلك من حيث إن القول المنهي عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل الوحي المعبر عنه بالخير فيها فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم له ـ إلى ما حكي عنهم لوقوعه في أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخير ـ مساق على سبيل الترجي وأظنه إلى التمني أقرب ، وقرئ «ولا المشركون» بالرفع عطفا على الذين كفروا (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ) في موضع النصب على أنه مفعول (يَوَدُّ) وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعيين الفاعل وللتصريح به فيما بعد ، وذكر التنزيل دون الإنزال رعاية للمناسبة بما هو الواقع من تنزيل الخيرات على التعاقب وتجددها لا سيما إذا أريد (مِنْ خَيْرٍ) في قوله تعالى : (مِنْ خَيْرٍ) الوحي وهو قائم مقام الفاعل ، و (مِنْ) صلة وزيادة خير ، والنفي الأول منسحب عليها. ولذا ساغت زيادتها عند الجمهور ولا حاجة إلى ما قيل : إن التقدير يود أن لا ينزل خير ، وذهب قوم إلى أنها للتبعيض وعليه يكون عليكم قائما ذلك المقام ، والمراد من الخير إما الوحي أو القرآن أو النصرة أو ما اختص به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المزايا أو عام في أنواع الخير كلها لأن المذكورين لا يودون تنزيل جميع ذلك على المؤمنين عداوة وحسدا وخوفا من فوات الدراسة وزوال الرئاسة ، وأظهر الأقوال كما في البحر الأخير ولا يأباه ما سيأتي لما سيأتي. (مِنْ رَبِّكُمْ) في موضع الصفة للخير ، و (مِنْ) ابتدائية والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية التنزيل والإضافة إلى

٣٤٩

ضمير المخاطبين لتشريفهم (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له ، والمراد من الرحمة ذلك الخير إلا أنه عبر عنه بها اعتناء به وتعظيما لشأنه ؛ ومعنى اختصاص ذلك على القول الأول ظاهر ولذا اختاره من اختاره ، وعلى الأخير انفراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بمجموعه وعدم شركة أولئك الكارهين فيه وعروّهم عن ترتب آثاره ، وقيل : المراد من الآية دفع الاعتراض الذي يشير إليه الحسد بأن من له أن يخص لا يعترض عليه إذا عم ، وفي إقامة لفظ ـ الله ـ مقام ضمير ربكم تنبيه على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض يلائم الألوهية كما أن إنزال الخير على العموم يناسب الربوبية ، والباء داخلة على المقصور أي يؤتي رحمته ، و (مِنْ) مفعول ، وقيل : الفعل لازم ، و (مِنْ) فاعل وعلى التقديرين العائد محذوف (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل لما سبق وفيه تذكير للكارهين الحاسدين بما ينبغي أن يكون مانعا لهم لأن المعنى على أنه سبحانه المتفضل بأنواع التفضلات على سائر عباده فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا ، ويود عدم إصابة خير له ، والكل غريق في بحار فضله الواسع الغزير كذا قيل : وإذا جعل الفضل عاما ؛ وقيل : بإدخال النبوة فيه دخولا أوليا لأن الكلام فيها على أحد الأقوال. كان هناك إشعار بأن النبوة من الفضل لا كما يقوله الحكماء من أنها بتصفية الباطن ، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته ، وتصدير هذه الجملة بالاسم الكريم لمناسبة العظيم.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) نزلت لما قال المشركون ، أو اليهود : ألا ترون إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا ، ما هذا القرآن إلا كلام محمد عليه الصلاة والسلام يقوله من تلقاء نفسه ، وهو كلام يناقض بعضه بعضا ـ والنسخ ـ في اللغة إزالة الصورة ـ أو ما في حكمها ـ عن الشيء ، وإثبات مثل ذلك في غيره سواء كان في الإعراض أو في الأعيان ـ ومن استعماله في المجموع التناسخ ـ وقد استعمل لكل واحد منهما مجازا ـ وهو أولى من الاشتراك ـ ولذا رغب فيه الراغب ، فمن الأول نسخت الريح الأثر أي أزالته ، ومن الثاني نسخت الكتاب إذا أثبت ما فيه في موضع آخر ، ونسخ الآية ـ على ما ارتضاه بعض الأصوليين ـ بيان انتهاء التعبد بقراءتها كآية «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم» أو الحكم المستفاد منها كآية (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) [البقرة : ٢٤٠] أو بهما جميعا كآية «عشر رضعات معلومات يحرمن» وفيه رفع التأبيد المستفاد من إطلاقها ، ولذا عرفه بعضهم برفع الحكم الشرعي ، فهو بيان بالنسبة إلى الشارع ، ورفع بالنسبة إلينا ، وخرج بقيد التعبد الغاية ، فإنها بيان لانتهاء مدة نفس الحكم ـ لا للتعبد به ـ واختص التعريف بالأحكام إذ لا تعبد في الأخبار أنفسها ، وإنساؤها إذهابها عن القلوب بأن لا تبقى في الحفظ ـ وقد وقع هذا ـ فإن بعض الصحابة أراد قراءة بعض ما حفظه فلم يجده في صدره ، فسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : «نسخ البارحة من الصدور» وروى مسلم عن أبي موسى : إنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة ، فأنسيتها غير أني حفظت منها «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» وكنا نقرأ بسورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها ، غير أني حفظت منها «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة» وهل يكون ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما كان لغيره أو لا؟ فيه خلاف ، والذاهبون إلى الأول استدلوا بقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٦] وهو مذهب الحسن ، واستدل الذاهبون إلى الثاني بقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] فإنه يدل على أنه لا يشاء أن يذهب بما أوحى إليه صلى الله تعالى عليه

