التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

ونظير الآية قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام ٦ / ٣٨] ، وقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام ٦ / ٥٩].

وبعد أن أثبت تعالى بالدليل المتقدم كونه عالما بالمعلومات ، أثبت بكونه خالقا السموات والأرض كونه تعالى قادرا على كل المقدورات ، وفي الحقيقة كل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته ، فقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ..).

أي أنه تعالى يخبر عن قدرته على كل شيء ، وأنه خلق أو أبدع وكوّن السموات والأرض في ستة أيام من أيام الله في الخلق والتكوين ، لا كأيامنا الحالية ، وهو الظاهر بدليل قوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج ٢٢ / ٤٧] وقوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج ٧٠ / ٤]. ويقدر علماء الفلك اليوم من أيام التكوين بألوف الألوف من سنوات الدنيا.

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) العرش : أعظم المخلوقات ، ولا نعلم حقيقته وإنما نؤمن به كما أخبر عنه تعالى ، وأما استواؤه عليه ، فالاستواء معلوم والكيف مجهول ، كما روي عن أم سلمة رضي‌الله‌عنها ومالك وربيعة. وهذه الآية تدل على كيفية بدء الخلق قبل أن يخلق الله السموات والأرض ، وعلى أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض ، وأن العرش كان قبل أن يخلق شيئا ، وأن ما تحت العرش هو الماء أصل المادة الحية ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً ، فَفَتَقْناهُما ، وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، أَفَلا يُؤْمِنُونَ)

٢١

[الأنبياء ٢١ / ٣٠] وهذا ما يسميه علماء الفلك بنظرية السديم ، ويعبر عنها القرآن بالدخان ، أو الماء أو متن الريح.

ثم ذكر تعالى علة الخلق العجيب بقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي خلق السموات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ولم يخلق ذلك عبثا ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات ٥١ / ٥٦] وقال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١١٥].

والتكليف بالعبادة والطاعة واجتناب المعاصي للاختبار والامتحان ، ومعرفة الأحسن عملا : وهو العمل الخالص لله عزوجل ، القائم على أساس شريعة الله ، فإذا فقد العمل أحد هذين الشرطين حبط وبطل ، فمن شكر وأطاع أثابه الله ، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : (لِيَبْلُوَكُمْ) أي ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم ، كيف تعملون.

وبما أن للابتلاء والاختبار ثمرة ، فلا بدّ من حصول الحشر والنشر ، المقتضي تخصيص المحسن بالرحمة والثواب ، وتخصيص المسيء بالعقاب ، ولا بد للعاقل من الاعتراف بالمعاد والقيامة ، لذا قال تعالى : (وَلَئِنْ قُلْتَ : إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ ...).

والمعنى ولئن أقمت يا محمد الأدلة على البعث بعد الموت ، وذكرت ذلك للمشركين ، لقال الكافرون : هذا سحر ، أي غرور باطل ؛ لأن السحر في مفهومهم باطل. ومعنى الجملة : ما البعث أو القول به أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان.

٢٢

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ تكفل الله بأرزاق المخلوقات ، وضمنها لهم تفضلا من الله تعالى لهم ، ورحمة بهم. وهذا دليل على اتصافه تعالى بالعدل والرحمة. ولكن الرزق مرتبط بالسعي والكسب والعمل ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها ، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك ٦٧ / ١٥].

٢ ـ علم الله عزوجل محيط شامل بكل مخلوقات الأرض ودوابها البرية والبحرية والجوية ، بدءا من وجود مادتها في الأصلاب والأرحام ، إلى ظهورها في ساحة الحياة الحركية ، إلى تنقلاتها وتحركاتها ومسيرها حيث تأوي إليه ، وإلى الموضع الذي تموت فيه فتدفن.

٣ ـ الله خالق السموات والأرض وما بينهما من كائنات حية ، وهاتان الآيتان : (وَما مِنْ دَابَّةٍ) و (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) تدلان على كمال علم الله تعالى وكمال قدرته.

٤ ـ العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء. والله تعالى أمسك الماء لا على قرار ، والعرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات ، من غير دعامة تحته ، ولا علاقة فوقه.

٥ ـ الله خلق السموات لابتلاء واختبار المكلف ، وهذا يقتضي أن الله تعالى خلق هذا العالم الكبير لمصلحة المكلفين.

