التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

وهناك بالحكيم ، والسبب أن سورة يوسف تعبر عن أحداث جسام مرّ بها نبي كريم صبور فناسبها الوصف بالبيان ، وأما سورة يونس فموضوعها إثبات أصول الدين من توحيد الله ، وإثبات الوحي والنبوة ، والبعث والجزاء ، وهذه يناسبها الوصف بالحكمة.

والمعنى : تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب ، وهذا تفسير الزمخشري. وقال أبو حيان : والظاهر أن المراد بالكتاب : القرآن ، و (الْمُبِينِ) إما البيّن في نفسه ، الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم ، وأما المبين الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، وما يحتاج إليه من أمر الدين ، أو المبين الهدى والرشد والبركة.

وعلى أي حال ، فإن الكتاب اسم جنس يطلق على البعض وعلى الكل ، فسواء قلنا : إن المراد به هذه السورة ، أو كل القرآن ، فالمقصود إثبات صفة القرآن ، وصفاته لا تختلف بين السور جميعها ، فكلها واضحة جلية تفصح عن أشياء مبهمة ، وآياتها تبين وتفسر غوامض الأمور ، وتوضح أحكام الشريعة ، وترشد إلى ما هو خير في الدنيا والآخرة.

قال القرطبي وابن كثير : هذه آيات الكتاب وهو القرآن المبين ، أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها ، يعني بالكتاب المبين : القرآن المبين ، أي المبين حلاله وحرامه ، وحدوده وأحكامه ، وهداه وبركته.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ ..) أي إنا أنزلنا هذا القرآن على النبي محمد العربي ، بلغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ، لتتعلموا ما لم تكونوا تعلمون من قصص وأخبار ، وآداب وأخلاق ، وأحكام وتشريعات ، ومناهج حياة سليمة في السياسة والاجتماع والاقتصاد وشؤون الدولة ، ولتتدبروا ما فيها من معان وأهداف ،. تبني الفرد والجماعة على أقوم الأسس.

٢٠١

قال ابن كثير : فلهذا أنزل أشرف الكتب ، بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل ، بسفارة أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة ، فكمل من كل الوجوه.

ولهذا قال تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ ..) أي نحن نخبرك بأحسن الأخبار ، بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن ، الذي جاء تاما كاملا مفصلا كل شيء ، وجاءت قصة يوسف كاملة تامة مفصلة ذات أهداف سامية وعبر كثيرة. وإن كنت من قبل ما أوحينا أي من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عما عرفناك به ، أي من الجاهلين به ، فلا علم لك به قط ، شأنك شأن قومك ، لا يعلمون من قصص الماضين وأخبارهم شيئا.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ القرآن الكريم كتاب مبين ، أوضح الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، والشرائع والأخلاق ، ليكون هدى للعالمين ، وبركة وخيرا للناس أجمعين ، فهو معجزة بيّنة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين ، يقرأ بلغة العرب ، فكان معشر العرب أولى الناس بالإيمان به ، وفهم ما فيه ، وتعلم معانيه.

٣ ـ القرآن بيان جلي متضمن أحسن القصص ، وأثبت الأخبار ، وأجدى الآثار وتواريخ الأمم الماضية. والمراد بأحسن القصص : أنه اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب ، أي أن المراد من الحسن حسن البيان وكون الألفاظ بالغة بالفصاحة حد الإعجاز.

٤ ـ قصة يوسف عليه‌السلام أحسن القصص ، والسبب في تسمية هذه

٢٠٢

السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص هو ما تضمنته هذه القصة من العبر والحكم ، وما اشتملت عليه من التوحيد والفقه والسّير وتعبير الرؤيا ، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش ، وجميل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا ، وذكر الأنبياء والصالحين ، والملائكة والشياطين ، والجنّ والإنس ، والأنعام والطير ، وأخبار الملوك والممالك ، والتجار والعلماء والجهّال ، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن.

فهي قصة جامعة شاملة للدين والدنيا والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية الملأى بالعبر والعظات ، ولعل من أهمها الصبر على الأذى والعفو عند المقدرة.

الفصل الأول من قصة يوسف عليه‌السلام

رؤيا يوسف وتعبير يعقوب الرؤيا

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

الإعراب :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ إِذْ) في موضع نصب على الظرف ، وعامله (الغافلين) وهو

٢٠٣

بدل اشتمال من (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) لأن الوقت مشتمل على القصص وهو المقصوص ، أو بإضمار «اذكر».

و (يُوسُفُ) ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة ، ووزنه يفعل ، وليس في كلام العرب يفعل.

