روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

نفسه ، وهذا خلاصة ما ذكر في هذا الباب ، وبسط الإمام الرازي الكلام فيه ولم يتعقبه بما يشرح الفؤاد ويبرد الأكباد وتلك شنشنة أعرفها من أخزم ، ولعمري أنها شبه تمكنت في قلوب كثير من الناس فكانت لهم الخناس الوسواس فخلعوا ربقة التكليف وانحرفوا عن الدين الحنيف وهي عند المؤمنين المتمكنين كصرير باب أو كطنين ذباب فأقول : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود : ٨٨] نفي العذاب مطلقا مما لم يقله أحد ممن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر حتى أن المجوس لا يقولونه مع أنهم الذين بلغوا من الهذيان أقصاه فإن عقلاءهم ـ والعقل بمراحل عنهم ـ زعموا أن إبليس عليه اللعنة لم يزل في الظلمة بمعزل عن سلطان الله تعالى ثم لم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب فصار في سلطان الله تعالى وأدخل معه الآفات والشرور فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة له فوقع فيها فصار لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه فبقي محبوسا يرمي بالآفات فمن أحياه الله تعالى أماته ومن أصحه أسقمه ومن أسره أحزنه وكل يوم ينقص سلطانه فإذا قامت القيامة وزالت قوته طرحه الله تعالى في الجو وحاسب أهل الأديان وجازاهم على طاعتهم للشيطان وعصيانهم له ، نعم المشهور عنهم أن الآلام الدنيوية قبيحة لذاتها ولا تحسن بوجه من الوجوه فهي صادرة عن الظلمة دون النور ، وبطلان مذهب هؤلاء أظهر من نار على علم ، ولئن سلمنا أن أحدا من الناس يقول ذلك فهو مردود ، وغالب الأدلة التي تذكر في هذا الباب مبني على الحسن والقبح العقليين وقد نفاهما أهل السنة والجماعة وأقاموا الأدلة على بطلانهما وشيوع ذلك في كتب الكلام يجعل نقله هنا من لغو الكلام على أنا نقول أن لله تعالى صفتي لطف وقهر ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك ـ لا سيما ملك الملوك ـ كذلك إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك فقد كابر ، وقد مدح في الشاهد ذلك كما قيل :

يداك يد خيرها يرتجى

وأخرى لأعدائها غائظه

فلما نظر الله سبحانه إلى ما علمه من الماهيات الأزلية والأعيان الثابتة ورأى فيها من استعد للخير وطلبه بلسان استعداده ومن استعد للشر وطلبه كذلك أفاض على كل بمقتضى حكمته ما استعد له وأعطاه ما طلبه منه ثم كلفه ورغبه ورهبه إتماما للنعمة وإظهارا للحجة إذ لو عذبه وأظهر فيه صفة قهره قبل أن ينذره لربما قال : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) [طه : ١٣٤] فالتعذيب وإن لم يكن فيه نفع له سبحانه بالمعنى المألوف لكنه من آثار القهر ووقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى وكل ما تقتضيه حكمته تعالى وكماله حسن ، وإن شئت فقل : إن صفتي اللطف والقهر من مستتبعات ذاته التي هي في غاية الكمال ولهما متعلقات في نفس الأمر مستعدة لهما في الأزل استعدادا غير مجعول. وقد علم سبحانه في الأزل التعلقات والمتعلقات فظهرت طبق ما علم ولو لم تظهر كذلك لزم انقلاب الحقائق وهو محال. فالإيمان والكفر في الحقيقة ليسا سببا حقيقيا وعلة تامة للتنعيم والتعذيب وإنما هما علامتان لهما دعت إليهما الحكمة والرحمة. وهذا معنى ما ورد في الصحيح «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» أما من كان ـ أي في علم الله ـ من أهل السعادة المستعدة لها ذاته ـ فسييسر ـ بمقتضى الرحمة ـ لعمل أهل السعادة لأن شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات ، وأما من كان في الأزل والعلم القديم من أهل الشقاوة التي ثبتت لماهيته الغير المجعولة أزلا ـ فسييسر بمقتضى القهر ـ لعمل أهل الشقاوة ، وفي ذلك تظهر المنة وتتم الحجة ولا يرد قوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [النحل : ٩] لأن نفي الهداية لنفي المشيئة ولا شك أن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع لثبوت المعلوم في نفس الأمر كما يشير إليه قوله تعالى في المستحيل الغير الثابت في نفسه : (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد : ٣٣] وحيث لا ثبوت للهداية في نفسها لا تعلق للعلم بها. وحيث لا تعلق لا مشيئة ، فسبب نفي إيجاد الهداية نفي المشيئة وسبب نفي المشيئة تقرر عدم الهداية في نفسها فيئول الأمر

١٤١

إلى أن سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر وعدم تقررها في العلم الأزلي : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣] فإذا انتقش هذا على صحيفة خاطرك ، فنقول قولهم الضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة ليس بشيء لأن ذلك الضرر من آثار القهر التابع للذات الأقدس ومتى خلا عن القهر ـ كان عز شأنه عما يقوله الظالمون ـ كالأقطع الذي ليس له إلا يد واحدة بل من أنصفه عقله يعلم أن الخلو عن صفة القهر يخل بالربوبية ويسلب إزار العظمة ويحط شأن الملكية إذ لا يرهب منه حينئذ فيختل النظام وينحل نبذ هذا الانتظام. على أن هذه الشبهة تستدعي عدم إيلام الحيوان في هذه النشأة لا سيما البهائم والأطفال الذين لا ينالهم من هذه الآلام نفع بالكلية لا عاجلا ولا آجلا مع أنا نشاهد وقوع ذلك أكثر من نجوم السماء فما هو جوابهم عن هذه الآلام منه سبحانه في هذه النشأة مع أنه لا نفع له منها بوجه فهو جوابنا عن التعذيب في تلك النشأة ، وقولهم إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب إلخ : ففيه أن الكافر في علم الله تعالى حسب استعداده متعشق للنار تعشق الحديد للمغناطيس وإن نفر عنها نافر عن الجنة نفور الظلمة عن النور وإن تعشقها فهو إن كلف وإن لم يكلف لا بد وأن يعذب فيها ، ولكن التكليف لاستخراج ما في استعداده من الإباء لإظهار الحجة والكفر مجرد علامة (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النحل : ٣٣] وقولهم هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم لكنه خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الاستعداد الذاتي الذي لا دخل للقدرة إلا في إيجاده وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان استعداده وإن أضر به ولا يلزم الله تعالى عقلا أن يترك مقتضى حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك الاستعداد ، وقولهم هب أنا سلمنا العقاب فمن أين الدوام إلخ : قلنا الدوام من خبث الذات وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف مع مراعاة الحكمة ، وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة الله تعالى الذاتية وذواتهم ـ كما يرشدك إلى ذلك ـ قوله سبحانه : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الإنعام : ٢٨] ويدوم المعلول ما دامت علته أو يقال العذاب وهو في الحقيقة البعد من الله لازم للكفر والملزوم لا ينفك من اللازم ، وأيضا الكفر مع ظهور البرهان في الأنفس والآفاق بمن لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه وإن لم يتضرر به سبحانه لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب الاستعداد بمقتضى الحكمة ، ومثل ذلك يطلب عذابا أبديا وعقابا سرمديا وشبيه الشيء منجذب إليه ، ولا يقاس هذا بما ضربه من المثال إذ أين ذلة التراب من عزة رب الأرباب ، وليس مورد المسألتين منهلا واحدا ، وقولهم من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه ، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون إلخ : ففيه أن من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده وأظهر سبحانه مقتضى ذاته وماهيته المعلومة له حسب علمه فهناك حينئذ كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت ، وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها تدارك ما فات والندم على الهفوات فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن شيئا مذكورا إذ يقابل القبيح بالحسن ويبقى الندم وهو ركن التوبة مكسبا على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في نفسها وطهارتها في معلوميتها والأعمال بالخواتيم فلا بدع في مغفرة الله تعالى له جودا وكرما ورحمة الله تعالى ـ وإن وسعت كل شيء ببعض اعتباراتها ـ إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر كما يشير إليه قوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦] فهي كمعيته سبحانه الغير المكيفة ، ألا تسمع قوله تعالى مرة : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) [المجادلة : ٧] ، وتارة (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل : ١٢٨] وكرة (إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] وطورا (إِنَّ مَعِي رَبِّي) [الشعراء : ٦٢] ولا ينافي كون الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] أن الكفار المعذبين أكثر من

١٤٢

المؤمنين المنعمين كما يقتضيه قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) [هود : ١٧ ، الرعد : ١ ، غافر : ٥٩] وكذا حديث البعث لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم وهم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٨] فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم وما عند الله تعالى من كل شيء لا يتناهى وبعض الشر أهون من بعض وهم مختلفون في العذاب ، وبين عذاب كل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض وإن ظن كل من أهلها أنه أشد الناس عذابا لكن الكلام في الواقع بل منهم من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات. ومنهم غير ذلك ، نعم فيهم من عذابه محض لا لذة لهم فيه ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها هي التي استعدت لذلك ففاض عليها ما فاض من جانب المبدأ الفياض كما يشير إليه قوله تعالى : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [غافر : ١٠] ومن غفل منهم عن ذلك نبهه إبليس عليه اللعنة كما حكى الله عنه بقوله : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم : ٢٢] ولا تنفعهم التوبة هناك كما تنفعهم هنا إذ قد اختلفت الداران وامتاز الفريقان وانتهى الأمد المضروب لها بمقتضى الحكمة الإلهية. وقد رأينا في الشاهد أن لنفع الدواء وقتا مخصوصا إذا تعداه ربما يؤثر ضررا ومن الكفار من يعرف أنه قد مضى الوقت وانقضى ذلك الزمان وأن التوبة إنما كانت في الدار الدنيا ولهذا (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [المؤمنون : ٩٩] ولما كان هذا طلب عارف من وجه جاهل من وجه آخر قال الله تعالى في مقابلته (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] ولم يغلظ عليه كما أغلظ على من قال : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) [المؤمنون : ١٠٧] حيث صدر عن جهل محض فأجابهم بقوله (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] فلما اختلف الطلب اختلف الجواب وليس كل دعاء يستجاب كما لا يخفى على أولي الألباب ، وقولهم بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له فيقال فيه إن أرادوا إن هذه الأدلة العقلية مفيدة لليقين : فقد علمت حالها وأنها كسراب بقيعة وليتها أفادت ظنا وإن أرادوا مطلق الأدلة العقلية فهذه ليست منها على أن كون الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين إنما هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة ، والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات ، ومن صدق القائل يعلم عدم المعارض العقلي فإنه إذا تعين المعنى وكان مرادا له فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه ، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأن كونها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل بمجردها والنظر فيها ـ وكون قائلها صادقا ـ الجزم بعدم المعارض العقلي وأنه هل للقرينة التي تشاهد أو تنقل تواترا مدخل في ذلك الجزم وحصول ذلك الجزم بمجردها ومدخلية القرينة فيه ـ مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه ـ الإثبات والنفي فلا جرم كانت إفادتها اليقين في العقليات محل نظر وتأمل «فإن قلت» إذا كان صدق القائل مجزوما به لزم منه الجزم بعدم المعارض في العقليات كما لزم منه في الشرعيات وإلا احتمل كلامه الكذب فيهما فلا فرق بينهما.

