التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

أي يعقوب ، لما علم كذبهم (بَلْ سَوَّلَتْ) زينت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) ففعلتموه به (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) لا جزع فيه ، وهو ما لا شكوى فيه إلى الخلق (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) المطلوب منه العون (عَلى ما تَصِفُونَ) تذكرون من أمر يوسف أو من هذه المصيبة وهلاكه.

المناسبة :

الكلام مرتبط بما قبله ، مبين مكيدة إخوة يوسف له ، وخداعهم أباهم ، وإظهارهم أنهم في غاية المحبة ليوسف والشفقة عليه ، وهم يعلمون أن أباهم كان يحب يوسف محبة شديدة ، ويحرص عليه ، ويحب تطييب قلبه ، فأرسله معهم ، وهو غير مقتنع بكلامهم ويخافهم عليه.

التفسير والبيان :

لما تواطأ إخوة يوسف على أخذه وطرحه في البئر ، كما أشار به عليهم أخوهم يهوذ أو روبيل ، جاؤوا أباهم يعقوب عليه‌السلام ، فقالوا : ما بالك لا تأتمنا على يوسف ، وتخافنا عليه ، ونحن له ناصحون ، أي نحبه ، ونشفق عليه ، ونريد الخير له ، ونخلص له النصح؟ وهم يريدون خلاف ذلك ، لحسدهم له ، بعد ما علموا من رؤيا يوسف ، وأدركوا حب أبيه له ، لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة.

أرسله معنا ، أي ابعثه معنا في الغد حين نخرج كعادتنا إلى المرعى في الصحراء ، يرتع أي يأكل ما يطيب له من الفاكهة والبقول ، ويلعب أي ويسعى وينشط ويشاركنا في السباق بالسهام ، وإنا له لحافظون من أي أذى ومكروه يصيبه ، ونحفظه من أجلك. فأجابهم يعقوب بقوله : إني ليحزنني ويؤلمني ذهابكم به وفراقه لي على أي نحو ، وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم ، فيأتيه ذئب ، فيأكله وأنتم غافلون عنه لا تحسون به.

وبه يتبين أنه اعتذر إليهم بشيئين : أن فراقه إياه مما يحزنه ، وخوفه عليه

٢٢١

من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم أو لعبهم ، لقلة اهتمامهم به ، وكأنه لقنهم الحجة ، وشدة الحذر دفعته لقول ذلك.

فأجابوه في الحال : والله لئن أكله الذئب ، ونحن جماعة أشداء ندافع عن الحرمات ، لكنا خاسرين ، أي هالكين عاجزين لا خير فينا ولا نفع.

ثم بدؤوا تنفيذ المؤامرة بالفعل ، فلما ذهبوا به من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك ، صمموا على مرادهم ، وعزموا عزما لا تردد فيه على إلقائه في قعر بئر وأسفله ، وهو البئر المعروف لديهم ، ليذهب حيث شاء ، أو يهلك ، فيستريحوا منه.

ولكنّ الله تعالى ذا القدرة الشاملة ، والإرادة النافذة ، والرحمة واللطف ، وإنزاله اليسر بعد العسر ، والفرج بعد الكرب ، أوحى إليه وحي إلهام على الأظهر ، مثل قوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل ١٦ / ٦٨] وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص ٢٨ / ٧] تطمينا لقلبه وتثبيتا له ألا تحزن مما أنت فيه ، فإن لك فرجا ومخرجا ، وسينصرك الله عليهم ، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع السيء ، وهم لا يعرفون ولا يشعرون بأنك يوسف. وهو وعد بالخلاص من هذه المحنة ، والنصر عليهم ، وصيرورتهم تحت سلطانه.

ثم جاء دور الاعتذار بالأعذار الكاذبة لأبيهم يعقوب عليه‌السلام ، فحينما رجعوا إليه في آخر اليوم وقت العشاء في ظلمة الليل ، أخذوا يتباكون ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ، وقالوا معتذرين عما زعموا : إنا ذهبنا نتسابق ونترامى بالنبال ، وتركنا يوسف عند ثيابنا وأمتعتنا ، حارسا لها ، فأكله الذئب ، وهذا الذي كان قد جزع منه وحذر عليه ، ونحن نعلم أنك لا تصدقنا ـ والحالة هذه ـ لو كنا صادقين موثوقين عندك ، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك؟! وأنت معذور في هذا لغرابة ما وقع ، وعجيب ما حدث. والحاصل أنا

٢٢٢

وإن كنا صادقين ، لكنك لا تصدقنا ؛ لأنك تتهمنا في يوسف ، لشدة محبتك إياه ، ولظنك أنا قد كذبنا.

وهذا إيماء بعدم قناعتهم بما يقولون ، وإحساسهم بالكذب ضمنا.