(يا أَبَتِ) من قرأ بكسر التاء ، جعلها بدلا عن ياء الإضافة ، ويوقف عليها بالهاء عند سيبويه ؛ لأنه ليس ثمّ «ياء» مقدرة. وذهب الفراء إلى أن الياء في النّية ، والوقف عليها بالتاء ، وعليه أكثر القراء اتباعا للمصحف.

ومن قرأ بفتح التاء ففيه وجهان : إما أصله «يا أبتي» فأبدل من الكسرة فتحة ، ومن الياء ألفا ؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ثم حذفت الألف فصارت (يا أَبَتِ). وإما أنه محمول على قول من قال : يا طلحة بفتح التاء ، كأنه قد رخّم ، ثم ردّ التاء وفتحها ، تبعا لفتح الحاء ، فقال : يا طلحة.

(رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) أجرى الكواكب والشمس والقمر مجرى العقلاء ؛ لأن السجود من صفات من يعقل ، فوصفها بصفات من يعقل. و (ساجِدِينَ) حال من الهاء والميم في (رَأَيْتُهُمْ).

(فَيَكِيدُوا) منصوب بأن مضمرة ، وعدي باللام مع أنه متعد بنفسه ، لتضمينه معنى فعل يتعدى باللام ، للتأكيد والمبالغة في التخويف.

البلاغة :

(إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ..) فيها استعارة ؛ لأن الكواكب والمذكور معها مما لا يعقل ، فكان الأصل أن يقال : ساجدة ، فلما وصفها بصفات العقلاء وهو السجود ، أطلق عليها فعل من يعقل على طريق الاستعارة.

(كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ) تشبيه مرسل مجمل.

المفردات اللغوية :

(إِذْ قالَ) أي ذكر ، أو بدل من (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) بدل اشتمال إن جعل (أَحْسَنَ) مفعولا به (لِأَبِيهِ) هو يعقوب ، روى أحمد والبخاري أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم». (إِنِّي رَأَيْتُ) في المنام من الرؤيا لا من الرؤية. (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) هم إخوة يوسف ، وكانوا أحد عشر ، والشمس والقمر : أبوه

٢٠٤

وأمه. (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) إما تأكيد ، أو استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها ، فلا تكرار. وإنما أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم ، وهو السجود الذي هو من صفات العقلاء. والسجود المراد هنا : هو الانحناء ، مبالغة في الاحترام ، وليس سجود عبادة ؛ لأن سجود العبادة لا يكون إلا بنية التقرب لمن يعتقد أن له عليه سلطانا غيبيا فوق السلطان المعتاد.

لا تقصص رؤياك* قص الرؤيا : الإخبار بها ، والرؤيا كالرؤية ، غير أنها مختصة بما يكون في النوم ، ففرق بينهما ، بتاء التأنيث المربوطة ، كالقربة والقربى. والرؤيا : انطباع الصورة المنحدرة من الخيال إلى الحس المشترك ، فتصير مشاهدة. (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) يحتالون في هلاكك حسدا. (عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة ؛ لما فعل بآدم وحواء. (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الاجتباء. (يَجْتَبِيكَ) يختارك ويصطفيك ، أي وكما اجتباك ربك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز ، كذلك يجتبيك ربك لأمور عظام. (وَيُعَلِّمُكَ) كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه ، كأنه قيل : وهو يعلمك ويتم نعمته عليك. (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) تعبير الرؤيا : أي الإخبار بما يؤول إليه الشيء في الوجود ، وسميت الرؤيا أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها ، وتعبير الرؤيا يميز بين أحاديث الملك الصادقة وبين أحاديث النفس والشيطان الكاذبة.

(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بالنبوة. (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي أهله وأولاده. والآل : خاص بمن لهم شرف وخطر. (كَما أَتَمَّها) بالنبوة. (مِنْ قَبْلُ) اي من قبلك أو من قبل هذا الوقت. (عَلِيمٌ) بخلقه وبمن يستحق الاجتباء. (حَكِيمٌ) في صنعه بهم ، يفعل الأشياء على ما ينبغي.

المناسبة :

هذا شروع في بيان أحسن القصص ، وهذه بداية مثيرة مجملة في حلقات أو فصول قصة يوسف ، تجتذب ذهن القارئ والسامع لتعرف ما هو المصير ، وكيف يتم حل اللغز المبهم المبدوء بقصّ يوسف رؤياه الغريبة على أبيه وهو صغير ، وما أجابه به ، من إخفاء الرؤيا على إخوته حتى لا يحسدوه ويكيدوا له وهذا. الأسلوب يحتذيه واضعو القصص ، إذ يبدءون القصة بلغز أو نبأ مثير ، ثم يتدرجون في حل اللغز وبيان أبعاد النبأ وحقيقته.

