التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ وجوب النّهي عن المنكر والفساد ، والأمر بالمعروف ، كما قال تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران ٣ / ١٠٤] ، وفي الحديث الصّحيح : «إن الناس إذا رأوا المنكر ، فلم يغيّروه ، أوشك أن يعمّهم الله بعقاب».

٢ ـ المصلحون في كلّ زمان ، النّاهون عن الفساد في الأرض كقوم يونس ، وأتباع الأنبياء وأهل الحقّ ناجون من عذاب الله تعالى.

٣ ـ التّرف يدعو عادة إلى الإسراف المؤدّي إلى الفسوق والعصيان والظلم ، والمترف : الذي أبطرته النّعمة وسعة المعيشة.

٤ ـ الظّلم أو الاجرام كالشّرك والكفر وإلحاق الأذى والضّرر بالنّاس سبب موجب للعقاب في الدّنيا والآخرة ، لكن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدّنيا من الشّرك ، وإن كان عذاب الشّرك في الآخرة أصعب.

٥ ـ لم يكن الله ليهلك قوما بالكفر وحده ، حتى ينضم إليه الفساد في المعاملات والعلاقات الاجتماعية ، كما أهلك الله قوم شعيب ببخس المكيال والميزان ، وقوم لوط باللواط.

٦ ـ الله تعالى قادر على جعل النّاس كلّهم أمّة واحدة من إيمان أو كفر. قال الضّحّاك في آية : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ..) : أهل دين واحد ، أهل ضلالة ، أو أهل هدى. وقال سعيد بن جبير : على ملّة الإسلام وحدها.

وأما قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) فقال مجاهد وقتادة : أي على أديان شتّى.

١٨١

وقوله تعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال الحسن ومقاتل وعطاء : الإشارة إلى الاختلاف ، أي وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضّحّاك : ولرحمته خلقهم. واختار الطّبري وتابعه القرطبي : الإشارة بذلك للاختلاف والرّحمة ، وهو أولى في تقديري ؛ لأنه يعمّ ، أي ولما ذكر خلقهم. ولام (وَلِذلِكَ) للعاقبة والصّيرورة كما بيّنا.

والقول بعموم إشارة (وَلِذلِكَ) أشار إليه مالك رحمه‌الله ؛ قال أشهب : سألت مالكا عن هذه الآية قال : خلقهم ليكون فريق في الجنّة ، وفريق في السّعير ، أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف ، وأهل الرّحمة للرّحمة. وقال ابن عباس أيضا كما تقدّم : خلقهم فريقين : فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه.

٧ ـ استدلّ أهل السّنّة بآية : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) على أنّ الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى ؛ لأن تلك الرّحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل ، وإرسال الرّسل ، وإنزال الكتب ، وإزالة العذر ، فإن كلّ ذلك حاصل في حقّ الكفار ، فلم يبق إلا أن يقال : تلك الرّحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة (١).

٨ ـ مما ثبت في الأزل وأخبر تعالى عنه وقدر أنه يملأ ناره ، ويملأ جنّته ، فقال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ..) ، وأخرج البخاري عن أبي هريرة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عن الجنّة والنّار : «ولكلّ واحدة ملؤها».

__________________

(١) تفسير الرّازي : ١٨ / ٧٧ ـ ٧٨

١٨٢

الفائدة العملية من قصص الأنبياء

والأمر بالعبادة والتوكل على الله تعالى

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

الإعراب :

(وَكُلًّا) منصوب على المصدر ب (نَقُصُ) وتنوينه عوض عن المضاف إليه ، أي كل ما يحتاج إليه ، وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك.

(ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) بيان لقوله : (وَكُلًّا) أو بدل منه ، أو مفعول به.

المفردات اللغوية :

(وَكُلًّا) وكل نبأ (نَقُصُ) نخبرك به ، والقص : تتبع أثر الشيء للإحاطة به ، كما قال تعالى : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ : قُصِّيهِ ..) [القصص ٢٨ / ١١]. (مِنْ أَنْباءِ) جمع نبأ : وهو الخبر المهم. (نُثَبِّتُ بِهِ) نقوّي ونطمئن. (فُؤادَكَ) قلبك ، أي نجعله راسخا كالجبل ، وهو المقصود من الاقتصاص ، وهو زيادة يقينه ، وطمأنينة قلبه ، وثبات نفسه على أداء الرسالة ، واحتمال أذى الكفار. (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) الأنباء أو الآيات (الْحَقُ) ما هو حق (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى سائر فوائده العامة ، وخصّ المؤمنون بالذكرى ؛ لانتفاعهم بها في الإيمان ، بخلاف الكفار.