«قلت» أجاب بعض المحققين بأن المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتا وانتفاء ولا طريق إليها ، وبالعقليات ما ليس كذلك وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات فلأجل هذا الاحتمال ربما لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات وإن حصل الجزم به في الشرعيات وذلك بخلاف الأدلة العقلية في العقليات فإنها بمجردها تفيد الجزم بعدم المعارض لأنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها أو علم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة ، وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها لأن أحكام البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلا.

١٤٣

هذا وقال الفاضل الرومي هاهنا بحث مشهور وهو أن المعنى بعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدق القائل وهو قائم في العقليات أيضا وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتا أو انتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخافي من العقل فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم لئلا يلزم كذبه وإبطال قطع العقل بصدقه فالحق أن النقلي يفيد القطع في العقليات أيضا ولا مخلص إلا بأن يقال المراد أن النظر في الأدلة نفسها والقرائن في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض لأجل إفادة الإرادة من القائل الصادق جزما. وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على أن إفادته الإرادة محتملة انتهى. وقد ذهب الشيخ الأكبر قدس‌سره إلى تقديم الدليل النقلي على العقلي فقال في الباب الثاني والسبعين والأربعمائة من الفتوحات :

على السمع عولنا فكنا أولي النهى

ولا علم فيها لا يكون عن السمع

وقال قدس‌سره في الباب الثامن والخمسين والثلاثمائة :

كيف للعقل دليل والذي

قد بناه العقل بالكشف انهدم

فنجاة النفس في الشرع فلا

تك إنسانا رأى ثم حرم

واعتصم بالشرع في الكشف فقد

فاز بالخير عبيد قد عصم

أهمل الفكر فلا تحفل به

واتركنه مثل لحم في وضم

إن للفكر مقاما فاعتضد

به فيه تك شخصا قد رحم

كل علم يشهد الشرع له

هو علم فبه فلتعتصم

وإذا خالفه العقل فقل

طورك الزم مالكم فيه قدم

ويؤيد هذا ما روي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا ينتهي إليه ، وقال الإمام الغزالي : ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لا تستبعد أن يكون العقل طورا وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه عوالم وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز إلى آخر ما قال ففيما نحن فيه في القرآن والسنة المتواترة ما لا يحصى مما يدل على الخلود في النار ، وفي العذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها فتأويلها كلها بمجرد شبه أضعف من حبال القمر ، والعدول عنها إلى القول بنفي العذاب أو الخلود فيه مما لا ينبغي لا سيما في مثل هذه الأوقات التي فيها الناس كما ترى ، على أن هذه التأويلات في غاية السخافة إذ كيف يتصور حقيقة الدعاء من رب الأرض والسماء أم كيف يكون التعليق بعد النظر في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦] أم كيف يقبل أن يكون الأخبار عن الاستحقاق دون الوقوع على ما فيه في مثل قوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧] (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء : ٥٦]؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. وأما ما ينقل عن بعض السلف الصالح ـ وكذا عن حضرة مولانا الشيخ الأكبر ومن حذا حذوه من السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم ـ من القول بعدم الخلود فذلك مبني على مشرب آخر وتجل لم ينكشف لنا ، والكثير منهم قد بنى كلامه على اصطلاحات ورموز وإشارات قد حال بيننا وبين فهمها العوائق الدنيوية والعلائق النفسانية ، ولعل قول من قال بعدم الخلود ممن لم يسلك مسلك أهل السلوك مبني على عدم خلود طائفة من أهل النار وهم العصاة مما دون الكفر وإن وقع إطلاق الكفر عليهم حمل على معنى آخر كما حمل على رأي في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من ترك الصلاة فقد كفر» ، على أن الشيخ قدس‌سره كم وكم صرح في كتبه بالخلود فقال في عقيدته الصغرى أول الفتوحات : والتأبيد لأهل

١٤٤

النار في النار حق ، وفي الباب الرابع والستين في بحث ذبح الموت ونداء المنادي يا أهل النار خلود ولا خروج ما نصه : ويغتم أهل النار أشد الغم لذلك ثم تغلق أبواب النار غلقا لا فتح بعده وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضهم في بعض ليعظم انضغاطهم فيها ويرجع أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويرى الناس والجن فيها مثل قطع اللحم في القدر التي تحتها النار العظيمة تغلي كغلي الحميم فتدور في الخلق علوا وسفلا (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً). وذكر الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه المسمى بالإنسان الكبير ، وفي شرح لباب الأسرار من الفتوحات : أن مراد القوم بأن أهل النار يخرجون منها هم عصاة الموحدين لا الكفار ، وقال : إياك أن تحمل كلام الشيخ محيي الدين أو غيره من الصوفية ـ في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من العصاة ـ على الكفار فإن ذلك كذب وخطأ وإذا احتمل الكلام وجها صحيحا وجب المصير إليه انتهى ، نعم قال قدس‌سره في تفسير الفاتحة من الفتوحات فإذا وقع الجدار وانهدم الصور وامتزجت الأنهار والتقى البحران وعدم البرزخ صار العذاب نعيما وجهنم جنة ولا عذاب ولا عقاب إلا نعيم وأمان بمشاهدة العيان إلخ ، وهذا وأمثاله محمول على معنى صحيح يعرفه أهل الذوق لا ينافي ما وردت به القواطع ، وقصارى ما يخطر لأمثالنا فيه أنه محمول على مسكن عصاة هذه الأمة من النار ، وفيه يضع الجبار قدمه ويتجلى بصفة القهر على النار فتقول قط قط ولا تطيق تجليه فتخمد ولا بعد أن تلحق بعد بالجنة وإياك أن تقول بظاهره مع ما أنت عليه وكلما وجدت مثل هذا لأحد من أهل الله تعالى فسلمه لهم بالمعنى الذي أرادوه مما لا تعلمه أنت ولا أنا لا بالمعنى الذي ينقدح في عقلك المشوب بالأوهام فالأمر والله وراء ذلك والأخذ بظواهر هذه العبارات النافية للخلود في العذاب وتأويل النصوص الدالة على الخلود في النار بأن يقال الخلود فيها لا يستلزم الخلود في العذاب لجواز التنعم فيها وانقلاب العذاب عذوبة مما يجر إلى نفي الأحكام الشرعية وتعطيل النبوات وفتح باب لا يسد. وإن سولت نفسك لك ذلك قلبنا البحث معك ولنأتينك بجنود من الأدلة لا قبل لك بها وما النصر إلا من عند الله وكان حقا علينا نصر المؤمنين ، ولا يوقعنك في الوهم أن الخلود مستلزم لتناهي التجليات فالله تعالى هو الله وكل يوم هو في شأن (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف : ١٤٤] ولا أظنك تجد هذا التحقيق من غيرنا والحمد لله رب العالمين (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

هذه الآية وما بعدها إلى آخر القصة معطوفة على قصة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وكل من المتعاطفين مسوق لغرض إلا أن فيهما من النعي على أهل الضلال ما لا يخفى وقد سيقت هذه الآية إلى ثلاث عشرة آية لنعي المنافقين الذين ستروا الكفر وأظهروا الإسلام فهم بحسب الظاهر أعظم جرما من سائر الكفار كما يشير إليه قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] والناس ـ أصله عند سيبويه ، والجمهور ـ أناس وهو جمع أو اسم جمع لإنسان ، وقد حذفت فاؤه تخفيفا فوزنه فعال ، ويشهد لأصله إنسان وإنس وأناسي ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بال فالأكثر نقصه ومن عرف خص بالبلاء ويجوز إتمامه على قلة كما في قوله :

إن المنايا يطلع

عن على الأناس الآمنينا

وهو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع ومن هنا قيل :

وما سمي الإنسان إلا لأنسه

ولا القلب إلا أنه يتقلب

أو من آنس أي أبصر قال تعالى : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) [القصص : ٢٩] وجاء بمعنى سمع وعلم ، وسمي به لأنه ظاهر محسوس ، وذهب السكاكي إلى أنه اسم تام وعينه واو من نوس إذا تحرك بدليل تصغيره على نويس فوزنه فعل. وفي الكشاف أنه من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل ، وقيل : من نسي بالقلب لقوله تعالى

