التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

الإعراب :

(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا ..) إن بالتشديد هو الأصل فيها ، و (كُلًّا) : اسمها المنصوب. ومن قرأ (إِنَ) بالتخفيف ، أعمل إن المخففة ، كما أعملها مشددة ، كما يعمل الفعل تاما ومخففا. وأما (لَمَّا) بالتشديد فهو مشكل ، إذ ليست هنا بمعنى الزمان ، ولا بمعنى إلا ، ولا بمعنى لم ، وقيل فيها بأوجه منها : أن الأصل فيها «لمن ما» ثم أدغم النون في الميم ، فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت الميم المكسورة ، وتقديره : وإن كلا لمن خلق ليوفينهم. ومنها : أن تكون «ما» زائدة ، وتحذف إحدى الميمات ، وتقديره : لخلق ليوفينهم. ومن خفف الميم من «لما» جعل «ما» زائدة ، أتى بها ليفصل بين اللام التي في خبر (إِنَ) ولام القسم التي في (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ). وقال الزمخشري : (وَإِنَّ كُلًّا) التنوين عوض من المضاف إليه ، يعني وإن كلهم ، وإن جميع المختلفين فيه. و (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) جواب قسم محذوف واللام في (لَمَّا) موطئة للقسم ، وما : مزيدة للفصل ، والمعنى : وإن جميعهم والله ليوفينهم ، ولام (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) للتأكيد.

البلاغة :

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) الكلمة هنا كناية عن القضاء والقدر.

المفردات اللغوية :

(الْكِتابَ) التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) بالتصديق والتكذيب فآمن به قوم وكفر به قوم ، كما اختلف مشركو مكة في القرآن (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير الحساب والجزاء للخلائق يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا فيما اختلفوا فيه ، بإنزال ما يستحقه المبطل ، ليتميز به عن المحق (وَإِنَّهُمْ) وإن كفار مكة ، أو المكذبين بالتوراة (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) لفي شك في القرآن أو في التوراة ، موقع في الريبة.

(وَإِنَّ كُلًّا) إن بالتشديد والتخفيف ، أي وإن كل المختلفين ، المؤمنين منهم والكافرين ، والتنوين : بدل المضاف إليه (لَمَّا) ما : زائدة ، واللام موطئة لقسم محذوف مقدر ، واللام الثانية التي في (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) للتأكيد ، أو بالعكس ، وما : مزيدة للفصل بين اللامين. (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) أي جزاءها (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عالم ببواطن العمل كظواهره.

المناسبة :

بعد أن ذكّر الله تعالى مشركي مكة بمصير الأمم الهالكة لكفرهم ، ذكّرهم هنا

١٦١

أيضا بقوم موسى الذين اختلفوا في التوراة ، بين مؤمن وكافر ، فعاقبهم الله وجازاهم بسوء أعمالهم. وهو يدل على أن سيرة الكفار الفاسدة مع كل الأنبياء واحدة ، فكما أنكر كفار مكة التوحيد ، أنكروا أيضا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذبوا بكتابه ، شأنهم في ذلك شأن وعادة الكفار من قبلهم.

التفسير والبيان :

والله لقد آتينا موسى الكتاب الذي هو التوراة ، فاختلف فيه بنو إسرائيل من بعده ، ظلما وبغيا ، وتنازعا على الزعامة والمصالح المادية ، فآمن به قوم وكفر به آخرون ، مع أن الكتاب نزل لتوحيد الكلمة وجمع الناس على منهج واحد ، فلا تبال يا محمد باختلاف قومك في القرآن ، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك أسوة ، فلا تجزع لتكذيبهم.

ولو لا كلمة من ربك أي لولا سبق القضاء والقدر بتأخير العذاب إلى أجل مسمى ، لقضي بينهم في الدنيا ، بإهلاك العصاة ، وإنجاء المؤمنين ، كما حدث لأمم آخرين.