هل أبناء يعقوب أنبياء؟

يفسر بعض المفسرين الأسباط في آية (قُولُوا : آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا

٢٠٥

وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) [البقرة ٢ / ١٣٦] بأنهم إخوة يوسف وأنهم أنبياء. والصحيح كما ذكر ابن كثير أن الأسباط ليسوا أولاد يعقوب ، وإنما هم القبائل من ذرية يعقوب ؛ لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم : الأسباط ، كما يقال للعرب قبائل ، وللعجم شعوب (١).

التفسير والبيان :

اذكر يا محمد لقومك قصة يوسف حين قال لأبيه يعقوب : إني رأيت في منامي أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر تسجد لي ، سجود احترام وانحناء وخضوع وتواضع ، لا سجود عبادة ، وقد وصف فعل غير العاقل بوصف العاقل وهو السجود ، للدلالة على أنها رؤيا إلهام ، لا مجرد أضغاث أحلام. قال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي. والرؤيا الصالحة جزء من النبوة ، ونوع من الإخبار بالغيب إذ رآها صالح وتأولها عالم صالح. وتكون بارتسام الوقائع على الروح الصافية ، وتظهر غالبا موافقة لحديث النفس.

والأحد عشر كوكبا هم إخوته الأحد عشر نفرا ، والكواكب هم الإخوة ، والشمس والقمر أبوه وأمه. وهذا رأي جماعة من المفسرين ؛ لأن الكواكب لا تسجد في الحقيقة ، فيحمل الكلام على الرؤيا ، ولقول يعقوب عليه‌السلام : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ).

وذكر ابن جرير الطبري عن جابر قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من يهود ، يقال له : بستانة اليهودي ، فقال له : يا محمد ، أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ، ما أسماؤها؟ قال ؛ فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة ، فلم يجبه بشيء ، ونزل عليه جبريل عليه‌السلام ، فأخبره بأسمائها ، قال : فبعث

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠

٢٠٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه ، فقال «هل أنت مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها؟» فقال : نعم ، قال : «جريان ، والطارق والذيال ، وذو الكنفات ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروح ، ودو الفرغ ، والضياء والنور» فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها(١).

(قالَ : يا بُنَيَّ ..) قال يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا المتضمنة خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه إجلالا واحتراما وإكراما : لا تخبر إخوتك بما رأيت ، حتى لا يحسدوك ، ويحتالوا لك حيلة توقعك في مكروه ، فإن الشيطان عدو لآدم وبنيه ، ومن دأبه إيقاع الفتنة بين الناس ، كما قال يوسف نفسه : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف ١٢ / ١٠٠].

وثبت في السنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأى أحدكم ما يحب ، فليحدّث به ، وإذا رأى ما يكره ، فليتحول إلى جنبه الآخر ، وليتفل عن يساره ثلاثا ، وليستعذ بالله من شرها ، ولا يحدث بها أحدا ، فإنها لن تضره» (٢). وروى الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبّر ، فإذا عبرت وقعت».

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ ..) أي كما اختارك ربك ، وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك ، يختارك لنفسه ويصطفيك لنبوته على آلك وغيرهم ، ويعلمك تعبير الرؤيا.

وتعبير الرؤيا : الإخبار بما تؤول إليه في الوجود. وتعليم الله يوسف التأويل :

__________________

(١) ورواه البيهقي في الدلائل عن الحكم بن ظهير ، والحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما ، وابن أبي حاتم في تفسيره (تفسير ابن كثير : ٢ / ٤٦٨) لكن الحكم بن ظهير ضعيف.

(٢) رواه البخاري عن أبي سلمة.

٢٠٧

إلهامه الصواب فيها ، أو صدق الفراسة ، كما قال يوسف لأبيه : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ ، قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف ١٢ / ١٠٠] وقال لصاحبي السجن : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [يوسف ١٢ / ٣٧]

(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ...) أي بإرسالك والإيحاء إليك ، وعلى آل يعقوب ، أي أبيك وإخوتك وذريتهم ، وآل الإنسان : أهله ، وهو خاص بمن لهم مجد وشرف ، كآل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(كَما أَتَمَّها ..) أي كإتمام تلك النعمة من قبل هذا الوقت على جدك إسحاق ، وجد أبيك إبراهيم ، وقدم إبراهيم ؛ لأنه الأشرف ، إن ربك عليم بخلقه وبمن يستحق الاجتباء والاصطفاء ، فهو أعلم حيث يجعل رسالته ، كما في آية أخرى ، حكيم في صنعه وتدبيره ، يفعل الأشياء على ما ينبغي.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ رؤيا الأنبياء حق ، ورؤيا الصالحين جزء من النبوة ، والكواكب هي إخوة يوسف ، والشمس والقمر أبوه وأمه ، وهذا هو الأصح. قال الحكماء : إن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب ، والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين.