(عَلى مَكانَتِكُمْ) على حالتكم أو على تمكنكم واستطاعتكم. (إِنَّا عامِلُونَ) على حالتنا ، وهو تهديد لهم. (وَانْتَظِرُوا) عاقبة أمركم. (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم.

١٨٣

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي علم ما غاب فيهما ، لا يخفى عليه خافية مما فيهما. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) أي يرجع إليه أمرك وأمرهم ، لا محالة ، فينتقم ممن عصى. (فَاعْبُدْهُ) وحده (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) ثق به ، فإنه كافيك. وتقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على ما هو الأنفع للعابد. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أنت وهم ، فيجازي كلّا ما يستحقه ، وإنما يؤخرهم لوقتهم.

المناسبة :

بعد أن قص الله على نبيه أخبار الأنبياء مع أقوامهم ، ذكر فائدة تلك القصص وحصرها في نوعين من الفائدة وهما : تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى ، وبيان ما هو حق وعظة وعبرة وذكرى تذكر المؤمنين. ثم ختم السورة بما بدأها به وهو الأمر بالعبادة ، والتوكل على الله ، وعدم المبالاة بعداوة المشركين.

التفسير والبيان :

وكل خبر من الأخبار التي هي من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم نقصها عليك لفائدتين :

الأولى ـ (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي ما به يقوى الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى ؛ لأن الأنبياء الذين من قبلك تحملوا في محاجة أقوامهم الأذى الكثير ، فصبروا على ما كذبوا به ، فنصرهم الله وخذل أعداءهم الكافرين ، فلك بمن مضى من إخوانك المرسلين أسوة.

الثانية ـ (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وتبين لك في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء ، أو في هذه الأنباء والآيات ، ما هو الحق والصدق واليقين : وهو وحدانية الله وعبادته وحده ، وإثبات البعث ، وفضيلة التقوى والخلق الفاضل ، وفي تلك الأنباء عظة وعبرة يرتدع بها

١٨٤

الكافرون ، وذكرى يتذكر بها المؤمنون. وخصّ هذه السورة بالذكر ؛ لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار.

والحق : البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة.

والموعظة : التنفير من الاعتماد الكلي على الدنيا وما فيها من شقاوة ، وإيثارها على الآخرة وما فيها من سعادة.

والذكرى : الإرشاد إلى الأعمال الصالحة الباقية.

وبعد هذا الإنذار والترهيب والترغيب أمر الله رسوله بقوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ) أي وقل للكافرين الذين لا يؤمنون بما جئت به من ربك ، على وجه التهديد : اعملوا على طريقتكم ومنهجكم وحالكم ، وافعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشرّ ، كما قال شعيب عليه‌السلام لقومه ، فنحن أيضا عاملون على طريقتنا ومنهجنا وما نقدر عليه من الدعوة إلى الخير ، وانتظروا بنا نهاية أمرنا ، إما بموت أو غيره مما تتأملون ، إنا منتظرون عاقبة أمركم ، وما ينزل بكم من عقاب نزل بأمثالكم ، إما من عند الله أو بأيدي المؤمنين. قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : وانتظروا الهلاك ، فإنا منتظرون لكم العذاب.

والتهديد بقوله : (اعْمَلُوا ..) مثل قوله تعالى لإبليس : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ...) [الإسراء ١٧ / ٦٤] وقوله سبحانه : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف ١٨ / ٢٩].

وتمني انتهاء أمر النبي حكاه الله عن المشركين بقوله : (أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور ٥٢ / ٣٠].

وانتظار مصير الفريقين له شبيه في قوله تعالى : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام ٦ / ١٣٥].

١٨٥

ثم ختم الله تعالى السورة بخاتمة جامعة سامية ، جمعت كل مطالب الخير ، فقال : (وَلِلَّهِ غَيْبُ ..) أي أنه تعالى عالم غيب السموات والأرض في الماضي والحاضر والمستقبل ، وعلمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات ، والمعدومات والموجودات ، والحاضرات والغائبات ، ومرجع الكل ومصير الخلائق والكائنات إليه ؛ لأنه مصدر الكل ومبدأ الكل ، وهو عظيم القدرة نافذ المشيئة ، قهار للعبيد ، وسيحاسب كل عامل بما عمل يوم الحساب ، من صغير أو كبير.

