التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

العبرة من قصة نوح عليه‌السلام

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

الإعراب :

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ) : (تِلْكَ) مبتدأ ، وخبره : (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ). (نُوحِيها) خبر بعد خبر ، أو في موضع نصب على الحال ، أي تلك كائنة من أنباء الغيب نوحيها إليك.

ويجوز أن يكون : (تِلْكَ) مبتدأ ، و (نُوحِيها) : خبره ، و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ): من صلته ، وتقديره : تلك نوحيها إليك من أنباء الغيب.

(وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أُمَمٍ) مبتدأ ، و (سَنُمَتِّعُهُمْ) صفة ، والخبر محذوف تقديره : وممن معك أمم سنمتعهم ، ودل عليه قوله (مِمَّنْ مَعَكَ).

المفردات اللغوية :

(اهْبِطْ بِسَلامٍ) أنزل من السفينة بسلامة أو بتحية ، أي مسلما من المكاره من جهتنا أو مسلما عليك (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) خيرات عليك ومباركا عليك ، أو زيادات في نسلك حتى تصير آدم ثانيا (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) أي وعلى أمم هم الذين معك في السفينة ، أي من أولادهم وذريتهم هم المؤمنون ، سموا أمما لتشعب الأمم منهم ، فهم أصول البشرية ، وقد تسللت الأعراق والأجناس من أولاد نوح : سام (وهم السامانيون) وحام (وهم الأفارقة) ويافث (وهم أهل الصين واليابان وأمثالهم).

٨١

(وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) أي وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا ، ثم يمسّهم منا عذاب أليم في الآخرة ، والمراد بهم الكفار من ذرية من معه ، وقيل : قوم هود وصالح ولوط وشعيب ، والعذاب : هو ما نزل بهم.

(تِلْكَ) إشارة إلى قصة نوح عليه‌السلام (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) من بعض أخبار ما غاب عنك (نُوحِيها إِلَيْكَ) يا محمد (مِنْ قَبْلِ هذا) القرآن (فَاصْبِرْ) على التبليغ وأذى قومك كما صبر نوح (إِنَّ الْعاقِبَةَ) المحمودة في الدنيا بالظفر ، وفي الآخرة بالفوز (لِلْمُتَّقِينَ) عن الشرك والمعاصي.

المناسبة :

بعد أن أخبر الله تعالى عن استواء السفينة واستقرارها على الجودي ، ونجاة المؤمنين وهلاك الكافرين ، ذكر تعالى أمرين هما عبرة القصة :

الأول ـ تكريم نوح عليه‌السلام والمؤمنين معه بوعده تعالى عند الخروج من السفينة بالسلامة أولا ، ثم بالبركة ثانيا ، والسلامة تتضمن الدعوة لهم بالوقاية من المكروه ؛ لأنهم كانوا كالخائفين على وضعهم : كيف يعيشون وكيف يحققون حاجاتهم من المأكول والمشروب ، بعد أن عم الغرق جميع الأرض ، وعلموا أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان.

ثم إنه تعالى لما وعد نوحا ومن معه بالسلامة ، أردفه بأن وعدهم بالبركة وهي عبارة عن الدوام والبقاء والثبات ونيل الأمل.

والثاني ـ الإخبار عن أمور غائبة عن الخلق ، تكون بمثابة الإنذار والإرهاب والاعتبار ، وإعطاء الأمثلة للصبر الذي هو مفتاح الفرج :

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عما قيل لنوح عليه‌السلام ، حين أرست السفينة على الجودي ، من السلام عليه وعلى من معه من المؤمنين وعلى كل مؤمن من ذريته

٨٢

إلى يوم القيامة ، كما قال محمد بن كعب : دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.

والمعنى : قال الله أو الملائكة لنوح بعد انتهاء الطوفان وحبس المطر وابتلاع الأرض ماءها : اهبط من السفينة إلى الأرض ، أو من جبل الجودي إلى الأرض ، فقد ابتلعت الماء وجفّت ، بسلام منا ، أي بسلامة وأمن أو بتحية ، أي مسلما محفوظا من جهتنا ، أو مسلما عليك مكرّما كما قال تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) [الصافات ٣٧ / ٧٩] ، وبركات عليك ، والبركات : نعم ثابتة وخيرات نامية ، أي ومباركا عليك في المعايش والأرزاق ، تفيض عليك ، وعلى أمم ممن معك نسلا وتولدا ، أي هم ومن يتناسل منهم من ذرية ، ويصير التقدير : وعلى ذرية أمم ممن معك ، وذرية أمم سنمتعهم ، فيدخل في قوله (مِمَّنْ مَعَكَ) كل مؤمن إلى يوم القيامة ، وفي قوله : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) كل كافر إلى يوم القيامة ، كما روي ذلك عن محمد بن كعب.

والمعنى : إن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ، ينشئون ممن معك. وممن معك أمم ممتعون بالدنيا ، منقلبون إلى النار.