٦ ـ الواجب قطعا وعقلا حصول الحشر والنشر ، والاعتراف بالمعاد والقيامة ، لإقامة العدل بين الخلائق ، وللجزاء الذي يميز بين المحسنين والمسيئين ، فيجازى المحسن بالثواب والرحمة ، والمسيء بالعقاب والعذاب.

٢٣

موقف الإنسان المؤمن والكافر عند النعمة والنقمة

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

الإعراب :

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا) اللام للقسم ، والجواب : (لَيَقُولُنَ).

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا) اللام في (لَئِنْ) موطئة لقسم مقدّر ، وليست جوابا للقسم ، وإنما جوابه قوله : إنه ليئوس كفور. وأغنى جواب القسم عن جواب الشرط ، كما في قوله تعالى : (قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء ١٧ / ٨٨] فرفع (لا يَأْتُونَ) على أنه جواب القسم الذي هيأته اللام ، وتقديره : والله لا يأتون. ولو كان جواب الشرط ، لكان مجزوما ، فلما رفع دل على أنه جواب القسم ، واستغني به عن جواب الشرط.

(أَلا يَوْمَ) منصوب بخبر (لَيْسَ) مقدم عليه ، وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها.

(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) في موضع نصب على الاستثناء من : (الْإِنْسانَ) ؛ لأن المراد به الجنس المفيد للاستغراق ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر ١٠٣ / ٢]. وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات ١٠٠ / ٦]. و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) [العلق ٩٦ / ٦]. وقيل : هو استثناء منقطع.

(أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) مبتدأ وخبر.

٢٤

البلاغة :

(لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) من صيغ المبالغة ، أي شديد اليأس ، كثير الكفران.

(نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(إِلى أُمَّةٍ) المراد : إلى أجل معلوم ، أي إلى مجيء أوقات أمة. والأمة في الأصل : الجماعة من جنس واحد ، مثل : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص ٢٨ / ٢٣] ، وقد تطلق على الدين والملة ، كما في قوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف ٤٣ / ٢٢] وقد تطلق على الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل ١٦ / ١٢٠] وقد تطلق على الزمن ، كما في قوله تعالى : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف ١٢ / ٤٥] وكما هنا. وأما أمة الأتباع فهم المصدقون للرسل ، كما قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران ٣ / ١١٠]. وفي الصحيح : «فأقول : أمتي أمتي».

(لَيَقُولُنَ) استهزاء (ما يَحْبِسُهُ) ما يمنعه من النزول (مَصْرُوفاً) مدفوعا (وَحاقَ) نزل بهم العذاب (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) المراد بالإذاقة هنا : الإعطاء القليل. والمراد بالإنسان هنا : الكافر أو مطلق الإنسان (رَحْمَةً) غنى وصحة (نَزَعْناها) سلبناها إياه (لَيَؤُسٌ) شديد اليأس من عود تلك النعمة ، قنوط من رحمة الله (كَفُورٌ) شديد الكفر به.

(نَعْماءَ) هي النعمة والنّعمى : وهي الخير والمنفعة من صحة وغنى ، ويقابلها : الضراء والضّر : وهو الألم من فقر وشدة (السَّيِّئاتُ) المصائب (لَفَرِحٌ) بطر مغتّر بالنعمة (فَخُورٌ) متعاظم على الناس بسبب النعم (صَبَرُوا) على الضراء إيمانا بالله تعالى واستسلاما لقضائه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في النعماء (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) هو الجنة.

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) حكى عنهم في الآية الأولى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا) نوعا آخر من أباطيلهم ، وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخذوا في الاستهزاء ، وقالوا : ما سبب حبسه عنا؟

٢٥

وبعد أن ذكر أن عذاب الكفار ، وإن تأخر ، فلا بد من مجيئه ، ذكر بعده ما يدل على كفرهم واستحقاقهم لذلك العذاب ، وهو سوء طبع الإنسان ، ففي حال النعمة يبطر ويتفاخر ، وفي حال الضر يجحد وييأس من رحمة الله ، إلا من صبر وشكر وعمل صالحا.

التفسير والبيان :

والله لئن أخرنا العذاب عن الكفار أو المشركين ، بعد أن توعدهم به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى حين من الزمان ، على وفق سنتنا وحكمتنا : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد ١٣ / ٣٨] لقالوا استهزاء وتكذيبا واستعجالا : ما يحبسه؟ أي ما الذي يؤخر هذا العذاب عنا؟ ومعنى (إِلى أُمَّةٍ) إلى أجل معلوم وحين معلوم.