وزاد في التلبيس والتدليس أنهم جاؤوا بقميصه ملطّخا بدم مكذوب مفترى ، أخذوه من دم سخلة ذبحوها ، ولطخوا ثوب يوسف بدمها ، موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب ، لذا قال : (عَلى قَمِيصِهِ) ولكن إرادة الله أبت إلا أن يظهر آثار جريمتهم ، فنسوا أن يخرقوا الثوب ويشقّوه ؛ إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزق القميص ، فلم يصدقهم يعقوب وأعرض عنهم وعن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه ، فقال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ) أي بل زينت أو سهلت وهونت لكم أنفسكم السيئة أمرا منكرا غير ما تصفون وتذكرون ، فسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه ، وأستعين بالله حتى يفرج الكرب بعونه ولطفه ، فالصبر الجميل أولى بي ، يروى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الصبر الجميل فقال : «هو الذي لا شكوى معه». والله المستعان على ما تذكرون من الكذب ، وهو المعين على شر ما تصفون من الحدث الأليم.

روي أن يعقوب قال استهزاء : ما أحلمك يا ذئب تأكل ابني ولا تشق قميصه؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ نجح إخوة يوسف في حبك المؤامرة ، وخداع أبيهم ، والمؤمن غر كريم ، وتلك حيلة يلجأ إليها الأولاد عادة ؛ لأن لعب الصبيان المباح وتنشيطهم مرغوب فيه ، لا سيما وقد أظهروا شفقتهم عليه وحبهم له ، وتعهدوا بحفظه ورعايته من المخاوف.

٢٢٣

٢ ـ كانت إجابة يعقوب لأولاده متضمنة بحكم العاطفة الأبوية المألوفة تحذيرا من التقصير ، وتنبيها على شدة الصون والحفظ ، وإشعارا بحب ابنه يوسف وعدم تحمله الصبر على فراقه ، وهذا أمر طبيعي.

٣ ـ موّه إخوة يوسف على أبيهم الحقيقة ، وأظهروا كاذبين أنهم حماة يصونون أخاهم ، فهم عصبة أقوياء ، وجماعة أشداء ، يخشى الناس بأسهم ، أفلا يقدرون على مطاردة ذئب يهاجم أخا لهم.

٤ ـ كان إخوة يوسف في أشد ما يكونون قسوة وشدة على أخ لهم من أبيهم ، فرموه في البئر ، ونزعوا عنه قميصه ، ووجد عند كل واحد من الغيظ والحسد والظلم أشد مما عند الآخر.

٥ ـ إن رحمة الله ولطفه قريب من المحسنين ، فلا يدع سبحانه مظلوما حتى ينصره ، ولا مفجوعا حتى يسلي قلبه ويطمئنه ، ويبشره بالسلامة ، فألهم يوسف أنه سينجو مما هو فيه ، وأنه سينصره عليهم ، وأنه سيخبرهم بسوء ما يصنعون به ويوبخهم على ما صنعوا ، وسيكونون تحت قهره وسلطانه ، وهم لا يدرون أنه يوسف.

وهذا يدل على أن الوحي ليوسف بعد إلقائه في الجب كان تقوية لقلبه ، وتبشيرا له بالسلامة.

٦ ـ إنما جاؤوا عشاء ، أي ليلا ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة ، ولذا قيل : لا تطلب الحاجة بالليل ، فإن الحياء في العينين ، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار.

٧ ـ ودلت آية (يَبْكُونَ) على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله ؛ لاحتمال أن يكون تصنّعا ، فمن الخلق من يقدر على ذلك ، ومنهم من لا يقدر ، وقد قيل : إن الدم المصنوع لا يخفى.

٢٢٤

٨ ـ الاستباق مباح في السهام أو الرمي ، وعلى الفرس ، وعلى الأقدام ؛ والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو ؛ لما له من فائدة في قتال الأعداء ، ومطاردة الذئاب. قال ابن العربي : إن المسابقة شرعة في الشريعة ، وخصلة بديعة ، وعون على الحرب ، وقد فعلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه وبخيله ؛ فروي أنه سابق عائشة فسبقها ، فلما كبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابقها فسبقته ، فقال لها : هذه بتلك (١). وتسابق النبي أيضا مع أبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما ، فسبقهما.

وسابق سلمة بن الأكوع ـ فيما رواه مسلم ـ رجلا لما رجعوا من «ذي قرد» إلى المدينة ، فسبقه سلمة. وروى مالك عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت (٢) ، وسابق بين الخيل التي لم تضمّر ، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها.

وكذلك المسابقة بالنّصال والإبل ، أخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا سبق (٣) إلا في نصل أو خفّ أو حافر». وروى البخاري عن أنس قال : كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناقة تسمى العضباء ، لا تسبق ، فجاء أعرابي على قعود فسبقها ، فشقّ ذلك على المسلمين حتى عرفه ؛ فقال : «حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه».