وكان نوح عليه‌السلام أبا الأنبياء ، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة.

وهكذا عم السلام والتبريك كل المؤمنين ، على اختلاف تجمعاتهم. لكن من أولئك المؤمنين سيكون من نسلهم أمم وجماعات آخرون من بعدهم ، يمتعون في الدنيا بالأرزاق والبركات ، ثم يصيبهم العذاب الأليم في الآخرة ، لكفرهم وعنادهم ، فانقسم الناس بعد نوح قسمين : قسم مؤمنون صالحون ممتعون في الدنيا والآخرة ، وقسم ممتعون في الدنيا فقط معذبون في الآخرة.

ثم ذكر الله تعالى العبرة العامة من قصة نوح : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ)

٨٣

أي تلك الأخبار عن نوح وقومه من أخبار الغيوب السابقة ، نوحيها إليك على وجهها ، كأنك تشاهدها ، ونعلمك بها وحيا منا إليك ، ما كنت تعلمها أنت ولا أحد من قومك ، حتى يقول من يكذبك : إنك تعلمتها من إنسان ، بل أخبرك الله بها.

فاصبر على تكذيب المكذبين من قومك ، وأذاهم لك ، وعلى تبليغ رسالتك كما صبر نوح على أذى الكفار ، فإن النصر والفوز والنجاة للمتقين الذين يطيعون الله ويتجنبون المعاصي ، وإنا سننصرك ونرعاك ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة ، كما فعلنا بالمرسلين ، حيث نصرناهم على أعدائهم : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) [غافر ٤٠ / ٥١] الآية ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٧١ ـ ١٧٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيتان إلى ما يأتي :

١ ـ السلامة والأمن ، والتحية والتسليم والتكريم ، والبركات والنعم من الله تعالى ، على كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، وذلك بدءا من نوح عليه‌السلام ومن آمن معه.

٢ ـ المتاع والانتفاع بنعم الدنيا ، والتعذيب في الآخرة ، لكل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ، بدءا من ذرية المؤمنين في عصر نوح عليه‌السلام وذرية أمم من بعدهم.

٣ ـ كان خبر نوح وقصته مع قومه من أنباء ما غاب عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أوحى الله بها إليه وأطلعه عليها ، دون أن يكون عالما هو وقومه بها قبل ذلك ،

٨٤

فلم يعرف أحد أمر الطوفان ، وكانت القصة على النحو الصحيح الدقيق مجهولة عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعند قومه.

٤ ـ كان الغرض من ذكر قصة نوح في سورة يونس هو معرفة وجه الشبه بين قوم نوح وقوم محمد عليهما‌السلام ، وهو ان قوم نوح كذبوه ؛ لأنه هددهم بنزول العذاب ، فاستعجلوه ، ثم ظهر في نهاية الأمر ، وكذلك قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعجلوا نزول العذاب مثل قوم نوح. فوجه الشبه في سورة يونس هو استعجال العذاب.

وفي هذه السورة (هود) أعاد الله تعالى ذكر هذه القصة لهدف آخر ، وهو بيان أن إقدام الكفار على الإيذاء كان حاصلا في زمن نوح ، فلما صبر عليه‌السلام ، نال الفتح والظفر ، فلتكن يا محمد كذلك ، لتنال المقصود ، فقد عرفت مآل الصبر عند نوح والمؤمنين ، وعاقبة الكفر ، فوجه الشبه هو الإيذاء ، وأن الصبر عليه مؤد إلى النصر.

٥ ـ إن الصبر على مشاق تبليغ الرسالة الإلهية ، وإذاية القوم ، مفتاح الفرج ، وسبيل الظفر والنصر ، كما صبر نوح ومحمد وأولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فقد صبر نوح على أذى قومه ، ثم نصره الله عليهم ، وكذلك صبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أذى العرب الكفار ، فأيده الله ، وأعزّه ، ونصره عليهم نصرا مؤزرا.

٦ ـ إن العاقبة في الدنيا بالظفر ، وفي الآخرة بالفوز للمتقين عن الشرك والمعاصي ، القائمين بأوامر الله ، الملتزمين حدوده ، المطيعين شرعه.

٧ ـ يدل إيراد قصة نوح عليه‌السلام على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما كان يعلم هو ولا أحد من قومه ذلك القصص المحكم التام الشامل لأخبار نوح وقومه.

٨٥

قصة هود عليه‌السلام

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

٨٦

الإعراب :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أَخاهُمْ) منصوب بفعل مقدر ، أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. و (غَيْرُهُ) بالرفع صفة على محل الجار والمجرور ، وقرئ بالجر صفة على اللفظ.