والرؤيا حالة شريفة ومنزلة رفيعة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة : «لم يبق بعدي من المبشّرات : الرؤيا الصالحة الصادقة ، يراها الرجل الصالح ، أو ترى له» وقال في رواية لحديث عند الشيخين عن أبي هريرة : «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا» وحكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وهو أصح الروايات.

وإنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة ؛ لأن فيها ما يعجز ويمتنع ، كالطيران ،

٢٠٨

وقلب الأعيان ، والاطلاع على شيء من علم الغيب. والرؤيا الصادقة من الله ، وهي التي خلصت من الأضغاث (١) والأوهام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة : «الرؤيا الصالحة من الله ، والحلم من الشيطان». والتصديق بالرؤيا الصالحة حق.

أما رؤيا الكافر والفاجر والفاسق والكاذب ، وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة ؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب ، يكون خبره ذلك نبوة. ومن المعلوم أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق ، لكن ذلك نادر وقليل ، فكذلك رؤيا هؤلاء.

وحقيقة الرؤيا : هي إدراك حقيقة في أثناء النوم ، وأكثر ما تكون في آخر الليل ، لقلة غلبة النوم ، وتسمى أحلام اليقظة ، فيخلق الله للرائي علما ناشئا. ولا يرى الرائي في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة ، فلا يرى المستحيل ، وإنما يرى الجائزات المعتادات. ويمثل الله في الرؤيا للرائي صورة محسوسة ، قد توافق الواقع ، وقد تكون لمعاني معقولة غير محسوسة ، وفي الحالتين قد تكون مبشّرة أو منذرة.

٢ ـ لا تقص الرؤيا على غير عالم ولا محب ولا ناصح ، ولا على من لا يحسن التأويل فيها ، أخرج الترمذي حديثا : «الرؤيا معلّقة برجل طائر ، ما لم يحدّث بها صاحبها ، فإذا حدّث بها وقعت ، فلا تحدّثوا بها إلا عاقلا أو محبّا أو ناصحا».

٣ ـ يطلب كتمان النعمة أمام من تخشى غائلته حسدا وكيدا ، حتى توجد وتظهر ، كما ورد في حديث أخرجه الطبراني والبيهقي وغيرهما عن عمر : «استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسود».

__________________

(١) سميت الرؤيا الكاذبة أو الحلم ضغثا ؛ لأن فيها أشياء متضادة ، وهي من الشيطان.

٢٠٩

٤ ـ يباح أن يحذّر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه ، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة ؛ لأن يعقوب (إسرائيل) عليه‌السلام قد حذّر يوسف عليه‌السلام أن يقص رؤياه على إخوته ، فيكيدوا له كيدا.

٥ ـ في الآية دليل واضح على معرفة يعقوب عليه‌السلام بتأويل الرؤيا ، فإنه عرف أن يوسف سيظهر على إخوته ، فسّره ذلك ودل على أن محبته له كانت مبنية على مقومات فيه ، والرجل يودّ أن يكون ولده خيرا منه ، أما الأخ فلا يودّ ذلك لأخيه.

ودلت الآية أيضا على أن يعقوب عليه‌السلام كان أحسّ من بنيه حسد يوسف وبغضه ، فنهاه عن قص الرؤيا عليهم خوف المكيدة والحسد ، والعمل على هلاكه. ودل هذا وفعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير أنبياء ؛ لأن الأنبياء معصومون من الحسد الدنيوي ، ومن عقوق الآباء ، وتعريض مؤمن للهلاك ، وتآمر على قتله.

٦ ـ اشتمل كلام يعقوب مع ابنه يوسف على عدة بشائر ، فأخبره أنه كما أكرمه الله بالرؤيا ، فإن الله يجتبيه ويحسن إليه بتحقيق الرؤيا ، بالسجود له. والاجتباء : اختيار معالي الأمور للمجتبى ، ويعلمه كيفية تعبير الرؤيا وتأويل أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد ، وهي إشارة إلى النبوة ، ويتم نعمته عليه بالنبوة ، كما أتم تلك النعمة على أجداده : إسحاق وإبراهيم ، فجعل الله إبراهيم خليلا ونبيا ونجاه من النار ، وجعل إسحاق نبيا أيضا ، وفي قول غير راجح : إنه الذبيح ، والنعمة : الذبح.

والخلاصة : إن القول الصحيح في تفسير النعمة على يوسف وغيره هي النبوة ؛ لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة ، وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها. وإن يعقوب وعد يوسف بدرجات ثلاث : هي الاجتباء أو الاصطفاء ، وتعبير الرؤيا أو تأويلها ، والنبوة.

٢١٠

الفصل الثاني من قصة يوسف

يوسف وإخوته

ـ ١ ـ

اتفاقهم على إلقائه في البئر

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

الإعراب :

(آياتٌ لِلسَّائِلِينَ آياتٌ) جمع آية ، وآية على وزن «فعلة» بكسر العين ، فتقلب العين ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فتصير آية (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) مبتدأ وخبر.

(وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) مبتدأ وخبر ، والواو حالية.

(أَرْضاً) منصوب على أنه ظرف مكان ، وتعدّى إليه. (اطْرَحُوهُ) وهو لازم ؛ لأنه ظرف مكان مبهم ، وليس له حدود بحصره ولا نهاية تحيط به ، لأنه نكرة ، فنصبت كالظروف المبهمة. أو انتصب على إسقاط حرف الجر.

(يَخْلُ لَكُمْ) جواب الأمر. (وَتَكُونُوا) مجزوم بالعطف على (يَخْلُ) أو منصوب بإضمار أن.

٢١١

المفردات اللغوية :

(فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي في خبرهم وقصتهم ، وهم أحد عشر وإخوته العشر هو : يهوذا ، وروبيل ، وشمعون ، ولاوي ، وربالون ، ويشجر ، ودينة ، ودان ، ونفتالى ، وجاد ، وآشر. والسبعة الأولون كانوا من «ليا» بنت خالة يعقوب ، والأربعة الآخرون من سرّيّتين (أمتين) : زلفة وبلهة ، فلما توفيت «ليا» تزوج يعقوب أختها «راحيل» فولدت له بنيامين ويوسف (١).

لآيات عبر ، أو علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء لمن سأل عنهم وعرف قصتهم ، والظاهر أنها الدلالات على صدق الرسل. (لِلسَّائِلِينَ) عن خبرهم. (إِذْ قالُوا) اذكر حين قال بعض إخوة يوسف لبعضهم. (وَأَخُوهُ) بنيامين. (عُصْبَةٌ) جماعة رجال ما بين الواحد والعشرة. (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) خطأ بيّن ، بإيثارهما علينا وتفضيله المفضول ، أو لترك العدل في المحبة. روي أن يوسف كان أحب إلى أبيه ، لما يرى فيه المخايل ، وكان إخوته يحسدونه ، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة ، بحيث لم يصبر عنه ، فتبالغ حسدهم حتى حملهم على التعرض له.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ) من جملة المحكي بعد قوله : إذ قالوا ، كأنهم اتفقوا على ذلك الأمر إلا من قال : لا تقتلوا يوسف. (أَرْضاً) أي بأرض بعيدة من العمران. (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) يصف لكم ، فيقبل عليكم ولا يلتفت إلى غيركم. (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد يوسف أو من بعد قتله أو طرحه. (صالِحِينَ) تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم ، بأن تتوبوا ، أو صالحين مع أبيكم ، أو في أمر دنياكم.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) هو يهوذا ، وكان أحسنهم فيه رأيا ، وقيل : روبيل (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) فإن القتل عظيم. (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) في قعره سمي به لغيبوبته عن أعين الناظرين. (السَّيَّارَةِ) المسافرين ، الذين يسيرون في الأرض. (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ما أردتم من التفريق بينه وبين أبيه ، أو فاعلين بمشورتي ، فاكتفوا بذلك.

المناسبة :

هذه بداية قصة يوسف مع إخوته ، بعد أن قدم الله تعالى لها بمقدمتين : الأولى ـ وصف القرآن ، وأنه تنزيل من عند الله بلسان عربي مبين ، دال على رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورتب عليه : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ). والثانية ـ الكلام على رؤيا يوسف وتأثيرها في نفس يعقوب ، وبنى عليها العبرة منها وهي (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ ، قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا).

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ١٢٤

٢١٢

التفسير والبيان :

تالله ، لقد كان في قصة يوسف مع إخوته لأبيه عبرة ومواعظ للسائلين الذين سألوا عنهم ، دالة على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء لكل سائل عن أحداث القصة ، ودالة على صدق الرسول يوسف وغيره ، وعلى ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه ، وصدق رؤياه ، وصحة تأويله ، وضبط نفسه وقهرها ، حتى قام بحق الأمانة (١). فذلك خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه.

إنه لعبرة حين قالوا : والله ليوسف وأخوه بنيامين شقيقه أحب إلى أبينا منا ، فهو يفضلهما علينا في الحب ، وهما صغيران ، ونحن جماعة عشرة رجال. حلفوا فيما يظنون ، و (أَحَبُ) أفعل تفضيل أي أكثر حبا منا. والعصبة : ما بين الواحد إلى العشرة.

إن أبانا لفي خطأ واضح مجاف الصواب في ذلك ، بإيثار يوسف وأخيه علينا بالمحبة ، وتركه العدل والمساواة في المحبة ، فكيف يفضّل صغيرين ضعيفين لا كفاية فيهما ولا منفعة ، على رجال أشداء ، نقوم بكل ما يحتاج إليه من منافع معاشية ودفاعية ، وكيف يحب الاثنين أكثر من الجماعة؟!