وأجمع المسلمون على أن السّبق على وجه الرهان المباح الآتي بيانه لا يجوز إلا في الخف والحافر والنصل. قال الشافعي : ما عدا هذه الثلاثة فالسّبق فيها قمار. وقد زاد أبو البختري القاضي في الحديث السابق : «أو جناح» لإرضاء الرشيد ،

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ١٠٦٣ وما بعدها.

(٢) تضمير الخيل : هو علف الخيل حتى تسمن ، ثم لا تعلف إلا قوتا لتخف.

(٣) السبق : ما يجعل للسابق على سبقه من المال ، أي لا يحل أخذ المال بالمسابقة إلا في هذه الثلاثة. والسّبق بالسكون : مصدر. والصحيح رواية الفتح.

٢٢٥

فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته ؛ فلا يكتب العلماء حديثه بحال.

ولا يجوز السّبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم ، وكذلك الرمي لا يجوز السّبق فيه إلا بغاية معلومة ، ورشق معلوم ، ونوع من الإصابة.

والسبق الجائز اثنان : ما يخصصه الوالي أو غيره من ماله تطوعا ، وما يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه ، فإن سبقه صاحبه أخذه ، وإلا بقي له. والسبق غير الجائر أو الحرام : هو ما يكون من الطرفين المتسابقين ، بأن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه ، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه. ولا يجوز هذا الوجه إلا بمحلّل لا يأمنان أن يسبقهما ، فإن سبق المحلّل أحرز السّبقين جميعا وأخذهما وحده ، وإن سبق أحد المتسابقين ، أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه ، ولا شيء للمحلّل فيه ، ولا شيء عليه. وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما.

وسمي محلّلا لأنه يحلل السّبق للمتسابقين أو : له.

واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلّل ، واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه ، أنه قمار ، ولا يجوز. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أدخل فرسا بين فرسين ، وهو لا يأمن أن يسبق ، فليس بقمار ، ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار» وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال : ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلّل ، فإن سبق أخذ السّبق ، وإن سبق لم يكن عليه شيء. وهذا قول الجمهور.

ولا يكون سباق الخيل والإبل إلا لمحتلم ، أو لأربابها ، وهو أولى.

٩ ـ استفاد أولاد يعقوب الحجة من قول أبيهم : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) لأنه كان أظهر المخاوف عليه.

٢٢٦

١٠ ـ لم يصدقهم يعقوب ، لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه.

وأحسّوا هم بضعف حجتهم حينما قالوا : (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) أي ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا ، ولا تتهمنا في هذه القضية ؛ لشدة محبتك ليوسف.

١١ ـ دلسوا على أبيهم بالدم المكذوب فيه ، فهو دم ظبية ، كما قال قتادة ، ولما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم ، قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها ، وهي سلامة القميص من التمزيق المعتاد عند اعتداء الذئب على إنسان. قال ابن عباس : لما نظر إليه ، قال : كذبتم ؛ لو كان الذئب أكله لخرق القميص.

حكى الماوردي أن في القميص ـ أي في جنسه ـ ثلاث آيات : حين جاؤوا عليه بدم كذب ، وحين قدّ قميصه من دبر ، وحين ألقي على وجه أبيه ، فارتد بصيرا.

١٢ ـ استدل الفقهاء بقصة القميص الملوث بالدم على جواز الاعتماد على الأمارات ، في مسائل فقهية كالقسامة وغيرها ، وأجمعوا على أن يعقوب عليه‌السلام استدل على كذبهم بصحة القميص وسلامته من التخرق. وهكذا على الناظر ملاحظة الأمارات والعلامات ، ويقضي بالراجح منها.

١٣ ـ الاعتصام بالصبر ، والاستعانة بالله ، على التزوير والظلم والكذب والمصيبة وفي المحنة والشدة ، فذلك مؤذن بالفرج بعد الكرب ، وباليسر بعد العسر ، وهو دليل الإيمان بأن لهذا لكون ربا يفعل فيه ما يشاء.

١٤ ـ الصبر الجميل : هو الذي لا شكوى معه ، وهو أن يعرف أن منزل البلاء

٢٢٧

هو الله تعالى ، ثم يعلم أن الله سبحانه مالك الملك ، ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه.

ولا يكون الصبر جميلا ما لم يكن فيه رضا بقضاء الله وقدره.

والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات : أن كل ما كان لطلب عبودية الله تعالى ، كان حسنا ، وإلا فلا.

والجمع بين الصبر والاستعانة في كلام يعقوب دال على أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى ، للتغلب على الجزع أو الحزن بسبب الدواعي القوية إليه.

الفصل الثالث من قصة يوسف

نجاة يوسف وإكرامه في بيت العزيز

ـ ١ ـ

تعلق يوسف بالدلو ومسيره مع السيارة

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))

الإعراب :

(يا بُشْرى) منادى مفرد ، كأنه جعل (بُشْرى) اسم المنادي أي هذه آونتك كقولك : يا زيد ، ومن قرأ يا بشراي كان منادى مضافا.