وإذا كان الله هو المتصف بما ذكر ، فاعبده وحده ومن معك من المؤمنين ، وتوكل عليه في كل أمورك حق التوكل ، وثق به تمام الثقة فيما تستطيع وما لا تستطيع ، فمن توكل على الله فهو حسبه وكافيه ، وما ربك بغافل عما تعملون ، أي ليس بخفي عليه كل ما يعمل به المكذبون والمصدقون ، وما عليه أحوالهم ، وما تصدر عنه أقوالهم ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة ، وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين ، فلا تبال بهم.

روى أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكيّس : من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز : من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ في إيراد قصص الأنبياء وما كابدوه من مشاق من أجل دعوتهم تسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتثبيت له على أداء الرسالة ، والصبر على ما يناله فيها من الأذى. وفيها بما تضمنته من بيان ما هو الحق واليقين عظة وعبرة وذكرى لكل مؤمن. والموعظة : ما يتّعظ به من إهلاك الأمم الماضية. والذكرى : تذكر المؤمنين

١٨٦

ما نزل بمن هلك فيتوبون. وخصّ الله تعالى المؤمنين ؛ لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء.

٢ ـ فيها تهديد ووعيد الكافرين على أعمالهم ، وندب لهم أن يفعلوا في حق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ما يقدرون عليه من الشر ، فلن ينالوا منه شيئا. وفي هذا إعلان الثقة التامة بعصمة الله له ، وتأكيد الإيمان بصحة عمله ، والإنذار بسوء عاقبة المخالفين.

٣ ـ العلم بالغيب والشهادة في جميع السموات والأرض ، في الحاضر والماضي والمستقبل مختص بالله تعالى.

٤ ـ المرجع والمآب في الدار الآخرة إلى الله تعالى ، وليس لمخلوق أمر إلا بإذنه.

٥ ـ إيجاب العبادة بالإخلاص لله وحده ، وإيجاب التوكل على الله في كل شيء ، أي اللجوء إليه والثقة به وتفويض الأمور إليه.

٦ ـ الله مطلع على أحوال العباد وأقوالهم وأفعالهم ، ويجازي كلّا بعمله ، فلا يضيع طاعات المطيعين ، ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين ، والجزاء بإحضارهم في موقف القيامة ، وحسابهم على الصغير والكبير ، والعتاب على كل شيء. وتحصل عاقبة الأمر : فريق في الجنة وفريق في السعير.

١٨٧

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة يوسف عليه‌السلام

مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية.

تسميتها وسبب نزولها :

سميت سورة يوسف ، لإيراد قصة النبي يوسف عليه‌السلام فيها ، روي أن اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة. وقال سعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه ـ فيما رواه عنه الحاكم وغيره ـ : أنزل القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : لو قصصت علينا ؛ فنزل : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) [يوسف ١٢ / ٣] و [الكهف ١٨ / ١٣] فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : لو حدثتنا ؛ فنزل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر ٣٩ / ٢٣]. وقد نزلت بعد اشتداد الأزمة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة مع قريش ، وبعد عام الحزن الذي فقد فيه النبي زوجته الطاهرة خديجة ، وعمه أبا طالب الذي كان نصيرا له.

روي في سبب نزولها أن كفار مكة لقي بعضهم اليهود وتباحثوا في شأن محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لهم اليهود : سلوه ، لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ، وعن قصة يوسف ، فنزلت.

وبالرغم من أنها سورة مكية ، فأسلوبها هادئ ممتع ، مصطبغ بالأنس والرحمة ، واللطف والسلاسة ، لا يحمل طابع الإنذار والتهديد كما هو الشأن

١٨٨

الغالب في السور المكية. قال عطاء : لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها. وروى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو هذه السورة ، أسلموا ؛ لموافقتها ما عندهم.

مناسبتها لما قبلها :

نزلت هذه السورة بعد سورة هود ، وهي مناسبة لها ، لما في كلّ من قصص الأنبياء ، وإثبات الوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد تكررت قصة كل نبي في أكثر من سورة في القرآن ، بأسلوب مختلف ، ولمقاصد وأهداف متنوعة ، بقصد العظة والاعتبار ، إلا قصة يوسفعليه‌السلام ، فلم تذكر في غير هذه السورة ، وإنما ذكرت جميع فصولها بنحو متتابع شامل ، للإشارة إلى ما في القرآن من إعجاز ، سواء في القصة الكاملة أو في فصل منها ، وسواء في حالة الإجمال أو حالة التفصيل والبيان. قال العلماء : ذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن ، وكرّرها بمعنى واحد في وجوه مختلفة ، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة ، وذكر قصة يوسف ولم يكررها ، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرّر ، ولا على معارضة غير المتكرر ، والإعجاز لمن تأمل (١).