وإن المكذبين لفي شك موقع في الريبة والقلق ، والظاهر عود الضمير في قوله : (وَإِنَّهُمْ) وقوله : (بَيْنَهُمْ) على قوم موسى عليه‌السلام ؛ إذ هم المختلفون في الكتاب ، الشاكون في التوراة ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) [الشورى ٤٢ / ١٤] والذين أورثوا الكتاب : هم اليهود والنصارى ، والتوراة قد فقدت مع إحراق البابليين لهيكل سليمان ، وقيل : يعود الضمير على المختلفين في الرسول من معاصريه. قال ابن عطية : وأن يعمهم اللفظ أحسن عندي. وهذه الجملة من جملة تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

__________________

(١) البحر المحيط لأبي حيان : ٥ / ٢٦٦

١٦٢

وإن كلا من المؤمنين والكافرين المختلفين في كتاب الله ليوفينهم الله جزاء أعمالهم ، وما وعدوا به من خير أو شر ؛ لأنه خبير بتلك الأعمال كلها ، ولا يخفى عليه شيء منها. وهذا أيضا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهديد ووعيد لقومه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيتين ما يأتي :

١ ـ عادة الناس واحدة مع كل الأنبياء ، فمنهم من يقبل دعوتهم ، ويؤمن برسالتهم ، ومنهم من ينكرها ، وكفار قوم موسى وغيرهم أنكروا التوحيد ، وأصروا على إنكار النبوات ، والتكذيب بالكتب السماوية ، وكذلك كفار مكة وغيرهم من قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم مثل من تقدمهم فيما ذكر ، فيكون جزاؤهم واحدا.

٢ ـ الاختلاف في الكتاب الإلهي كالتوراة والقرآن ، بأن يؤمن به بعضهم ويكفر به بعضهم الآخر ، موجب للعقاب والعذاب في الآخرة.

٣ ـ حكم الله عزوجل أن يؤخر عقاب الكافرين كبني إسرائيل لانقسامهم بالنسبة للتوراة بين مكذب بها ومصدّق بها ، إلى يوم القيامة ، لما علم في حكم التأخير من الصلاح ؛ ولولا التأخير ، لقضي بينهم أجلهم ، بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر ، وينزل عذاب الاستئصال عليهم ، لكن المتقدم من قضاء الله أخر العذاب عنهم في دنياهم.

٤ ـ إن أولئك المختلفين في التوراة من اليهود لفي شك من كتاب موسى ، وهم في شك أيضا من القرآن.

٥ ـ إن كل الأمم والأفراد ، المؤمن منهم والكافر ، يرون في الآخرة جزاء أعمالهم ، سواء من أقوام الأنبياء السابقين أو من قوم محمد عليهم‌السلام ، فمن

١٦٣

عجلت عقوبته ومن أخّرت ، ومن صدّق الرسل ومن كذب ، حالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة ، وهو مأخوذ من الآية (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) التي جمعت بين الوعد والوعيد ، فإن إيفاء جزاء الطاعات وعد عظيم ، وإيفاء جزاء المعاصي وعيد عظيم.

وتأكد الوعد والوعيد بقوله تعالى : (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لأنه تعالى لما كان عالما بجميع المعلومات ، كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي ، وعالما بالقدر المناسب لكل عمل من الجزاء ، فلا يضيع شيء عنده من الحقوق والجزاءات.

وأكد الله تعالى توفية الجزاءات على المستحقين في الآية المذكورة : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) بسبعة أنواع من المؤكدات : وهي إنّ ، وكل ، والام الداخلة على خبر إن ، وحرف «ما» إذا جعلناه على قول الفراء موصولا ، والقسم المضمر ، فإن تقدير الكلام : وإن جميعهم والله ليوفينهم ، واللام الثانية الداخلة على جواب القسم ، والنون المؤكدة في قوله : (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) فكل هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد ، تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر ، ثم أردفه بقوله : (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) كما تقدم ، وهو من أعظم المؤكدات (١).

الاستقامة على أوامر الله تعالى

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣))

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٨ / ٧٠

١٦٤

الإعراب :

(وَمَنْ تابَ مَعَكَ) مرفوع بالعطف على ضمير (فَاسْتَقِمْ) وجاز العطف على الضمير المرفوع ؛ لأن الفصل بالظرف ، وهو قوله تعالى : (كَما أُمِرْتَ) ينزّل منزلة التأكيد ، فجاز العطف. ويجوز أن يكون (وَمَنْ تابَ) في موضع نصب ؛ لأنه مفعول معه.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) الواو للحال.

المفردات اللغوية :

(فَاسْتَقِمْ) على العمل بأمر ربّك والدّعاء إليه ، والاستقامة شاملة للاستقامة في العقائد والأعمال ، من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزلت ، والقيام بوظائف العبادات من غير إفراط ولا تفريط. والاستقامة في غاية العسر ، لذا قال عليه الصّلاة والسّلام : «شيبتني سورة هود».