٢٢٨

(وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) المراد بالواو : التجار ، والمراد بالهاء : يوسف ، أخفوه من الرفقة ، وقيل : أخفوا أمره ووجدانهم له في البئر ، وقالوا لهم : دفعه إلينا أهل الماء ، لنبيعه لهم بمصر. وعن ابن عباس : أن الضمير لإخوة يوسف قالوا للتجار : هذا غلام لنا قد أبق ، فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. وذلك لأن يهوذا كان يأتيه بالطعام كل يوم ، فأتاه يومئذ ، فلم يجده ، فأخبر إخوته ، فأتوا الرفقة ، وساوموهم على بيعه لهم ، فاشتروه منهم.

و (بِضاعَةً) منصوب على الحال من يوسف ، ومعناه : مبضوعا ، أي أخفوه متاعا للتجارة.

(دَراهِمَ) بدل من «ثمن». و (مِنَ الزَّاهِدِينَ) في موضع نصب خبر كان. و (فِيهِ) متعلق بفعل دل عليه من (الزَّاهِدِينَ) ، ولا يجوز أن يتعلق بالزاهدين ؛ لأن الألف واللام فيه بمعنى الذي ، وصلة الاسم الموصول لا يعمل فيما قبله.

المفردات اللغوية :

(سَيَّارَةٌ) جمع مسافرون معا ، كالكشافة والتجار ، وكانوا قوما مسافرين من مدين إلى مصر (وارِدَهُمْ) هو الرائد الذي يرد الماء أو يبحث عنه ليستقي للقوم ، وهو مالك بن دعر الخزاعي من العرب العاربة. (فَأَدْلى دَلْوَهُ) فأرسل دلوه في الجب ليملأها ، فتدلى بها يوسف ، والدلو : إناء يستقى من البئر (يا بُشْرى) نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه ، كأنه تعالى قال : فهذا أوانك ، كما تقول : يا هناي ، ويكون هذا النداء مجازا ، أي احضري فهذا وقتك.

(وَأَسَرُّوهُ) أخفوه وأخفوا أمره عن الرفاق (بِضاعَةً) أي أخفوه حال كونهم جاعليه متاعا للتجارة. والبضاعة : ما بضع من المال للتجارة ، أي قطع (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) لم يخف عليه إسرارهم (وَشَرَوْهُ) باعوه ؛ لأن لفظ الشراء والبيع من ألفاظ الأضداد ، فيقال : اشتراه أي ابتاعه ، وشراه : باعه (بَخْسٍ) مبخوس أي ناقص ومعيب ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) [الأعراف ٧ / ٨٥ وغيرها] والمراد بالبخس هنا قول الحرام أو الظلم ؛ لأنه بيع حر ، والأصح أن المراد به الناقص عن ثمن المثل (مَعْدُودَةٍ) قليلة ، قيل : كان عشرين درهما أو اثنين وعشرين (وَكانُوا فِيهِ) في يوسف (مِنَ الزَّاهِدِينَ) الراغبين عنه. والضمير إن كان للإخوة فظاهر ، وإن كان للرفقه التجار ، فزهدهم فيه ؛ لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به ، مستعجل في بيعه. وباعته السيارة في مصر للذي اشتراه بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى ما فعله إخوة يوسف بإلقائه في أعماق الجب (البئر)

٢٢٩

ذكر هنا طريق خلاصه من تلك المحنة عن طريق قافلة تجار ذاهبة إلى مصر ، فأخذوه وباعوه فيها.

التفسير والبيان :

ومرّ بالبئر جماعة مسافرون مارّون من مدين إلى مصر ، روي أنهم من العرب الإسماعيليين ، بعد أن مكث يوسف في البئر ثلاثة أيام ، كان يتردد عليه بالطعام أخوه يهوذا ، وذكر محمد بن إسحاق أن إخوته بعد إلقائه في الجب ، جلسوا قريبا من تلك البئر ، فساق الله له سيارة ، فأرسلوا واردهم (وهو الذي يبحث عن الماء ليسقي القوم فلما جاء إلى البئر ، وأدلى دلوه فيها ، تشبّث يوسف عليه‌السلام بها ، وخرج من البئر.

فقال مبشرا جماعته السيارة : يا بشرى هذا غلام ، أي هذه أوان البشرى فاحضري ، هذا غلام وسيم جميل صبوح ظريف ، كما تقول : يا أسفا ، ويا حسرتا. فاستبشروا به فهو غلام يباع.

وأخفوه عن الناس ، ليكون بضاعة لهم يتاجرون فيه ويبيعونه لأهل مصر ، والله عليم بما يعملون لا يخفى عليه شيء من أفعال هؤلاء وغيرهم ، وعليم بما يفعله إخوة يوسف ومشتروه ، وهو قادر على تغيير الواقع ودفعه ، ولكن له حكمة وقدر سابق ، فترك الأمر ليمضي ما قدره وما قضاه : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٤].