٣٥٠

وسلم ـ وهذا قول الزجاج ـ وليس بالقوي لجواز حمل الذي على ما لا يجوز عليه ذلك من أنواع الوحي ، وقال أبو علي : المراد لم نذهب بالجميع ، وعلى التقديرين لا ينافي الاستثناء ، وسبحان من لا ينسى ، وفسر بعضهم ـ النسخ ـ بإزالة الحكم سواء ثبت اللفظ أو لا ـ والإنساء ـ بإزالة اللفظ ثبت حكمه أو لا ، وفسر بعض آخر «الأول» بالإذهاب إلى بدل للحكم السابق «والثاني» بالإذهاب لا إلى بدل ، وأورد على كلا الوجهين أن تخصيص ـ النسخ ـ بهذا المعنى مخالف للغة والاصطلاح ، وأن ـ الإنساء حقيقة في الإذهاب عن القلوب ، والحمل على المجاز ـ بدون تعذر الحقيقة ـ تعسف ، ولعل ما يتمسك به لصحة هذين التفسيرين من الرواية عن بعض الأكابر لم يثبت ، و (ما) شرطية جازمة ل (نَنْسَخْ) منتصبة به على المفعولية ، ولا تنافي بين كونها عاملة ومعمولة لاختلاف الجهة ، فبتضمنها الشرط عاملة ، وبكونها اسما معمولة ـ ويقدر لنفسها جازم ـ وإلا لزم توارد العاملين على معمول واحد ، وتدل على جواز وقوع ما بعدها ، إذ الأصل فيها أن تدخل على الأمور المحتملة ، واتفقت أهل الشرائع على جواز النسخ ووقوعه ؛ وخالفت اليهود غير العيسوية في جوازه وقالوا : يمتنع عقلا ، وأبو مسلم الأصفهاني في وقوعه فقال : إنه وإن جاز عقلا لكنه لم يقع ـ وتحقيق ذلك في الأصول ، و (مِنْ آيَةٍ) في موضع النصب على التمييز والمميز (ما) أي أي شيء (نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) واحتمال زيادة (مِنْ) وجعل (آيَةٍ) حالا ـ ليس بشيء ـ كاحتمال كون (ما) مصدرية شرطية و (آيَةٍ) مفعولا به أي أي نسخ «ننسخ آية» بل هذا الاحتمال أدهى وأمر ـ كما لا يخفى ـ والضمير المنصوب عائد إلى (آيَةٍ) على حد : عندي درهم ونصفه ، لأن المنسوخ غير المنسي ، وتخصيص ـ الآية ـ بالذكر باعتبار الغالب ، وإلا فالحكم غير مختص بها ، بل جار فيما دونها أيضا على ما قيل. وقرأ طائفة وابن عامر من السبعة «ننسخ» من باب الإفعال ـ والهمزة ـ كما قال أبو علي : للوجدان على صفة نحو أحمدته ـ أي وجدته محمودا ـ فالمعنى ما نجده منسوخا وليس نجده كذلك إلا بأن ننسخه ، فتتفق القراءتان في المعنى ـ وإن اختلفا في اللفظ ـ وجوّز ابن عطية كون ـ الهمزة ـ للتعدية ، فالفعل حينئذ متعد إلى مفعولين ، والتقدير (ما) ننسخك (مِنْ آيَةٍ) أي ما نبيح لك نسخه ، كأنه لما نسخها الله تعالى أباح لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم تركها بذلك النسخ فسمى تلك الإباحة إنساخا ، وجعل بعضهم ـ الإنساخ ـ عبارة عن الأمر بالنسخ والمأمور هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو جبرائيل عليه‌السلام ، واحتمال أن يكون من نسخ الكتاب ، أي ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله ، والضميران الآتيان بعد عائدان على ما عاد إليه ضمير (نُنْسِها) ناشئ عن الذهول عن قاعدة أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه. وقرأ عمر وابن عباس والنخعي وأبو عمرو وابن كثير وكثير «ننسأها» ـ بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة ـ وطائفة كذلك إلا أنه ـ بالألف من غير همز ـ ولم يحذفها للجازم لأن أصلها ـ الهمزة ـ من ـ نسأ ـ بمعنى أخر ، والمعنى في المشهور نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها أو نبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها ، وهو معنى (نُنْسِها) فتتحد القراءتان ، وقيل : ولعله ألطف : إن المعنى نؤخر إنزالها ، وهو في شأن الناسخة حيث أخر ذلك مدة بقاء المنسوخة فالمأتية حينئذ عبارة عن المنسوخة كما أنه حين النسخ عبارة عن الناسخة فمعنى الآية عليه أن رفع المنسوخة بإنزال الناسخة وتأخير الناسخة بإنزال المنسوخة كل منهما يتضمن المصلحة في وقته ، وقرأ الضحاك وأبو الرجاء «ننسها» على صيغة المعلوم للمتكلم مع الغير من التنسية ، والمفعول الأول محذوف يقال : أنسانيه الله تعالى ونسانيه تنسية بمعنى أي ننس أحدا إياها ، وقرأ الحسن وابن يعمر ـ «تنسها» ـ بفتح التاء من النسيان ؛ «ونسيت» إلى سعد بن أبي وقاص ، وفرقة كذلك إلا أنهم همزوا ، وأبو حيوة كذلك إلا أنه ضم التاء على أنه من الإنساء ، وقرأ معبد مثله ، ولم يهمز ، وقرأ أبيّ ـ «ننسك» ـ بضم النون الأولى وكسر السين من غير همز وبكاف الخطاب. وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة ـ «ننسكها» ـ بإظهار المفعولين ، وقرأ الأعمش ـ «ما ننسك من آية أو

٣٥١

ننسخها نجئ بمثلها» ـ ومناسبة الآية لما قبلها أن فيه ما هو من قبيل النسخ حيث أقر الصحابة رضي الله تعالى عنهم مدة على قول (راعِنا) وإقراره صلى الله تعالى عليه وسلم على الشيء منزل منزلة الأمر به والاذن فيه ، ثم إنهم نهوا عن ذلك فكان مظنة لما يحاكى ما حكى في سبب النزول ، أو لأنه تعالى لما ذكر أنه (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) كاد ترفع الطغام رءوسها وتقول : إن من الفضل عدم النسخ لأن النفوس إذا داومت على شيء سهل عليها فأتى سبحانه بما ينكس رءوسهم ويكسر ناموسهم ويشير إلى أن النسخ من جملة فضله العظيم وجوده العميم ، أو لأنه تعالى لما أشار إلى حقية الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا عقبه بما يبين سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاعنين فيه فليتدبر.

(نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) أي بشيء هو خير للعباد منها (أَوْ مِثْلِها) حكما كان ذلك أو عدمه وحيا متلوا أو غيره ، والخيرية أعم من أن تكون في النفع فقط أو في الثواب فقط أو في كليهما ، والمثلية خاصة بالثواب على ما أشار إليه بعض المحققين ، وفصله بأن الناسخ إذا كان ناسخا للحكم سواء كان ناسخا للتلاوة أو لا لا بد أن يكون مشتملا على مصلحة خلا عنها الحكم السابق لما أن الأحكام إنما تنوعت للمصالح ، وتبدلها منوط بتبدلها بحسب الأوقات فيكون الناسخ خيرا منه في النفع سواء كان خيرا منه في الثواب أو مثلا له أو لا ثواب فيه أصلا كما إذا كان الناسخ مشتملا على الإباحة أو عدم الحكم وإذا كان ناسخا للتلاوة فقط لا يتصور الخيرية في النفع لعدم تبدل الحكم السابق والمصلحة فهو إما خير منه في الثواب أو مثل له ، وكذا الحال في الإنساء فإن المنسي إذا كان مشتملا على حكم يكون المأتي به خيرا في النفع سواء كان النفع لخلوه عن الحكم مطلقا أو لخلوه عن ذلك الحكم واشتماله على حكم يتضمن مصلحة خلا عنها الحكم المنسي مع جواز خيريته في الثواب ومماثلته أيام خلوه عنه ، وإذا لم يكن مشتملا على حكم فالمأتيّ به بعده إما خير في الثواب أو مثل له ، والحاصل أن المماثلة في النفع لا تتصور لأنه على تقدير تبدل الحكم تتبدل المصلحة فيكون خيرا منه ، وعلى تقدير عدم تبدله المصلحة الأولى باقية على حالها انتهى ، ثم لا يخفى أن ما تقدم من التعميم مبني على جواز النسخ بلا بدل وجواز نسخ الكتاب بالسنة ـ وهو المذهب المنصور ـ ومن الناس من منع ذلك ومنع النسخ ببدل أثقل أيضا ، واحتج بظاهر الآية ، أما على الأول فلأنه لا يتصور كون المأتيّ به خيرا أو مثلا إلا في بدل ، وأما على الثاني فلأن الناسخ هو المأتيّ به بدلا وهو خير أو مثل ، ويكون الآتي به هو الله تعالى ، والسنة ليست خيرا ولا مثل القرآن ولا مما أتى به سبحانه وتعالى ، وأما على الثالث فلأن الأثقل ليس بخير من الأخف ولا مثلا له ، ورد ذلك ـ أما الأول ، والثالث ـ فلأنا لا نسلم أن كون المأتيّ به خيرا أو مثلا لا يتصور إلا في بدل وأن الأثقل لا يكون خيرا من الأخف إذ الأحكام إنما شرعت والآيات إنما نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا منه تعالى ورحمة وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كالدواء الذي تعالج به الأدواء فإن النافع في عصر قد يضر في غيره والمزيل علة شخص قد يزيل علة سواه فإذن قد يكون عدم الحكم أو الأثقل أصلح في انتظام المعاش وأنظم في إصلاح المعاد والله تعالى لطيف حكيم ، ولا يرد أن المتبادر من (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) بآية خير منها وأن عدم الحكم ليس بمأتيّ به لما أن الخلاف في جواز النسخ بلا بدل ليس في إتيان اللفظ بدل الآية الأولى بل في الحكم كما لا يخفى على من راجع الأصول ـ وأما الثاني ـ فلأنا لا نسلم حصر الناسخ بما ذكر إذ يجوز أن يعرف النسخ بغير المأتيّ به فإن مضمون الآية ليس إلا أن نسخ الآية يستلزم الإتيان بما هو خير منها أو مثل لها ، ولا يلزم منه أن يكون ذلك هو الناسخ فيجوز أن يكون أمرا مغايرا يحصل بعد حصول النسخ وإذا جاز ذلك فيجوز أن يكون الناسخ سنة والمأتيّ به الذي هو خير أو مثل آية أخرى ، وأيضا السنة مما أتى به الله سبحانه لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ، ٤] وليس المراد بالخيرية والمماثلة في اللفظ حتى لا تكون

٣٥٢

السنة كذلك بل في النفع والثواب فيجوز أن يكون ما اشتملت عليه السنة خيرا في ذلك ، واحتجت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن فإن التغير المستفاد من النسخ ، والتفاوت المستفاد من الخيرية في وقت دون آخر من روادف الحدث وتوابعه فلا يتحقق بدونه ، وأجيب بأن التغير والتفاوت من عوارض ما يتعلق به الكلام النفسي القديم وهي الأفعال في الأمر والنهي والنسب الخبرية في الخبر وذلك يستدعيهما في تعلقاته دون ذاته ، وأجاب الإمام الرازي بأن الموصوف بهما الكلام اللفظي ، والقديم عندنا الكلام النفسي ، واعترض بأنه مخالف لما اتفقت عليه آراء الأشاعرة من أن الحكم قديم والنسخ لا يجري إلا في الأحكام ، وقرأ أبو عمرو ـ نات ـ بقلب الهمزة ألفا.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الاستفهام قيل : للتقرير ، وقيل : للإنكار ، والخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأريد بطريق الكناية هو وأمته المسلمون وإنما أفرده لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعلمهم ، ومبدأ علمهم ، ولإفادة المبالغة مع الاختصار ، وقيل : لكل واقف عليه على حد «بشر المشائين» وقيل لمنكري النسخ ، والمراد الاستشهاد بعلم المخاطب بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ وعلى الإتيان بما هو خير أو مماثل لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورة تحت قدرته سبحانه فمن علم شمول قدرته عزوجل على جميع الأشياء علم قدرته على ذلك قطعا ، والالتفات بوضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة ، ولأنه الاسم العلم الجامع لسائر الصفات ، ففي ضمنه صفة القدرة فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم ، وكذا الحال في قوله عزّ شأنه : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ (١) الْأَرْضِ) أي قد علمت أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر ، والاستيلاء الباهر ، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي ـ إيجادا وإعداما ، وأمرا ونهيا ـ حسبما تقتضيه مشيئته ، لا معارض لأمره ، ولا معقب لحكمه ، فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شيء من الأشياء؟ فيكون الكلام على هذا كالدليل لما قبله في إفادة البيان ، فيكون منزلا منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح ، فلذا ترك العطف وجوّز أن يكون تكريرا للأول وإعادة للاستشهاد على ما ذكر ، وإنما لم تعطف (أَنَ) مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعارا باستقلال العلم بكل منهما وكفاية في الوقوف على ما هو المقصود ، وخص (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ بالملك ـ لأنهما من أعظم المخلوقات الظاهرة ، ولأن كل مخلوق لا يخلو عن أن يكون في إحدى هاتين الجهتين فكان في الاستيلاء عليهما إشارة إلى الاستيلاء على ما اشتملا عليه ، وبدأ سبحانه بالتقرير على وصف القدرة لأنه منشئا لوصف الاستيلاء والسلطان ، ولم يقل جل شأنه : إن الله ملك إلخ قصدا إلى تقوي الحكم بتكرير الإسناد (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) عطف على الجملة الواقعة خبرا ل (أَنَ) داخل معها حيث دخلت ، وفيه إشارة إلى تناول الخطاب فيما قبل للأمة أيضا ، و (مِنْ) الثانية صلة فلا تتعلق بشيء ، و «من» الأولى لابتداء الغاية وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من مدخول (مِنْ) الثانية ـ وهو في الأصل صفة له ـ فلما قدم انتصب على الحالية «وفي البحر» انها متعلقة بما تعلق به (لَكُمْ) وهو في موضع الخبر ؛ ويجوز في (ما) أن تكون تميمية وأن تكون حجازية على رأي من يجيز تقدم خبرها إذا كان ظرفا أو مجرورا ـ والولي ـ المالك ، و ـ النصير ـ المعين ، والفرق بينهما أن المالك قد لا يقدر على النصرة أو قد يقدر ولا يفعل ، والمعين قد يكون مالكا وقد لا يكون ـ بل يكون أجنبيا ـ والمراد من الآية الاستشهاد على تعلق إرادته تعالى بما ذكر من الإتيان بما هو خير من المنسوخ أو بمثله ، فإن مجرد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصوله البتة ، وإنما الذي يستدعيه كونه تعالى مع ذلك وليا نصيرا لهم ، فمن علم أنه تعالى وليه ونصيره لا ولي ولا نصير له سواه يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوض أمره إليه تعالى ، ولا يخطر بباله ريبة في أمر النسخ وغيره أصلا.