فأجابهم الله تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزئون به ، لم يصرفه عنهم صارف ، وسيحيط بهم حينئذ من كل جانب ، جزاء بما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه ، كما قال تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) [الطور ٥٢ / ٧ ـ ٨] والمضاف الذي هو جزاء محذوف.

ثم أخبر تعالى عن صفات الإنسان الذميمة إلا من رحم الله من عباده المؤمنين : أنه إذا أعطاه الله نعمة من صحة ورزق وأمن وولد بارّ ، رحمة منه ، ثم سلبه تلك النعمة ، وأبدله بها نقمة من مرض أو فقر أو خوف أو موت أو كارثة ، أضحى شديد اليأس من رحمة ربه ، كثير الكفر والجحود للماضي ولما عليه من نعم أخرى ، فهو قانط بالنسبة للمستقبل ، جاحد لماضي الحال كأنه لم ير خيرا ، ولما عليه الآن من النعم ، وذلك لعدم التزامه بفضيلة الصبر والشكر.

وإن أعطاه الله نعمة من بعد ضراء ، كشفاء من مرض ، وقوة من بعد ضعف ، ويسر من بعد عسر ، لقال : ذهب ما كان يسوؤني من المصائب ، ولن

٢٦

ينالي بعد اليوم ضيم ولا سوء ، وأصبح شديد الفرح والبط بتلك النعمة أو بما في يده ، متفاخرا متعاظما على غيره ، محتقرا من دونه.

فهو في موقفه هذا لا يقابل النعمة بالشكر عليها ، بل يبطر ويفخر على الناس ، ولا يواسي البائس الفقير.

ويلاحظ أنه عبر في حال النعمة بقوله : (أَذَقْنَا) والذوق : إدراك الطعم ، ليدل على التمتيع بالنعمة بأقل أوصافها ، وفي حال الضراء بقوله : (مَسَّتْهُ) والمس : مبدأ الوصول ، ليشعر بأن الضر في أقل مرتبة من الإصابة.

وهناك مقابلة بين التعبير ب (أَذَقْنَا) الذي يفيد اللذة والاغتباط ، وقوله : (نَزَعْناها) الذي يفيد شدة تعلقه بالنعمة والحرص عليها.

وكل هذا يدل على أن في الإنسان طبائع سيئة وأمراضا فتاكة وهي اليأس من رحمة الله والكفر بنعمته ، والبطر والفخر والتكبير ، ولا علاج لها إلا بالصبر والإيمان والرضا بالقضاء والقدر.

والمراد بالإنسان مطلق الإنسان بدليل استثناء الصابرين الذين يعملون الصالحات منه بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فثبت أن المقصود بالإنسان المؤمن والكافر. وحينئذ يكون الإنسان شاملا المؤمن والكافر ، والاستثناء متصل ، قال القرطبي : وهو حسن.

وفي قول آخر : إن المراد منه الكافر ، حملا على المعهود السابق في الآية المتقدمة وهو الكافر ، ولأن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر ، وهي صفات : اليؤوس ، والكفور ، وقوله : ذهب السيئات عني ، والفرح ، والفخور ، وتلك هي صفات الكافرين ، وليست من صفات أهل

٢٧

الدين ، وحينئذ يجب حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ، حتى لا تلزم هذه المحذورات.

ثم استثنى الله تعالى من جنس الإنسان الصابرين العاملين الصالحات بقوله :(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..).

أي إلا الذين صبروا على الشدائد والمكاره كالجهاد والفقر والمصيبة ، وعملوا الصالحات أي الأعمال الطيبة المفيدة في حال الرخاء أو النعمة والعافية ، كأداء الفرائض وشكر النعمة وأعمال البر والخير والإحسان للناس ، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال ، أولئك لهم مغفرة لذنوبهم بعملهم الصالح أو بما يصيبهم من الضراء ، وأجر كبير في الآخرة على ما عملوا من بر وخير وما أسلفوا في زمن الرخاء ، أقله الجنة.

وفي معنى الآية قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر ١٠٣ / ١ ـ ٣] والحديث النبوي الثابت : «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همّ ولا غمّ ولا نصب ، ولا وصب (١) ، ولا حزن ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» وفي الصحيحين : «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته سراء فشكر ، كان خيرا له ، وإن أصابته ضرّاء فصبر ، كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد غير المؤمن».

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى على أن كل عذاب أوعد الله أو الرسول به الكفار آت

__________________

(١) النّصب : التعب ، والوصب : المرض.