١٤٥

في آدم عليه‌السلام : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فوزنه حينئذ «فلع» ولا يستعمل في الغالب إلا في بني آدم ، وحكى ابن خالويه عن ناس من العرب : أناس الجن ، قال أبو حيان : وهو مجاز وإذا أخذ من نوس يكون صدق المفهوم على الجن ظاهرا لا سيما إذا قلنا : إن النوس تذبذب الشيء في الهواء ، وعن سلمة بن عاصم أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة مستقلة واللام فيه إما للجنس أو للعهد الخارجي فإن كان الأول فمن نكرة موصوفة وإن كان الثاني فهي موصولة مرادا بها عبد الله بن أبيّ وأشياعه ، وجوز ابن هشام وجماعة أن تكون موصولة على تقدير الجنس وموصوفة على تقدير العهد لأن بعض الجنس قد يتعين بوجه ما وبعض المعينين قد يجهل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعرف بعينه كونه قاتلا وإن عرف شخصه فلا وجه للتخصيص عند هؤلاء ، وقيل : إن التخصيص هو الأنسب لأن المعرف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة فناسب من الموصوفة للطباق والأمر بخلافه في العهد ، وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) [الأحزاب : ٢٣] (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) [التوبة : ٦١] لأنه أريد في الأول الجنس ، وفي مرجع الضمير في الثاني طائفة معينة من المنافقين ، ولما كان في الآية تفصيل معنوي لأنه سبحانه ذكر المؤمنين ثم الكافرين ثم عقب بالمنافقين فصار نظيرا للتفصيل اللفظي ، وفي قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق ـ تضمن الإخبار عمن يقول بأنه من الناس ـ فائدة ، ولك أن تحمله على معنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولو لا أن الستر من الكرم فضحته فيكون مفيدا أيضا وملوحا إلى تهديد ما ، وقيل : المراد بكونهم من الناس أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى الصورة الإنسانية ، أو المراد التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فيتعجب منها ـ أو مناط الفائدة ـ الوجود أي إنهم موجودون فيما بينهم أو إنهم من الناس لا من الجن إذ لا نفاق فيهم ، أو المراد بالناس المسلمون والمعنى أنهم يعدون مسلمين أو يعاملون معاملتهم فيما لهم وعليهم ، ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الكلف والتكلف ولكل ساقطة لاقطة ، واختار أبو حيان هنا أن تكون (مِنَ) موصلة مدعيا أنها إنما تكون موصوفة إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في الأكثر ، وفي غير ذلك قليل حتى أن السكاكي على علو كعبه أنكره ولا يخفى ما فيه ، ولا يرد على إرادة العهد أنه كيف يدخل المنافقون مطلقا في الكفرة المصرين المحكوم عليهم بالختم وإن (وَمِنَ النَّاسِ) الآية وقع عديلا لأن الذين كفروا بيانا للقسم الثالث المذبذب فلا يدخل فيه لأن المراد بالمنافقين المصممون منهم المختوم عليهم بالكفر كما يدل عليه (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة : ١٨] لا مطلق المنافقين ولأن اختصاصهم بخلط الخداع والاستهزاء مع الكفر لا ينافي دخولهم تحت الكفرة المصرين ، وبهذا الاعتبار صاروا قسما ثالثا فالقسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بالاعتبار ، وفي قوله تعالى يقول وآمنا مراعاة للفظ (مِنَ) ومعناها ولو راعى الأول فقط لقال آمنت أو الثاني فقط لقال يقولون ولما روعيا جميعا حسن مراعاة اللفظ أولا إذ هو في الخارج قبل المعنى والواحد قبل الجمع ولو عكس جاز ، وزعم ابن عطية أنه لا يجوز الرجوع من جمع إلى توحيد ويرده قول الشاعر :

لست ممن يكع أو يستكينو

ن إذا كافحته خيل الأعادي

واقتصر من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر مع أنهم كانوا يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان إذ من آمن بالله تعالى ـ على ما يليق بجلال ذاته ـ آمن بكتبه ورسله وشرائعه ، ومن علم أنه إليه المصير استعد لذلك بالأعمال الصالحة ، وفي ذلك إشعار بدعوى حيازة الإيمان بطرفيه المبدأ والمعاد وما طريقه العقل والسمع ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة أو أن تخصيص ذلك بالذكر للإيذان بأنهم

١٤٦

يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة لأن القوم في المشهور كانوا يهودا وهم مخلصون في أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ظنهم ، ومع ذلك كانوا ينافقون في كيفية الإيمان بهما ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به أصلا كنبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن أو أنهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل صلى الله تعالى عليه وسلم وما بلغه ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم ، وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيمانا لأنه لا بد من الإقرار بما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم فكيف وهو مخادعة وتلبيس؟! وقيل : إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا عقائدهم التي كانوا عليها في المبدأ والمعاد واعترفوا أنهم كانوا في ضلال خصوا إيمانهم بذلك لأنهم كانوا قائلين بسائر الأصول ، وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك ، وأيضا ترك الراسخ في القلب مما عليه الآباء بترك الإيمان به صلى الله تعالى عليه وسلم من المسلمات فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشد منه عليهم ـ وحمل (بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) على القسم منهم على الإيمان ـ سمج بالله. وأسمج منه بمراتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان وكررت مبالغة في الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي (١). واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا يتناهى أو ما عينه الله تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعدله ، وسمي آخرا لأنه آخر الأوقات المحدودة والأشبه هو الأول سواء كان حقيقة أو مجازا ولأن الإيمان به يتضمن الإيمان بالثاني لدخوله فيه من غير عكس ، نعم المناسب للفظ اليوم ـ لغة ـ هو الثاني لمحدوديته وهو على كل تقدير مغاير لما عند الناس لأن اليوم ـ عرفا ـ من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعا على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب. واصطلاحا من نصف النهار إلى نصف النهار والأمر وراء ذلك ، وسيأتي لذلك تتمة ، وفي قوله سبحانه : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) حيث قدم الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم وقد بلغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامة المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا ، وأكد ذلك النفي بالباء (٢) أيضا وهذا سبب العدول عن الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام ، وبعضهم يجري الكلام على التخصيص وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم قيل في جوابهم (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) على قصر الأفراد والذوق يبعده ، وإطلاق الوصف للإشارة إلى العموم وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء ، وقد يقيد بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه إلا أن نفي المطلق يستلزم نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد.

وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمنا ، وأما على أن من أقر بلسانه وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه ليس بمؤمن فلا لوجود المنافي في المنافق هنا لأنه من المختوم على قلبه أو لأن الله تعالى كذبه وليس إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني كذا قيل ، ودقق بعضهم مدعيا أن من يجعل الإيمان الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الإنكار والتكذيب أم لا يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين ولا يكفي عنده نحو آمنت بالله وباليوم الآخر لأن المدار على النطق بهما كما ورد في الصحيح حتى اشترط بعضهم لفظ أشهد ، والاسم الخاص به تعالى واسم

__________________

(١) لأن إعادة العامل تقتضي أن متعلقه كالمعاد كما قال (س) في مررت بزيد وبعمرو فيفيد ما ذكر وهو ظاهر ا ه منه.

(٢) فيه إشارة إلى أن النفي اعتبر أولا ثم أكد فالكلام من تأكيد النفي لا نفي التأكيد ا ه منه.

١٤٧

محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فليس في الآية حينئذ دليل على إبطال مذهب الكرامية بوجه فليتدبر.

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) أصل الخدع بفتح الخاء وكسرها الإخفاء والإيهام ، وقيل : بالكسر اسم مصدر ، ومنه المخدع (١) للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في موضع المحجمة وخدع الضب إذا توارى واختفى ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة وإبطال ما يقتضي الأضرار بالغير أو التخلص منه كما قاله الإمام ، وقال السيد : هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه وتصيبه به ، وفي الكشف التحقيق أن الخدع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلا يستهجن شرعا أو عقلا أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه أو إصابة مكروه لغيره مع خفائهما على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه أو لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوره وعليه يكون : الحرب خدعة (٢) مجازا ولا تخفى غرابته. والمخادعة مفاعلة ، والمعروف فيها أن يفعل كل أحد بالآخر مثل ما يفعله به فيقتضي هنا أن يصدر من كل واحد من الله ومن المؤمنين ومن المنافقين فعل يتعلق بالآخر ، وظاهر هذا مشكل لأن الله سبحانه لا يخدع ولا يخدع ، أما على التحقيق فلأنه غني عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه وهو أيضا متعال على التعمل واستحضار المقدمات ولأنه أجلّ عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقص الانفعال وخفاء معلوم ما عليه ، وأما على ما ذكره السيد فلأنه جل شأنه أجلّ من أن تخفى عليه خافية أو يصيبه مكروه فكيف يمكن للمنافقين أن يخدعوه ويوقعوا في علمه خلاف ما يريدون من المكروه ويصيبونه به مع أنهم لكونهم من أهل الكتاب عالمون باستحالة ذلك ، والعاقل لا يقصد ما تحقق لديه امتناعه ، وأما أنه لا يخدع فلأنه وإن جاز عندنا أن يوقع سبحانه في أوهام المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به لكن يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق ـ كما في الانتصاف ـ ولذا زيد في تفسيره مع استشعار خوف أو استحياء من المجاهرة ، وأما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا إلا أنه يبعد أن يقصدوا خدع المنافقين لأنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وهي أشبه شيء بالنفاق وهم في غنى عنه على أن الانخداع المتمدح به هو التخادع بمعنى إظهار التأثر دونه كرما كما يشير إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن غر كريم» لا الانخداع الدال على البله ، ولذا قالت عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما : كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع ، ويجاب عن ذلك بأن صورة صنيعهم مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون ، وصورة صنيع الله تعالى معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل ، وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم فأجروا ذلك عليهم تشبه صورة المخادعة ففي الكلام إما استعارة تبعية في (يُخادِعُونَ) وحده أو تمثيلية في الجملة وحيث إن ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل صريحا وكون المفعول آتيا بمثل فعله مدلول عليه من عرض الكلام حسن إيراد ذلك في معرض الذم لما أسند إليه الفعل صريحا وكون مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة ـ كما قاله مولانا مفتي الديار الرومية ـ مما لا يخدش هذا الوجه الحسن أو يجاب ـ كما قيل ـ بأن المراد مخادعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوقع الفعل على غير ما

__________________

(١) المخدع مثلث ، والخزانة لا تفتح ا ه منه.

(٢) يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال ، وبضمها مع فتح الدال ، فالأول معناه أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة من الخداع أي أن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم يكن لها إقالة ، وهو أفصح الروايات وأصحها ، ومعنى الثاني هو الاسم من الخدع ، ومعنى الثالث أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم كما يقال رجل لعبة وضحكة للذي يكثر اللعب والضحك فليفهم وليحفظ ا ه منه.