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت هذه السورة قصة يوسف عليه‌السلام ، بجميع فصولها المثيرة ، المفرحة حينا والمحزنة حينا آخر ، فبدأت ببيان منزلته عند أبيه يعقوب وصلته به ، ثم علاقته بإخوته (مؤامرتهم عليه ، وإلقاؤه في البئر ، وبيعه لرئيس شرطة مصر ، وشراؤهم الطعام منه في المرة الأولى ومنحهم إياه دون مقابل ، ومنعهم شراء الطعام في المرة الثانية إن لم يأتوه بأخيهم (بنيامين) وإبقاء أخيه بنيامين لديه في

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ١١٨

١٨٩

حيلة مدروسة وسرقة مزعومة ، حتى يأتوه بأخيهم لأبيهم ، ثم تعريفه نفسه لإخوته) ، ومحنة يوسف وجماله الرائع ، وقصة يوسف مع امرأة العزيز ، وبراءته المطلقة ، يوسف في غياهب السجون يدعو لدينه ، بوادر الفرج وتعبير رؤيا الملك ، توليته وزيرا للمالية والتجارة ورئاسة الحكم ، إبصار يعقوب حين جاء البشير بقميص يوسف ، لقاء يوسف في مصر مع أبويه وجميع أسرته.

ثم إيراد العبرة من هذه القصة ، وإثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسليته ، وبشائر الفرج بعد الضيق ، والأنس بعد الوحشة ، فإن يوسف عليه‌السلام انتقل من السجن إلى القصر ، وجعل عزيزا في أرض مصر ، وكل من صبر على البلاء فلا بد من أن يأتيه الفرج والنصر ، وتحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حدث لمن قبلهم ، والدروس والأخلاق المستفادة من قصة يوسف عليه‌السلام ، وأهمها نصر الرسل بعد الاستيئاس.

أضواء من التاريخ على قصة يوسف عليه‌السلام (١) :

نسب يوسف :

هو يوسف بن يعقوب (إسرائيل الله) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام. وهو أحد أولاد يعقوب الاثني عشر ذكرا الذين ولدوا في فدان آرام أثناء رعاية غنم خاله (لابان) مقابل تزوجه ابنتيه ، إلا بنيامين فقد ولد في أرض كنعان بعد رحيله إليها. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يوسف فيما أخرجه أحمد والبخاري عن ابن عمر : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».

وكان يوسف رائع الجمال ، محبوبا لدى أبيه ، مما أثار حقد إخوته عليه وتآمرهم عليه. وقد رأى في منامه في صغره في سن السابعة عشرة سنة أو

__________________

(١) انظر قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار ١٢٠ وما بعدها

١٩٠

الثانية عشرة أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدوا له ، فقصّ الرؤيا على أبيه ، فبشره بالنبوة وتعبير الأحلام.

إلقاء يوسف في البئر :

أخذه إخوته معهم إلى البرية بقصد السياحة واللعب ، ثم ألقوه في البئر ، وأخبروا أباهم كذبا أن الذئب أكله ، فلم يقتنع الأب الصالح بكلامهم ، واتهمهم بمكيدة أوقعوها فيه ، ثم أنقذه الله بتعلقه بحبل دلو أدلي في البئر ، ثم باعه آخذوه في مصر بثمن نجس ، وادعوا أنهم اشتروه من سيده ، باعوه لرئيس الشرطة وهو العزيز في محافظة الشرقية قرب بحيرة المنزلة ، واسمه (فوطيفار) أو (أطفير) فأحبه وقال لامرأته زليخا : (أَكْرِمِي مَثْواهُ ..) وجعله صاحب أمره ونهيه ، ورئيس خدمه والمتصرف في بيته ، وتولاه الله تعالى بالهداية والتربية والتوفيق.

محنة يوسف :

وكان جماله الرائع سبب محنته ، روى مسلم في صحيحة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن» فأحبته امرأة العزيز ، وراودته عن نفسه ، فأبى إيمانا بالله ، وامتثالا لأمره ، واجتنابا لمنهياته ، وتقديرا لأفضال زوجها عليه : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وامتنع همّه بها لوجود البرهان عنده ، وهو حرصه على الطاعة ، والتمسك بآداب آبائه ، لأن (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، امتنع الهم لوجود البرهان ، كما في قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً ، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ، لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها ، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [القصص ٢٨ / ١٠] أي امتنع إبداؤها بما في نفسها على ابنها ، لوجود الربط على قلبها.

