التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

الإعراب :

(إِنْ أَرَدْتُ) شرط ، وجواب الشرط دل عليه : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) وتقدير الكلام : إن كان الله يريد أن يغويكم ، فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي.

البلاغة :

(فَعَلَيَّ إِجْرامِي) مجاز بالحذف ، أي عقوبة إجرامي ، على سبيل الفرض ، بدليل استعمال كلمة (إِنِ) الدالة على الشك. وأما إجرامهم فهو محقق : (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ).

المفردات اللغوية :

(جادَلْتَنا) خاصمتنا. (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) فأطلته أو أتيت بأنواعه. (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) به من العذاب. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعوى النبوة ، والوعيد ، فإن مناظرتك لا تؤثر فينا. (إِنْ شاءَ) تعجيله لكم ، أو تأجيله ، فإن أمره إليه لا إلي. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) بدفع العذاب أو الهرب منه فلستم بفائتين الله تعالى.

(نُصْحِي) النصح : قصد الخير للمنصوح وإخلاص القول والعمل له. (أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي إغواءكم أي الإيقاع في الغيّ والفساد ، وقيل : المراد أن يهلككم (هُوَ رَبُّكُمْ) خالقكم والمتصرف فيكم على وفق إرادته. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على أعمالكم.

(أَمْ يَقُولُونَ) بل أيقول كفار مكة. (افْتَراهُ) اختلق محمد القرآن. (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي عقوبة ذنبي ووباله. (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي من إجرامكم في إسناد أو نسبة الافتراء إلي.

المناسبة :

بعد أن أجاب نوح قومه على شبهاتهم ، أوردوا عليه أمرين : الأول ـ أنهم وصفوه بكثرة المجادلة ، والثاني ـ أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به. ثم ذكر تعالى يأسه منهم ، واعتراضا في القصة وهو براءة محمد من نسبة افترائهم إليه.

التفسير والبيان :

قال قوم نوح له : قد حاججتنا فأكثرت من ذلك ، ونحن لا نتبعك ، فأتنا بما تعدنا به من العذاب المعجل في الدنيا ، إن كنت صادقا في دعواك أن الله

٦١

يعذبنا على عصيانه في الدنيا قبل الآخرة ، وهذا كقوله تعالى : (قالَ : رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح ٧١ / ٥ ـ ٦].

قال لهم نوح : إنما الذي يعاقبكم ويعجل تعذيبكم الله الذي لا يعجزه شيء ، إن شاء عقابكم عاجلا أو آجلا ، فما أنتم بمعجزين أي بفائتي الله ولا بمستطيعي الهرب من عذابه ؛ لأنكم في قبضته وملكه وسلطانه.

ولا يفيدكم نصحي واجتهادي في إيمانكم ، إن أراد الله إغواءكم أي إيقاعكم في الغي والضلال والفساد ، ودماركم وهلاككم ، هو ربكم أي خالقكم والمتصرف في أموركم ، والحاكم العادل الذي لا يجور ، وإليه ترجعون في الآخرة ، فيجازيكم بما كنتم تعملون من خير أو شر.

ومعنى إرادة الله إغواءهم وإضلالهم : ربط الأسباب بالمسببات ، لا خلقه للغواية والشقاوة فيهم ، فإن ذلك منوط بالعمل والكسب ، والنتائج متوقفة على المقدمات.

(أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ ..)

هذا كلام معترض في وسط قصة نوح ، مؤكد لها ، مقرر لها ، وهي حكاية لقوله مشركي مكة في تكذيب هذه القصص : (أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ) بل يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون في مكة : إن محمدا افترى القرآن ، أي اختلقه من قبل نفسه ، ومنه ما أخبر به عن نوح وقومه ، فرد الله معلما نبيه أن يقول لهم : إن افتريته فعلي عقوبة إثمي ، وعذاب ذنبي ، والاجرام : اقتراف المحظورات واكتسابها ، وأنا بريء من آثامكم وذنوبكم ، وسيجزيكم الله على أعمالكم ، فجرمكم ليس مفتعلا ولا مفترى ؛ لأني اعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه ، فكل إنسان مسئول عن ذنبه ، كما قال تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا

٦٢

ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) [النجم ٥٣ / ٣٦ ـ ٤١].

ونظير الآية : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ : لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس ١٠ / ٤١].

والأظهر أن قوله : (أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ) هو من محاورة نوح لقومه ، كما قال ابن عباس ؛ لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه ، والخطاب منهم ولهم. وأنهم يقولون : افترى ما أخبركم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى الآتي :

١ ـ إن عناد الكفار وغباءهم وحماقتهم استوجب كل ذلك التنكر لدعوة النبي نوحعليه‌السلام ، مهما أتى به من الأدلة المثبتة لتوحيد الله ووجوب طاعته وعبادته ، وورّطهم في طلب تعجيل نقمة الله وعذابه وسخطه ، والبلاء موكل بالمنطق.