٢٨

لا ريب فيه ، ولا يصرفه عنهم صارف ، وهو نازل محيط بهم ، جزاء ما كانوا به يستهزئون. والمراد من العذاب إما عذاب الدنيا وهو عذاب الاستئصال أو الهزيمة الساحقة في معركة فاصلة كمعركة بدر ، وإما عذاب الآخرة. وأخبر تعالى عن أحوال القيامة بلفظ الماضي : (وَحاقَ) مبالغة في التأكيد والتقرير.

٢ ـ وأقسم عزوجل أيضا على أن الإنسان (وهو اسم شائع للجنس في جميع الناس ، أو الكفار) إن وجد أقل القليل من الخيرات العاجلة وهو الإذاقة والذوق (وهو أقل ما يوجد به الطعم) يقع في التمرد والطغيان ، وإن أدرك أقل القليل من المحنة والبلية ، يقع في اليأس والقنوط والكفر. واليؤوس : من الرحمة ، والكفور للنعم : الجاحد لها ، وكلاهما من صيغ المبالغة ، يراد به التكثير ، كفخور للمبالغة.

وتفسير هذه الظاهرة : هو أن الكافر يعتقد أن سبب حصول تلك النعمة مصادفة ومجرد اتفاق. وأما المسلم فيعتقد أن تلك النعمة من الله تعالى وفضله وإحسانه ، فلا يحصل له اليأس ، ويأمل خيرا منها ، ويصبر على فقدها كما قال تعالى : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها ، إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) [القلم ٦٨ / ٣٢] وقال تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف ١٢ / ٨٧].

٣ ـ وأقسم تعالى ثالثا على أن الإنسان إن أمدّه الله بنعمة كالصحة والرخاء والسعة في الرزق ، بعد ضر مسّه كالفقر والشدة ، قال : ذهب السيئات عني أي المصائب التي تسوء صاحبها من الضر والفقر ، وهو فرح (بطر) فخور (متعال على الناس) بما ناله من السعة ، وينسى شكر الله عليه.

وفي لفظ الإذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة ، كما قال البيضاوي.

٤ ـ استثنى الله تعالى من أوصاف الإنسان الذميمة وأحواله حالة المؤمنين

٢٩

الذين يصبرون على الشدائد والمكاره ، ويكونون عند الرخاء والسعة من الشاكرين ، ويعملون الأعمال الطيبة الخيّرة في الدنيا ، فهؤلاء لهم من الله مغفرة على ما صبروا على عمل الخير وحال المصاب ، ولهم ثواب كبير أقله الجنة. وهذا جمع بين المطلوبين : زوال العقاب والخلاص منه ، وهو المراد من قوله (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) والفوز بالثواب ، وهو المراد من قوله : (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهذا دليل على إعجاز القرآن لا بألفاظه فحسب ، بل بمعانيه أيضا.

أما الكافر عند البلاء فلا يكون عادة من الصابرين ، وعند الفوز بالنعمة لا يكون من الشاكرين ؛ لأن الشكر الحقيقي لا يكون إلا بالإيمان بالمنعم ، والصبر لا ثواب له عليه ما لم ينبعث من الإيمان ، وكثيرا ما يجزع وينفد صبره وربما ينتحر ؛ لأنه لا يجد سلوى أو عزاء له بمصابه يعوضه عنه في الآخرة ؛ لعدم إيمانه بالبعث والحساب والجزاء الحق من الله تعالى وحده.

والخلاصة : أن الآيات موازنة دقيقة بين أوصاف الإنسان المؤمن وأوصاف الإنسان الكافر ، ومنشأ الفرق هو الإيمان والكفر.

٥ ـ أحوال الدنيا غير باقية ، بل هي متغيرة متحولة من النعمة إلى المحنة ، ومن اللذات إلى الآفات ، وبالعكس وهو الانتقال من المكروه إلى المحبوب ، ومن المحرمات إلى الطيبات.

مطالبة مشركي مكّة بإنزال كنز أو مجيء ملك مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وتحدّيهم بالقرآن

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ

٣٠

فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

الإعراب :

(وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) : (ضائِقٌ) : عطف على (تارِكٌ) ، و (صَدْرُكَ) مرفوع به ، وهاء (بِهِ) تعود على (ما) أو على (بَعْضَ) ، أو على التّبليغ أو على التّكذيب. (أَنْ يَقُولُوا) في موضع نصب ، أي كراهية أن يقولوا.