١٤٨

يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة فهناك مجاز عقلي في النسبة الإيقاعية وهذا ظاهر على رأي من يكتفي بالملابسة بين ما هو له وغير ما هو له ، وأما على رأي من يعتبر ملابسة الفعل بغير ما هو له بأن يكون من معمولاته فلا ، على أنه يبقى من الإشكال أن لا خدع من الرسول والمؤمنين ولا مجال لأن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازا لاتحاد اللفظ وكأن المجيب إما قائل بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو غير قائل بامتناع صدور الخدع من الرسول والمؤمنين حتى يتأتى لهم ما يريدون من إعلاء الدين ومصالح المسلمين. وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأبو حيوة ـ يخدعون ـ والجواب عما يلزم هو الجواب فيما لزم ، وقد تأتي فاعل بمعنى فعل كعافاني الله تعالى وعاقبت اللص فلا بعد في حمل قراءة الجمهور على ذلك ويكون إيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ به أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع (يُخادِعُونَ) إما بيان ليقول لا على وجه العطف إذ لا يجري عطف البيان في الجمل عند النحاة وإن أوهمه كلام أهل المعاني وإما استئناف بياني كأنه قيل : لم يدعون الإيمان كاذبين وما ذا نفعهم؟ فقيل يخادعون إلخ ، وهذا في المآل كالأول ولعل الأول أولى. وجوز أبو حيان كون هذه الجملة بدلا من صلة من بدل اشتمال أو حالا من الضمير المستكن في يقول أي مخادعين ، وأبو البقاء أن يكون حالا من الضمير المستتر في مؤمنين ، ولعل النفي متوجه للمقارنة لا لنفس الحال ـ كما في ما جاءني زيد ، وقد طلع الفجر ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال : ٣٣] على أنه قد تجعل الحال ونحوها في مثل ذلك قيدا للنفي لا للمنفي كما قرروه في ـ لم أبالغ ـ في اختصاره تقريبا. وجعل الجملة صفة للمؤمنين ممنوع لمكان النفي والقيد وليست حال الصفة كصفة الحال فلا عجب في تجويز إحداهما ومنع الأخرى كما توهمه أبو حيان في بحره ، نعم التعجب من كون الجملة بيانا للتعجب من كونهم من الناس كما لا يخفى. ثم إن الغرض من مخادعة هؤلاء لمن خادعوه كالغرض من نفاقهم طبق النعل بالنعل فقد قصدوا تعظيمهم عند المؤمنين والتطلع على أسرارهم ليفشوها ورفع القتل عنهم أو ضرب الجزية عليهم والفوز بسهم من الغنائم ونحو ذلك وثمرة مخادعة من خادعوه إياهم إن كانت حكم إلهية ومصالح دينية ربما يؤدي تركها إلى مفاسد لا تحصى ومحاذير لا تستقصى ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو : وما يخادعون ، وقرأ باقي السبعة : «وما يخدعون» وقرأ الجارود وأبو طالوت : «وما يخدعون» ـ بضم الياء ـ مبنيا للمفعول. وقرأ بعضهم : «وما يخادعون» ـ بفتح الدال مبنيا للمفعول أيضا ـ وقرأ قتادة والعجلي : «وما يخدعون» من خدع مضاعفا مبنيا للفاعل ، وبعضهم ـ بفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة ـ وما عدا القراءتين الأوليين شاذة وعليهما نصب أنفسهم على المفعولية الصرفة أو مع الفاعلية معنى ، وأما على قراءة بناء الفعل للمفعول فهو إما على إسقاط الجار أي في أنفسهم أو عن أنفسهم أو على التمييز على رأي الكوفيين أو التشبيه بالمفعول على زعم بعضهم أو على أنه مفعول بتضمين الفعل يتنقصون مثلا ، ولا يشكل على قراءة يخادعون أنه كيف يصح حصر الخداع على أنفسهم ، وذلك يقتضي نفيه عن الله تعالى والمؤمنين ، وقد أثبت أولا ، وإن المخادعة إنما تكون في الظاهر بين اثنين فكيف يخادع أحد نفسه لأنا نقول المراد أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها عائد عليهم فالخداع هنا هو الخداع الأول والحصر باعتبار أن ضرره عائد إلى أنفسهم فتكون العبارة الدالة عليه مجازا أو كناية عن انحصار ضررها فيهم أو نجعل لفظ الخداع مجازا مرسلا عن ضرره في المرتبة الثانية ، وكونه مجازا باعتبار الأول كما قاله السعد غير ظاهر. وقد يقال : إنهم خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم حيث حدثتهم بالأماني الخالية ، فالمراد بالخداع غير الأول. والمخادع والمخادع متغايران بالاعتبار فالخداع على هذا مجاز عن إيهام الباطل وتصويره بصورة الحق ، وحمله على حقيقته بعيد وكون ذلك من التجريد كقوله :

١٤٩

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النطق إن لم يسعد الحال

لا يرتضيه الذوق السليم كالقول بأن الكلام من باب المبالغة في امتناع خداعهم لله تعالى وللمؤمنين لأنه كما لا يخفى خداع المخادع لنفسه فيمتنع خداعه لها يمتنع خداع الله تعالى لعلمه والمؤمنون لاطلاعهم بإعلامه تعالى أو الكناية عن أن مخالفتهم ومعاداتهم لله تعالى وأحبابه معاملة مع أنفسهم لأن الله تعالى والمؤمنين ينفعونهم كأنفسهم ، وبعضهم يجعل التعبير هنا بالمخادعة للمشاكلة مع كون كل من المشاكل والمشاكل مجازا وكل يعمل على شاكلته «والنفس» حقيقة الشيء وعينه ولا اختصاص لها بالأجسام لقوله تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الإنعام : ١٢] (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨ ، ٣٠] وتطلق على الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وسماها الحكيم الروح الحيوانية وأول عضو تحله القلب إذ هو أول ما يخلق على المشهور ، ومنه تفيض إلى الدماغ والكبد وسائر الأعضاء ولا يلزم من ذلك أن يكون منبت الأعصاب إذ من الجائز أن يكون العضو المستفيد منبتا لآلة الاستفادة ، وقيل : الدماغ لأنه المنبت ولم تقم دلالة قطعية على ذلك كما في شرح القانون للإمام الرازي وكثيرا ما تطلق على الجوهر المجرد المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهي الروح الأمرية المرادة في من عرف نفسه فقد عرف ربه ـ وتسمى النفس الناطقة وبتنوع صفاتها تختلف أسماؤها وأحظى الأعضاء بإشراق أنوارها المعنوية القلب أيضا ولذلك الشرف قد يسمى نفسا ، وبعضهم يسمي الرأي بها ، والظاهر في الآية على ما قيل : المعنى الأول إذ المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم ولا يتخطاهم إلى غيرهم وليس بالمتعيّن كما لا يخفى ، وتطلق على معان أخر ستسمعها مع تحقيق هذا المبحث إن شاء الله تعالى.

وجملة (وَما يَشْعُرُونَ) مستأنفة أو معطوفة على (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) ومفعول (يَشْعُرُونَ) محذوف أي (وَما يَشْعُرُونَ) أنهم يخدعونها أو أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون أو اطلاع الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على خداعهم وكذبهم ـ كما روي ذلك عن ابن عباس ـ أو هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم كما روي عن زيد ، أو المراد لا يشعرون بشيء ، ويحتمل ـ كما في البحر ـ أن يكون (وَما يَشْعُرُونَ) جملة حالية أي (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) غير شاعرين بذلك ولو شعروا لما خادعوا ، والشعور الإدراك بالحواس الخمس الظاهرة ويكون بمعنى العلم ، قال الراغب : شعرت كذا يستعمل بوجهين بأن يؤخذ من مس الشعر ويعبر به عن اللمس ؛ ومنه استعمل المشاعر للحواس ، فإذا قيل : فلان لا يشعر فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر ، وتارة يقال : شعرت كذا أي أدركت شيئا دقيقا من قولهم شعرته أي أصبت شعره نحو ـ أذنته ورأسته ـ وكان ذلك إشارة إلى قولهم فلان يشق الشعر إذا دق النظر ، ومنه أخذ الشاعر لإدراك دقائق المعاني انتهى. والآية تحتمل نفي الشعور بمعنى العلم فمعنى (لا يَشْعُرُونَ) لا يعلمون وكثيرا ما ورد بهذا المعنى ، وفي اللحاق نوع إشارة إليه ، ويحتمل نفيه بمعنى الإدراك بالحواس فيجعل متعلق الفعل كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على فاقد الحواس ، ونفي ذلك نهاية الذم لأن من لا يشعر بالبديهي المحسوس مرتبته أدنى من مرتبة البهائم فهم كالإنعام بل هم أضل ، ولعل هذا أولى لما فيه من التهكم بهم مع الدلالة على نفي العلم بالطريق الأولى ، وهو أيضا أنسب بقوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) كما لا يخفى.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) المرض بفتح الراء كما قرأ الجمهور ، وبسكونها كما قرأ الأصمعي عن أبي عمر ـ وعلى ما ذهب إليه أهل اللغة ـ حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل ، وعند الأطباء ما يقابل الصحة وهي الحالة التي تصدر عنها الأفعال سليمة ، والمراد من الأفعال ما هو متعارف

١٥٠

وهي إما طبيعية كالنمو أو حيوانية كالنفس أو نفسانية كجودة الفكر ، فالحول والحدب مثلا مرض عندهم دون أهل اللغة وقد يطلق المرض لغة على أثره وهو الألم كما قاله جمع ممن يوثق بهم ، وعلى الظلمة كما في قوله :