٢ ـ الجدال في الدين لتقرير الأدلة وإزالة الشبهات أمر محمود ، وهو حرفة الأنبياء ، ولهذا جادل نوح والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق ، فمن قبله نجا ، ومن ردّه خاب وخسر.

٣ ـ التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار ، والجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق أمر مذموم ، وصاحبه في الدارين ملوم.

٤ ـ قوله تعالى : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) رد على المعتزلة والقدرية ومن وافقهما الذين زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي ، ولا يكفر الكافر ، ولا يغوي الغاوي ، وأنه يفعل ذلك ، والله لا يريد ذلك.

٦٣

والواقع أن الله هو الهادي والمضل ، وإرادة الله يصح تعلقها بالإغواء ، والمعنى أن الله يبين للناس طريق الهداية وطريق الضلال ، ويختار الإنسان ما يشاء مع إرادة الله.

وكلام نوح عليه‌السلام دليل على أنه تعالى ما أغواهم ، بل فوض الاختيار إليهم من وجهين:

الأول ـ لو أراد الله تعالى إغواءهم ، لما بقي في النصح فائدة ، ولما أمر الله نوحا بأن ينصح الكفار ، وأجمع المسلمون على أن نبينا كغيره من الأنبياء مأمور بدعوة الكفار ونصيحتهم.

الثاني ـ لو ثبت الحكم عليهم بأن الله تعالى أغواهم أو خلقهم غاوين ضالين ، لصار هذا عذرا لهم في عدم إيمانهم ، ولصار عمل نوح غير ذي موضوع ولا هدف ، ولا داعي له ، ولا فائدة منه ؛ لأنه يسهل عليهم الاعتذار بذلك ، والرد عليه بعدم جدوى دعواه.

والخلاصة : إن مبدأ أهل السنة أن الله تعالى قد يريد الكفر من الإنسان ، ولكن لا يأمره بذلك ، وإنما يأمره بالإيمان ، وإذا أراد الكفر من العبد فإنه يمتنع صدور الإيمان منه.

٥ ـ كل إنسان مسئول عن نفسه ، فإن افترى أو اختلق نبي الوحي والرسالة كما يزعم قومه المعادون له ، فعليه عقاب إجرامه ، وإن كان محقا فيما يقول ، وهو الحق الأكيد ، فعليهم عقاب تكذيبهم وسيئاتهم.

٦٤

نهي نوح عن الاغتمام بهلاك قومه وأمره بصنع السفينة

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١))

الإعراب :

(نُوحٍ) منصرف ؛ لأنه خفيف ، وإن كان فيه العجمة والتعريف.

(مِنْ قَوْمِكَ يُؤْمِنَ) فاعل (يُؤْمِنَ). (مَنْ يَأْتِيهِ مَنْ) موصولة ، مفعول العلم.

(اثْنَيْنِ) في موضع نصب لأنه مفعول (احْمِلْ). و (وَأَهْلَكَ) معطوف عليه.

(مَنْ سَبَقَ) منصوب على الاستثناء من (أَهْلَكَ).

(وَمَنْ آمَنَ) في موضع نصب ؛ لأنه معطوف على اثنين ، أو على أهلك.

٦٥

(مَجْراها) فيه ثلاثة أوجه : الأول ـ أن يكون منصوبا على تقدير حذف ظرف مضاف إلى ذلك. (وَمُرْساها) عطف عليه ، وتقديره : باسم الله وقت إجرائها وإرسائها ، أي اركبوا فيها متبكرين باسم الله تعالى في هذين الوقتين. و (بِسْمِ اللهِ) متعلق بمحذوف في موضع نصب على الحال من واو (ارْكَبُوا). و (بِسْمِ اللهِ) هو العامل في (مَجْراها).

الثاني ـ أن يكون (مَجْراها) مبتدأ ، و (بِسْمِ اللهِ) خبره ، وتقديره : بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، والجملة حال من ضمير (فِيها).

والثالث ـ أن يكون (مَجْراها) في موضع رفع بالظرف ، والظرف حال من هاء : (فِيها).

ومن قرأ (مَجْراها وَمُرْساها) جعله اسم فاعل من أجراها الله فهو مجري ، وأرساها فهو مرسي ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو مجريها ومرسيها.

(إِلَّا قَلِيلٌ) مرفوع بفعل : (آمَنَ) ولا يجوز نصبه على الاستثناء ؛ لأن الكلام قبله لم يتم. والتعبير حصر بهم.

البلاغة :

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) كناية عن الرعاية والحفظ.