(مِدْراراً) حال من (السَّماءَ) ، والعامل فيه (يُرْسِلِ). والأصل في مدرار أن يكون مدرارة ، ولكنهم يحذفون هاء التأنيث عادة من مفعال كامرأة معطار ، ومن مفعيل كامرأة معطير ، ومن فاعل كامرأة طالق وحائض. (عَنْ قَوْلِكَ) حال من الضمير في تاركي. (ما مِنْ دَابَّةٍ) في موضع رفع بالابتداء. (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا) إن : حرف نفي بمعنى ما ، أي ما نقول إلا هذه المقالة ، فالاستثناء من المصدر الذي دل عليه الفعل ، مثل (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) [الصافات ٣٧ / ٥٩] فموتتنا مستثنى من أنواع الموت الذي دل عليها قوله : (بِمَيِّتِينَ). فقد ذكر الفعل ويستثني من مدلوله ، كما يستثني من الظرف والحال ، مثال الأول : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) [يونس ١٠ / ٤٥] (ساعَةً) : مستثنى مما دل عليه (لَمْ يَلْبَثُوا) ، أي كأن لم يلبثوا في الأوقات إلا ساعة من النهار ؛ ومثال الثاني : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا) متمسكين (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران ٣ / ١١٢] أي ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال أينما ثقفوا إلا متمسكين بحبل من الله ، أي عهد من الله. (وَتِلْكَ عادٌ) مبتدأ وخبر ، و (بُعْداً) منصوب بفعل مقدر ، أي أن المصدر قائم مقام فعله.

البلاغة :

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) عبر بالسماء عن المطر من قبيل المجاز المرسل ، لنزوله من السماء ، ومدرار : للمبالغة.

(فَكِيدُونِي جَمِيعاً) أمر بمعنى التعجيز.

(ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) استعارة تمثيلية ، شبه الخلق وهم في قبضة الله وملكه بمن يقود دابة بناصيتها ، فهي مقدورة له.

(إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) استعارة ، فإنه استعار الطريق المستقيم للدلالة على كمال العدل.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) الأمر كناية عن العذاب.

(نَجَّيْنا هُوداً .. وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) فيه إطناب ، لتكرار لفظ الإنجاء بقصد بيان أن الأمر شديد عظيم الأهوال.

(وَعَصَوْا رُسُلَهُ) المراد عصوا رسولهم هودا ، من قبيل المجاز المرسل من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.

٨٧

(أَلا إِنَّ عاداً .. أَلا بُعْداً لِعادٍ) تكرار حرف التنبيه ، وإعادة لفظ «عاد» للمبالغة في تهويل حالهم.

المفردات اللغوية :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم من القبيلة وواحدا منهم ، وهو عطف على قوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) و (هُوداً) : عطف بيان (اعْبُدُوا اللهَ) وحده. (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ مِنْ) : زائدة للتأكيد. (إِنْ أَنْتُمْ) ما أنتم في عبادتكم الأوثان. (إِلَّا مُفْتَرُونَ) كاذبون على الله باتخاذ الأوثان شركاء لله وجعلها شفعاء عند الله تعالى.

(لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) الضمير في (عَلَيْهِ) عائد على الدعاء إلى الله وتوحيده. (إِنْ أَجْرِيَ) ما أجري. (فَطَرَنِي) خلقني على الفطرة السليمة ـ فطرة التوحيد لله والمقصود من الآية بيان إخلاصه في النصيحة ، فإنها لا تفيد ما دامت مشوبة بالمطامع.

(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) من الشرك. (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أخلصوا التوبة من المعاصي والكفر لله ، وارجعوا إليه بالطاعة ، أي اطلبوا المغفرة من الله بالإيمان ، ثم توسلوا إليها بالتوبة ، ثم لا يكون التبري من الغير إلا بالإيمان بالله والرغبة فيما عنده. (يُرْسِلِ السَّماءَ) المطر ، وكانوا قد منعوه واشتدت حاجتهم إليه ؛ لأنهم كانوا أصحاب زروع. (مِدْراراً) كثير الدر. (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) أي يزدكم قوة مع قوتكم بالمال والولد ، أو يضاعف قوتكم بالتناسل والأموال. (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) مشركين.

(بِبَيِّنَةٍ) ببرهان على قولك ، وبحجة تدل على صحة دعواك ، وهذا لفرط عنادهم ، وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. (بِتارِكِي آلِهَتِنا) بتاركي عبادتهم. (عَنْ قَوْلِكَ) صادرين عن قولك أو لقولك. (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) إقناط له من الإجابة والتصديق.

(إِنْ نَقُولُ) ما نقول في شأنك. (اعْتَراكَ) أصابك. (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) بجنون ، لسبك إياها وصدك عنها ، فأنت تهذي وتتكلم بالخرافات ، والجملة مفعول القول ، وإلا لغو ؛ لأن الاستثناء مفرغ. (فَكِيدُونِي) اجتمعوا على الكيد لي في إهلاكي من غير إنظار. (جَمِيعاً) أنتم وأوثانكم. (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) تمهلون. والمراد بيان عجزهم عن إلحاق الضرر به ليعلموا أن آلهتهم جماد لا تضر ولا تنفع. (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي) أي وإن بذلتم غاية وسعكم لم تضروني ، فإني متوكل على الله ، واثق برعايته.