(وَمَنْ تابَ مَعَكَ) أي وليستقم من تاب معك ، بأن تاب من الشرك والكفر وآمن معك. (وَلا تَطْغَوْا) لا تجاوزوا حدود الله ، والطغيان : مجاوزة الحدّ بالإفراط أو التفريط. (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو مجازيكم عليه ، وهو في معنى التّعليل للأمر والنّهي.

(وَلا تَرْكَنُوا) لا تميلوا إليهم أدنى ميل ، والرّكون : الميل اليسير. (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) لا تميلوا إلى الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضى بأعمالهم. (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) فتصيبكم النّار كونكم إليهم. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره. (مِنْ أَوْلِياءَ مِنْ) : زائدة ، و (أَوْلِياءَ) مناصرون يحفظونكم منه ، أو أنصار يمنعون العذاب عنكم. (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) تمنعون من عذابه ، ولا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم. و (ثُمَ) : لاستبعاد نصره إياهم بعد أن أوعدهم بالعذاب على فعلهم ، وأوجبه.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى أمر المختلفين في التّوحيد والنبّوة ، وأطنب في بيان وعدهم ووعيدهم ، أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستقامة مثلما أمر بها غيره ، وهي كلمة شاملة لكلّ ما ينعق بالعقيدة والعلم والعمل والأخلاق.

التفسير والبيان :

فالزم يا محمد ومن آمن معك طريق الاستقامة في الاعتقاد والأعمال

١٦٥

والأخلاق ، دون إفراط ولا تفريط. فالاستقامة تقتضي توحيد الله في ذاته وصفاته ، والإيمان بالغيب من جنّة ونار وبعث وحساب وجزاء ، وملائكة وعرش ، والتزام ما أمر به القرآن في نطاق العبادات والمعاملات. وهي درجة عليا وعسيرة إلا على من جاهد نفسه ، وترفّع عن أهوائه وشهواته ، وقد أمر بها موسى وهارون بقوله تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [يونس ١٠ / ٨٩] ، وكان جزاؤها تطمين الملائكة بعدم الخوف والحزن ، والتّبشير بالجنّة ، فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ، ثُمَّ اسْتَقامُوا ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت ٤١ / ٣٠] ، وأجاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سائلا ـ هو سفيان الثقفي فيما رواه مسلّم ـ قال : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك؟ فقال : «قل آمنت بالله ثم استقم».

ولا يعني أمر الرّسول بالاستقامة أنه لم يكن مستقيما ، وإنما كان على العكس في غاية الاستقامة ، والمقصود بهذا الأمر الدّوام والاستمرار على ما هو عليه. فالله تعالى يأمر رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدّوام على الاستقامة ، وذلك من أكبر العون على النّصر على الأعداء. وخطاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين بالاستقامة للتّثبيت على الاستقامة.

وفي الآية دليل على وجوب اتّباع النّصوص الشّرعية من غير تصرّف وانحراف ، ولا تقليد وعمل برأي فاسد غير صحيح ، ومن حاد عن منهج السّلف زاغ وضلّ ، فكانوا كقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الرّوم ٣٠ / ٣٢].

وطريق رفع الخلاف الرّد إلى القرآن والسّنة ، فقال تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النّساء ٤ / ٥٩].

١٦٦

وبعد أن أمر الله تعالى بالاستقامة ، نهى عن ضدّها وهو الطّغيان ، أي البغي وتجاوز حدود الله ، فإنه مزلقة إلى الهلاك ، فقال تعالى : (وَلا تَطْغَوْا).

ثمّ حذّر الله تعالى من المخالفة ، فقال : (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنه تعالى بصير بأعمال العباد ، لا يغفل عن شيء ، ولا يخفى عليه شيء ، فيجازي عليها.

والدّعوة إلى الاستقامة وتجنّب الطّغيان هو هدف القرآن الكريم المتكرر فيه ، فقال تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، وَقُلْ : آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ، اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ، اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى ٤٢ / ١٥].

ثم نبّه الله تعالى إلى خطر الميل مع الظالمين ، فقال : (وَلا تَرْكَنُوا ..) أي ولا تميلوا إلى الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضى بأعمالهم ، أو استعانة بهم ، أو اعتماد عليهم ، فتصيبكم النّار بركونكم إليهم ، فالرّكون إلى الظّالمين ظلم ، وليس لكم من غير الله أنصار أبدا ينفعونكم ، ويمنعون العذاب عنكم ، ثم لا ينصركم الله ، أي لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة ؛ لأنه تعالى لا ينصر الظّالمين : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [البقرة ٢ / ٢٧٠] ، (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [الحجّ ٢٢ / ٧١ ، فاطر ٣٥ / ٣٧].