٣٥٣

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) جوّز في (أَمْ) هذه أن تكون متصلة ، وأن تكون منقطعة ، فإن قدر «تعلمون» قبل (تُرِيدُونَ) بناء على دلالة السياق وهو (أَلَمْ تَعْلَمْ) والسياق هو الاقتراح فإنه لا يكون إلا عند التعنت ـ والعلم ـ بخلافه كانت متصلة ، كأنه قيل : أي الأمرين من عدم العلم بما تقدم ، أو العلم مع الاقتراح واقع ، والاستفهام حينئذ للإنكار بمعنى لا ينبغي أن يكون شيء منهما ، وإن لم يقدر كانت منقطعة للاضراب عن عدم علمهم بالسابق إلى الاستفهام عن اقتراحهم كاقتراح اليهود إنكارا عليهم بأنه لا ينبغي أن يقع أيضا ، وقطع بعضهم بالقطع بناء على دخول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في الخطاب أو لا ، وعدم دخوله فيه هنا لأنه مقترح عليه لا مقترح ـ وذلك مخل بالاتصال ـ وأجيب بأنه غير مخل به لحصوله بالنسبة إلى المقصد ، وإرادة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في الأول كانت لمجرد التصوير والانتقال لما قدمنا أنهم بطريق الكناية ، والمراد ـ على التقديرين ـ توصيته المسلمين بالثقة برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وترك الاقتراح بعد رد طعن المشركين أو اليهود في ـ النسخ ـ فكأنه قيل : لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات البينة واقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان ، وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها ـ فضلا عن السؤال ـ يعني من شأن العاقل أن لا يتصدى لإرادة ذلك ، ولم يقل سبحانه : كما سأل أمة موسى عليه‌السلام أو اليهود للإشارة إلى أن من سأل ذلك يستحق أن يصان اللسان عن ذكره ـ ولا يقتضي سابقية وقوع الاقتراح منهم ـ ولا يتوقف مضمون الآية عليه إذ التوصية لا تقتضي سابقية الوقوع ، كيف وهو كفر ـ كما يدل عليه ما بعد ـ ولا يكاد يقع من المؤمن ، ومما ذكرنا يظهر وجه ذكر هذه الآية بعد قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ) فإن المقصد من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها ، وأما بيانه بأنه لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بيان تفاصيل الحكم الداعية إلى النسخ فلذا أردفت آية النسخ بذلك فأراه إلى التمني أقرب ، وقد ذكر بعض المفسرين أنهم اقترحوا على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم. فلا أدري أتعبدون العجل أم لا؟» وهو مع الحاجة إليه يستدعي أن المخاطب في الآيات هم المؤمنون ، والسباق والسياق والتذييل تشهد له ، وعليه يترجح الاتصال ـ لما نقل عن الرضيّ ـ أن الفعليتين إذا اشتركتا في الفاعل نحو أقمت أم قعدت؟ ـ فأم ـ متصلة ، وزعم قوم أن المخاطب بها اليهود ، وأن الآية نزلت فيهم حين سألوا أن ينزل عليهم كتاب من السماء جملة ـ كما نزلت التوراة على موسى عليه‌السلام ـ وخاطبهم بذلك بعد رد طعنهم تهديدا لهم ، وحينئذ يكون المضارع الآتي بمعنى الماضي ، إلا أنه عبر به عنه إحضارا للصورة الشنيعة ، واختار هذا الإمام الرازي وقال : إنه الأصح ، لأن هذه سورة من أول قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) [البقرة : ٤٠] حكاية عن اليهود ومحاجة معهم ، ولأنه جرى ذكرهم وما جرى ذكر غيرهم ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون متبدلا به (الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) ولا يخفى ما فيه ، وكأنه رحمه‌الله تعالى نسي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) وقيل : إن المخاطب أهل مكة ، وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقد روي عنه أن الآية نزلت في عبد الله بن أمية ورهط من قريش قالوا : يا محمد ، اجعل لنا الصفا ذهبا ووسع لنا أرض مكة ، وفجر لنا الأنهار خلالها تفجيرا ونؤمن لك ، وحكي في سبب النزول غير ذلك ، ولا مانع ـ كما في البحر ـ من جعل الكل أسبابا ، وعلى الخلاف في المخاطبين يجيء الكلام في (رَسُولَكُمْ) فإن كانوا المؤمنين فالإضافة على ما في نفس الأمر وما أقروا به من رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم ، وإن كانوا غيرهم فهي على ما في نفس الأمر دون الإقرار ، وما مصدرية ، والمشهور أن المجرور نعت لمصدر محذوف ـ

٣٥٤

أي سؤالا كما ـ ورأى سيبويه أنه في موضع نصب على الحال ، والتقدير عنده أن تسألوه أي السؤال (كَما) وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة في موضع المفعول به ل (تَسْئَلُوا) أي كالأشياء التي سألها (مُوسى) عليه‌السلام (قَبْلُ) وهو الأنسب لأن الإنكار عليهم إنما هو لفساد المقترحات ، وكونها في العاقبة وبالا عليهم ـ وفيه نظر ـ لأن المشبه (أَنْ تَسْئَلُوا) وهو مصدر ، فالظاهر أن المشبه به كذلك ، وقبح السؤال إنما هو لقبح المسئول عنه ، بل قد يكون السؤال نفسه قبيحا في بعض الحالات مع أن المصدرية لا تحتاج إلى تقدير رابط ـ فهو أولى ـ و (مِنْ قَبْلُ) متعلق ب (سُئِلَ) وجيء به للتأكيد. وقرأ الحسن. وأبو السمال «سيل» ـ بسين مكسورة وياء ـ وأبو جعفر والزهري ـ بإشمام السين الضم وياء ـ وبعضهم بتسهيل ـ الهمزة ـ بين بين ـ وضم السين.