في ليلة مرضت من كل ناحية

فما يحس بها نجم ولا قمر

وعلى ضعف القلب وفتوره كما قاله غير واحد ويطلق مجازا على ما يعرض المرء مما يخل بكمال نفسه كالبغضاء والغفلة وسوء العقيدة والحسد وغير ذلك من موانع الكمالات المشابهة لاختلال البدن المانع عن الملاذ والمؤدية إلى الهلاك الروحاني الذي هو أعظم من الهلاك الجسماني ، والمنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وسائر السلف الصالح حمل المرض في الآية على المعنى المجازي. ولا شك أن قلوب المنافقين كانت ملأى من تلك الخبائث التي منعتهم مما منعتهم وأوصلتهم إلى الدرك الأسفل من النار. ولا مانع عند بعضهم أن يحمل المرض أيضا على حقيقته الذي هو الظلمة (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧] وكذا على الألم فإن في قلوب أولئك ألما عظيما بواسطة شوكة الإسلام وانتظام أمورهم غاية الانتظام ، فالآية على هذا محتملة للمعنيين ونصب القرينة المانعة في المجاز إنما يشترط في تعيينه دون احتماله فإذا تضمن نكتة ساوى الحقيقة فيمكن الحمل عليهما نظرا إلى الأصالة والنكتة إلا أنه يرد هنا أن الألم مطلقا ليس حقيقة المرض بل حقيقته الألم السوء المزاج وهو مفقود في المنافقين والقول بأن حالهم التي هم عليها تقضي إليه في غاية الركاكة على أن قلوب أولئك لو كانت مريضة لكانت أجسامهم كذلك أو لكان الحمام عاجلهم ويشهد لذلك الحديث النبوي والقانون الطبي ، أما الأول فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجسد مضغة» الحديث ، وأما الثاني فلأن الحكماء بعد أن بينوا تشريح القلب قالوا إذا حصلت فيه مادة غليظة فإن تمكنت منه ومن غلافه أو من أحدهما عاجلت المنية صاحبه وإن لم تتمكن تأخرت الحياة مدة يسيرة ولا سبيل إلى بقائها مع مرض القلب ، فالأولى دراية ورواية حمله على المعنى المجازي ـ ومنه الجبن والخور ـ وقد داخل ذلك قلوب المنافقين حين شاهدوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ما شاهدوا. والتنوين للدلالة على أنه نوع غير ما يتعارفه الناس من الأمراض ، ولم يجمع كما جمع القلوب لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلا فاكتفى بجمعها عن جمعه. والجملة الأولى إما مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق أو مقررة لما يفيده (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) من استمرار عدم إيمانهم أو تعليل له كأنه قيل : ما بالهم لا يؤمنون؟ فقال : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يمنعه أو مقررة لعدم الشعور وإن كان سبيل قوله : (وَما يَشْعُرُونَ) سبيل الاعتراض ـ على ما قيل ـ وجملة فزادهم الله مرضا إما دعائية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه والمعترضة قد تقترن بالفاء كما في قوله :

واعلم فعلم المرء ينفعه

أن سوف يأتي كلّ ما قدرا

كما صرح به في التلويح وغيره نقلا عن النحاة أو إخبارية معطوفة على الأولى وعطف الماضي على الاسمية لنكتة إن أريد في الأولى أن ذلك لم يزل غضا طريا إلى زمن الأخبار ، وفي الثانية أن ذلك سبب لازدياد مرضهم المحقق إذ لو لا تدنس فطرتهم لازدادوا بما منّ الله تعالى به على المؤمنين شفاء ولا يتكرر هذا مع قوله تعالى: (يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) [البقرة : ١٥] للفرق بين زيادة المرض وزيادة الطغيان على أنه لا مانع من زيادة التوكيد مع بعد المسافة ، وأيضا الدعاء إن لم يكن جاريا على لسان العباد أو مرادا به مجرد السب والتنقيص يكون إيجابا منه سبحانه فيؤول إلى ما آل إليه الأخبار وزيادة الله تعالى مرضهم إما بتضعيف حسدهم بزيادة نعم الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين أو ظلمة قلوبهم بتجدد كفرهم بما ينزله سبحانه شيئا فشيئا من الآيات والذكر الحكيم فهم في

١٥١

ظلمات بعضها فوق بعض أو بتكثير خوفهم ورعبهم المترتب عليه ترك مجاهرتهم بالكفر بسبب إمداد الله تعالى الإسلام ورفع أعلامه على أعلام الإعزاز والاحترام ، أو بإعظام الألم بزيادة الغموم وإيقاد نيران الهموم.

والغم يخترم النفوس نحافة

ويشيب ناصية الصبي ويهرم

ويكون ذلك بتكاليف الله تعالى لهم المتجددة وفعلهم لها مع كفرهم بها وبتكليف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ببعض الأمور وتخلفهم عنه الجالب لما يكرهونه من لومهم وسوء الظن بهم فيغتمون إن فعلوا وإن تركوا ونسبة الزيادة إلى الله تعالى حقيقة ولو فسرت بالطبع فإنه سبحانه الفاعل الحقيقي بالأسباب وبغيرها ولا يقبح منه شيء ، وبعضهم جعل الإسناد مجازا في بعض الوجوه ولعله نزغة اعتزالية ، وأغرب بعضهم فقال. الإسناد مجازي كيفما كان المرض ، وحمل على أن المراد أنه ليس هنا من يزيدهم مرضا حقيقة على رأي الشيخ عبد القاهر في أنه لا يلزم في الإسناد المجازي أن يكون للفعل فاعل يكون الإسناد إليه حقيقة مثل.

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا

فتدبر ، وإنما عدى سبحانه الزيادة إليهم لا إلى القلوب فلم يقل فزادها إما ارتكابا لحذف المضاف ـ أي فزاد الله قلوبهم مرضا ـ أو إشارة إلى أن مرض القلب مرض لسائر الجسد أو رمزا إلى أن القلب هو النفس الناطقة ولولاها ما كان الإنسان إنسانا وإعادة مرض منكرا لكونه مغايرا للأول ضرورة أن المزيد يغاير المزيد عليه ، وتوهم من زعم أنه من وضع المظهر موضع المضمر ، والتنكير للتفخيم ، والأليم فعيل من الألم بمعنى مفعل كالسميع بمعنى مسمع ، وعلى ما ذهب إليه الزمخشري من ألم الثلاثي كوجيع من وجع ، وإسناده إلى العذاب مجاز على حد جد جده ، ولم يثبت عنده فعيل بمعنى مفعل وجعل بديع السماوات من باب الصفة المشبهة أي بديعة سماواته ، وسميع في قوله :

أمن ريحانة الداعي السميع

يؤرقني وأصحابي هجوع

بمعنى سامع ـ أي أمن ريحانة داع من قلبي سامع لدعاء داعيها ـ بدليل ما بعده فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس وأفكارها فعلى هذا يكون تفسيره بمؤلم اسم فاعل بيان لحاصل المعنى ، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كل شيء في القرآن أليم فهو موجع ، وقد جمع للمنافقين نوعان من العذاب عظيم ، وأليم ، وذلك للتخصيص بالذكر هنا والاندراج مع الكفار هناك ، قيل : وهذه الجملة معترضة لبيان وعيد النفاق والخداع والباء إما للسببية أو للبدلية و (بِما) إما مصدرية مؤولة بمصدر كان إن كان أو بمصدر متصيد من الخبر كالكذب وإما موصولة ، واستظهره أبو البقاء بأن الضمير المقدر عائد على ما أورده في البحر بأنه لا يلزم أن يكون ثم مقدر بل من قرأ يكذبون بالتخفيف وهم الكوفيون فالفعل غير متعد ومن قرأ بالتشديد كنافع وابن كثير وأبي عمر فالمفعول محذوف لفهم المعنى والتقدير بكونهم يكذبون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما جاء به ، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف للمبالغة في الكيف كما قالوا في ـ بان الشيء وبين ، وصدق وصدق ـ وقد يكون التضعيف للزيادة في الكم ـ كموتت الإبل ـ ويحتمل أن يكون من كذب الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه ، وتلك حال المتحير وهي حال المنافق ففي الكلام حينئذ استعارة تبعية تمثيلية أو تبعية أو تمثيلية ويشهد لهذا المعنى قوله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة» والجار والمجرور صفة لعذاب لا لأليم كما قاله أبو البقاء لأن الأصل في الصفة أن لا توصف والكذب هو الأخبار عن الشيء النسبة أو الموضوع على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر عندنا ، وفي الاعتقاد عند النظام ، وفيهما عند الجاحظ ، وكل مقصود محمود يمكن التواصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب فالكذب فيه مباح إن كان