والبائع : إما إخوة يوسف ، كما روي عن ابن عباس ، والتجار هم الذين اشتروه والذين أسرّوه بضاعة هم إخوة يوسف ، لما استخرج من الجبّ. وإما أن البائع هم السّيارة ، والمشتري : واحد من أهل مصر.

وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يلقاه من أذى قومه المشركين ، وإعلام له بأن الله عالم بأذى قومك لك ، فإنه قادر على تغيير الأذى ، ولكن

٢٣٠

اصبر كما صبر يوسف على كيد إخوته وأذاهم ، وسأنصرك عليهم ، كما نصرت يوسف على إخوته ، وجعلته سيدا عليهم.

(وَشَرَوْهُ) أي باعه إخوة يوسف ، قال ابن كثير : وهو الأقوى ، أو باعته السيارة القافلة في مصر بثمن قليل ناقص عن ثمن المثل من الدراهم المعدودة عدا ، لا وزنا ، وكانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية (أربعين درهما) فما فوقها ، فباعوه بعشرين أو باثنين وعشرين درهما ، فالمراد بالبخس هنا الناقص أو المعيب أو كلاهما ، أي باعوه بأنقص الأثمان. وقيل : المراد به الظلم أو الحرام ، لكونه بيع حر ، والراجح هو المعنى الأول ، كما ذكر ابن كثير ؛ لأن الحرام معلوم يعرفه كل أحد ؛ لأن ثمنه حرام على كل حال ، وعلى كل أحد ؛ لأنه نبي ابن نبي ، ابن نبي ، ابن خليل الرحمن ، فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم.

وكانوا في يوسف وبيعه من الزاهدين أي الراغبين عنه الذين يودون التخلص منه بأي حال دون أن يعلموا منزلته عند الله تعالى. وقد اشتراه عزيز مصر رئيس الشرطة وصار فيما بعد مسلما آمن بيوسف ومات في حياته.

والخلاصة : أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث : كونه بخسا ، وبدراهم معدودة ، وكانوا فيه من الزاهدين.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن مجيء السيارة وإرسال الدلو في البئر تدبير خفي من الله ، وتيسير ولطف بعبده يوسف ، لإنقاذه من الموت أو الهلاك في البئر ؛ لأن الله عليم بكل شيء في هذا الكون ، ومدبر ما يراه خيرا على وفق حكمته وإرادته.

٢ ـ كان بيع يوسف بثمن ناقص عن ثمن المثل ، بدراهم معدودة هي عشرون

٢٣١

درهما كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما ، فلم يستوف ثمنه الحقيقي بالقيمة ؛ لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدون من ثمنه ، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه ؛ وإن كان الذين باعوه هم السيارة الواردة ، فإنهم التقطوه ، ومن أخذ شيئا بلا ثمن ، باعه بأرخص الأسعار ، فما يأخذونه فيه ربح كله.

٣ ـ في الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير ، ويكون البيع لازما.

٤ ـ الله تعالى عليم بأفعال الخلائق وأقوالهم ، لا يخفى عليه شيء منها ، وسيجازيهم عليها.

وبمناسبة الكلام عن الدراهم ، قال العلماء : أصل النقدين الوزن ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة : «الذهب بالذهب الفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل ، فمن زاد أو استزاد فهو ربا» ولكن جرى في النقود العدّ تخفيفا عن الخلق ، لكثرة المعاملة ، ومشقة الوزن.

وهل تتعين الدراهم والدنانير أو لا؟ رأيان : قال أبو حنيفة ، ومالك في الظاهر من قوله : لا تتعين بالتعيين. وقال الشافعي : إنها تتعين. وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا قال : بعتك هذه الدنانير بهذه الدراهم ، فعلى الرأي الأول : تعلقت الدنانير بذمه صاحبها ، والدراهم بذمه صاحبها ، فلو تلفت ، ظل البيع صحيحا ولم يتأثر بتلف شيء من العوضين ؛ لأن مال الذمة لا يتلف.

وعلى الرأي الثاني : لو تلفت الدراهم والدنانير ، لم يتعلق بذمة صاحبهما شيء ، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها.

٢٣٢

ـ ٢ ـ

يوسف عند ملك مصر وإيتاؤه النبوة

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

المفردات اللغوية :

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر ، واسمه قطفير أو أطفير ، وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقي من العماليق ، وقد آمن بيوسف ومات في حياته. روي أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ، ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريان وكان ابن ثلاثين ، وآتاه الله الحكمة والعلم ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين.