المفردات اللغوية :

(فَلَعَلَّكَ) هنا للاستفهام الإنكاري ، الذي يراد به النّفي أو النّهي ، أي لا تترك. والأصل أن «لعلّ» للتّرجي وتوقع المحبوب ، وقد تكون للإعداد والتّهيئة ، كما في قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة ٢ / ٢١ وغيرها] ، وقد تكون للتّعليل كما في قوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه ٢٠ / ٤٤].

(تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) فلا تبلغهم إياه ، وهو ما يخالف رأي المشركين ، مخافة ردّهم واستهزائهم ، ولا يلزم من توقع الشيء وجوده ووقوعه ، لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرّسل من الخيانة في الوحي مانعا.

(وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) عارض لك أحيانا ضيق الصّدر ، بتلاوته عليهم ، لأجل أن يقولوا ، أي مخافة أن يقولوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) أي هلا صحبه كنز ينفقه لكسب الأتباع كالملوك ، والكنز : المال الحاصل بغير كسب. (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يصدقه كما اقترحنا. (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك ، لا الإتيان بما اقترحوه. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) رقيب حفيظ للأمور ، فتوكل عليه ، فإنه عالم بحالهم ، ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم.

(أَمْ يَقُولُونَ) : (أَمْ) بمعنى بل. (افْتَراهُ) الضمير لما يوحى وهو القرآن. (بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) في الفصاحة والبلاغة والبيان وحسن النّظم ، تحدّاهم أولا بالإتيان بمثل القرآن ، ثم بعشر سور ، ثم لما عجزوا عنها تحدّاهم بسورة. وتوحيد المثل باعتبار كلّ واحد. (مُفْتَرَياتٍ) مختلقات

٣١

من عند أنفسكم ، إن صحّ أني اختلقته من عند نفسي ، فإنكم عرب فصحاء مثلي ، تقدرون على مثل ما أقدر عليه ، بل أنتم أقدر لمعرفتكم بأساليب البيان خطابة وشعرا ونثرا. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره إلى المعاونة على المعارضة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنه مفترى.

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي بالإتيان بما دعوتم إليه للمعاونة. والاستجابة : الإجابة. وجمع ضمير (لَكُمْ) إما لتعظيم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لأن المؤمنين أيضا كانوا يتحدّونهم أيضا. (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) خطاب للمشركين : فاعلموا أنما أنزل مصحوبا بعلم الله فلا يعلمه إلا الله ، ولا يقدر عليه سواه ، وليس افتراء عليه.

(وَأَنْ) مخففة أي أنه. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون إن كان الخطاب للمؤمنين؟ وهل أسلموا بعد هذه الحجة القاطعة إن كان الخطاب مع الكفار؟

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى افتراء المشركين على القرآن بأنه سحر مبين ، وإعراضهم عنه كيلا يسمعوه ، ذكر تكذيبهم للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللقرآن ، وظنّهم أنه مثل الملوك مدعوم بالمال للإغراء وكسب الأتباع ، ومطالبتهم دعمه بالكنز أو بالملك ، وتحدّيهم بالإتيان بعشر سور مثل القرآن الكريم.

سبب النّزول :

روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا. وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك ، فقال : لا أقدر على ذلك ، فنزلت هذه الآية.

التفسير والبيان :

لعلك أيها الرّسول تارك بعض ما يوحى إليك أحيانا أن تلقيه إليهم ، وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به ، مثل تسفيه أحلامهم والتّنديد بعبادتهم الأوثان ، وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم ، أو لأجل أن يقولوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ).

٣٢

والمراد بهذا الاستفهام الإنكاري النّفي أو النّهي ، أي لا تترك شيئا مما أوحينا إليك من تبليغه المشركين وغيرهم ، ولا تتضايق من تلاوته عليهم. ويقصد من ذلك المبالغة في التّحذير ، والإغراء بأداء الرّسالة ، وعدم المبالاة بكلماتهم الفاسدة ، تأكيدا على تبليغ كامل الوحي ، سواء رضي الناس أو غضبوا ، لأن مجاملتهم غير مفيدة. ولا يعني هذا وقوع المنهي عنه ، لعصمة الرّسول من التّقصير أو الخيانة في الوحي ، فقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أن يخون في الوحي ، والتّنزيل ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه ؛ لأن تجويزه يؤدي إلى الشّك في كلّ الشّرائع والتّكاليف ، وذلك يقدح في النبوة.