وهذا في الحقيقة خطأ منهم لا من أبيهم ؛ لأن يوسف وأخاه صغيران يتيمان ماتت أمهما ، ولأنه كان يرى في يوسف إرهاصات النبوة والعقل والحكمة ، وتأكد توقعه بما فهم من رؤياه.

ومع ذلك يطلب الاحتياط في معاملة الأولاد والتسوية بينهم في المحبة والمعاملة ولو في القبلة ، وتجنب ما يثير التحاسد والتباغض بينهم ، كما أوصى النبي

__________________

(١) البحر المحيط : ٥ / ٢٨٢

٢١٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن النعمان بن بشير : «اتقوا الله ، واعدلوا بين أولادكم» وما يرويه الطبراني عن النعمان بن بشير أيضا : «اعدلوا بين أولادكم في النّخل ، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف».

ثم ذكر الله تعالى مؤامرتهم بقوله : (اقْتُلُوا ..) أي ومما قالوا ، أي قال بعض إخوة يوسف لبعض : (اقْتُلُوا يُوسُفَ) حسما للمشكلة ، أو انبذوه في أرض مجهولة عن العمران ، فلا يستطيع الرجوع إلى أبيه ، فإن فعلتم ذلك تستريحوا منه ، ويصف لكم وجه أبيكم ، وتخلوا أنتم مع أبيكم ، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها ، وتكونوا من بعد يوسف أو بعد قتله أو طرحه أرضا قوما تائبين إلى الله مما جنيتم عليه ، أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه ، أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده ، بخلوّ وجه أبيكم ، فيرضى عنكم ربكم وأبوكم.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ ...) أي قال أكبرهم وهو يهوذا ، وقيل : روبيل : لا تقدموا على قتله ، فإن القتل جريمة عظيمة ، وهو أخوكم ، ولكن ألقوه في أسفل البئر ، يلتقطه بعض المسافرين الذين يسيرون في الأرض للتجارة ، فتستريحوا منه بهذا ، ويتحقق غرضكم وهو إبعاده عن أبيه ، ولا حاجة إلى قتله ، إن كنتم فاعلين ، أي عازمين على ما تقولون ، وفاعلين ما هو الصواب ، فهذا هو الرأي.

وقوله : (اقْتُلُوا يُوسُفَ) فيه حذف ، أي قال قائل منهم : اقتلوا.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ في قصة يوسف وإخوته دلالة على صدق الرسل ، وعبرة تمخضت عنها

٢١٤

وهي التنبيه على عاقبة البغي والحسد ، وفضيلة ضبط النفس ، والتصديق بتعبير الرؤيا وصحة تأويلها إن كانت من نبي أو عالم ناصح.

٢ ـ لقد دفع التباغض والتحاسد والغيرة إخوة يوسف على تدبير مؤامرة لقتله أو إلقائه في بادية بعيدة عن الناس حتى يهلك ، أو يأخذه بعض التجار المسافرين ويتملكونه ؛ لأن خبر المنام بلغهم ، فتآمروا على كيده ، أو لمجرد الغيرة الشديدة من عاطفة أبيهم نحو يوسف وأخيه.

٣ ـ إن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد ، ويورث الآفات ، لكن يعقوب عليه‌السلام العالم بذلك لم يفضل ولديه يوسف وأخيه إلا في المحبة ، والمحبة ليست في وسع البشر ، فكان معذورا فيه ، ولا لوم عليه.

٤ ـ دل قوله : (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) أي تائبين ، بأن تحدثوا توبة بعدئذ ، فيقبلها الله منكم ، وهو دليل على أن توبة القاتل مقبولة ؛ لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم ، كما ذكر القرطبي (١).

٥ ـ علق محمد بن إسحاق على مؤامرة أولاد يعقوب على أخيهم يوسف فقال فيما رواه ابن أبي حاتم : لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم ، وعقوق الوالد ، وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له ، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل ، وخطره عند الله ، مع حق الوالد على ولده ، ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه ، على كبر سنه ، ورقة عظمه ، مع مكانه من الله ، ممن أحبه طفلا صغيرا ، وبين الأب وابنه على ضعف قوته ، وصغر سنه ، وحاجته إلى لطف والده ، وسكونه إليه ، يغفر الله لهم ، وهو أرحم الراحمين ، فقد احتملوا أمرا عظيما (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ١٣١

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ٤٧٠

٢١٥

٦ ـ أفعال إخوة يوسف المتقدمة تدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء ، لا أولا ولا آخرا ؛ لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم ، بل كانوا مسلمين ، فارتكبوا معصية ثم تابوا. ومما يرد قول من قال إنهم أنبياء : أن الأنبياء معصومون من الكبائر. وقيل : ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ، ثم نبأهم الله (١) وقد سبق بيان الرأي الأصح في هذا عن ابن كثير وغيره.