واختلف فيما اشتراه به ، فقيل : عشرون دينارا وزوجا نعل وثوبان أبيضان (لِامْرَأَتِهِ) زليخا أو راعيل (أَكْرِمِي مَثْواهُ) مقامه عندنا ، أي اجعلي مقامه عندنا كريما أي حسنا ، والمعنى : أحسني تعهده (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) في ضياعنا وأموالنا ونستعين به في مصالحنا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) نتبناه ، وكان عقيما ، لما تفرّس به من الرشد ، ولذلك قيل : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر ، وابنة شعيب التي قالت : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) [القصص ٢٨ / ٢٦] ، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما.

(وَكَذلِكَ) كما نجيناه من القتل والبئر ، وعطفنا عليه قلب العزيز (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) مكنا له في أرض مصر وجعلنا له مكانة رفيعة فيها ، حتى صار رئيس حكومتها ووزير ماليتها (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) تعبير الرؤيا ، وهو معطوف على محذوف مقدر متعلق

٢٣٣

بمكنا ، أي لنملكه أو ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه ، أو الواو زائدة (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي لا يعجزه شيء ، فلا يمنع عما يشاء ، ولا ينازع فيما يريد.

(أَشُدَّهُ) منتهى اشتداد جسمه وكمال قوته الجسمية والعقلية ، وهو رشده ، وهو سن ما بين الثلاثين والأربعين (آتَيْناهُ حُكْماً) أي حكمة ، وهو العلم المؤيد بالعمل ، أو حكما بين الناس ، أو حكما صحيحا يزن به الأمور بميزان صادق (وَعِلْماً) يعني علم تأويل الأحاديث ، وفقه الدين قبل أن يبعث نبيا (وَكَذلِكَ) كما جزيناه (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) لأنفسهم ، وهو تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله واتقائه في عنفوان أمره.

المناسبة :

بعد مسيرة يوسف مع السيارة إلى مصر ، أبان الله تعالى بداية قصة يوسف في بيت عزيز مصر الذي اشتراه ، وإيتاءه النبوة والعلم والحكمة وتعبير الرؤيا وجعله من زمرة المحسنين.

التفسير والبيان :

بعد تلك المأساة الحزينة التي مرّ بها يوسف في البئر ، ثم اعتباره كالعبيد يباع ويشترى ، قيّض الله له الذي اشتراه من مصر ، ولم يذكر هنا اسمه ، وإنما وصفه النسوة بأنه عزيز مصر على خزائنها ، وذكر في التاريخ أنه رئيس الشرطة والوزير بها ، وكان اسمه «قطفير» أو أطفير بن روحيب وزير المالية ، حتى اعتنى به وأكرمه وأوصى أهله به ، لما توسم فيه الخير والصلاح ، فقال لامرأته زليخا أو راعيل بنت رعابيل : أكرمي مقام هذا الغلام ومنزله عندنا أي أحسني تعهده ، لما تفرس فيه من الرشد.

روى أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) والمرأة التي قالت لأبيها : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) الآية [القصص ٢٨ / ٢٦] ، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنهما.

٢٣٤

وقيل : كان فرعون موسى الذي عاش أربع مائة سنة هو الذي اشترى يوسف ، بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) [غافر ٤٠ / ٣٤] قال البيضاوي : والمشهور أن المشتري من أولاد فرعون ، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء.

ثم علل عزيز مصر طلبه من امرأته حسن تعهد يوسف بقوله كما قال الله : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي لي رجاء أن ينفعنا في أعمالنا الخاصة واستثمار أموالنا ، أو مصالحنا العامة ، أو نتبناه ولدا تقر به أعيننا ؛ لأنه كان عقيما لا يولد له ولد ، وكان حصورا.

والآية تدل على على أن العزيز كان عقيما ، وأنه كان صادق الفراسة.

ثم أبان الله تعالى أفضاله الأدبية المعنوية بعد أن قيض له من يعينه ماديا فقال : وكما أنعمنا عليه بالسلامة من الجبّ ، وأنقذناه من إخوته ، وهيأنا له المنزل والمثوى الطيب الكريم ، عطّفنا عليه قلب العزيز ، وجعلنا له مكانة عالية في أرض مصر ، يملك الأمر والنهي وتدبير أمور المالية وشؤون الدولة والحكم ، بسبب حدوث ما حدث له في بيت العزيز ، ثم السجن ، الذي كان سببا في التعرف على ساقي الملك ، ثم الاتصال بالملك نفسه ، حتى قال له الملك : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف ١٢ / ٥٤] وقال يوسف للملك: (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف ١٢ / ٥٥].

وتحقيق الكمال يكون بأمرين هما القدرة والعلم ، أما تكميله في صفة القدرة فبقوله تعالى : (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) وأما تكميله في صفة العلم ، فبقوله تعالى : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وهو معطوف على مقدر متعلق بمكنا ، أي لنملّكه ولنعلمه. وتأويل الأحاديث : تعبير الرؤيا ، ومعرفة حقائق الأمور ، وكيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحكمته وجلاله.