(ما مِنْ دَابَّةٍ) نسمة تدب على الأرض. (إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي إلا وهو مالك لها ، قادر عليها ، يصرفها على ما يريد بها ، فلا نفع ولا ضرر إلا بإذنه ، والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك.

٨٨

وخص الناصية بالذكر ؛ لأن من أخذ بناصيته يكون في غاية الذل. (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي على الحق والعدل ، لا يضيع عنده معتصم ، ولا يفوته ظالم.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تعرضوا وتتولوا ، وقد حذفت فيه إحدى التاءين. (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) أي فقد أديت ما علي من الإبلاغ ، وإلزام الحجة ، فلا تفريط مني ولا عذر لكم ، فقد أبلغتكم رسالة ربي. (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) استئناف بالوعيد لهم ، بأن الله يهلكهم ، ويستخلف قوما آخرين في ديارهم وأموالهم. (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) بتوليكم وإشراككم. (حَفِيظٌ) رقيب.

(أَمْرُنا) عذابا أو أمرنا بالعذاب. (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ) هداية ، وكانوا أربعة آلاف. (غَلِيظٍ) شديد ، وهذا تعريض بأنهم كما عذبوا في الدنيا بريح السموم ، فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الشديد.

(وَتِلْكَ عادٌ) أنت اسم الإشارة باعتبار القبيلة ، أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم ، أي فانظروا آثارهم في الأرض. (جَحَدُوا) كفروا. (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) جمع الرسل ؛ لأن من عصى رسولا ، عصى جميع الرسل ؛ لاشتراكهم في أصل ما جاؤوا به وهو التوحيد. (وَاتَّبَعُوا) أي السفلة. (أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي معاند للحق ، يعني كبراءهم ورؤساءهم الطاغين ، والمعنى : عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم ، وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين ، في الدنيا من الناس ، ويوم القيامة لعنة على رؤوس الناس ، توقعهم في العذاب. (كَفَرُوا رَبَّهُمْ) جحدوه أو كفروا نعمه ، أو كفروا به ، فحذف الجار. (أَلا بُعْداً لِعادٍ) أي من رحمة الله ، وهو دعاء عليهم بالهلاك. والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم من العذاب ، بسبب أفعالهم. (قَوْمِ هُودٍ) عطف بيان لعاد ، لتمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم.

المناسبة :

هذه هي القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة ، وقد ذكرت هذه القصة في سورة الأعراف بأسلوب ونظم آخر. وكان هود أول من تكلم بالعربية من ذرية نوح.

وفي إيراد هذه القصة هنا شبه بقصة نوح مع قومه ، ففيها تبليغ هود الدعوة والتكاليف إلى قومه ، وردهم عليه ، وما انتهت به القصة من إنجاء المؤمنين ، وإهلاك الكافرين.

٨٩

التفسير والبيان :

دعا هود قومه إلى أنواع من التكاليف :

النوع الأول ـ دعوتهم إلى التوحيد ، في قوله تعالى : (يا قَوْمِ ، اعْبُدُوا اللهَ) أي وكما أرسلنا نوحا ، أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا ، والمراد أخا لهم في النسب والقبيلة ، لا في الدين ؛ لأن هودا كان رجلا من قبيلة عاد ، فيقال للرجل : يا أخا العرب ، والمراد رجل منهم ، وكانت هذه القبيلة قبيلة عربية تسكن بناحية اليمن في الأحقاف (شمال حضرموت) وكانت قبيلة ذات قوة وشدة ، وأصحاب زرع وضرع.

إنه أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له ، ناهيا لهم عن الأوثان التي افتروها ، فقال لهم: آمركم بعبادة الله الذي لا إله غيره ، ولا تعبدوا من دونه وثنا ولا صنما ، ولا تشركوا به شيئا ، مالكم من إله غيره ، خلقكم ورزقكم ، وأمدكم بالنعم الوفيرة ، فما أنتم إلا مفترون الكذب على الله باتخاذكم الشركاء لله ، ووصفكم إياهم بأنهم شفعاء.

ويا قوم ، لا أطلب على ما أدعوكم عليه من عبادة الله ونبذ عبادة الأوثان أجرا أو مالا ينفعني ، فما أجري أو ثوابي إلا على الله الذي خلقني على الفطرة السليمة فطرة التوحيد ، أفلا تعقلون قول من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة ، وتقدرون ما يقال لكم من نصح قائم على الإخلاص والأمانة ، وتعلمون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام.

والنوع الثاني ـ من التكاليف التي ذكرها هود لقومه : الاستغفار والتوبة.