١٥٢

تحصيل ذلك المقصود مباحا وواجب إن كان واجبا ، وصرح في الحديث بجوازه في ثلاث مواطن في الحرب ، وإصلاح ذات البين ، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها ولا حصر ولهذا جاز تلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار فينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضررا فله الكذب وإن كان عكسه أو شك حرم عليه ، فما قاله الإمام البيضاوي عفا الله تعالى عنه من أن الكذب حرام كله يوشك أن يكون مما سها فيه. وفي الآية تحريض للمؤمنين على ما هم عليه من الصدق والتصديق فإن المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على الكذب دون النفاق الذي هو هو تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب وتصور سماجته فانزجر عنه أعظم انزجار ، وهذا ظاهر على قراءة التخفيف ويمكن في غيرها أيضا لأن نسبة الصادق إلى الكذب كذب ، وكذا كثرته وإن تكلف في المعنى الأخير ، وقيل : إنه مأخوذ من كذب المتعدي كأنه يكذب رأيه فيقف لينظر لكن لما كثر استعماله في هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه لها أمكن ـ على بعد بعيد ـ ذلك التحريض ، ولا يرد على تحريم الكذب ـ في بعض وجوهه ـ ما روي في حديث الشفاعة عن إبراهيم عليه‌السلام أنه يقول : «لست لها إني كذبت ثلاث كذبات» ـ وعنى كما في رواية أحمد ـ (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] و (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٣] وقوله الملك في جواب سؤاله على امرأته سارة هي أختي حين أراد غضبها ، وكان من طريق السياسة التعرض لذات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن فإنها إن كانت من الكذب المحرم فأين العصمة وهو أبو الأنبياء؟! وإن لم تكن كذلك فقد أخبر يوم القيامة بخلاف الواقع وحاشاه حيث إن المفهوم من ذلك الكلام أني أذنبت فأستحيي أن أشفع ، وهي يستحي مما لا إثم فيه ولقوة هذه الشبهة قطع الرازي بكذب الرواية صيانة لساحة إبراهيم عليه‌السلام لأنا نقول إن ذلك من المعاريض ، وفيها مندوحة عن الكذب ، وقد صدرت من سيد أولى العصمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله مما في حديث الهجرة ، وتسميته كذبا على سبيل الاستعارة للاشتراك في الصورة فهي من المعاريض الصادقة كما ستراه بأحسن وجه إن شاء الله تعالى في موضعه لكنها لما كانت مبنية على لين العريكة مع الأعداء ، ومثله ممن تكفل الله تعالى بحمايته يناسبه المبارزة ـ فلعدوله عن الأولى بمقامه ـ عد ذلك في ذلك المقام ذنبا وسماه كذبا لكونه على صور وما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك لم يقع في مثل هذا المقام حتى يستحيي منه فلكل مقام مقال ، على أنا نقول : إنها لو كانت كذبا حقيقة لا ضرر فيها ولا استحياء منها ، كيف وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : «ما منها كذبة إلا جادل بها عن دين الله تعالى فهي من الكذب المباح» لكن لما كان مقام الشفاعة هو المقام المحمود المخبوء للحبيب لا الخليل أظهر الاستحياء للدفع عنه بما يظن أنه مما يوجب ذلك وهو لا يوجبه. وفي ذلك من التواضع وإظهار العجز والدفع بالتي هي أحسن مما لا يخفى فكأنه قال : أنا لا آمن من العتاب على كذب مباح فكيف لي بالشفاعة لكم في هذا المقام فليحفظ ، ثم إن الإتيان بالأفعال المضارعة في أخبار الأفعال الماضية الناقصة أمر مستفيض ـ كأصبح يقول كذا ، وكادت تزيغ قلوب فريق منهم ـ ومعناه أنه في الماضي كان مستمرا متجددا بتعاقب الأمثال والمضي والاستقبال بالنسبة لزمان الحكم ، وقد عد الاستمرار من معاني «كان» فلا إشكال في (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) حيث دلت «كان» على انتساب الكذب إليهم في الماضي ويكذبون على انتسابه في الحال والاستقبال والزمان فيهما مختلف ودفعه بأن «كان» دالة على الاستمرار في جميع الأزمنة ـ ويكذبون ـ دل على الاستمرار التجددي الداخل في جميع الأزمنة على علاته يغني الله تعالى عنه. وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ووافقه ابن ذكوان في إمالة جاء وشاء وزاد هذه ، وعنه خلاف في زاد غيرها ، والإمالة لتميم والتفخيم للحجاز. وقد نظم أبو حيان تلك العشرة فقال :

١٥٣

وعشرة أفعال تمال لحمزة

فجاء وشاء ضاق ران وكملا

بزاد وخاب طاب خاف معا وحا

ق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٠)

[البقرة : ١١ ـ ٢٠] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) اختلف في هذه الجملة فقيل معطوفة على ـ يكذبون ـ لأنه أقرب وليفيد تسببه للعذاب أيضا وليؤذن أن صفة الفساد يحترز منها كما يحترز عن الكذب. ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في حيز صلة الموصول الواقع سببا إذ المعنى في قولهم : «إنما نحن مصلحون» إنكار لادعائهم أن ما نسب لهم منه صلاح وهو عناد وإصرار على الفساد والإصرار على ذلك فساد وإثم ، وهذا الذي مال إليه الزمخشري ـ وهو مبني على عدم الاحتياج إلى ضمير في الجملة ـ يعود إلى «ما» فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا يكون التقدير ـ ولهم عذاب أليم ـ بالذي كانوا إذا قيل لهم إلخ وهو غير منتظم وكأن من يجعل «ما» مصدرية يجعل الوصل «بكان» حيث لم يعهد وصلها بالجملة الشرطية نعم يرد أن قوله تعالى : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) كذب فيؤول المعنى إلى استحقاق العذاب بالكذب وعطف التفسير مما يأباه الذوق والاستعمال (١) ومن هنا قيل : بأن هذا العطف وجيه على قراءة يكذبون بالتشديد على أحد احتمالاته ليكون سببا للجمع بين ذمهم بالكذب والتكذيب. وقول مولانا مفتي الديار الرومية في الاعتراض : أن هذا النحو من التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف غنية عن البيان لشهرة الاتصاف بها عند السامع أو لسبق الذكر صريحا أو استلزاما ، ولا ريب في أن هذه الشرطية غير معلومة الانتساب بوجه ـ حتى تستحق الانتظام في سلك التعليل ـ لا يخفى ما فيه على من أمعن النظر ، وقيل : معطوفة على يقول لسلامته مما في ذلك العطف من الدغدغة ولتكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا وقصدا ودلالتها على لحوق

__________________

(١) فقد قالوا عطف التفسير بالواو في الجمل خلاف الظاهر ا ه منه.

١٥٤

العذاب بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم فما ظنك بسائرها؟ ولكون هذا الماضي لمكان إذا مستقبلا حسن العطف ، وفيه أن مآل هذه الجملة الكذب كما أشير إليه فلا تغاير سابقها ولو سلم التغاير بالاعتبار وضم القيود فهي جزء الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال ، وأيضا كون ذلك الكذب أدنى أحوالهم لا يقبل عند من له أدنى عقل على أن تخلل البيان والاستئناف وإن لم يكن أجنبيا بين أجزاء الصلة أو الصفة لا يخلو عن استهجان فالذي أميل إليه وأعول دون هذين الأمرين عليه ما اختاره المدقق في الكشف ، وقريب منه كلام أبي حيان في البحر أنها معطوفة على قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) لبيان حالهم في ادعاء الإيمان وكذبهم فيه أولا ثم بيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا ، ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال وإن لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية فهو أرجح بحسب السياق ونمط تعديد القبائح ، وما قيل عليه إنه ليس مما يعتد به وإن توهم كونه أو في بتأدية هذه المعاني وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر التي فيها إليهم ـ كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام ـ كلام خارج عن دائرة الإنصاف كما يشهد به سلامة الفطرة من داء التعصب والاعتساف فإن عود الضمائر رابط للصفات بهم وسوق الكلام مناد عليه ، وقد يأتي في القصة الواحدة جملة مستأنفة بغير عطف فإذا لم ينافه الاستئناف رأسا كيف ينافيه العطف على أوله المستأنف ، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص وأصحابها وما أخرجه ابن جرير عن سلمان رضي الله تعالى عنه ـ من أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد ـ ليس المراد به أنها مخصوصة بقوم آخرين كما يشعر به الظاهر بل إنها لا تختص بمن كان من المنافقين وإن نزلت فيهم إذ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم. ثم القائل للمنافقين في عصر النزول هذا القول إما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبليغا عن الله سبحانه المخبر له بنفاقهم أو أنه عليه الصلاة والسلام بلغه عنهم ذلك ولم يقطع به فنصحهم فأجابوه بما أجابوه أو بعض المؤمنين الظانين بهم المتفرسين بنور الإيمان فيهم أو بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله منهم لأمر ما فينقلب واعظا لهم قائلا (لا تُفْسِدُوا) ، والفساد التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة ونقيضه الصلاح ، والمعنى لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد ـ وهو هنا الكفر كما قاله ابن عباس ـ أو المعاصي ـ كما قاله أبو العالية ـ أو النفاق الذي صافوا به الكفار فأطلعوهم على أسرار المؤمنين فإن كل ذلك يؤدي ـ ولو بالوسائط ـ إلى خراب الأرض وقلة الخير ونزع البركة وتعطل المنافع ، وإذا كان القائل بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله ممن شاركهم في الكفر يحمل الفساد على هيج الحروب والفتن الموجب لانتفاء الاستقامة ومشغولية الناس بعضهم ببعض فيهلك الحرث والنسل. ولعل النهي عن ذلك لخور أو تأمل في العاقبة وإراحة النفس عما ضرره أكبر من نفعه مما تميل إليه الحذاق. على أن في أذهان كثير من الكفار إذ ذاك توقع ما يغني عن القتال من وقوع مكروه بالمؤمنين (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] ، ولا يخفى ما في هذا الوجه من التكلف ؛ والمراد من ـ الأرض ـ جنسها أو المدينة المنورة ، والحمل على جميع الأرض ليس بشيء إذ تعريف المفرد يفيد استيعاب الأفراد لا الأجزاء ، اللهم إلا أن يعتبر كل بقعة أرضا ، لكن يبقى أنه لا معنى للحمل على الاستغراق باعتبار تحقق الحكم في فرد واحد وليس ذكر الأرض لمجرد التأكيد بل في ذلك تنبيه على أن الفساد واقع في دار مملوكة لمنعم أسكنكم بها وخولكم بنعمها.

وأقبح خلق الله من بات عاصيا

لمن بات في نعمائه يتقلب

وإنما للحصر كما جرى عليه بعض النحويين وأهل الأصول ، واختار في البحر أن الحصر يفهم من السياق ولم تدل عليه وضعا ، وجعل القول بكونها مركبة من «ما» النافية دخل عليها «أن» التي للإثبات فأفادت الحصر قولا ركيكا

١٥٥

صادر عن غير عارف بالنحو. ومعنى (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) مقصورون على الإصلاح المحض الذي لم يشبه شيء من وجوه الفساد وقد بلغ في الوضوح بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه ، والقصر إما قصر إفراد أو قلب وهذا إما ناشئ عن جهل مركب فاعتقدوا الفساد صلاحا فأصروا واستكبروا استكبارا.

يقضى على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

وإما جار على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، وقرأ هشام والكسائي «قيل» بإشمام الضم ليكون دالا على الواو المنقلبة ، وقول : بإخلاص الضم وسكون الواو لغة لهذيل ولم يقرأ بها.