حكم الالتقاط :

الالتقاط : تناول الشيء من الطريق ، ومنه اللقيط واللّقطة. أما اللقيط : فالأصل فيه الحرية ، لغلبة الأحرار على العبيد ، فهو قضاء بالغالب ، وهو مسلم أخذا بالغالب أيضا ، فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون ، قال ابن القاسم ، يحكم بالأغلب ؛ فإن وجد عليه زيّ اليهود فهو يهودي ، وإن وجد عليه زيّ النصارى فهو نصراني ، وإلا فهو مسلم ، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام.

وقال غير ابن القاسم : لو لم يكن في القرية إلا مسلم واحد ، قضي للقيط بالإسلام ، تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ، ولا يعلى عليه.

أما النفقة عليه : فقال أبو حنيفة : إذا أنفق الملتقط على اللقيط فهو متطوع ، إلا أن يأمره الحاكم.

وقال مالك : إذا أنفق عليه الملتقط ، ثم أقام رجل البينة أنه ابنه ، فإن الملتقط يرجع على الأب ، إن كان طرحه متعمدا ، وإن لم يكن طرحه ، ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب ، والملتقط متطوع بالنفقة.

وقال الشافعي : إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال ، فإن لم

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ١٣٣

٢١٦

يكن ففيه قولان : أحدهما ـ يستقرض له في ذمته. والثاني ـ يقسط على المسلمين من غير عوض.

والخلاصة : اتفق العلماء على أنه إذا لم يكن للقيط مال : إن شاء تبرع الملتقط بالإنفاق عليه ، وإن شاء رفع الأمر إلى الحاكم ، لينفق منه على حساب بيت المال المعدّ لحوائج المسلمين. وإن كان للقيط مال ، بأن وجد معه مال ، فتكون النفقة من مال اللقيط ؛ لأنه غير محتاج إليه.

ولو أنفق عليه الملتقط من مال نفسه : فإن أنفق بإذن القاضي ، فله أن يرجع على الملتقط بعد بلوغه ، وإن أنفق بغير إذن القاضي ، يكون متبرعا ، ولا يرجع على اللقيط بشيء.

وأما اللقطة والضّوال ـ وهما بمعنى واحد على الأصح (١) ـ فأجمع العلماء على أنها ما لم تكن تافها يسيرا ، أو شيئا لا بقاء لها ، فإنها تعرّف حولا كاملا ، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها ، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول ، وأراد صاحبها أن يضمّنه ، فإن ذلك له ، وإن تصدق بها فصاحبها مخيّر بين التضمين وبين الرضا بالثواب أو الأجر على التصدق بها ، وليس لملتقطها التصدق بها أو التصرف قبل الحول. وأجمعوا أن ضالّة الغنم المخوف عليها ، له أكلها.

وللعلماء آراء في الأفضل من ترك اللقطة أو أخذها ، فقال المالكية : إن شاء أخذها وإن شاء تركها ، ونقل عن مالك وأحمد كراهة الالتقاط ، ودليلهم حديث أصحاب الكتب الستة عن زيد بن خالد الجهني في الشاة : «هي لك أو

__________________

(١) وقيل : إن الضالة لا تكون إلا في الحيوان ، واللقطة في غير الحيوان ، وأنكر أبو عبيد القاسم بن سلّام ذلك.

٢١٧

لأخيك ، أو للذئب» ولا تلزم صاحبها بيّنة عندهم وعند الحنابلة ، ويكفي بيان علاماتها ، من وعاء ووكاء مثلا.

وذهب الحنفية ، والشافعية في الأصح إلى أنه يجوز الالتقاط ، لحفظ اللقطة لصاحبها ، صيانة لأموال الناس ، ومنعا من ضياعها ووقوعها في يد خائنة. ولكن لا تدفع لصاحبها إلا إذا أقام البينة أنها له.

وكذلك للعلماء آراء في النفقة على الضوال ، فقال المالكية : للملتقط الرجوع بالنفقة على صاحبها ، سواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره.

وقال الشافعية والحنابلة : لا يرجع الملتقط بشيء من النفقة ، لأنه متطوع. وكذا قال الحنفية : إن أنفق الملتقط على اللقطة بغير إذن الحاكم فهو متبرع أو متطوع ، وإن أنفق عليها بإذن الحاكم ، كان ما ينفقه دينا على المالك ، فيرجع عليه.

وأما تملك اللقطة بعد تعريفها سنة ، فقال الحنفية : إذا كان الملتقط غنيا ، لم يجز له أن ينتفع باللقطة ، وإنما يتصدق بها على الفقراء ، وإذا كان فقيرا فيجوز له الانتفاع بها بطريق التصدق ، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البزار والدار قطني عن أبي هريرة : «فليتصدق به».