المفردات اللغوية :

(فَلا تَبْتَئِسْ) تحزن ، أي لا تغتم بهلاكهم ، وهذا يعني أن الله أيأسه أو أقنطه من إيمانهم ، ونهاه أن يغتم بما فعلوه من التكذيب والإيذاء. (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) من الشرك ، فدعا عليهم بقوله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٦] فأجاب الله دعاءه. (الْفُلْكَ) السفينة ، ويطلق على الواحد والجمع. (بِأَعْيُنِنا) بحفظنا وعنايتنا ورعايتنا ، على طريق التمثيل. (وَوَحْيِنا) إليك كيف تصنعها. (الَّذِينَ ظَلَمُوا) كفروا بترك إهلاكهم والمقصود : لا تدعني برفع العذاب عنهم. (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) محكوم عليهم بالإغراق ، فلا سبيل إلى كفه.

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) حكاية حال ماضية. (مَلَأٌ) جماعة. (سَخِرُوا مِنْهُ) استهزءوا به لعمله السفينة ، فإنه كان يعملها ، في برية بعيدة عن الماء ، فكانوا يضحكون منه ويقولون له : صرت نجارا بعد ما كنت نبيا. (قالَ : إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) أي سنهزأ بكم إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة ، ونجونا وتركناكم. وقيل : المراد بالسخرية : الاستجهال. (عَذابٌ يُخْزِيهِ) يذله ويفضحه. (وَيَحِلُ) ينزل. (عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم وهو عذاب النار.

٦٦

(حَتَّى إِذا .. حَتَّى) هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء. فإن كانت غاية فهي غاية للصنع ، أي لقوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) أي وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد. ويكون ما بعد (يَصْنَعُ) من الكلام حالا من (يَصْنَعُ) كأنه قال : يصنعها ، والحال أنه كلما مر عليه ملأ من قومه ، سخروا منه. وجواب (كُلَّما) إما (سَخِرُوا) وإما (قالَ) و (سَخِرُوا) بدل من (مَرَّ) أو صفة لملأ.

(جاءَ أَمْرُنا) بإهلاكهم. (وَفارَ التَّنُّورُ) أي نبع الماء فيه وارتفع كالقدر تفور ، و (التَّنُّورُ) تنور الخبز ، ابتدأ منه النبع ، على خرق العادة ، وكان ذلك علامة لنوح. وكان في الكوفة في موضع مسجدها ، أو في الهند ، أو بعين وردة بأرض الجزيرة. وقيل : (التَّنُّورُ) وجه الأرض.

(احْمِلْ فِيها) في السفينة. (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) أي ذكر وأنثى ، أي من كل أنواعهما. (اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى. جاء في القصة : إن الله حشر لنوح السباع والطير وغيرهما ، فجعل يضرب بيديه في كل نوع ، فتقع يده اليمنى على الذكر ، واليسرى على الأنثى ، فيحملها في السفينة.

(وَأَهْلَكَ) أي زوجته وأولاده. (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي منهم بالإهلاك والإغراق ، وهو ولده كنعان وزوجته ، وأخذ معه سام وحام ويافث وزوجاتهم الثلاثة.

(إِلَّا قَلِيلٌ) قيل : كانوا ثمانين ، نصفهم رجال ونصفهم نساء ، وقيل : كانوا تسعة وسبعين : زوجته المسلمة ، وبنوه الثلاثة (سام وحام ويافث) ونساؤهم ، واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم.

(مَجْراها وَمُرْساها) أي جريها ومنتهى سيرها. (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لولا مغفرته للسيئات ورحمته بالعباد ، لما أنجاكم ، فهو رحيم حيث لم يهلكنا.

المناسبة :

الآيات تتمة لما ذكر قبلها ، تتضمن الإعداد لإغراق قوم نوح وإهلاكهم ، ومقابلة السخرية والتهكم بالتخطيط للنجاة وغرق القوم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أنه أوحى إلى نوح أنه لن يؤمن أحد من قومك بدعوتك إلا من قد آمن سابقا ، فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم ، فدعا عليهم نوح عليه

٦٧

السلام بقوله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٦].

واصنع الفلك أي السفينة أداة النجاة بأعيننا أي بمرأى منا وبرعايتنا وحفظنا وحراستنا ، وبتعليمك بوحينا كيفية الصنع ، حتى لا تخطئ ، فقوله (وَوَحْيِنا) يعني تعليمنا لك ما تصنعه ، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير.

واستعمل القرآن تعبير الأعين لكمال العناية وتمام الرعاية في قوله تعالى لموسى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه ٢٠ / ٣٩] وقوله للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور ٥٢ / ٤٨].

(وَلا تُخاطِبْنِي ...) أي ولا تراجعني يا نوح ولا تدعني في شأن قومك ودفع العذاب عنهم بشفاعتك ، فقد وجب عليهم العذاب ، وتم الحكم عليهم بالإغراق. والمقصود ألا تأخذك بهم رأفة ولا شفقة.