فقال : ويا قوم ، اطلبوا المغفرة من الله على الشرك والكفر والذنوب السابقة ، وأخلصوا التوبة له ، وعما تستقبلون ، فإذا استغفرتم وتبتم يرسل الله

٩٠

عليكم مطرا كثيرا متتابعا ، وقد كانوا بأشد الحاجة إلى المطر بعد أن منعوه ؛ لأنهم أصحاب زروع وبساتين ، ويزدكم قوة إلى قوتكم بالأموال والأولاد ، وعزا إلى عزكم ، وقد كانوا أشداء أقوياء يهمهم التفوق والغلبة على الناس ، والاعتزاز بالقوة ، كما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأعراف ٧ / ٦٩] وقال سبحانه : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٢٨ ـ ١٣٣] وقالعزوجل: (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَقالُوا : مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت ٤١ / ١٥].

(وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) ولا تعرضوا عني وعن دعوتي وعما أرغبكم فيه ، مصرّين على إجرامكم وآثامكم.

وفائدة الاستغفار المذكورة في الآية ، لها ما يؤيدها في السنة النبوية ، ففي الحديث الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس : «من لزم الاستغفار ، جعل الله له من كل همّ فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب».

وبعد أن حكى تعالى ما ذكره هود لقومه ، حكى ما ذكره القوم له : (قالُوا : يا هُودُ ..) أي قالوا لنبيهم : ما جئتنا بحجة وبرهان على ما تدعيه أنك رسول من عند الله ، ولن نترك عبادة آلهتنا بمجرد قولك : اتركوهم ، وما نحن لك بمصدقين ، وما نظن إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون وخبل في عقلك بسبب شتمك لها ونهيك عن عبادتها وعيبك لها.

فكان جوابهم متضمنا أربعة أشياء كلها عناد وحماقة واستكبار ، وهي المطالبة بالبينة ؛ والإصرار على عبادة الآلهة ، مع أنهم كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى ، وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر ؛ وعدم التصديق برسالة هود مما يدل

٩١

على الإصرار والتقليد والجحود ؛ وإفساد عقله وجعله مجنونا بواسطة الآلهة.

فقال لهم هود : أشهد الله على نفسي واشهدوا على أني بريء من شرككم ومن عبادة الأصنام ، ولا يعني هذا أنهم كانوا أهلا للشهادة ، ولكنه نهاية للتقرير ، أي لتعرفوا ، ولم يقل : إني أشهد الله وأشهدكم ، لئلا يفيد التشريك بين الشهادتين والتسوية بينهما ، فإن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد ، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ، ودلالة على قلة المبالاة بهم.

وإذا كنت بريئا من جميع الأنداد والأصنام ، أي مما تشركون من دون الله ، فإني أعلن ذلك صراحة ، فاجمعوا كل ما تستطيعون من أنواع الكيد لي ، جميعا أي أنتم وآلهتكم ، ولا تمهلوني طرفة عين ، إني فوضت أمري كله لله ربي وربكم ، ووكلته في حفظي ، فهو على كل شيء قدير.

فما من دابة تدب على الأرض أو السماء إلا هي تحت سلطان الله وقهره فهو مصرف أمرها ومسخرها ، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور ، إن ربي على الحق والعدل.

وقد تضمن جوابه الدال على التحدي والمعجزة الباهرة وقلة المبالاة بهم عدة أمور هي : البراءة من الشرك ، وإشهاد الله على ذلك ، وإشهادهم على براءته من شركهم ، وطلبه المكايدة له ، وإظهار قلة المبالاة بهم وعدم خوفه منهم ومن آلهتهم. وهذا موقف مشابه تماما لموقف نوح في قوله السابق : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) [يونس ١٠ / ٧١] وقوله : (قُلِ : ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ، ثُمَّ كِيدُونِ ، فَلا تُنْظِرُونِ) [الأعراف ٧ / ١٩٥].

(فَإِنْ تَوَلَّوْا ..) أي فإن تتولوا وتعرضوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم

٩٢

وحده لا شريك له ، فقد بلغتكم رسالة ربي التي بعثني بها إليكم ، ولا عتاب علي على تفريط في التبليغ ، وكنتم محجوجين بأن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم ، فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول. ثم استأنف كلاما جديدا فقال : ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين ، يخلفونكم في دياركم وأموالكم ويكونون أطوع لله منكم ، ولا تضرونه شيئا بتوليكم وكفركم ، بل يعود وبال ذلك عليكم ، وما تضرون إلا أنفسكم ، إن ربي على كل شيء رقيب ، مهيمن عليه ، فما تخفى عليه أعمالكم ، ولا يغفل عن مؤاخذتكم.

ثم ذكر الله تعالى العذاب وآثاره وعاقبة أمر هود وقومه ، فقال : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا ..) أي ولما حان وقت نزول أمرنا بالعذاب ، ووقع عذابنا ، وهو الريح العقيم ، نجينا هودا والمؤمنين معه من عذاب شديد شاق ثقيل ، برحمة من لدنا ولطف منا ، وأهلكنا قومه عن آخرهم.