مكيدة امرأة العزيز :

ولما خابت في تحقيق رغبتها منه ، حقدت عليه ، كما هو شأن السادة عند ما

١٩١

يخالفهم أحد الأتباع. ولما رأت زوجها لدى الباب يريد الدخول ، لفقت عليه التهمة ، وأفهمته أنه يريدها بسوء ، فكذبها يوسف الصّديق ، فاحتكم الزوج العاقل إلى القرائن : إن كان قميصه مزّق من الأمام فهي الكاذبة ، وإن مزق من الخلف فهو الصادق ، لأن المقدم على المرأة يظهر أثر مقاومتها ودفاعها من الناحية الإمامية ، والهارب من المرأة يظهر أثر لحاقها به من الخلف ، فظهرت براءته ، والتصقت التهمة بها ، وأمر يوسف بكتمان الخبر ، وأمرها بالاستغفار لذنبها.

ومع هذا ، شاع خبر امرأة العزيز وفتاها في أرجاء المدينة ، ولامتها النساء ، فأعدت لهن طعاما يحتاج إلى القطع بالسكين ، وآتت كل واحدة سكينا ، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن ، فبهرهن جماله ، فقطعن أيديهن ، وقلن : (ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) فعذرنها ، ثم هددته بالسجن إن لم يستجب لها ، وفشا أمره بين الناس ، فرأى سيده أن يزجه في السجن ، ليحمي سمعة امرأته.

دخول يوسف إلى السجن ودعوته لدينه فيه :

وأدخل يوسف السجن ، ودخل معه السجن فتيان : أحدهما : رئيس الخبازين عند الملك ، والثاني : رئيس سقاته ، فرأى الثاني في منامه أنه يعصر في كأس الملك خمرا ، ورأى الأول أنه يحمل فوق رأسه خبزا وطيرا تأكل الناس منه ، وطلبا من يوسف تعبير الرؤيا.

فأظهر يوسف مقدرته على تأويل الرؤيا ، ولكنه قدم لذلك بدعوته السجناء إلى توحيد الله ، قائلا لصاحبيه : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟) وقال للساقي : إنه يسقي ربه خمرا ، وقال للآخر : إنه سيصلب ، فتأكل الطير من رأسه. وتأمل يوسف الفرج وقال لمن ظن أنه ناج منهما : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ، فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).

١٩٢

رؤيا الملك :

ثم رأى الملك أن سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنابل خضراء حسنة في ساق واحدة يأكلهن سبع يابسات ، فدعا بالسحرة لسؤالهم عن تأويل المنام ، فقالوا : أضغاث أحلام ، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.

فتذكر ساقي الملك يوسف في السجن ، فعرض الأمر على الملك ، فوافق على أن يرسله إلى السجن ليأتي له بالتفسير الصحيح للمنام ، فجاءه فيه ، ثم عاد بالجواب إلى الملك ، فقال الملك : ائتوني بيوسف ، فأبى يوسف الخروج من السجن ، حتى تظهر براءته وحقيقة أمره مع النساء ، فأحضرهن الملك ، وسألهن عنه ، قلن : حاشا لله ما علمنا عليه من سوء ، وأقرت امرأة العزيز (زليخا) ببراءته ، وقالت : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) وآية : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ...) من قول امرأة العزيز ، لا من قول يوسف كما يذكر بعض المفسرين خطأ.

خروج يوسف من السجن إلى القصر :

وخرج يوسف من السجن بريئا من التهمة ، وسأله الملك عن أي عمل يرضاه لنفسه؟ فقال يوسف : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) فجعله على كل أرض مصر ، وصاحب الأمر والنهي ، ووزيرا للمالية والتجارة ورئاسة الحكم ، وجعل خاتمه في يد يوسف الذي أصبح عمره ثلاثين سنة.

طلب إخوة يوسف الطعام منه :

ومرت السنوات السبع المخصبة ، ثم جاءت السبع المجدبة ، فباع يوسف المصريين من مخازن القمح التي كان قد ادخرها أثناء الخصب ، ثم جاءه أهل

١٩٣

فلسطين ، وأرسل يعقوب أولاده مع الجمال والحمير لحمل الطعام من مصر ، فلما قدموا عرفهم يوسف ولم يعرفوه ، إذ أصبح في سن الأربعين ، وطلب منهم أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم مرة أخرى ، وأعطاهم الطعام بلا ثمن ، ليأتوه بأخيهم ، دون أن يعلموا أنه ردّ عليهم الثمن ، ووضع نقودهم في أوعيتهم ؛ لأنهم سيعودون بها إليه ؛ لأنهم لا يقبلون ما ليس لهم.