وبدأ يصنع السفينة ، وكلما مر عليه جماعة من أشراف قومه ، استهزءوا منه ومن عمله السفينة ، وكذبوا بما توعدهم به من الغرق. قال نوح متوعدا بوعيد شديد وتهديد أكيد : إن تسخروا منا لصنع ما نصنع مما لا يفيد شيئا في ظنكم ، فإنا نسخر منكم في المستقبل حين الغرق ، كما تسخرون منا الآن ، أي نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا ، والحرق في الآخرة.

فسوف تعلمون قريبا بعد تمام عملنا من يأتيه عذاب يهينه في الدنيا ، وهو عذاب الغرق ، ويحل عليه عذاب مقيم ، أي دائم مستمر أبدا في الآخرة.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا ..) أي حتى إذا حان وقت أمرنا بالهلاك من الأمطار المتتابعة ، وفار التنور أي نبع الماء من التنور ، موقد الخبز ، وارتفع كما تفور القدر بغليانها ، والفوران : الغليان ، وكان ذلك علامة لنوح عليه‌السلام ،

٦٨

وعن ابن عباس : التنور وجه الأرض ، أي صارت الأرض عيونا تفور ، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار ، صارت تفور ماء. وهذا هو المعنى الأول ؛ لأن العرب تسمي وجه الأرض تنورا ، قال تعالى : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) [القمر ٥٤ / ١١ ـ ١٣].

وقلنا لنوح حينئذ : احمل في السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين : ذكرا وأنثى ، للحفاظ على أصل النوع الحيواني. واحمل فيها أهلك أي أهل بيتك من الذكور والإناث إلا أمرأتك وابنك : يام أو كنعان ، وهما من سبق عليه القول أنه من أهل النار ، للعلم بأنه يختار الكفر ، لا لتقديره عليه ، تعالى الله عن ذلك.

وخذ معك من آمن من قومك ، وإن لم يؤمن إلا عدد قليل ، أو نزر يسير ، مع طول المدة ودعوتهم إلى الإيمان ألف سنة إلا خمسين عاما. قيل : كانوا ستة أو ثمانية رجال ، ونساءهم : نوحا عليه‌السلام وأهله وأبناءه الثلاثة وأزواجهم ، وقال ابن عباس : كانوا ثمانين نفسا ، منهم نساؤهم.

ولم ير الحق سبحانه وتعالى حاجة لبيان العدد لقلتهم التي لا تستحق الذكر ، ولم يبين أنواع الحيوان المحمولة ولا كيفية حملها ، فذلك متروك للبشر.

(وَقالَ : ارْكَبُوا فِيها) أخبر تعالى عن نوح عليه‌السلام أنه قال لمن حملهم معه في السفينة : بسم الله يكون جريها على سطح الماء ، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها ، أي بتسخيره تعالى وقدرته يكون مجراها ومرساها ، لا بقوتنا.

إن ربي غفور لذنوب عباده رحيم بهم ، فلو لا مغفرته لذنوبكم ورحمته بكم لما نجاكم فقوله : (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لأهل السفينة. أخرج الطبراني عن

٦٩

الحسين بن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا : بسم الله الملك الرحمن الرحيم : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)».

وفي رواية أخرى لأبي القاسم الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا : بسم الله الملك الرحمن : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ..) الآية. (بِسْمِ اللهِ مَجْراها ..) الآية».

وذكر المغفرة والرحمة بعد ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين هو في الجملة شأن القرآن في بيان الأضداد والمتقابلات ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأعراف ٧ / ١٦٧] وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [الرعد ١٣ / ٦] ونحو ذلك من الآيات التي تقرن بين الرحمة والانتقام.

وذكر آية المغفرة والرحمة هنا في وقت الإهلاك وإظهار القهر لبيان فضل الله على عباده الذين نجاهم ، فهم في جميع الأحوال بحاجة إلى إعانة الله وفضله وإحسانه ، والإنسان لا ينفك عادة عن أنواع الزلات والخطايا ، فإن نجاتهم لا ببركة علمهم كما قد يظنون ، وإنما بمحض فضل الله ، لإزالة العجب منهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ الإياس من إيمان قوم نوح واستدامة كفرهم ، تحقيقا لنزول الوعيد بهم. وهذا يدل على صحة قول أهل السنة في القضاء والقدر ، فإنه تعالى أخبر عن قوم نوح أنهم لا يؤمنون ، ولا بد أن يقع ما يتفق مع هذا الخبر ، وإلا انقلب علم الله جهلا وكذبا ، وذلك محال.

٧٠

٢ ـ لطف الله بنبيه نوح ، إذ أخبره قبل الهلاك بألا يغتم بهلاك قومه ، حتى لا يصبح بائسا حزينا.

٣ ـ أول سفينة عبرت البحر هي سفينة نوح ، وكان صنعها برعاية الله وتعليمه نوحا كيفية الصنع. والمقصود من (بِأَعْيُنِنا) معنى الإدراك والإحاطة ، لا التجسيم ؛ لأنه سبحانه منزه عن الحواسّ والتشبيه والتكييف ، لا ربّ غيره.