٢٣٥

ثم قال تعالى : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ..) لا يعجزه شيء ، فلا يمنع عما يشاء ، ولا ينازع فيما يريد ، إذا أراد شيئا فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف ، بل هو الغالب ، وهو الفعال لما يشاء ، كما قال سعيد بن جبير : «ولكن أكثر الناس لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد ، ويأخذون بظواهر الأمور ، كما ظن إخوة يوسف أنه لو أبعد خلالهم وجه أبيهم ، وكانوا من بعده قوما صالحين».

وقوله : (أَكْثَرَ النَّاسِ) دليل على أن الأقل يعلمون الحقائق كيعقوب عليه‌السلام ، الذي يعلم أن الله غالب على أمره.

ثم بيّن الله تعالى ما جازى به يوسف لما صبر على إساءة إخوته إليه ، وعلى الشدائد والمحن التي مرّ بها ، فمكنه الله تعالى في الأرض ، وهو القدرة التي أشرنا إليها ، ولما بلغ أشده آتاه الله النبوة التي عبر عنها بالحكم والعلم ، وهي أكمل درجات العلم ، فقال : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ..) أي ولما استكمل يوسف قواه الجسمية والعقلية ، آتيناه حكما وعلما ، أي النبوة التي حباه بها بين أولئك الأقوام ، كالجزاء على صبره على تلك المحن وعلى الأعمال الحسنة.

واكتمال الرشد وبلوغ الأشد : ما بين الثلاثين والأربعين ، فقال جماعة : ثلاث وثلاثون سنة ، أو بضع وثلاثون ، وقال الحسن : أربعون سنة. وقال عكرمة وهو تقدير الأطباء : خمس وعشرون سنة.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ومثل ذلك الجزاء ، نجزي المحسنين الذين يحسنون لأنفسهم أعمالهم. وهذا دليل على أن يوسف عليه‌السلام كان محسنا في عمله ، عاملا بطاعة الله تعالى ، وأن ما آتاه الله من سلطان ونفوذ ، وعلم وحكمة ، ونبوة ورسالة كان جزاء على إحسانه في عمله ، وتقواه في حال شبابه ، إذ للإحسان تأثير في صفاء العقول ، وللإساءة تأثير في تعكير النفوس وسوء فهم الأمور.

٢٣٦

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما تفضل الله به على يوسف عليه‌السلام جزاء صبره من نعم وفضائل مادية ومعنوية وهي ما يأتي :

١ ـ تهيئة البيت الكريم ، والمثوى والمقام المريح ، والمطعم واللباس الحسن ، والحفظ والرعاية المادية والأدبية في ظل بيت العزيز الذي كان وزيرا للمالية على خزائن مصر ، وهو المنصب ذاته الذي تولاه يوسف عليه‌السلام بعدئذ.

٢ ـ كان عزيز مصر صادق الفراسة ، ثاقب الفكرة ، أصاب فيما توقعه ليوسف من مكانة عالية في البلاد.

٣ ـ التمكين المادي ليوسف في أرض مصر ، بأن عطف الله عليه قلب الملك ، حتى تمكن من الأمر والنهي في بلد الملك نفسه ، فصار وزيرا للمالية ورئيسا للحكومة.

٤ ـ التمكين المعنوي ليوسف ليوحي الله إليه بكلام منه ، وليعلمه تأويل الكلام وتفسيره ، وتعبير الرؤيا ، والفطنة للأدلة الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته.

٥ ـ إيتاؤه الحكم والعلم ، أي النبوة بعد بلوغ الرشد واكتمال البنية الجسدية والقوى العقلية ، فقوله : (حُكْماً وَعِلْماً) إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية.

٦ ـ جعله من المؤمنين المحسنين المطيعين أوامر ربه ، المتجنب نواهيه ، الصابرين على النوائب ، حتى قال بعضهم : إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى ، وشكر نعماء الله تعالى ، وجد منصب الرسالة ، بدليل أنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن ، ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة.

٢٣٧

٧ ـ دل قوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف ، فإن الله يعطيه تلك المناصب.

٨ ـ الله تعالى غالب على أمره ، فعال لما يشاء ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، نافذ أمره في الخلائق ، كما قال سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢].

٩ ـ أكثر الناس لا يعلمون حقائق الأمور الإلهية ، ويكتفون بظواهر الأمور ، والأقل كالأنبياء والمؤمنين الأتقياء هم الذين يدركون أن الله غالب على أمره.

الفصل الرابع من قصة يوسف

يوسف وامرأة العزيز

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ

٢٣٨

الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

الإعراب :

(هَيْتَ لَكَ) اسم لهلمّ ، ولذلك كانت مبنية ، وكان الأصل أن تبنى على السكون ، إلا أنه لم يمكن أن تبنى على السكون ؛ لأنهم لا يجمعون بين ساكنين وهما الياء والتاء. ومنهم من بناها على الفتح لأنه أخف الحركات. ومنهم من بناها على الكسر ؛ لأنه الأصل في التحريك لالتقاء الساكنين ، ومنهم من بناها على الضم لحصول الغرض من زوال التقاء الساكنين.