(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله : (أَمْ تُرِيدُونَ) إلخ معطوفة عليه ، فهي تذييل له باعتبار أن المقترحين الشاكين من جملة ـ الضالين الطريق المستقيم المتبدلين ـ و (سَواءَ) بمعنى وسط أو مستوي ، والإضافة من باب إضافة الوصف إلى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الاتصاف كأنه نفس ـ السواء ـ على منهاج حصول الصورة في الصورة الحاصلة ـ والفاء ـ رابطة وما بعدها لا يصح أن يكون جزاء الشرط لأن ضلال الطريق المستقيم متقدم على ـ الاستبدال ـ والارتداد لا يترتب عليه ، ولأن الجزاء إذا كان ماضيا مع قد كان باقيا على مضيه لأن قد للتحقيق ، وما تأكد ورسخ لا ينقلب ، ولا يترتب الماضي على المستقبل ، ولأن كون الشرط مضارعا والجزاء ماضيا صورة ضعيف لم يأت في الكتاب العزيز ـ على ما صرح به الرضيّ وغيره ـ فلا بد من التقدير بأن يقال : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) فالسبب فيه أنه تركه ، ويؤول المعنى إلى أن ضلال الطريق المستقيم ـ وهو الكفر الصريح في الآيات ـ سبب للتبديل والارتداد ، وفسر بعضهم ـ التبدل ـ المذكور بترك الثقة بالآيات باعتبار كونه لازما له فيكون كناية عنه ، وحاصل الآية حينئذ ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التي من جملتها الآيات الناسخة التي هي خير محض ، وحق بحت واقترح غيرها فقد عدل وجار من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى ، وتاه في تيه الهوى ، وتردى في مهاوي الردى ، واختار ما في النظم الكريم إيذانا من أول الأمر على أبلغ وجه بأن ذلك كفر وارتداد ، ولعل ما أشرنا إليه أولى كما لا يخفى على المتدبر ، وقرئ (وَمَنْ يُبَدِّلْ) من ـ أبدل ـ وإدغام ـ الدال في الضاد ـ والإظهار قراءتان مشهورتان.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم طائفة من أحبار اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد : ألم تروا إلى ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق لما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم ، رواه الواحدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وروي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا ذلك لحذيفة رضي الله تعالى عنه من حديث طويل ، وذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) حكاية لودادتهم ، وقد تقدم الكلام على (لَوْ) هذه فأغنى عن الإعادة (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) أي مرتدين ، وهو حال من ضمير المخاطبين يفيد مقارنة الكفر بالرد فيؤذن بأن الكفر يحصل بمجرد الارتداد مع قطع النظر إلى ما يرد إليه ، ولذا لم يقل ـ لو يردونكم ـ إلى الكفر ، وجوز أن يكون حالا من فاعل (وَدَّ) واختار بعضهم أنه مفعول ثان ـ ليردونكم ـ على تضمين الرد معنى التصيير إذ منهم من لم يكفر حتى يرد إليه فيحتاج إلى التغليب كما في (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨ ، ابراهيم : ١٣] على أن في ذلك يكون الكفر المفروض بطريق القسر وهو أدخل في الشناعة ، وفي قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ) مع أن الظاهر ـ عن ـ لأن الرد يستعمل بها تنصيص بحصول الإيمان لهم ، وقيل : أورد متوسطا

٣٥٥

لإظهار كمال فظاعة ما أرادوه وغاية بعده عن الوقوع إما لزيادة قبحه الصاد للعاقل عن مباشرته ، وإما لممانعة الإيمان له كأنه قيل : من بعد إيمانكم الراسخ ، وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى (حَسَداً) علة ـ لودّ ـ لا ـ ليردونكم ـ لأنهم يودون ارتدادهم مطلقا لا ارتدادهم المعلل بالحسد ، وجوزوا أن يكون مصدرا منصوبا على الحال أي حاسدين ولم يجمع لأنه مصدر ، وفيه ضعف لأن جعل المصدر حالا ـ كما قال أبو حيان ـ لا ينقاس. وقيل : يجوز أن يكون منصوبا على المصدر والعامل فيه محذوف يدل عليه المعنى أي حسدوكم حسدا وهو كما ترى (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة إما للحسد أي حسدا كائنا من أصل نفوسهم فكأنه ذاتي لها ، وفيه إشارة إلى أنه بلغ مبلغا متناهيا ، وهذا يؤكد أمر التنوين إذا جعل للتكثير أو التعظيم ، وإما للوداد المفهوم من (وَدَّ) أي ودادا كائنا (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) وتشهيهم لا من قبل التدبر والميل إلى الحق ، وجعله ظرفا لغوا معمولا ـ لود ـ أو (حَسَداً) كما نقل عن مكي يبعده أنهما لا يستعملان بكلمة (مِنْ) كما قاله ابن الشجري (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) بالنعوت المذكورة في التوراة والمعجزات وهذا كالدليل على تخصيص الكثير بالأحبار لأن التبين بذلك إنما كان لهم لا للجهال ، ولعل من قال : إن الودادة من عوامهم أيضا لئلا يبطل دينهم الذي ورثوه وتبطل رئاسة أحبارهم الذين اعتقدوهم واتخذوهم رؤساء ، فالمراد من الكثير جميعهم من كفارهم ومنافقيهم ويكون ذكره لإخراج من آمن منهم سرا وعلانية يدعي أن التبين حصل للجميع أيضا إلا أن أسبابه مختلفة متفاوتة وهذا هو الذي يغلب على الظن فإن من شاهد هاتيك المعجزات الباهرة والآيات الزاهرة يبعد منه كيفما كان عدم تبين الحق ومعرفة مطالع الصدق إلا أن الحظوظ النفسانية والشهوات الدنية والتسويلات الشيطانية حجبت من حجبت عن الإيمان وقيدت من قيدت في قيد الخذلان (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) العفو ترك عقوبة المذنب ، والصفح ترك التثريب والتأنيث وهو أبلغ من العفو إذ قد يعفو الإنسان ولا يصفح ، ولعله مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضا أو من تصفحت الورقة إذا تجاوزت عما فيها. وآثر العفو على الصبر على اذاهم إيذانا بتمكين المؤمنين ترهيبا للكافرين.

(حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) هو واحد الأوامر ؛ والمراد به الأمر بالقتال بقوله سبحانه (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى (وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] أو الأمر بقتل قريظة وإجلاء بني النضير ، وقيل : واحد الأمور ، والمراد به القيامة. أو المجازاة يومها أو قوة الرسالة وكثرة الأمة ، ومن الناس من فسر الصفح بالإعراض عنهم وترك مخالطتهم وجعل غاية العفو إتيان آية القتال وغاية الإعراض إتيان الله تعالى أمره ، وفسره بإسلام من أسلم منهم ـ كما قاله الكلبي ـ وليس بشيء لأنه يستلزم أن يحمل الأمر على واحد الأوامر وواحد الأمور ، وهو عند المحققين واقع بين الحقيقة والمجاز ، وعن قتادة والسدي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم إن الآية منسوخة بآية السيف واستشكل ذلك بأن النسخ لكونه بيانا لمدة الانتهاء بالنسبة إلى الشارع ودفعا للتأييد الظاهري من الإطلاق بالنسبة إلينا يقتضي أن يكون الحكم المنسوخ خاليا عن التوقيت والتأبيد فإنه لو كان مؤقتا كان الناسخ بيانا له بالنسبة إلينا أيضا ولو كان مؤبدا كان بدءا لا بيانا بالنسبة إلى الشارع ، والأمر هاهنا مؤقت بالغاية وكونها غير معلومة يقتضي أن تكون آية القتال بيانا لإجماله وبذلك تبين ضعف ما أجاب به الإمام الرازي وتبعه فيه كثيرون من أن الغاية التي يتعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج الوارد من أن يكون ناسخا ويحل محل (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) إلى أن أنسخه لكم فليس هذا مثل قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] وأما تأييد الطيبي له بحكم التوراة والإنجيل لأنه ذكر فيهما انتهاء مدة الحكم بهما بإرسال النبي الأمي بنحو قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] وكان ظهوره صلى الله تعالى عليه وسلم نسخا فيرد عليه ما في التلويح من

٣٥٦

أن الواقع فيهما البشارة بشرع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وإيجاب الرجوع إليه ، وذلك لا يقتضي توقيت الأحكام لاحتمال أن يكون الرجوع إليه باعتبار كونه مفسرا أو مقررا أو مبدلا للبعض دون البعض فمن أين يلزم التوقيت بل هي مطلقة يفهم منها التأبيد فتبديلها يكون نسخا ؛ وأجيب عن الاستشكال بأنه لا يبعد أن يقال : إن القائلين بالنسخ أرادوا به البيان مجازا أو يقال : لعلهم فسروا الغاية بإماتتهم أو بقيام الساعة ، والتأبيد إنما ينافي إطلاق الحكم إذا كان غاية للوجوب ، وأما إذا كان غاية للواجب فلا ، ويجري فيه النسخ عند الجمهور قاله مولانا الساليكوتي : إلا أن الظاهر لا يساعده فتدبر.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مؤكد لما فهم من سابقه ، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ووعد للمؤمنين بالنصرة والتمكين ، ويحتمل على بعد أن يكون ذكرا لموجب قبول أمره بالعفو والصفح وتهديدا لمن يخالف أمره (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) عطف على فاعفوا كأنه سبحانه أمرهم بالمخالقة (١) والالتجاء إليه تعالى بالعبادة البدنية والمالية لأنها تدفع عنهم ما يكرهون. وقول الطبري : إنهم أمروا هنا بالصلاة والزكاة ليحبط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود (راعِنا) منحط عن درجة الاعتبار.

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي أي خير كان ، وفي ذلك توكيد للأمر بالعفو والصفح ، والصلاة والزكاة ، وترغيب إليه ، واللام نفعية ، وتخصيص الخير بالصلاة ، والصدقة خلاف الظاهر ، وقرئ تقدموا من قدم من السفر ، وأقدمه غيره جعله قادما ، وهي قريب من الأولى لا من الاقدام ضد الاحجام.

(تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أي تجدوا ثوابه لديه سبحانه فالكلام على حذف مضاف ، وقيل : الظاهر أن المراد تجدوه في علم الله تعالى ، والله تعالى عالم به إلا أنه بالغ في كمال علمه فجعل ثبوته في علمه بمنزلة ثبوت نفسه عنده وقد أكد تلك المبالغة بقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) حيث جعل جميع ما يعملون مبصرا له تعالى فعبر عن علمه تعالى بالبصر مع أن قليلا مما يعملون من المبصرات ، وكأنه لهذا فسر الزمخشري البصير بالعالم ، وأما قول العلامة إنه إشارة إلى نفي الصفات ، وأنه ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى إلا تعلق ذاته بالمعلومات ففيه أن التفسير لا يفيد إلا أن المراد من البصير هاهنا العالم ولا دلالة على كونه نفس الذات أو زائدا عليه ولا على أن ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى سوى التعلق المذكور ، وقرئ ـ «يعلمون» ـ بالياء والضمير حينئذ كناية عن كثير ، أو عن أهل الكتاب فيكون تذييلا لقوله تعالى (فَاعْفُوا) إلخ مؤكدا لمضمون الغاية ، والمناسب أن يكون وعيدا لأولئك ليكون تسلية ، وتوطينا للمؤمنين بالعفو والصفح ، وإزالة لاستبطاء إتيان الأمر ، وجوز أن يكون كناية عن المؤمنين المخاطبين بالخطابات المتقدمة ، والكلام وعيد للمؤمنين ، ويستفاد من الالتفات الواقع من صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة ، وهو النكتة الخاصة بهذا الالتفات ولا يخفى أنه كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) عطف على (وَدَّ) وما بينهما أعني (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) إما اعتراض بالفاء أو عطف على (وَدَّ) أيضا ، وعطف الإنشاء على الاخبار فيما لا محل له من الإعراب بما سوى الواو جائز ، والضمير ـ لأهل الكتاب ـ لا ـ لكثير منهم ـ كما يتبادر من العطف ، والمراد بهم اليهود والنصارى جميعا ، وكأن أصل الكلام ـ قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ـ فلف بين هذين المقولين ، وجعلا مقولا واحدا اختصارا وثقة بفهم السامع أن ليس المقصد أن كل واحد من الفريقين يقول هذا القول المردد ، وللعلم

__________________

(١) المخالقة بالخاء المعجمة والقاف مفاعلة من الخلق الحسن.