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) رد لدعواهم المحكية على أبلغ وجه حيث سلك فيه مسلك الاستئناف المؤدي إلى زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع مع تأكيد الحكم وتحقيقه «بأن ، وألا» بناء على تركبها من همزة الاستفهام الإنكاري الذي هو نفي معنى «ولا» النافية فهو نفي نفي فيفيد الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره ـ ولإفادتها التحقيق ـ كما قال ناصر الدين : لا يكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم «كان ، واللام ، وحرف النفي» والذي ارتضاه الكثير أنها بسيطة لا لأنها تدخل على أن المشددة و (لا) النافية لا تدخل عليها إذ قد يقال : انفسخ بعد التركيب حكمها الأصلي بل لأن الأصل البساطة ، ودعوى لا يكاد إلخ لا تكاد تسلم كيف وقد دخلت على رب وحبذا ويا النداء في ـ ألا رب يوم صالح لك منهما ـ و ـ ألا حبذا هند وأرض بها هند ـ و ـ ألا يا قيس والضحاك سيرا ـ وضم إلى ذلك تعريف الخبر وتوسيط الفصل وأشار ب (لا يَشْعُرُونَ) على وجه إلى أن كونهم من المفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر وإن لم يدركوه ، وأتى سبحانه بالاستدراك هنا ولم يأت به بعد المخادعة لأن المخادعة هناك لم يتقدمها ما يتوهم منه الشعور توهما يقتضي تعقيبه بالرفع بخلاف ما هنا فإنهم لما نهوا عما تعاطوه من الفساد الذي لا يخفى على ذوي العقول فأجابوه بادعاء أنهم على خلافه ، وأخبر سبحانه بفسادهم كانوا حقيقين بالعلم به مع أنهم ليسوا كذلك فكان محلا للاستدراك. وما يقال : من أنه لا ذمّ على من أفسد ولم يعلم وإنما الذم على من أفسد عن علم ، يدفعه أن المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب بل ربما يقال : إنه أسوأ حالا من غيره ، وهذا كله على تقدير أن يكون مفعول (لا يَشْعُرُونَ) محذوفا مقدرا بأنهم مفسدون ، ويحتمل أن يقدر أن وبال ذلك الفساد يرجع إليهم ، أو أنا نعلم أنهم مفسدون ويكون (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) لإفادة لازم فائدة الخبر بناء على أنهم عالمون بالخبر جاحدون له كما هو عادتهم المستمرة ، ويبعد هذا إذا كان المنافقون أهل كتاب ، ويحتمل أن لا ينوي محذوف وهو أبلغ في الذم. وفيه مزيد تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث بمخالفته ، وفي التأويلات ـ لعلم الهدى ـ إن هذه الآية حجة على المعتزلة في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به وأن الحجة لا تلزم بدون المعرفة فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم فلو كان حقيقة العلم شرطا للتكليف ولا علم لهم به لم يكن صنيعهم إفسادا لأن الإفساد ارتكاب المنهي عنه فإذا لم يكن النهي قائما عليهم عن النفاق لم يكن فعلهم إفسادا فحيث كان إفسادا دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة فيكون حجة عليهم. وهذه المسألة متفرعة على مسألة مقارنة القدرة للفعل وعدمها ، وأنت تعلم أنه مع قيام الاحتمال يقعد على العجز الاستدلال (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) إشارة إلى التحلية بالحاء المهملة ـ كما أن لا تفسدوا إشارة إلى التخلية بالخاء المعجمة ـ ولذا قدم ، وليس هنا ما يدل على أن الأعمال داخلة في كمال الإيمان أو في حقيقته ـ كما قيل ـ لأن اعتبار ترك الفساد لدلالته على التكذيب المنافي للإيمان وحذف المؤمن به لظهوره أو أريد افعلوا الإيمان و «الكاف» في موضع نصب ، وأكثر النحاة يجعلونها نعتا

١٥٦

لمصدر محذوف ـ أي إيمانا كما آمن الناس ـ وسيبويه لا يجوّز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا الموضع ويجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا والظرف لغو بناء على أن الكاف لا تكون كذلك و «ما» إما مصدرية أو كافة ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف ، والمعنى على المصدرية آمنوا إيمانا مشابها لإيمان الناس ، وعلى الكف حققوا إيمانكم كما تحقق إيمان الناس وذلك بأن يكون مقرونا بالإخلاص خالصا عن شوائب النفاق ، والمراد من الناس الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين مطلقا ـ كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وهم نصب عين أولى الغين ، وملتفت خواطرهم لتأملهم منهم ، وقد مر ذكرهم أيضا لدخولهم دخولا أوليا في الذين آمنوا فالعهد خارجي ، أو خارجي ذكرى ، أو من آمن من أبناء جنسهم ـ كعبد الله بن سلام ـ كما قاله جماعة من وجوه الصحابة ، أو المراد الكاملون في الإنسانية الذين يعد من عداهم في عداد البهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل ، فاللام إما للجنس أو للاستغراق.

واستدل بالآية على أن الإقرار باللسان إيمان وإلا لم يفد التقييد ، وكونه للترغيب يأباه إيرادهم التشبيه في الجواب ، والجواب عنه بعد إمكان معارضته بقوله تعالى (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أنه لا خلاف في جواز إطلاق الإيمان على التصديق اللساني لكن من حيث إنه ترجمة عما في القلب أقيم مقامه إنما النزاع في كونه مسمى الإيمان في نفسه ووضع الشارع إياه له مع قطع النظر عما في الضمير على ما بين لك في محله ، ولما طلب من المنافق الإيمان دل ذلك على قبول توبة الزنديق.

فإن لا يكنها أو تكنه فإنه

أخوها غذته أمه بلبانها

نعم إن كان معروفا بالزندقة داعيا إليها ولم يتب قبل الأخذ قتل كالساحر ولم تقبل توبته كما أفتى به جمع من المحققين.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) أرادوا لا يكون ذلك أصلا فالهمزة للإنكار الإبطالي ـ وعنوا بالسفهاء إما أولئك الناس المتقدمين أو الجنس (١) بأسره وأولئك الكرام والعقلاء الفخام داخلون فيه بزعمهم الفاسد دخولا أوليا وأبعد من ذهب إلى أن اللام للصفة الغالبة كما في العيوق لأنه لم يغلب هذا الوصف على أناس مخصوصين إلّا أن يدعي غلبته فيما بينهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ـ والسفه ـ الخفة والتحرك والاضطراب ، وشاع في نقصان العقل والرأي وإنما سفهوهم جهلا منهم حيث اشتغلوا بما لا يجدي في زعمهم ويحتمل أن يكون ذلك من باب التجلد حذرا من الشماتة إن فسر الناس بمن آمن منهم ، واليهود قوم بهت ، وقد استشكل هذه الآية كثير من العلماء بأنه إذا كان القائل المؤمنين ـ كما هو الظاهر ـ والمجيب المنافقين يلزم أن يكونوا مظهرين للكفر إذا لقوا المؤمنين فأين النفاق وهو المفهوم من السباق والسياق؟ وأجيب بأن هذا الجواب كان فيما بينهم وحكاه الله تعالى عنهم ورده عليهم ، وليس الجواب ما يقال مواجهة فقط فقد استفاض من الخلف إطلاق لفظ الجواب على رد كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير ، وقيل : «إذا» هنا بمعنى لو تحقيقا لإبطانهم الكفر وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا ـ كما قيل مثله في قوله ـ وإذا ما لمته لمته وحدي ، وقيل : إنه كان بحضرة المسلمين لكن مسارّة بينهم وأظهره عالم السر والنجوى ، وقيل : كان عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو لمصلحة ما ، وذكر مولانا مفتي الديار الرومية أن الحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونهم من المجاهرين

__________________

(١) أي جنس السفيه على ما يريد به بعض الأصوليين من بطلان الجمعية أو جنس السفهاء بوصف الجمعية على ما هو قانون العربية ا ه منه.

١٥٧

فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه كلام محتمل للشر ـ كما ذكره في تفسيره ـ وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق على معنى ـ أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا ـ ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك ، وقد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مراءين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول ، والشرع ينظر للظاهر وعند الله تعالى علم السرائر ، ولهذا سكت المؤمنون ورد الله سبحانه عليهم ما كانوا يسرون ، فالكلام كناية عن كمال إيمانهم وليكن في قلب تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) [النساء : ٤٦] في احتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه ، وجعل رحمه‌الله تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) من هذا القبيل أيضا ، وإلى ذلك مال مولانا الشهاب الخفاجي وادعى أنه من بنات أفكاره ، وعندي أنه ليس بشيء لأن (أَنُؤْمِنُ) لإنكار الفعل في الحال وقولهم (كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) بصيغة الماضي صريح في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق ، ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد في بيان المعنى لو آمنوا ، ولا أدري من أين أتى به. ولا يصلح العطّار ما أفسد الدهر. فالأهون بعض هاتيك الوجوه ، وقوله : إن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام ـ فضلا عما هو في منصب الإعجاز لا يخفى ما فيه ـ على من اطلع على محاورات الناس قديما وحديثا (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب : ٤] (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) رد وأشنع تجهيل حسبما أشير إليه فيما سلف ، وإنما قال سبحانه هنا : (لا يَعْلَمُونَ) وهناك (لا يَشْعُرُونَ) لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد وهو مما يدرك بأدنى تأمل ولا يحتاج إلى كثير فكر ، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر مبالغة في تجهيلهم ، والمثبت هنا السفه والمصدر به الأمر بالإيمان وذلك مما يحتاج إلى نظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم ، ولأن السفه خفة العقل والجهل بالأمور ـ على ما قيل ـ فيناسبه أتم مناسبة نفي العلم ، وهذا مبني على ما هو الظاهر في المفعول وعلى غير الظاهر غير ظاهر فتدبر. ثم اعلم أنه إذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو السفهاء ، ألا ففي ذلك أوجه ، تحقيق الهمزتين وبذلك قرأ الكوفيون وابن عامر وتحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا وبذلك قرأ الحرميان وأبو عمرو ، وتسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو. وتحقيق الثانية وتسهيل الأولى وإبدال الثانية واوا ، وأجاز قوم جعل الهمزتين بين بين ومنعه آخرون.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) بيان لدأب المنافقين وأنهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم آمنا استهزاء فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضا لأن المعنى ـ ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقا للخداع ـ وذلك التفوّه عند لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الاستهزاء ، وأنهم لا يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة ، والقول بأن المراد ب (آمَنَّا) أولا الإخبار عن إحداث الإيمان وهنا عن إحداث إخلاص الإيمان مما ارتضاه الإمام ـ ولا أقتدي به ـ وتأييده له بأن الإقرار اللساني كان معلوما منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك الإخلاص القلبي ـ فيجب إرادته ـ يدفعه النظر من ذي ذوق فيما حررناه ، واللقاء استقبال الشخص قريبا منه وهو أحد أربعة عشر (١) مصدرا للقي ، وقرأ أبو

__________________

(١) وهي لقيا ولقية ولقاء ولقاة ولقاء ولقي ولقي ولقيا ولقيا ولقيانا ولقيانة وتلقاء ا ه منه.