وسبب ذلك العقاب أن عادا كفروا بآيات ربهم وحججه ، وعصوا رسله ، وقد جمع الرسل والمقصود رسولهم هودا ؛ لأن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء ، فهم كفروا بهود ، فصار كفرهم كفرا بجميع الأنبياء ، واتّبعوا أمر رؤسائهم الجبابرة الطغاة المعاندين.

فلهذا لحقت بهم لعنة الله في الدنيا ، ولعنة عباده المؤمنين كلما ذكروا ، وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الخلائق : ألا إن عادا كفروا بربهم وبنعمه ، وجحدوا بآياته ، وكذبوا رسله ، ألا بعدا وطردا من رحمة الله لعاد قوم هود ، وهذا دعاء عليهم بالهلاك والدمار والبعد من الرحمة.

والخلاصة : إنه تعالى جمع أوصاف عاد في ثلاثة : جحود دلائل المعجزات على الصدق ، ودلالة المحدثات على وجود الصانع الحكيم ، وعصيان رسولهم ، ومن عصى رسولا واحدا ، فقد عصى جميع الرسل ، لقوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ

٩٣

مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة ٢ / ٢٨٥] ، وتقليد القوم رؤساءهم ، ثم ذكر تعالى عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة وهي مصاحبة اللعن لهم في الدنيا والآخرة ، ومعنى اللعنة : الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير ، ثم بين تعالى السبب الأصلي في استحقاق تلك الأحوال فقال : (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي جحدوه ، أو كفروا بربهم على حذف الباء ، أو نعمة ربهم ، على حذف المضاف. وفائدة قوله : (أَلا بُعْداً لِعادٍ) بعد قوله : (وَأُتْبِعُوا ..) الدلالة على غاية التأكيد. وفائدة قوله (لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) تعيين عاد القديمة ، تمييزا لهم عن عاد التي هي إرم ذات العماد ، فقصد به إزالة الاشتباه ، أو لمزيد التأكيد.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت قصة هود مع قومه على ما يلي :

١ ـ حصر هود عليه‌السلام دعوته في نوعين من التكاليف هما : الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده ، والاستغفار ثم التوبة ، والفرق بينهما أن الاستغفار : طلب المغفرة وهو المطلوب بالذات ، والتوبة : هي السبب إليها ، وذلك بالإعراض أو الإقلاع عما يضاد المغفرة ، وقدم المغفرة ؛ لأنها هي الغرض المطلوب ، والتوبة سبب إليها. وقد تقدم في أول السورة توضيح الفرق.

٢ ـ اقتصرت إجابة عاد قوم هود له على التركيز على عبادة الآلهة من الأصنام والأوثان ، وتقليد الأسلاف ، وذلك يدل على تعطيل الفكر والعقل ، وعدم النظر الحر الطليق القائم على الاستدلال بالأدلة الكثيرة والمعجزات المتضافرة التي أظهرها الله على يد هود عليه‌السلام ، ومنها تحديهم بالمكايدة والمعاداة والإضرار له جميعا هم وآلهتهم ، وعدم الإمهال ساعة ، وهو موقف يدل مع كثرة الأعداء على كمال الثقة بنصر الله تعالى ، وهو أيضا من أعلام النبوة : أن يكون الرسول وحده

٩٤

يقول لقومه : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ..) وكذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقريش ، وقال نوح عليه‌السلام : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) [يونس ١٠ / ٧١]

٣ ـ التوكل على الله الخالق القاهر المتصرف بالمخلوقات كيف يشاء ، والمانع مما يشاء هو من أصول الإيمان التي تمنع وصول الضرر إلى النبي هود عليه‌السلام وكل مؤمن صادق مخلص ، فما من نفس تدب على الأرض أو في السماء إلا وهي تحت سلطان الله وقهره وتصرفه.

٤ ـ الله تعالى قادر على الحق والعدل ، وهو سبحانه وإن كان قادرا على قوم عاد العتاة الأشداء ، لكنه لا يظلمهم ، ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب.

٥ ـ مهمة الأنبياء هي تبليغ الرسالات ومحاجة الكفار ، فإن أعرض الناس عن دعواتهم وبيانهم ، فهم أي الأنبياء قد أبرؤوا الذمة ، وأدوا الغرض ، وكان الناس الكافرون المعرضون هم الذين يخسرون ، ويتضررون ، ويتعرضون للعذاب في الدنيا بالإهلاك ، واستخلاف قوم آخرين هم أطوع لله منهم يوحدونه ويعبدونه ، وفي الآخرة بدخول جهنم. والله رقيب على كل شيء من أقوال العباد وأفعالهم ، ويحاسبهم ويجازيهم عليها.

٦ ـ أحوال قبيلة عاد خطيرة ذات أوصاف ثلاثة : هي الجحود بآيات ربهم ، وعصيان رسولهم ، واتباعهم أو تقليدهم أوامر رؤسائهم دون تفكير ولا روية.