٣٥٧

بتضليل كل واحد منهما صاحبه بل المقصد تقسيم القول المذكور بالنسبة إليهم فكلمة (أَوْ) كما في مغني اللبيب للتفصيل والتقسيم لا للترديد فلا غبار ـ وهود ـ جمع هائد كعوذ (١) جمع عائذ ، وقيل : مصدر يستوي فيه الواحد وغيره ، وقيل : إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف ، وعلى القول بالجمعية يكون اسم (كانَ) مفردا عائدا علي (مَنْ) باعتبار لفظها ، وجمع الخبر باعتبار معناها ، وهو كثير في الكلام خلافا لمن منعه ، ومنه قوله : * وأيقظ من كان منكم نياما* وقرأ أبيّ ـ يهوديا ، أو نصرانيا ـ فحمل الخبر والاسم معا على اللفظ.

(تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) الأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى ـ كالأضحوكة والأعجوبة ـ والجملة معترضة بين قولهم ذلك ؛ وطلب الدليل على صحة دعواهم ، و (تِلْكَ) إشارة إلى (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) إلخ وجمع الخبر مع أن ما أشير إليه أمنية واحدة ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم وتكررها فيها ، وقيل : إشعارا بأنها بلغت كل مبلغ لأن الجمع يفيد زيادة الآحاد فيستعمل لمطلق الزيادة وهذا من بديع المجاز ونفائس البيان ؛ وقيل : لا حاجة إلى هذا كله بل الجمع لأن (تِلْكَ) محتوية على أمان ـ أن لا يدخل الجنة إلا اليهود ، وأن لا يدخل الجنة إلا النصارى ـ وحرمان المسلمين منها ، وأيضا فقائله متعدد وهو باعتبار كل قائل أمنية وباعتبار الجميع أمان كثيرة ، ومن الناس من جعلها إشارة إلى أن ـ لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأن يردوهم كفارا ، وأن لا يدخل الجنة غيرهم ـ وعليه يكون أمانيهم تغليبا لأن الأولين من قبيل المتمنيات حقيقة ؛ والثالث دعوى باطلة ، وجوز أيضا أن تكون إشارة إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم فإن جعل الأماني بمعنى الأكاذيب ، فإطلاق الأمنية على دعواهم على سبيل الحقيقة ، وإن جعل بمعنى المتمنيات فعلى الاستعارة تشبيها بالمتمنى في الاستحالة ، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد لا سيما أولهما لأن كل جملة ذكر فيها ـ ودّهم ـ لشيء قد انفصلت وكملت واستقلت في النزول فيبعد جدا أن يشار إليها.

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي على ما ادعيتموه من اختصاصكم بدخول الجنة فهو متصل معنى بقوله تعالى : (قالُوا لَنْ يَدْخُلَ) إلخ على أنه جواب له لا غير ، و (هاتُوا) بمعنى أحضروا والهاء أصلية لا بدل من همزة ـ آتوا ـ ولا للتنبيه وهي فعل أمر خلافا لمن زعم أنها اسم فعل أو صوت بمنزلة ـ ها ـ وفي مجيء الماضي والمضارع والمصدر من هذه المادة خلاف ؛ وأثبت أبو حيان ـ هاتى يهاتي مهاتاة ـ والبرهان الدليل على صحة الدعوى ، قيل : هو مأخوذ من البرة وهو القطع فتكون النون زائدة ، وقيل : من البرهنة وهو البيان فتكون النون أصلية لفقدان فعلن ووجود فعلل ويبنى على هذا الاشتقاق الخلاف في ـ برهان ـ إذا سمي به هل ينصرف أو لا؟ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ومتعلق الصدق دعواهم السابقة لا ـ الإيمان ـ ولا ـ الأماني ـ كما قيل ، وأفهم التعليق أنه لا بد من البرهان للصادق ليثبت دعواه ، وعلل بأن كل قول لا دليل عليه غير ثابت عند الخصم فلا يعتد به ، ولذا قيل : من ادعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه ، وليس في الآية دليل على منع التقليد فإن دليل المقلد دليله كما لا يخفى ، وتفسير الصدق هنا بالصلاح مما لا يدعو إليه سوى فساد الذهن (بَلى) رد لقولهم الذي زعموه وإثبات لما تضمنه من نفي دخول غيرهم الجنة. والقول بأنه رد لما أشار إليه (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) من نفي أن يكون لهم برهان مما لا وجه له ولا برهان عليه (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي انقاد لما قضى الله تعالى وقدر ، أو أخلص له نفسه أو قصده فلم يشرك به تعالى غيره ، أو لم يقصد سواه فالوجه إما مستعار للذات وتخصيصه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء ومعدن

__________________

(١) قوله : عوذ هي حديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل ا ه منه.

٣٥٨

الحواس. وإما مجاز عن القصد لأن القاصد للشيء مواجه له (وَهُوَ مُحْسِنٌ) حال من ضمير (أَسْلَمَ) أي والحال انه محسن في جميع أعماله ، وإذا أريد بما تقدم الشرك يؤول المعنى إلى «آمن وعمل الصالحات» وقد فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإحسان بقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (فَلَهُ أَجْرُهُ) أي الذي وعد له على ذلك لا الذي يستوجبه كما قاله الزمخشري رعاية لمذهب الاعتزال ، والتعبير عما وعد بالأجر إيذانا بقوة ارتباطه بالعمل (عِنْدَ رَبِّهِ) حال من أجره والعامل فيه معنى الاستقرار ، والعندية للتشريف ، والمراد عدم الضياع والنقصان ، وأتى ـ بالرب ـ مضافا إلى ضمير (مَنْ أَسْلَمَ) إظهارا لمزيد اللطف به وتقريرا لمضمون الجملة ، والجملة جواب (مَنْ) إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط ، وعلى التقديرين يكون الرد (بَلى) وحده وما بعده كلام مستأنف كأنه قيل إذا بطل ما زعموه فما الحق في ذلك ، وجوز أن تكون (مَنْ) موصولة فاعل ليدخلها محذوفا ، و (بَلى) مع ما بعدها رد لقولهم ، ويكون (فَلَهُ أَجْرُهُ) معطوفا على ذلك المحذوف عطف الاسمية على الفعلية لأن المراد بالأولى التجدد ، وبالثانية الثبوت ، وقد نص السكاكي بأن الجملتين إذا اختلفتا تجددا وثبوتا يراعى جانب المعنى فيتعاطفان (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم مثله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى (مَنْ) كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ ، ويجوز في مثل هذا العكس إلا أن الأفصح أن يبدأ بالحمل على اللفظ ثم بالحمل على المعنى لتقدم اللفظ عليه في الإفهام.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) المراد يهود المدينة ووفد نصارى نجران تماروا عند رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم وتسابوا وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوة عيسى عليه‌السلام وأنكر النصارى التوراة ونبوة موسى عليه‌السلام. فأل في الموضعين للعهد. وقيل : المراد عامة اليهود وعامة النصارى وهو من الإخبار عن الأمم السالفة ، وفيه تقريع لمن بحضرته صلى الله تعالى عليه وسلم وتسلية له عليه الصلاة والسلام إذ كذبوا بالرسل والكتب قبله فأل في الموضعين للجنس ، والأول هو المروي في أسباب النزول ، وعليه يحتمل أن يكون القائل كل واحد من آحاد الطائفتين وهو الظاهر ، ويحتمل أن يكون المراد بذلك رجلين رجل من اليهود يقال له نافع بن حرملة ورجل من نصارى نجران ونسبة ذلك للجميع حيث وقع من بعضهم وهي طريقة معروفة عند العرب في نظمها ونثرها. وهذا بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم ، و (عَلى شَيْءٍ) خبر ليس ، وهو عند بعض من باب حذف الصفة أي شيء يعتد به في الدين لأنه من المعلوم أن كلّا منهما على شيء ، والأولى عدم اعتبار الحذف ، وفي ذلك مبالغة عظيمة لأن الشيء ـ كما يشير إليه كلام سيبويه ـ ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فإذا نفي مطلقا كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد بما هم عليه وصار كقولهم ـ أقل من لا شيء ـ (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) حال من الفريقين بجعلهما فاعل فعل واحد لئلا يلزم إعمال عاملين في معمول واحد أي قالوا ذلك وهم عالمون بما في كتبهم الناطقة بخلاف ما يقولون ، وفي ذلك توبيخ لهم وإرشاد للمؤمنين إلى أن من كان عالما بالقرآن لا ينبغي أن يقول خلاف ما تضمنه ، والمراد من (الْكِتابَ) الجنس فيصدق على التوراة والإنجيل ، وقيل : المراد به التوراة لأن النصارى تمتثلها أيضا.