واتخذ نوح عليه‌السلام السفينة في سنتين ، كما قال ابن عباس ، وقيل : في ثلاثين سنة ، كما قال كعب ، وقيل في مائة سنة كما ذكر زيد بن أسلم. وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلّمه كيف يصنعها. أما طولها وعرضها فعن ابن عباس : كان طولها ثلاث مائة ذراع ، وعرضها خمسون ، وسمكها ثلاثون ذراعا ؛ وكانت من خشب الساج.

٤ ـ من الغباوة سخرية الناس من نبي يوحي إليه فيما يفعل ، وسخريتهم إما بقولهم : يا نوح صرت بعد النبوة نجارا ، وإما لأنهم لم يشاهدوا سفينة تبنى وتجري على الماء. وسخرية نوح كانت عند الغرق ، والمراد بالسخرية الاستجهال ؛ أي إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا.

٥ ـ ماء الطوفان جاء من السماء : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) وفوران التنور على وجه الأرض كان علامة.

٦ ـ من رحمة الله بخلقه نجاة نوح ومن آمن معه من قومه ، وهم ثمانون إنسانا ، منهم ثلاثة من بنيه : سام وحام ويافث وزوجاتهم. ومن فضله تعالى الحفاظ على أصل الثروة الحيوانية ، إذ أمر الله نوحا عليه‌السلام باصطحاب الحيوانات من كل شيء زوجين ذكر وأنثى.

٧ ـ الآية دليل على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل.

٧١

انتهاء الطوفان ونجاة السفينة وهلاك ابن نوح

مع استشفاع أبيه

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧))

الإعراب :

(لا عاصِمَ) اسم (لا) ، وخبرها : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) ، وهو متعلق بمحذوف ، تقديره : لا ذا عصمة كائن من أمر الله. (الْيَوْمَ) معمول الظرف ، وإن تقدم عليه ، كقولهم : كلّ يوم لك درهم. أي في اليوم.

(مَنْ رَحِمَ) منصوب على أنه استثناء منقطع ؛ لأن (عاصِمَ) فاعل ، و (مَنْ رَحِمَ) مفعول. وقيل : (لا عاصِمَ) بمعنى معصوم ، فلا يكون (مَنْ رَحِمَ) استثناء منقطعا ، وإنما هو

٧٢

بدل مرفوع من (عاصِمَ). والتقدير : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم أي الراحم ، وهو الله تعالى.

(وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) مبتدأ وخبر.

(إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) يعود الضمير إلى السؤال ، أي إن سؤالك أن أنجي كافرا عمل غير صالح ، أو يعود إلى الابن ، والمراد : إنه ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ومن قرأه (عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) جعله فعلا ماضيا ، ونصب (غَيْرُ) على أنه مفعول به ، وهذه القراءة تدل على أن الضمير في (إِنَّهُ) يعود على الابن.

(فَلا تَسْئَلْنِ) الأصل فيه أن تأتي بثلاث نونات : نوني التوكيد ونون الوقاية ، فاجتمعت ثلاث نونات فاستثقلوا اجتماعها ، فحذفوا الوسطى ؛ لأن نون الوقاية لا تحذف ، وكسرت الشديدة للياء ، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة.

البلاغة :

(يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) بين الأرض والسماء طباق ، وبين ابلعي وأقلعي جناس ناقص.

قال أبو حيان : في هذه الآية و ، حد وعشرون نوعا من البديع بالرغم من أن ألفاظها تسع عشرة لفظة : المناسبة في قوله : (أَقْلِعِي) و (ابْلَعِي) ، والمطابقة بذكر الأرض والسماء ، والمجاز في قوله (يا سَماءُ) المراد مطر السماء.

والاستعارة في قوله : (أَقْلِعِي) ، والإشارة في قوله (وَغِيضَ الْماءُ) فإنها إشارة إلى معان كثيرة ، والتمثيل في قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) عبر بالأمر عن إهلاك الهالكين ونجاة الناجين ، والإرداف في قوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) فلفظ (وَاسْتَوَتْ) كلام تام ، أردفه بقوله (عَلَى الْجُودِيِ) قصدا للمبالغة في التمكن بهذا المكان ، والتعليل في قوله : (وَغِيضَ الْماءُ) فإنه علة للاستواء ، والاحتراس في قوله : (وَقِيلَ : بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وهو أيضا ذم لهم ودعاء عليهم ، والإيضاح بقوله (الظَّالِمِينَ) أي القوم الذين سبق ذكرهم في قوله : (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ ...) فالألف واللام في القوم للعهد ، والمساواة (وَاسْتَوَتْ) فلفظها مساو لمعناها ، وحسن النّسق ، لعطف قضايا بعضها على بعض ، والإيجاز لذكر القصة باللفظ القصير مستوعبا للمعاني الجمة ، والتسهيم ؛ لأن أول الآية (يا أَرْضُ ابْلَعِي) فاقتضى آخرها (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) والتهذيب ؛ لأن مفردات الألفاظ موصوفة بكمال الحسن ، والتمكين ؛ لأن الفاصلة مستقرة في قرارها ، والتجنيس في قوله أَقْلِعِي) و (ابْلَعِي) والمقابلة في قوله : (يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) والذم في قوله:

٧٣

(بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) والوصف : قص القصة ووصفها بأحسن وصف (النهر الماد من البحر لأبي حيان : ٥ / ٢٢٧) بهامش البحر المحيط.

المفردات اللغوية :

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) متصل بمحذوف دل عليه : (ارْكَبُوا) أي فركبوا مسمين ، وهي تجري وهم فيها (مَوْجٍ) جمع موجة : وهي ما يرتفع من الماء الكثير عند اضطرابه (كَالْجِبالِ) في الارتفاع والعظم (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) كنعان (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) عن السفينة عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه (سَآوِي) سألجأ (يَعْصِمُنِي) يمنعني ويحفظني (مِنْ أَمْرِ اللهِ) عذاب (إِلَّا) لكن (مَنْ رَحِمَ) الله ، فهو المعصوم (ابْلَعِي ماءَكِ) اشربي الماء الذي نبع منك ، فشربته دون ما نزل من السماء ، فصار أنهارا وبحارا (أَقْلِعِي) أمسكي عن المطر ، فأمسكت.

(وَغِيضَ) نقص (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) تم أمر هلاك قوم نوح الكافرين وإنجاء المؤمنين (وَاسْتَوَتْ) وقفت واستقرت السفينة (عَلَى الْجُودِيِ) جبل بالجزيرة بقرب الموصل في ديار بكر. وهذا النداء والخطاب بالأمر استعارة مجازية (بُعْداً) هلاكا (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الكافرين. والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها ، والدلالة على كنه الحال ، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. وإيراد الأخبار للمجهول للدلالة على تعظيم الفاعل ، وأنه متعين في نفسه.

(إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) إن كنعان من أهلي وقد وعدتني بنجاتهم (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) الذي لا خلف فيه (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أعلمهم وأعدلهم.

(إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الناجين أو ليس من أهل دينك. قال ابن عباس : كان ابنه من صلبه ، ولكنه لم يكن مؤمنا ، وما بغت امرأة نبي قط. ومعنى الآية : إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك. (إِنَّهُ) أي سؤالك إياي بنجاته أو إن ابنك ذو عمل غير صالح ، فإنه كافر ، ولا نجاة للكافرين. وفي قراءة بكسر ميم (عَمَلٌ) ونصب غير ، فالضمير لابنه (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) من إنجاء ابنك (مِنَ الْجاهِلِينَ) بسؤالك ما لم تعلم ؛ لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال ، وأغناه عن السؤال ، لكن أشغله حب الولد عنه ، حتى اشتبه عليه الأمر.

(أَنْ أَسْئَلَكَ) في المستقبل (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ما لا علم لي بصحته (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ما فرط مني من السؤال (وَتَرْحَمْنِي) بالتوبة والتفضل علي (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أعمالا.

المناسبة :

بعد أن أمر نوح عليه‌السلام أهله والمؤمنين بركوب السفينة قائلين : بسم

٧٤

الله ، أعقبه بتصوير إلهي رائع لسير السفينة وسط المياه ذات الأمواج العظيمة ، بسبب الرياح الشديدة العاصفة ، وبقصد بيان شدة الهول والفزع.

التفسير والبيان :

السفينة تجري بسرعة ، سائرة بهم على وجه الماء الذي قد طبق جميع الأرض ، حتى طفت على رؤوس الجبال ، وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعا ، وقيل : بثمانين ميلا.

إنها تجري بهم وسط أمواج كالجبال الشاهقة في ارتفاعها وعظم حجمها ، وهذا يدل على حصول رياح عاصفة شديدة حينذاك ، والمقصود : بيان شدة الهول والفزع.

وهي تسير بإذن الله وتحت كنفه ورعايته وحراسته ، كما قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١١ ـ ١٢] وقال سبحانه : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر ٥٤ / ١٣ ـ ١٥].

واستولت الشفقة وعاطفة الأبوة على نوح ، فنادى ابنه وهو الابن الرابع ، واسمه يام أو كنعان ، وكان في مكان منعزل عنه ، وكان كافرا دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم ، ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون ، ناداه بقوله : يا بني اركب معنا الفلك ، ولا تكن مع الكافرين الهالكين.

فرد الابن العاصي عليه قائلا : سآوي وأصير إلى جبل يحفظني من الغرق في الماء ، ظنا منه أنه ماء سيل عادي يمكن النجاة منه بالتحصن في مكان عال أو جبل شامخ.