ولما اشتد القحط بأهل فلسطين ، سمح يعقوب بسفر ابنه (بنيامين) مع إخوته ، فلما قدموا أحسن يوسف ضيافتهم واستقبالهم في حفل غداء ظهرا ، ولكنه لم يأكل معهم جريا على عادة المصريين الذين يعتبرون الأكل مع العبرانيين نجاسة ، وأخبروا خادما ليوسف أنهم عادوا بالفضة ثمن الطعام سابقا ، وبفضة أخرى لشراء القمح.

حيلة يوسف في إبقاء أخيه عنده :

أمر يوسف بتجهيز إخوته من الطعام ، وأمر أن توضع فضة كل واحد في عدله ، وأن يوضع صواع الملك في رحل أخيه بنيامين ، وعند ما عزموا على المسير ، نودوا بأنهم سرقوا سقاية الملك ، وأن من سرقه فهو فداؤه في قانون الملك. ففتشت أعدالهم ، ثم أخرج الصواع من عدل بنيامين ، فتوسطوا لدى الملك واسترحموا أن يأخذ أحدهم بدلا عنه ؛ لأن له أبا شيخا كبيرا ، فأبى ، فقالوا : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، فأسرها يوسف في نفسه ، وقال لهم : أنتم شرّ مكانا من هذا السارق.

وسرقة يوسف المزعومة :

أن أمه ماتت وهو صغير ، فكفلته عمته ، ولما أراد أبوه أن يأخذه منها ، ألبسته منطقة لإبراهيم كانت عندها ، وأخفتها تحت ثيابه ، ثم أظهرت أنها سرقت منها ، ثم أخرجتها من تحت ثيابه ، وطلبت بقاءه عندها يخدمها مدة ، جزاء له بما صنع.

١٩٤

فلما قدم إخوة يوسف على أبيهم يعقوب ما عدا أكبرهم وأصغرهم ، أخبروه بما حدث ، فازداد حزنا حتى ابيضت عيناه ، وتذكر يوسف فقال : يا أسفا على يوسف.

تعارف الإخوة ولقاء الأسرة :

ثم جاء إخوة يوسف إلى مصر في المرة الثالثة ، وطلبوا إمدادهم بالطعام ، لما تعرضوا له من الضرّ (الجوع) قائلين : وجئنا ببضاعة مزجاة أي قليلة ، كما طلبوا إطلاق سراح أخيهم ، فذكرهم يوسف بإساءتهم القديمة قائلا : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ، إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) فعرفوا أنه يوسف : (قالُوا : أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ قالَ : أَنَا يُوسُفُ ، وَهذا أَخِي ، قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا ..).

وأعطاهم قميصه لإلقائه على وجه أبيهم ، والإتيان بأهله أجمعين إليه ، فلما وصلوا فلسطين ألقوا القميص على وجه يعقوب ، فارتد بصيرا ، وبشره البشير بسلامة يوسف وأخيه.

فجاء يعقوب وآله إلى مصر ، فآوى يوسف إليه أبويه : يعقوب وزوجه خالة يوسف ، لموت أمه وهو صغير ، وسجد له أبوه وأمه وإخوته الأحد عشر سجود تحية وتعظيم ، لا سجود عبادة ، وتلك هي تأويل رؤياه السابقة بسجود أحد عشر كوكبا له مع الشمس والقمر ، وكان هذا اللقاء فرحة كبري للأسرة برئاسة يعقوب ، استوجبت من يوسف إعلان شكر الله تعالى على نعمه عليه ، من العلم والملك ، وطلب من الله تعالى أن يتولاه في الدنيا والآخرة ، وأن يتوفاه مسلما أي مطيعا لله ، غير عاص ، وأن يلحقه بالصالحين من آبائه الأنبياء.

العبر والعظات المستفادة من قصة يوسف :

يمكن استخلاص عبر كثيرة وعظات عديدة ، وأخلاق وفضائل سامية من قصة يوسف عليه‌السلام ، منها :

١٩٥

١ ـ قد تؤدي النقمة إلى النعمة ، فقد بدأت قصة يوسف بالأحزان والمفاجآت المدهشة ، من الإلقاء به في البئر ، ثم بيعه عبدا لرئيس شرطة مصر ، ثم كانت محنته الشديدة مع النساء ، فزجّ به في غياهب السجون ، ثم آل الأمر به إلى أن يصبح حاكم مصر الفعلي.