ومن قرأ : هيئت لك بالهمز فمعناه : تهيأت لك ، وتكون التاء مضمومة ؛ لأنها تاء المتكلم.

(مَعاذَ اللهِ) منصوب على المصدر ، يقال : عاذ يعوذ معاذا وعوذا وعياذا.

(رَبِّي) في موضع نصب على البدل من هاء (إِنَّهُ) وهي اسم إن.

(أَحْسَنَ مَثْوايَ) فعل ومفعول ، ومن قرأ أحسن فهو خبر إنّ ، أي إن ربي أحسن مثواي.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) الهاء ضمير الشأن والحديث. وجملة (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) جملة فعلية خبر إن.

(لَوْ لا أَنْ رَأى .. لَوْ لا) حرف يمتنع له الشيء لوجود غيره. و (أَنْ رَأى) في موضع رفع لأنه مبتدأ. ولا يجوز إظهار خبره بعد (لَوْ لا) لطول الكلام بجوابها ، وقد حذف خبر المبتدأ هنا والجواب معا ، والتقدير : لولا رؤية برهان ربه موجودة لهمّ بها. ولا يجوز أن يكون (وَهَمَّ بِها) جواب (لَوْ لا) لأن جواب (لَوْ لا) لا يتقدم عليه.

(كَذلِكَ لِنَصْرِفَ) الكاف من (كَذلِكَ) يجوز أن تكون رفعا ، بأن تكون خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : البراهين كذلك ، ويجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف ، أي أريناه البراهين رؤية كذلك.

٢٣٩

البلاغة :

(فَصَدَقَتْ) و (فَكَذَبَتْ) و (الصَّادِقِينَ) و (الْكاذِبِينَ) بين كلّ طباق.

(مِنَ الْخاطِئِينَ) من باب تغليب الذكور على الإناث.

المفردات اللغوية :

(وَراوَدَتْهُ) طلبت منه زليخا مواقعتها برفق ولين ومخادعة ، ومنه قوله : (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) [يوسف ١٢ / ٦١] أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ، ليرسل أخاه بنيامين معنا ، ومنه الرائد : الذاهب لطلب شيء. والمراد من آية (وَراوَدَتْهُ) تحايلت لمواقعته إياها ، ولم تجد منه قبولا. (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أحكمت إغلاق أبواب البيت ، قيل : كانت سبعة ، والتشديد : للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق. (هَيْتَ لَكَ) أي هلمّ وأقبل وبادر ، أو تهيأت ، وهي لغة عرب حوران والكلمة : اسم فعل مبني على الفتح ، ولام (لَكَ) للتبيين ، كالتي في «سقيا لك».

(قالَ : مَعاذَ اللهِ) أعوذ بالله وأتحصن من الجهل والفسق. (إِنَّهُ رَبِّي) إن الذي اشتراني سيدي قطفير ، أو إن الشأن (أَحْسَنَ مَثْوايَ) مقامي ، أي أحسن تعهدي ، إذ قال لك : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) فلا أخونه في أهله. وقيل : إن الضمير لله تعالى ، أي إنه الذي خلقني وأحسن منزلتي بأن عطف عليّ قلب سيدي ، فلا أعصيه. (إِنَّهُ) أي الشأن (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) المجازون الحسن بالسيء ، وقيل : الزناة ، فإن الزنى ظلم على الزاني والمزني بأهله.

(هَمَّتْ بِهِ) قصدت منه الجماع ومخالطته أو أن تبطش به لعصيانه أمرها ، والهم بالشيء : قصده والعزم عليه ومنه الهمام : وهو الذي إذا همّ بشيء أمضاه. (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي لولا وجود النبوة ، أو مراقبة الله تعالى وطاعته ورؤية ربه متجليا عليه ، لقصد مخالطتها ، والمفهوم من (لَوْ لا) أنه لم يقصد ذلك أصلا ، لوجود خشية الله في قلبه ؛ لأن (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، فعند ما تقول : لولا إتيان ضيف إلى البارحة لجئت إليك ، تعني تعذر المجيء لصاحبك بسبب مجيء ضيف يزورك ، فالضيف مانع من حصول المجيء ، وكذلك هنا : لولا برهان النبوة ومراقبة الله لهمّ بها.

(كَذلِكَ) أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه وأريناه البرهان. (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) الخيانة (وَالْفَحْشاءَ) الزنى (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) المختارين الذين اجتباهم الله واختارهم لطاعته وعلى قراءة كسر اللام (الْمُخْلَصِينَ) يكون المراد : المخلصين في الطاعة.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي تسابقا إلى الباب ، فحذف الجار ، أو ضمن الفعل معنى الابتدار ، أي أسرع كل منهما نحو الباب ، وذلك أن يوسف فرّ منها ليخرج ، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج ،

٢٤٠