فأجابه نوح عليه‌السلام : ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله وعذابه الذي

٧٥

يعاقب به الكافرين ، لكن يحفظ من رحم الله ، ومن رحمه‌الله فهو المعصوم ، أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين ، وكان لهم غفورا رحيما ، غفورا لذنوبهم رحيما بهم إذا تابوا وأنابوا. أو إلا الراحم وهو الله ، وقيل : إن عاصما بمعنى معصوم ، كما يقال : طاعم وكاس ، بمعنى مطعوم ومكسو.

وحال الماء الذي بدأ يرتفع بين الوالد والولد أثناء النقاش فكان من المغرقين الهالكين.

وما أدهش هذا المنظر الرهيب ، ماء ينهمر من السماء ، وأرض تتفجر بالمياه ، فيرتفع حتى يغطي أعالي الجبال ، ويغمر الأرض.

ولما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة ، أمر الله الأرض أن تبلغ ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها ، وأمر السماء أن تقلع عن المطر ، وتم النداء العلوي : يا أرض ابلعي ماءك الذي تفجر منك ، ويا سماء كفّي عن المطر ، فغاض الماء ، أي نقص ، امتثالا للأمر ، وقضي الأمر ، أي وأنجز ما وعد الله نوحا من هلاك قومه الظالمين ، واستقرت السفينة بمن فيها على جبل الجودي بالجزيرة شمال العراق ، في الموصل ، وقيل : هلاكا وخسارا للقوم الظالمين ، وبعدا من رحمة الله ، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم ، فلم يبق لهم بقية ، بسبب ظلمهم وكفرهم.

واستبدت العاطفة مرة أخرى بنوح على ابنه ، فسأل ربه سؤال تسليم وكشف عن حال ولده ، فقال مناديا ربه : رب إن ابني من أهلي ، وقد وعدتني بنجاتهم ، ووعدك الحق الذي لا يخلف ، فما مصيره ، وأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم بالحق ، فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة ، وتمام العدل والصواب ، حكمت على قوم بالنجاة ، وعلى قوم بالغرق.

فأجابه ربه : يا نوح إن ابنك ليس من أهلك الذين وعدت بإنجائهم ؛ لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك ، وابنك ذو عمل غير صالح ، أي تنكر

٧٦

لدعوة الهدى والصلاح ، وانضم مع الكافرين وهذا تعليل لانتفاء كونه من أهله ، قال الجمهور : ليس من أهل دينك ولا ولايتك. ، فهو على حذف مضاف.

فلا تطلب مني شيئا ليس لك به علم صحيح ، ولا تلتمس مني التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب ، حتى تقف على كنهه.

إني أنهاك أن تكون من فئة الجاهلين الذين يطلبون إبطال حكمته وحكمه وتقديره في خلقه ، رعاية لأهوائهم ، ومجمل المعنى : أنهاك عن هذا السؤال وأحذرك أن تكون من الآثمين.

وقد تضمن دعاؤه معنى السؤال أو سمي نداؤه سؤالا ، ولا سؤال فيه ، أي وإن لم يصرح به ؛ لأن ذكر الوعد بنجاة أهله من الغرق استنجاز له ، فرتب عليه طلب نجاة ابنه. وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة ، ووعظه ألا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين.

وفي الآية دلالة على أن العبرة بقرابة الدين ، لا بقرابة النسب ، وأن حكم الله في خلقه قائم على العدل المطلق دون محاباة نبي أو ولي ، وأن الأنبياء قد يخطئون في اجتهادهم ، ويعد ذلك ذنبا بالنظر إلى مقامهم الرفيع وتمام معرفتهم بربهم ، وأنه لا يجوز الدعاء بطلب ما يغاير سنن الله في خلقه ، وأن من الجهالة أن يدعو ولي بما نهي عنه الأنبياء.

وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر ، وعلى جعل الجهل كناية عن الذنب ، وهو أمر مشهور في القرآن ، كما قالت تعالى : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [البقرة ٢ / ٦٧] وقال : (يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) [النساء ٤ / ١٧].

ويحمل كل ما صدر من نوح وغيره من خطأ الاجتهاد على ترك الأفضل والأكمل ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، وبناء عليه حصل العتاب والأمر

٧٧

بالاستغفار ، ولا يدل هذا الأمر على سابقة ذنب ، مثل : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ... وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر ١١٠ / ١ و ٣] ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ، ليست بذنب يوجب الاستغفار ، وقال تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد ٤٧ / ١٩] وليس جميعهم مذنبين ، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك الأفضل.