وقال الجمهور : يجوز للملتقط أن يتملك اللقطة ، وتكون كسائر أمواله ، سواء أكان غنيا أم فقيرا ، فإن عرف صاحبها في المستقبل ضمنها له.

ـ ٢ ـ

تنفيذ إخوة يوسف مؤامرتهم وتدليسهم الأمر على أبيهم

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ

٢١٨

وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

الإعراب :

(تَأْمَنَّا) : أصله : تأمننا ، فاجتمع حرفان متحركان من جنس واحد ، فاستثقلوا اجتماعهما فسكنوا الأول منهما وأدغموه في الثاني ، وبقي الإشمام يدل على ضمة الأولى. والإشمام : ضم الشفتين من غير صوت ، وهذا يدركه البصير دون الضرير.

(يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) العين في (يَرْتَعْ) ساكنة للجزم على وزن «يفعل» ، ويقرأ بكسر العين ، وأصله يرتعي على وزن يفتعل ، من الرّعي ، إلا أنه حذفت الياء للجزم.

(أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أن الأولى وصلتها : في تأويل مصدر فاعل (لَيَحْزُنُنِي) وأن الثانية وصلتها : في تأويل مصدر مفعول (أَخافُ). والواو في قوله (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) للحال.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ ..) جواب «لما» محذوف ، وتقديره : فلما ذهبوا به حفظناه.

(عِشاءً) أي ليلا ، وهو ظرف في موضع الحال.

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) : إما مبتدأ وخبره محذوف ، أي فصبر جميل أمثل من غيره ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي فصبري صبر.

٢١٩

البلاغة :

(بِدَمٍ كَذِبٍ) الدم لا يوصف بالكذب ، والمراد : بدم مكذوب فيه ، وجيء بالمصدر على طريق المبالغة.

المفردات اللغوية :

(لَناصِحُونَ) لقائمون بمصالحه ، والناصح : المشفق المحب للخير ، أي ونحن نشفق عليه ونريد له الخير ، أرادوا استنزاله عن رأيه في حفظه منهم ، لما تنسم من حسدهم (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) إلى البرية أو الصحراء ، والغد : اليوم التالي ليومك (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) يرتع : يتسع في أكل الفواكه ونحوها ، من الرتعة : وهي الخصب ، والرتع : التوسع في الملاذ ، والأكل من الفاكهة حيث شاء. ويلعب : ينشط ويلعب بالاستباق والانتضال بالسهام (لَحافِظُونَ) أن يناله مكروه (لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) ذهابكم ، لشدة مفارقته أو فراقه علي وقلة صبري عنه ، والحزن : ألم في النفس لفقد محبوب أو وقوع مكروه. والخوف : ألم في نفس مما يتوقع من مكروه.

(أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) المراد به الجنس ، وكانت أرضهم مذأبة كثيرة الذئاب (غافِلُونَ) مشغولون عنه بالرتع واللعب ، أو لقلة اهتمامكم بحفظه.

(لَئِنْ أَكَلَهُ) اللام لا قسم ، وجوابه (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ). (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) جماعة (لَخاسِرُونَ) عاجزون أو ضعفاء مغبونون ، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار (وَأَجْمَعُوا) أي وعزموا على إلقائه في البئر : بئر بيت المقدس أو بئر بأرض الأردن أو بين مصر ومدين ، بأن نزعوا قميصه بعد ضربه وإهانته وإرادة قتله ، وأدلوه إلى البئر ، فلما وصل إلى نصف البئر ، ألقوه ليموت ، فسقط في الماء ، ثم أوى إلى صخرة ، فنادوه فأجابهم ظانا رحمتهم ، فأرادوا رضخه بصخرة ، فمنعهم يهوذا.

(وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) في البئر ، أي ألهمناه ، وله سبع عشرة سنة أو دونها تطمينا لقلبه (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) لتخبرنهم بعد اليوم (بِأَمْرِهِمْ) بصنيعهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بك حال الإنباء أنك يوسف ، لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم (عِشاءً) وقت المساء ، آخر النهار (يَبْكُونَ) متباكين (نَسْتَبِقُ) نتسابق في العدو أو في الرمي (مَتاعِنا) ثيابنا (بِمُؤْمِنٍ) بمصدّق (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) أي ولو ثبت صدقنا لا تهمتنا ، فكيف وأنت تسيء الظن بنا؟! أو ولو صدقنا لسوء ظنك بنا وفرط محبتك ليوسف.

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ) محله نصب على الظرفية ، أي فوقه (بِدَمٍ كَذِبٍ) أي ذي كذب ، بمعنى مكذوب فيه ، بأن ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها ، وذهلوا عن شقه ، وقالوا : إنه دمه (قالَ)

٢٢٠