٧ ـ كانت عقوبة قبيلة هود لحوق اللعنة عليهم في الدنيا من الله ومن الناس ، وهلاكهم بريح صرصر عاتية وبعدهم عن الخير ، والطرد من رحمة الله في يوم القيامة ، وما ربك بظلام للعبيد.

٩٥

قصة صالح عليه‌السلام

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

الإعراب :

(ثَمُودَ) ممنوع من الصرف عند الجمهور ، على إرادة القبيلة ، وقرأه بعضهم مصروفا على إرادة الحي.

(لَكُمْ آيَةً) إما حال من (ناقَةُ اللهِ) أي : هذه ناقة الله لكم آية بيّنة ظاهرة ، وعامله معنى الإشارة ، وإما تمييز أي : هذه ناقة الله لكم من جملة الآيات.

(وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) من قرأه بالكسر أعربه على الأصل ، ومن قرأه بالفتح بناه لإضافته

٩٦

إلى غير متمكّن ؛ لأن ظرف الزمان إذا أضيف إلى اسم غير متمكن أو مبني أو فعل ماض ، بني ، كما في قول الشاعر :

على حين عاتبت المشيب على الصّبا* فقلت : ألمّا تصح ، والشيب وازع فبنى حين على الفتح لإضافته إلى الفعل الماضي. والتنوين في إذا من (يَوْمِئِذٍ) عوض عن جملة محذوفة ، ويسمى تنوين التعويض.

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) قال : أخذ لأنه فصل بين الفعل والفاعل بالمفعول وهو (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أو لأن تأنيث الصيحة غير حقيقي ، أو محمول على المعنى ؛ لأن الصيحة في معنى الصياح ، كقوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ ..) لأن موعظة في معنى وعظ.

(أَلا إِنَّ ثَمُودَ) من صرفه جعله اسم الحي ، ومن لم يصرفه جعله اسم القبيلة معرفة ، فلم ينصرف للتعريف والتأنيث.

(كَأَنْ) مخففة ، واسمها محذوف ، أي كأنهم.

البلاغة :

(فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟) استفهام معناه النفي ، أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد.

المفردات اللغوية :

(وَإِلى ثَمُودَ) أي وأرسلنا إلى ثمود (أَخاهُمْ) من القبيلة (اعْبُدُوا اللهَ) وحدّوه (هُوَ أَنْشَأَكُمْ) ابتدأ خلقكم وتكوينكم منها ، لا غيره ، فإنه خلق آدم ومواد النّطف التي خلق نسله منها من التراب (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) جعلكم تعمرونها ، وأبقاكم عمركم فيها ، تسكنون بها (فَاسْتَغْفِرُوهُ) من الشرك (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ارجعوا إليه بالطاعة وأقلعوا عن الذنب (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) قريب الرحمة من خلقه بعلمه (مُجِيبٌ) لمن سأله أو لداعيه.

(مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) مأمولا أن تكون لنا سيدا أو مستشارا في الأمور ؛ لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد ، فلما سمعنا هذا القول الذي صدر منك ، انقطع رجاؤنا عنك (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأوثان ، على حكاية الحال الماضية (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد ، والتبري من الأوثان (مُرِيبٍ) موقع في الريبة أو الريب أي الظن والشك (أَرَأَيْتُمْ) من رؤية القلب ، أي أتدبرتم؟

(عَلى بَيِّنَةٍ) بيان وبصيرة ، واستعمل حرف الشك في قوله (إِنْ كُنْتُ) باعتبار

٩٧

المخاطبين (رَحْمَةً) نبوة (فَمَنْ يَنْصُرُنِي) يمنعني (مِنَ اللهِ) أي من عذابه (إِنْ عَصَيْتُهُ) في تبليغ رسالته ، والمنع عن الإشراك به (فَما تَزِيدُونَنِي) أي فما تطلبون مني باتباعكم (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) تضليل أو إيقاع في الخسران باستبدال الشرك بالتوحيد ، أو بإبطال ما منحني الله به والتعرض لعذابه ، أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) دعوها ترعى نباتها وتشرب ماءها (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) عقر (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) عاجل لا يتراخى عن مسكم لها بالسوء إلا يسيرا ، وهو ثلاثة أيام ، إن عقرتموها (فَعَقَرُوها) قتلوها ، عقرها قدار بأمرهم (فَقالَ) صالح (تَمَتَّعُوا) عيشوا في منازلكم ثلاثة أيام : الأربعاء والخميس والجمعة ، ثم تهلكون (غَيْرُ مَكْذُوبٍ) فيه.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاكهم (نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وهم أربعة آلاف (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أي ونجيناهم من هلاكهم بالصيحة أو ذلهم أو فضيحتهم يوم القيامة (الْقَوِيُ) القادر على كل شيء (الْعَزِيزُ) الغالب على كل شيء. (الصَّيْحَةُ) المرة الواحدة من الصوت الشديد المهلك ، والمراد بها الصاعقة التي أحدثت رجفة في القلوب ، وصعق بها الكافرون (جاثِمِينَ) باركين على الركب ميتين ، أو ساقطين على وجوههم مصعوقين ، والجثوم للطائر كالبروك للبعير (يَغْنَوْا) يقيموا (فِيها) في دارهم (بُعْداً) هلاكا وطردا من رحمة الله ، وهو اللعن.