(أَنْ يَقُولُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ ..) أي لا تتضايق لأجل أن يقولوا ، أو كراهة أن يقولوا (١) : لو لا أي هلا أنزل عليه كنز من عند ربّه يغنيه عن التّجارة والكسب ، ويدلّ على صدقه ، والقائل عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي ، أو ينزل معه ملك من السماء يؤيد دعوته ، كقوله تعالى : (وَقالُوا : ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ، وَقالَ الظَّالِمُونَ : إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٧ ـ ٨]. وإنما قال : (ضائِقٌ) ولم يقل «ضيق» ليشاكل (تارِكٌ) الذي قبله ، ولأن الضائق عارض طارئ غير لازم ، والضيق ألزم منه.

فهذا إرشاد من الله تعالى لنبيّه ألا يضيق صدره بتبليغ الوحي والرّسالة ، وألا يثنيه شيء عن دعوتهم إلى الله آناء الليل وأطراف النهار ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) [الحجر ١٥ / ٩٧].

__________________

(١) وذلك مثل : يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء ٤ / ١٧٦] أي لئلا تضلّوا.

٣٣

ثم أكّد الله تعالى مهمّة نبيّه فقال : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ...) أي ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحي إليك ، غير مبال بما يقولون ، ولا آت بما يقترحون ، ولك أسوة بإخوانك من الرّسل قبلك ، فإنهم كذّبوا وأوذوا ، فصبروا حتى أتاهم نصر الله عزوجل ، والله هو الرّقيب على عباده ، الحفيظ للأمور ، فتوكّل عليه ، ولا تبال بهم ، فإنه عالم بحالهم ، ومجازيهم على أعمالهم. وهذا كقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة ٢ / ٢٧٢] ، وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢١ ـ ٢٢] ، وقوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق ٥٠ / ٤٥].

ثم أبان الله تعالى إعجاز القرآن الكريم بدليل تحدّي العرب به ، فقال : (أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ ..) أي بل يقول مشركو مكة : افترى محمد القرآن أي اختلقه من عند نفسه ، فإن كان ما يزعمون صحيحا ، فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، تضارعه في الفصاحة والبلاغة ، وإتقان الأحكام والتّشريعات في شؤون الحياة المختلفة من سياسة واجتماع واقتصاد ونظام تعامل ، والإخبار بقصص الأنبياء والغيبيات ، وهم أهل السّبق في البيان والتّفوق في ملكة اللسان. والمختار عند أكثر المفسّرين أن القرآن معجز بسبب الفصاحة ، وقيل : بسبب الأسلوب ، وقيل : بسبب عدم التناقض ، وقيل : بسبب اشتماله على العلوم الكثيرة ، وقيل : بسبب إخباره عن المغيبات.

ولكنهم عجزوا ؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله ، ولا بعشر سور مثله ، بل ولا بأقصر سورة من مثله ؛ لأن كلام الرّب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين ، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات ، وذاته لا يشبهها شيء.

وهذه الآية اشتملت على خطابين : خطاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (قُلْ : فَأْتُوا ..) ، وخطاب الكفار بقوله : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ..).

٣٤

ثم قال الله تعالى بعد هذا التّحدي : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ..) أي فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه ، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك ، وأن القرآن نزل من عند الله ، وبما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق ، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه ، وتشريع بأمره ونهيه لا يبلغون مستواه. وجاء ضمير (لَكُمْ) بصيغة الجمع ؛ لأنه خطاب للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، والمراد أن الكفار إن لم يستجيبوا لكم في الإتيان بالمعارضة ، فاعلموا أنما أنزل بعلم الله تعالى.

واعلموا أنه لا إله موجود ومعبود بحقّ إلا الله عزوجل.

فهل أنتم بعد قيام الحجة القاطعة على أنه ، أي القرآن ، من عند الله مسلمون ، مؤمنون بالله وبهذا القرآن ، وبما تضمنه من عقائد ووعد ووعيد وأخلاق وآداب ونظام شامل

للحياة؟ وهذا يدلّ على أن الخطاب للكفار ، فإن كان الخطاب للمسلمين فمعناه : فهل أنتم مخلصون؟

ومعنى هذا أنه بعد ظهور الدّليل القاطع على صدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق القرآن ، يكون كفرهم مجرد عناد وإعراض واستكبار.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ وجوب تبليغ الوحي بكامله دون إنقاص أو إرجاء شيء منه ، ولا يتنافى هذا الحكم مع مبدأ عصمة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخيانة في الوحي والتّنزيل ، وترك بعض ما يوحى إليه ، وهذا كقوله تعالى في تأكيد الأمر بإبلاغ الوحي : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة ٥ / ٦٧].