لذا طلب نوح المغفرة من ربه ، فقال : (قالَ : رَبِّ ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ ..) أي قال نوح : رب إني التجئ إليك وأستعيذ بك وبجلالك أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح ، وإن لم تغفر لي ذنب سؤالي هذا ، وترحمني بقبول توبتي وإنابتي ، أكن من الخاسرين أعمالا.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات العبر والعظات التالية :

١ ـ إجراء السفن في البحار بقدرة الله تعالى وإرادته ، وحفظه ورعايته.

٢ ـ لن يحقق العناد والاستكبار فائدة أو مصلحة لمن يتصف بهما ، فقد أغرق الله ابن نوح واسمه كنعان ، وقيل : يام ؛ لأنه كان كافرا ، ولم يستفد شيئا من الاعتصام بأعالي الجبال ، فإذا وقع العذاب العام على الكفار فلا مانع منه ؛ لأنه يوم حقّ فيه ذلك العذاب ، إلا من رحمه‌الله ، فهو يعصمه.

٣ ـ آية (وَقِيلَ : يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ...) في أعلى مستوى البلاغة والفصاحة والإيجاز ، لما فيها من التعبير عن قضايا كثيرة تحتاج إلى بيان صاف ، بعبارة محكمة موجزة ، محققة لأغراض عديدة ، وذات ألوان بيانية بلاغية وآفاق متنوعة.

٤ ـ إنما سأل نوح عليه‌السلام ربه ودعا لإنجاء ابنه ، لوعده تعالى له بإنجاء أهله في قوله : (وَأَهْلَكَ) وترك قوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) بدليل

٧٨

قوله له : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) أي لا تكن منهم ؛ لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه ؛ إذ محال أن يسأل هلاك الكفار ، ثم يسأل في إنجاء بعضهم ؛ وكان ابنه يسرّ الكفر ويظهر الإيمان ، فأخبر الله تعالى نوحا بما تفرد به من علم الغيوب ، أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن : كان منافقا ؛ ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا : كان ابن امرأته ، بدليل قراءة عليّ : «ونادى نوح ابنها» لكنها قراءة شاذة ، فلا نترك المتفق عليها ، والصحيح أنه كان ابنه ، لكن ليس على منهج أبيه في الدين والإيمان والاستقامة.

٥ ـ لم يعص نوح الله تعالى فيما سأل من إنجاء ابنه ، وإنما كان خطأ في الاجتهاد ، بنية حسنة ، وعدّ هذا ذنبا ؛ لأنه ما كان ينبغي لأمثاله من أهل العلم الصحيح الوقوع في هذا الخطأ غير المقصود ، وترك الأفضل والأكمل ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، لذا عاتبه الله تعالى وأمره بالاستغفار.

٦ ـ إن رابطة الدين أقوى من رابطة النسب ، ولا علاقة للصلاح والتقوى بالوارثة والأنساب ، لذا نجى الله المؤمنين من قوم نوح ، وأهلك ابنه وزوجته مع الكافرين. والصحيح أنه كان ابنه ، ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدّين ، لذا قال تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ).

٧ ـ هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم ، وإن كانوا صالحين. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا ، ومن أهل البيت ؛ فمن أوصى لأهله دخل في ذلك ابنه ، ومن تضمنه منزله ، وهو في عياله. قال تعالى في آية أخرى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الصافات ٣٧ / ٧٥ ـ ٧٦].

٨ ـ العدل الإلهي مطلق ، لا محاباة فيه لنبي أو ولي ، وإنه تعالى يجزي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم ، لا بأنسابهم : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ، وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١٠١].

٧٩

فمن يغتر بنسبه ولا يعمل بما يرضي ربه ، فهو جاهل بشرع الله ودينه ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي : «يا معشر قريش لا يأتيني الناس بالأعمال ، وتأتوني بالأنساب».

٩ ـ إن غيرة الله على حرماته اقتضت تحذير الأنبياء من الأخطاء ولو كانت غير مقصودة. قال ابن العربي عن آية : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) : وهذه زيادة من الله وموعظة ، يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين ، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين ، فقال نوح : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) وهذه ذنوب الأنبياءعليهم‌السلام ، فشكر الله تذلله وتواضعه.

١٠ ـ كان اعتذار نوح بمثابة توبة كاملة تتضمن عنصري حقيقة التوبة وهما : الأول ـ في المستقبل : وهو العزم على الترك ، وإليه الإشارة بقوله : (إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) والثاني ـ في الماضي : وهو الندم على ما مضى ، وإليه الإشارة بقوله : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

١١ ـ كان الطوفان عاما شاملا لكل الأرض ، في رأي المفسرين وأهل الكتاب ، ويؤيدهم ما يقول علماء الجغرافية من وجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال ، وهي لا تكون إلا في البحر. والذي يجب اعتقاده أن الطوفان كان شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم ، وذلك في منطقة الشرق الأوسط ، أما أجزاء الكرة الأرضية الأخرى فلا يدل نص قاطع في القرآن على تغطيتها بالطوفان.

٨٠