المناسبة :

هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة ، وهي قصة صالح مع ثمود ، وصالح هو الرسول الثاني من العرب ، ومساكن قبيلته ثمود : الحجر : وهي بين الحجاز والشام ، وآثار مدائنهم باقية إلى اليوم.

ونظم هذه القصة مثل النظم المذكور في قصة هود ، إلا أنه لما أمرهم بالتوحيد هاهنا ذكر في تقريره دليلين : الإنشاء من الأرض ، والاستعمار فيها أي جعلكم عمارها. وقد ذكرت قصة صالح في سورة الأعراف.

وسيأتي ذكر هذه القصة أيضا في سورة الشعراء والنمل والقمر والحجر وغيرها ، ومضمون القصة تبليغ صالح دعوته ، ومناقشتهم ، وإنذارهم بالهلاك ، وردودهم عليه ، وتأييد صدقه بمعجزة الناقة ، وقتلهم لها ، وإهلاكهم بالصيحة أو الصاعقة.

٩٨

التفسير والبيان :

ولقد أرسلنا إلى ثمود الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة ، وكانوا بعد عاد ، أرسلنا لهم رجلا منهم أي من قبيلتهم ، وهو صالح عليه‌السلام ، فأمرهم بعبادة الله وحده ، وأقام لهم دليلين على التوحيد :

الدليل الأول ـ قوله : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ابتدأ خلقكم منها ، إذ خلق منها أباكم آدم فهو أبو البشر ، ومادة التراب هي المادة الأولى التي خلق منها آدم ، ثم خلقكم أنتم من سلالة من طين ، بالوسائط التالية : من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة تكسى بعدئذ بهيكل عظمي ولحم ، وأصل النطفة من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء إما من نبات الأرض أو من اللحم الذي يرجع إلى النبات.

والدليل الثاني ـ (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي جعلكم عمارا تعمرونها وتستغلونها بالزراعة والصناعة والبناء والتعدين. فكون الأرض قابلة للعمارة النافعة للإنسان ، وكون الإنسان قادرا عليها ، دليل على وجود الصانع الحكيم ، الذي قدر فهدى ، ومنح الإنسان العقل الهادي والأداة لتسخير موجودات الدنيا ، وجعل له القدرة على التصرف.

وإذا كان الله هو المستحق للعبادة وحده ، فاستغفروه لسالف ذنوبكم ، من الشرك والمعصية ، ثم توبوا إليه بالإقلاع عن الذنب في الماضي ، والعزم على عدم العودة إليه وإلى أمثاله في المستقبل.

إن ربي قريب من خلقه بالرحمة والعلم والسمع ، مجيب دعوة الداعي المحتاج المخلص بفضله ورحمته ، كقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي ، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة ٢ / ١٨٦]

٩٩

فأجابوه بكلام يدل على الجهل والعناد : (قالُوا : يا صالِحُ ..) أي قال قوم ثمود : يا صالح ، قد كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت ، أو كنا نأمل أن تكون سيدا أو مستشارا في الأمور ؛ لما نرى لك من رجاحة في العقل وسداد في التفكير ، فالآن خيبت الآمال وقطعت الرجاء. وقال كعب : كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم ؛ لأنه كان ذا حسب وثروة. وعن ابن عباس : كان فاضلا خيّرا. والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله : (مَرْجُوًّا) مشورا نؤمل فيك أن تكون سيدا سادّا مسدّ الأكابر.

ثم تعجبوا من دعوته قائلين :

أتنهانا عن عبادة الآباء والأسلاف؟ وقد تتابعوا على تلك العبادة كابرا عن كابر دون إنكار من أحد.

وإننا نشك كثيرا في صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وحده ، وترك التوسل إليه بالشفعاء المقربين عنده ، وهو شك موقع في التهمة وسوء الظن. والشك : هو أن يبقى الإنسان متوقفا بين النفي والإثبات ، والمريب : هو الذي يظن به السوء.

والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد ، ووجوب متابعة الآباء والأسلاف. وهذا نظير ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص ٣٨ / ٥].

فأجابهم صالح مبينا ثباته على المبدأ ومنهج النبوة : (قالَ : يا قَوْمِ ، أَرَأَيْتُمْ ..) أي كيف أعصي الله في ترك ما أنا عليه من البينة؟ أخبروني ماذا أفعل ، إن كنت على برهان وبصيرة ويقين فيما أرسلني به إليكم ، وآتاني منه رحمة ، أي نبوة تتضمن تبليغ ما أوحى به إلي.

١٠٠