وهذا الحكم لا يختلف سواء قلنا : إن معنى الكلام في آية (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ ..) الاستفهام الإنكاري ؛ أي هل أنت تارك ما فيه سبّ آلهتهم كما

٣٥

سألوك؟ أو معنى الكلام النّفي مع استبعاد ، أي لا يكون منك ذلك ، بل تبلغهم كل ما أنزل إليك ؛ لأن مشركي مكة قالوا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا لاتّبعناك ، فهمّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدع سبّ آلهتهم ؛ فنزلت.

٢ ـ لا مجاملة ولا مهادنة ولا إرجاء في تبليغ الوحي ، فسواء كره الناس تبليغهم ما أنزل الله أم قالوا : لو لا أنزل عليه كنز أو ملك ، فلا تراجع عن تبليغ الوحي.

٣ ـ تحدّى الله العرب في هذه السّورة بأن يأتوا بعشر سور مثل سور القرآن ، بعد أن كان تحدّاهم بالإتيان بمثل القرآن ، فعجزوا في الحالين ، كما عجزوا عن الإتيان بمثل سورة منه ، في سورة أخرى. والتحدي ليثبت أن القرآن كلام الله المعجز.

٤ ـ ثبت بقوله : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) عجزهم عن المعارضة ، فقامت عليهم الحجة بأن القرآن ليس من عند محمد أو غيره ، وإنما هو كلام الله ، وليعلم الجميع (أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ).

٥ ـ إن وجوه إعجاز القرآن كثيرة منها البلاغة والفصاحة ، ومنها الاشتمال على الغيبيات ، ومنها الأحكام التّشريعية ، ومنها مواكبه الاكتشافات العلمية الحديثة.

من أراد الدنيا وحدها حرم نعيم الآخرة

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))

٣٦

الإعراب :

(وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ابتداء وخبر ، أي وباطل عمله.

المفردات اللغوية :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) أي من قصد بعمله الطّيب وإحسانه وبرّه الدّنيا. (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) نؤتهم ثمار أعمالهم وافية تامة ، جزاء ما عملوه من خير كصدقة وصلة رحم.(فِيها) بأن نوسع عليهم رزقهم. (وَهُمْ فِيها) أي الدّنيا. (لا يُبْخَسُونَ) ينقصون شيئا من أجورهم. (حَبِطَ) فسد وبطل ولم ينتفعوا به.

سبب النّزول :

قيل : إن الآية مختصّة بالكفار ، أو بالمنافقين ، وقيل : إنها عامّة مطلقة في أهل الرّياء ، والظاهر أن المراد بهذا العام هو الكافر ؛ لأن قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) لا يليق إلا بالكفار.

المناسبة :

بعد أن أثبت الله تعالى أن القرآن من عند الله تعالى ، وليس بالمفترى من محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يزعم المشركون ، ذكر أن سبب المعارضة والتّكذيب هو الهوى والشهوة ومحض الحسد وحظوظ الدّنيا.

التفسير والبيان :

من كانت إرادته مقصورة على حبّ الدّنيا وزينتها ، من متاع ولباس ، وزينة وأثاث ، ولم يكن طالبا السعادة الأخروية ، يوصل الله إليه جزاء عمله في الدّنيا من الصّحة والرّياسة وسعة الرّزق وكثرة الأولاد ، ويوفّيه ثمرة جهده تماما دون أن ينقصه شيئا من مردود العمل ونتيجة الكسب ؛ لأن الأرزاق منوطة بالأعمال ، لا بالنّيات.

٣٧

وذلك يدلّ على أن ثمرة العمل في الدّنيا مرتبطة بالكسب وتقدير الله ، وأما جزاء الآخرة فهو محصور بإرادة الله وفضله وإحسانه.

وأولئك الذين لا همّ لهم إلا الدّنيا ، لا حظّ لهم في الآخرة إلا النّار في مقابلة ما عملوا ؛ لأنهم استوفوا في الدّنيا ثمرة العمل الحسن ، وبقي لهم في الآخرة وزر العمل السّيء ، وتبدد أثر عملهم في الدّنيا ، وبطل ثواب عملهم في الآخرة ؛ لأنهم لم يريدوا وجه الله تعالى ، والعمدة في الثواب الأخروي هو الإخلاص لله عزوجل.

ونظير الآية قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء ١٧ / ١٨ ـ ١٩] ، وقوله سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى ٤٢ / ٢٠].