١٥٨

حنيفة وابن السميقع لاقوا ، وجعله في البحر بمعنى الفعل المجرد ، وحذف المفعول في آمنا قيل اكتفاء بالتقييد قيل (بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وقيل : المراد آمنا بما آمنتم به ، وأبعد من قال أرادوا الإيمان بموسى عليه‌السلام دون غيره وحذفوا تورية منهم وإيهاما : هذا ولم يصح عندي في سبب نزول هذه الآية شيء ، وأما ما ذكره الزمخشري والبيضاوي ومولانا مفتي الديار الرومية وغيرهم فهو من طريق السدي الصغير وهو كذاب ، وتلك السلسلة سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب ، وآثار الوجه لائحة على ما ذكروه فلا يعول عليه ولا يلتفت بوجه إليه (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) من خلوت به ، وإليه إذا انفردت معه أو من قولهم في المثل : اطلب الأمر وخلاك ذم ـ أي عداك ـ ومضى عنك ومنه (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) [آل عمران : ١٣٧] وعلى الثاني المفعول الأول هاهنا محذوف لعدم تعلق الغرض به أي إذا خلوهم ، وتعديته إلى المفعول الثاني (إِلى) لما في المضي عن الشيء معنى الوصول إلى الآخر واحتمال أن يكون من خلوت به أي سخرت منه ، فمعنى الآية إذا أنهوا السخرية معهم وحدثوهم كما يقال أحمد إليك فلانا وأذمه إليك مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام رب العزة وإن ذكره الزمخشري والبيضاوي وغيرهما إذ لم يقع صريحا ـ خلا ـ بمعنى سخر في كلام من يوثق به ، وقولهم : خلا فلان بعرض فلان يعبث به ليس بالصريح إذ يجوز أن يكون خلا على حقيقته أو بمعنى تمكن منه على ما قيل ، والدال على السخرية يعبث به ، وزعم النضر بن شميل أن (إِلى) هنا بمعنى مع ولا دليل عليه كالقول بأنها بمعنى الباء على أن سيبويه والخليل لا يقولان بنيابة الحرف عن الحرف ، نعم إن الخلوة كما في التاج تستعمل ب «إلى ، والباء ، ومع» بمعنى واحد ويفهم من كلام الراغب أن أصل معنى الخلو فراغ المكان والحيز عن شاغل وكذا الزمان وليس بمعنى المضي ، وإذا أريد به ذلك كان مجازا وظاهر كلام غيره أنه حقيقة. وضعيفان يغلبان قويا. والمراد ب (شَياطِينِهِمْ) من كانوا يأمرونهم بالتكذيب من اليهود ـ كما قاله ابن عباس ـ أو كهنتهم كما قاله الضحاك وجماعة ـ وسموا بذلك لتمردهم وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن أو لأن قرناءهم الشياطين إن فسروا بالكهنة ـ وكان على عهده صلى الله تعالى عليه وسلم كثير منهم ـ ككعب بن الأشرف من بني قريظة ، وأبي بردة من بني أسلم ، وعبد الدار في جهينة ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وابن السوداء في الشام.

وحمله على شياطين الجن ـ كما قاله الكلبي ـ مما لا يختلج بقلبي ، والشياطين جمع تكسير وإجراؤه مجرى الصحيح ـ كما في بعض الشواذ ـ تنزلت به الشياطون لغة غريبة جدا والمفرد شيطان وهو فيعال عند البصريين فنونه أصلية من شطن أي بعد لبعده عن امتثال الأمر ويدل عليه تشيطن وإلا لسقطت ، واحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أن المعنى فعل فعله خلاف الظاهر ، وعند الكوفيين وزنه فعلان فنونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك أو بطل أو احترق غضبا والأنثى شيطانة وأنشد في البحر :

هي البازل الكوماء لا شيء غيرها

وشيطانة قد جن منها جنونها

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن الشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب».

(قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي معية معنوية وهي مساواتهم لهم في اعتقاد اليهودية وهو أم الخبائث ، وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث مع ترك التأكيد فيما ألقى على المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتمردين ، وبالجملة الثبوتية مع التأكيد فيما ألقى إلى شياطينهم الذين ليسوا كذلك لأنهم في الأول بصدد دعوى إحداث الإيمان ولم ينظروا هنا لإنكار أحد وتردده إيهاما منهم أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم ليؤكدوا لعله أن يتم لهم مرامهم بذلك في زعمهم وفي الثاني بصدد إفادة الثبات دفعا لما يختلج بخواطر شياطينهم من مخالطة المؤمنين ومخاطبتهم بالإيمان ، وقيل : إلى التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة وتركه كما يكون لعدم ذلك يكون

١٥٩

لعدم اعتناء المتكلم فللرغبة أكدوا ولعدمها تركوا ، أو لأنهم لو قالوا إنا مؤمنون كان ادعاء لكمال الإيمان وثباته ، وهو لا يروج عند المؤمنين مع ما هم عليه من الرزانة وحدة الذكاء ولا كذلك شياطينهم ، وعندي أن الوجه هو الأول إذ يرد على الأخيرين قوله تعالى فيما حكي عنهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ١] إلا أن يقال إنهم أظهروا الرغبة هناك وتبالهوا عن عدم الرواج لغرض ما من الأغراض والأحوال شتى ، والعوارض كثيرة ولهذا قيل : إنهم للتقية والخداع ، ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمان ـ ليجروا عليهم أحكامهم ويعفوهم عن المحاربة ـ أكدوا بالباء فيما تقدم حيث قالوا (بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ). والقول بأن الفرق بين آية الشهادة وآية الإيمان هنا ظاهر لأنهم لو قالوا إنا لمؤمنون لكانوا ملتزمين أمرين : رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم ، ووجوب إيمانهم به بخلاف آية الشهادة فإن فيها التزام الأول ولا يلزم من عدم الرغبة في أمرين عدمها في أحدهما ظاهر الركاكة للمنصفين كما لا يخفى ، وقرأ الجمهور (مَعَكُمْ) بتحريك العين وقرئ شاذا بسكونها وهي لغة ربيعة وغنم (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).

الاستهزاء : الاستخفاف والسخرية ، واستفعل بمعنى فعل تقول هزأت به واستهزأت بمعنى كاستعجب وعجب ، وذكر حجة الإسلام الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه ، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وبالإشارة والإيماء ، وأرادوا مستخفون بالمؤمنين. وأصل هذه المادة الخفة يقال : ناقته تهزأ به أي تسرع وتخف ـ وقول الرازي إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطال ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية ـ غير موافق للغة والعرف. والجملة إما استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم ـ لما قالوا (إِنَّا مَعَكُمْ) إن صح ذلك ـ فما بالكم توافقون المؤمنين ـ فأجابوا بذلك. أو بدل من إنا معكم ، وهل هو بدل اشتمال ، أو كل ، أو بعض؟ خلاف ، أما الأول فلأن هذه الجملة تفيد ما تفيده الأولى وهو الثبات على اليهودية لأن المستهزئ بالشيء مصر على خلافه وزيادة وهو تعظيم الكفر المفيد ، لدفع شبهة المخالطة وتصلبهم في الكفر فيكون بدل اشتمال.

«وأما الثاني» وبه قال السعد : فللتساوي من حيث الصدق ولا يقتضي التساوي من حيث المدلول ، وأما الثالث فلأن كونهم معهم عام في المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية وغير ذلك ، أو تأكيد لما قبله بأن يقال : إن مدعاهم بأنا معكم الثبات على الكفر وإنما «نحن مستهزءون» لاستلزامه رد الإسلام ونفيه يكون مقررا للثبات عليه إذ رفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع النقيضين ، أو يقال يلزم (إِنَّا مَعَكُمْ) إنا نوهم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الإيمان فيكون الاستخفاف بهم وبدينهم تأكيدا باعتبار ذلك اللازم ، وأولى الأوجه ـ عند المحققين ـ الاستئناف لو لا ما ذكره الشيخ في دلائل الإعجاز من أن موضوع (إِنَّما) أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته فإنه يقتضي أن تقدير السؤال هنا أمر مرجوح ولعل الأمر فيه سهل ، وقرئ (مُسْتَهْزِؤُنَ) بتخفيف الهمزة وبقلبها ياء مضمومة ، ومنهم من يحذف الياء فتضم الزاي (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) حمل أهل الحديث وطائفة من أهل التأويل الاستهزاء منه تعالى على حقيقته وإن لم يكن المستهزئ من أسمائه سبحانه ، وقالوا : إنه التحقير على وجه من شأنه أن من اطلع عليه يتعجب منه ويضحك ولا استحالة في وقوع ذلك منه عز شأنه ومنعه من قياس الغائب على الشاهد ، وذهب أكثر الناس إلى أنه لا يوصف به ـ جل وعلا ـ حقيقة لما فيه من تقرير بالمستهزأ به على الجهل الذي فيه ، ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب فإن كان عنده أنه ليس متصفا بالمستهزأ به فهو لعب لا يليق بكبريائه تعالى ، فالآية على هذا مؤولة إما بأن يراد بالاستهزاء جزاؤه لما بين الفعل وجزائه من مشابهة في القدر وملابسة قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة هاهنا ، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل ، وإما بأن يراد به إنزال الحقارة ، والهوان فهو مجاز عما هو بمنزلة الغاية له فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرا إلى التصور وبالعكس

١٦٠