٢ ـ قد توجد ضغائن وأحقاد بين الإخوة ربما تدفع إلى الموت أو الهلاك.

٣ ـ كانت نشأة يوسف في بيت النبوة نشأة صالحة ، تربى فيها على الأخلاق الكريمة ، والخصال الرفيعة ، فشب على تلك الأوصاف الكاملة التي ورثها من آبائه وأجداده الأنبياء ، وقد أفاده ذلك في مختلف الأحداث الكبرى التي مرا ، وانتصر بها على المحن ، وجاءه الفرج بعد الشدة ، والعز والنصر بعد الذل والانكسار.

٤ ـ إن العفة والأمانة والاستقامة مصدر الخير كله ، للرجال والنساء ، على حدّ سواء ، وإن الاستمساك بالدين والفضيلة مصدر الاحترام وحسن السمعة ، وإن الحق وإن استتر زمنا لا بدّ من أن يظهر ولو بعد حين.

٥ ـ إن مثار الفتنة هو خلوة الرجل بالمرأة ، لذا حرمها الإسلام ، وحرم سفر المرأة لمسافة قصيرة بغير محرم ، ولو بوسائط النقل السريعة الحديثة ، لما يطرأ لها من عثرات ومضايقات ملحوظة ومشكلات تصاحب الأسفار ، ثبت في الحديث الذي أخرجه الترمذي والنسائي : «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان».

٦ ـ الإيمان بالمبدأ ، وصلابة الاعتقاد سبيل لتخطي الصعاب ، والترفع عن الدنايا ، وذلك هو الذي جعل ليوسف نفسا كريمة ، وروحا طاهرة ، وعزيمة صماء لا تلين أمام الشهوات والمغريات.

٧ ـ الاعتصام بالله عند الشدة ، واللجوء إليه عند الضيق ، فلم يأبه يوسف

١٩٦

عليه‌السلام بتوعد امرأة العزيز له بالسجن ، وإنما لجأ إلى الله قائلا : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ).

٨ ـ المحنة لا تثني المؤمن عن واجبه في الدعوة إلى الله تعالى ، فإن يوسف عليه‌السلام بالرغم من كونه في السجن ، انتهز فرصة تأويل رؤيا سجينين معه ، فبادر إلى الدعوة إلى التوحيد ودين الله ، لعل الموجودين معه يؤمنون بدعوته ، وقد أسلم فعلا الملك ، ومستعبر الرؤيا الساقي ، والشاهد فيما يقال.

٩ ـ الفطنة لاستغلال الأحداث والاتصاف بالإباء والشمم ، فلم يبادر يوسف عليه‌السلام إلى الخروج من السجن ، حتى تعلن براءته ، وتظهر طهارته ، وشرف نفسه ، حتى لا يوصف بأنه مجرم ، أودع السجون بجرمه.

١٠ ـ إظهار فضيلة الصبر ، فقد كان يوسف متدرعا بدرع الصبر على الأذى ، لاجتياز العقبات والصعاب والمصائب التي تعرّض لها وهي ما ذكر ، والصبر مفتاح الفرج ، ونصف الإيمان ، وطريق تحقيق النصر ، وقد نصره الله كما نصر باقي الرسل بعد الاستيئاس. وتوّج نصره بالعفو عن إخوته وكرمه في العفو الذي أصبح مضرب الأمثال ، حتى قال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ...).

١١ ـ أسفرت قصة يوسف عن براءته المطلقة ، كبراءة الذئب من دمه ، فقد تضافرت شهادات عديدة على براءته ، كما ذكر الرازي (١) :

أولها ـ شهادة رب العالمين : فقد شهد الله تعالى ببراءته عن الذنب بقوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) شهد تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات ، بقوله : (لِنَصْرِفَ ..) واللام للتأكيد

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٨ / ١١٦ وما بعدها.

١٩٧

والمبالغة ، وقوله : (وَالْفَحْشاءَ) وقوله : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا) وقوله : (الْمُخْلَصِينَ).

وثانيها ـ شهادة الشيطان ببراءته بقوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص ٣٨ / ٨٢] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ، ويوسف من المخلصين ، للآية السابقة.

وثالثها ـ شهادة يوسف عليه‌السلام بقوله : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وقوله : (رَبِّ ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ).