ويؤيّده الحديث المشهور في الصّحيحين عن عمر رضي‌الله‌عنه : «إنما الأعمال بالنّيات ، وإنما لكلّ امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه» وقال قتادة : من كانت الدّنيا همّه ونيّته وطلبته ، جازاه الله بحسناته في الدّنيا ، ثم يفضي إلى الآخرة ، وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدّنيا ، ويثاب عليها في الآخرة. أي أن للمؤمن على عمله الحسن ثوابين ، ثواب الدّنيا وثواب الآخرة ، وللكافر ثوابا واحدا وهو في الدّنيا فقط.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيتان على ما يأتي :

٣٨

١ ـ اقتضى عدل الله وحكمته أن من قصد الدنيا وحدها وأتى بعمل البرّ والخير كصدقة وصلة رحم وكلمة طيّبة ونحو ذلك ، يكافأ بها فقط بصحة الجسم ، وكثرة الرّزق ، لكن لا حسنة له في الآخرة ، ويحرم من ثمرة عمله فيها.

٢ ـ إن أهل الرّياء والسّمعة يعطون بحسناتهم في الدّنيا ، حتى لا يظلموا شيئا منها مهما قلّ ، ويحرمون من الثواب الأخروي ؛ لأن ثواب الجنة يكون بتزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح ، واجتناب المعاصي ، وأما عمل أهل الدّنيا فمقصور عليها وعلى مظاهرها وشهواتها.

٣ ـ ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية وأمثالها المذكورة مطلقة ، تشمل المؤمن والكافر.

٤ ـ إن العبد ينوي ويريد ، والله سبحانه يحكم ما يريد.

٥ ـ الكافر يخلد في النّار ، والمؤمن لا يخلّد ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨].

٦ ـ الإسلام يدعو إلى إيثار العمل للآخرة على عمل الدّنيا ، في النّيّة والقصد ، فإن قصد الدّنيا والآخرة معا كان ذلك مقبولا شرعا.

من كان يريد الآخرة

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

٣٩

الإعراب :

(أَفَمَنْ كانَ) : (فَمَنْ) : مبتدأ ، والهمزة للإنكار ، والخبر محذوف تقديره : أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن كان يريد الحياة الدّنيا ، والهاء في (يَتْلُوهُ) للقرآن ، والشاهد : الإنجيل. والهاء في (مِنْهُ) عائد لله تعالى ، والهاء في (قَبْلِهِ) للإنجيل.

و (كِتابُ مُوسى) معطوف مرفوع على قوله : (شاهِدٌ) ففصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف ، وهو قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ) وتقديره : ويتلوه كتاب موسى من قبله.

(إِماماً وَرَحْمَةً) نصب على الحال من (كِتابُ مُوسى).

(فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) مبتدأ وخبر ، والجملة خبر (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ).

المفردات اللغوية :

(بَيِّنَةٍ) حجة وبيان وبرهان من الله يدلّه على الحقّ والصّواب فيما يأتيه ويذره ، والبيّنة : هي القرآن ، وهو حكم يعمّ كلّ مؤمن مخلص ، وقيل : المراد به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو المؤمنون ، وقيل : مؤمنو أهل الكتاب. (وَيَتْلُوهُ) يتبعه. (شاهِدٌ) له بصدقه. (مِنْهُ) أي من الله ، و «الشاهد» : الإنجيل ، وقيل : جبريل ، وقيل : القرآن ، وقيل : النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي الإنجيل ، وقيل : القرآن. (كِتابُ مُوسى) التّوراة شاهد له أيضا. (إِماماً) كتابا مؤتّما به في الدّين. (أُولئِكَ) أي من كان على بيّنة ، ويراد بكلمة (فَمَنْ) المعنى الجماعي. (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن ، فلهم الجنة.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) أهل مكة وجميع الكفار الذين تحزّبوا معهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) يردها لا محالة ، أي مكان الوعد وهي النّار يردها. (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) في شكّ من الموعد المذكور ، أو القرآن. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أهل مكة وأمثالهم. (لا يُؤْمِنُونَ) لقلّة نظرهم واختلال فكرهم.

المناسبة :

تعلّق الآية بما قبلها واضح ، فبعد أن ذكر الله تعالى من كان يريد الدّنيا وزينتها ولا يهتم بالآخرة وأعمالها ، أعقبه بذكر من كان يريد الآخرة ويعمل لها ، ومعه شاهد يدلّ على صدقه وهو القرآن.

٤٠