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وهم مشركو العرب في قول الجمهور ، وقيل : مشركو قريش ، وقيل : هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى ، وأما القول بأنهم اليهود وأعيد قولهم مثل قول النصارى ونفي عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فالظاهر أنه قول (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) والكاف من (كَذلِكَ) في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب (قالَ) مقدم عليه أي قولا مثل قول اليهود والنصارى (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ويكون (مِثْلَ قَوْلِهِمْ)

٣٥٩

على هذا منصوبا ب (يَعْلَمُونَ) والقول بمعنى الاعتقاد ، أو يقال على أنه مفعول به أو بدل من محل الكاف ، وقيل : (كَذلِكَ) مفعول به و (مِثْلَ) مفعول مطلق ، والمقصود تشبيه المقول بالمقول في المؤدي والمحصول ، وتشبيه القول بالقول في الصدور عن مجرد التشهي والهوى والعصبية ، وجوزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي قاله ، و (مِثْلَ) صفة مصدر محذوف ، أو مفعول (يَعْلَمُونَ) ولا يجوز أن يكون مفعول (قالَ) لأنه قد استوفى مفعوله ، واعترض هذا بأن حذف العائد ـ على المبتدأ الذي لو قدر خلو الفعل عن الضمير لنصبه ـ مما خصه الكثير بالضرورة ومثلوا له بقوله :

وخالد يحمد ساداتنا

بالحق «لا تحمد» بالباطل

وقيل : عليه وعلى ما قبله أن استعمال الكاف اسما وإن جوزه الأخفش إلا أن جماعة خصوه بضرورة الشعر مع أنه قد يؤول ما ورد منه فيه على أنه لا يخفى ما في توجيه التشبيهين دفعا لتوهم اللغوية من التكلف والخروج عن الظاهر ، ولعل الأولى أن يجعل (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) إعادة لقوله تعالى : (كَذلِكَ) للتأكيد والتقرير كما في قوله تعالى : (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) [يوسف : ٧٥] وبه قال بعض المحققين ، وقد يقال : إن كذلك ليست للتشبيه هنا بل لإفادة أن هذا الأمر عظيم مقرر ، وقد نقل الوزير عاصم بن أيوب في شرح قول زهير :

«كذلك» خيمهم ولكل قوم

إذا مستهم الضراء خيم

عن الإمام الجرجاني ان (كَذلِكَ) تأتي للتثبيت إما لخبر مقدم وإما لخبر متأخر وهي نقيض كلا لأن كلا تنفي ، وكذلك تثبت ومثله (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) [الحجر : ١٢] وفي شرح المفتاح الشريفي انه ليس المقصود من التشبيهات هي المعاني الوضعية فقط إذ تشبيهات البلغاء قلما تخلو من مجازات وكنايات فنقول : إنا رأيناهم يستعملون كذا وكذا للاستمرار تارة نحو عدل زيد في قضية فلان كذا وهكذا أي عدل مستمر ، وقال الحماسي :

«هكذا» يذهب الزمان ويفنى ال

علم فيه ويدرس الأثر

نص عليه التبريزي في شرح الحماسة وله شواهد كثيرة ، وقال في شرح قول أبي تمام :

* كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر* إنه للتهويل والتعظيم وهو في صدر القصيدة لم يسبق ما يشبه به ، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى ، وإنما جعل قول أولئك مشبها به لأنه أقبح إذ الباطل من العالم أقبح منه من الجاهل ، وبعضهم يجعل التشبيه على حد (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] وفيه من المبالغة والتوبيخ على التشبه بالجهال ما لا يخفى وإنما وبخوا ، وقد صدقوا إذ كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء لأنهم لم يقصدوا ذلك وإنما قصد كل فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه على أنه لا يصح الحكم بأن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء يعتد به لأن المتبادر منه أن لا يكون كذلك في حد ذاته وما لا ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل فيكون شيئا معتدا به في حد ذاته وإن يكن شيئا بالنسبة إليهم لأنه لا انتفاع بما لم ينسخ مع الكفر بالناسخ.

(فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي بين اليهود والنصارى لا بين الطوائف الثلاثة لأن مساق النظم لبيان حال تينك الطائفتين والتعرض لمقالة غيرهم لإظهار كمال بطلان مقالهم والحكم الفصل والقضاء وهو يستدعي جارين فيقال : حكم القاضي في هذه الحادثة بكذا ، وقد حذف هنا أحدهما اختصارا وتفخيما لشأنه أي بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العذاب ، والمتبادر من الحكم بين فريقين أن يحكم لأحدهما بحق دون الآخر فكأن استعماله بما ذكر مجاز ، وقال الحسن : المراد بالحكم بين هذين الفريقين تكذيبهم وإدخالهم النار وفي

٣٦٠