ورابعها ـ شهادة امرأة العزيز : فإنها اعترفت ببراءته وطهارته ، فقالت للنسوة : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَاسْتَعْصَمَ) وقالت : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).

وخامسها ـ الشهود من أهل العزيز : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ، إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ، فَكَذَبَتْ ، وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ..) الآية.

وسادسها ـ شهادة النسوة اللائي قطّعن أيديهن بقولهن : (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).

كل تلك الشهادات قاطعة ببراءة يوسف عليه‌السلام ، فمن أراد أن يتهمه بالهمّ على السوء ـ علما بأن الهمّ أمر نفسي لا عقاب عليه ـ فهو من دعاة السوء ، وأهل الجهالة والغباوة ، وأدنى من الشيطان الذي شهد كما أوضحنا بطهارة يوسف.

١٢ ـ أرشدت قصة يوسف إلى أنه لا دافع لقضاء الله تعالى ، ولا مانع من قدر الله تعالى ، وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة ، لم يمنعه عنه أحد ولو اجتمع العالم عليه.

١٩٨

١٣ ـ دلت القصة على أن الحسد سبب للخذلان والخسران.

١٤ ـ الصبر مفتاح الفرج ، فإن يعقوب عليه‌السلام لما صبر فاز بمقصوده ، وكذلك يوسف عليه‌السلام لما صبر فاز كما تقدم بيانه.

عربية القرآن ومنزلة القصص القرآني

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ(٣))

الإعراب :

(تِلْكَ آياتُ ..) مبتدأ وخبر.

(قُرْآناً) حال من هاء. (أَنْزَلْناهُ) أي أنزلناه مجموعها. وكذلك (عَرَبِيًّا) حال أخرى.

(أَحْسَنَ الْقَصَصِ أَحْسَنَ) منصوب نصب المصدر ؛ لأنه مضاف إلى المصدر ، وأفعل : إنما يضاف إلى ما هو بعض له ، فينزل منزلة المصدر ، فصار بمنزلة قولهم : سرت أشدّ السير ، وصمت أحسن الصيام. (هذَا الْقُرْآنَ هذَا) مفعول به ، و (الْقُرْآنَ) بدل أو عطف بيان أو نعت.

(وَإِنْ كُنْتَ) إن مخففة من الثقيلة ، واللام : هي التي تفرق بينها وبين النافية ، وضمير (قَبْلِهِ) راجع إلى قوله (بِما أَوْحَيْنا) والمعنى : وإن الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عنه.

١٩٩

البلاغة :

(تِلْكَ آياتُ) أشار إلى القرآن بالعبيد لبيان علو منزلته وبعد مرتبته في الكمال.

المفردات اللغوية :

(الر) البدء بالحروف المقطعة إشارة إلى إعجاز القرآن ، فمن هذه الحروف العربية الأبجدية ونحوها التي تكونت منها لغة العرب ، تألفت آيات الكتاب المعجز ، كما بينا في أول سورة البقرة وآل عمران وغيرهما من السور المتقدمة.

(تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة. (الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي السورة ، أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم ، أو الواضحة معانيها لنزولها بلسان العرب ، أو المبينة لمن تدبرها أنها من عند الله ، لا من عند البشر. و (الْمُبِينِ) الموضّح المفصل ما يريد. (أَنْزَلْناهُ) أي الكتاب الذي فيه قصة يوسف. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) مجموعا بلغة العرب ، وسمي بعض القرآن قرآنا ؛ لأن القرآن اسم جنس ، يقع على كله وبعضه ، وصار علما للكل بالغلبة. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) علة لإنزاله بهذه الصفة ، أي أنزلناه مجموعا أو مقروءا بلغتكم كي تفهموه وتحيطوا بمعانيه.

(الْقَصَصِ) إما مصدر بمعنى الاقتصاص ، وإما اسم مفعول بمعنى المقصوص من الخبر والأحاديث. وقص الخبر : حدثه على وجهه الصحيح. و (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) لأنه اقتص على أبدع الأساليب ، أو أحسن ما يقص ؛ لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر.

(بِما أَوْحَيْنا) أي بإيحائنا إليك هذا القرآن ، يعني السورة (لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن هذه القصة ، الجاهلين بها ، فلم يكن لك فيها علم قط ، ولا عرفت شيئا منها.

سبب النزول :

نزول الآية (٣):

(نَحْنُ نَقُصُ) : روى ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا؟ فنزلت : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ).

التفسير والبيان :

تشبه فاتحة هذه السورة فاتحة سورة يونس ، لكن وصف القرآن هنا بالمبين

٢٠٠