والآية تدلّ على عاقبة الرّكون ، وعلى أن الميل إلى الظّالمين موقع عادة في الظّلم ، ومزلقة تستدعي إقرارهم على ما يفعلون ، والرّضى بما هم عليه من الظّلم ، واستحسان طريقتهم ، وتزيينها عندهم وعند غيرهم ، ومشاركتهم في أعمالهم الظّالمة. قال البيضاوي : ولعل الآية أبلغ ما يتصوّر في النّهي عن الظّلم والتّهديد عليه.

وإذا كان الرّكون إلى الظّلم موجبا عذاب النّار ، فكيف يكون حال الظّالم في نفسه؟!

١٦٧

فقه الحياة أو الأحكام :

تدلّ الآيتان على الأمر بالاستقامة والثّبات والدّوام عليها ، وعلى تحريم ضدّها وهو الطّغيان ، أي تجاوز حدود الله تعالى ، وعدم الاعتماد على الظّلمة والرّضا بظلمهم.

والاستقامة : امتثال أمر الله ، وليست تلك مهمة سهلة وإنما هي شاقّة عسيرة تستدعي الطّاعة الدّائمة ، ومراقبة الإنسان نفسه ، والحذر من المخالفة ، قال ابن عباس : ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية هي أشدّ ولا أشقّ من هذه الآية عليه ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشّيب! فقال : «شيّبتني هود وأخواتها». وروي عن أبي علي السّري قال : رأيت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام ، فقلت : يا رسول الله! روي عنك أنك قلت : «شيّبتني هود» ، فقال : «نعم» ، فقلت : ما الذي شيّبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال : «لا ، ولكن قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ)».

والاستقامة تقتضي اتّباع نصوص القرآن والسنّة ، والبعد عن التّأويلات الباطلة ، والعمل بالرّأي الفاسد المخالف روح الشّريعة ومبادئها العامة.

ثمّ حذّرت الآية من الاعتماد على الظّلمة ، والرّضا بظلمهم ، والاستعانة بهم ، والتعاون معهم ، وودّهم وإطاعتهم ؛ لأن ودّهم يستدعي إطراءهم وتملّقهم ، وتزييف الحقائق ، وكتمان الحقّ ، والسّكوت عن المنكر ، وعدم الأمر بالمعروف.

والظّلم : يشمل الشّرك وكلّ أنواع القبائح والمعاصي والمنكرات ، والآية دالّة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم ، فإن صحبتهم كفر أو معصية ، إذ الصّحبة لا تكون إلا عن مودّة. أما صحبة الظّالم على التّقيّة ، فهي مستثناة من النّهي بحال الاضطرار.

روى الإمام أحمد وأصحاب السّنن عن أبي بكر أنه قام ، فحمد الله ،

١٦٨

وأثنى عليه ، ثم قال : أيّها النّاس ، إنكم تقرؤون هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ألا وإن النّاس إذا رأوا الظّالم ، فلم يأخذوا على يديه ، أوشك الله أن يعمّهم بعقابه ، ألا وإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ النّاس إذا رأوا المنكر بينهم ، فلم ينكروه ، يوشك أن يعمّهم الله بعقابه».

وقد تضمّنت الآية صراحة بيان عاقبة الرّكون إلى الظّلمة ، وهي الإحراق بالنّار ، بسبب مخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على ما هم عليه ، وموافقتهم في أمورهم.

والظّلمة : هم أعداء المؤمنين ، من المشركين ، أو كلّ ظالم ، سواء أكان كافرا أم مسلما ، والرّأي الثّاني أصح ؛ لأن الأخذ بعموم الكلام أولى.

ويلاحظ من اختلاف التّعبيرين : (فَاسْتَقِمْ) و (وَلا تَرْكَنُوا) أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كانت عامة في المعنى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) وقوله في الآية التالية : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) ، (وَاصْبِرْ). أما المنهيّات فقد جمعت للأمة : (وَلا تَطْغَوْا)، (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا).

الأمر بالصّلاة والصّبر

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

الإعراب :

(طَرَفَيِ النَّهارِ) منصوب على الظّرف ؛ لأنه مضاف إليه.

١٦٩

البلاغة :

(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) بينهما طباق.

(ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) بينهما جناس اشتقاق.

(لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) عدول عن المضمر ، ليكون كالبرهان على المقصود ، ودليلا على أن الصّبر والصّلاة إحسان ، وإيماء بأنه لا يعتدّ بهما دون الإخلاص.

المفردات اللغوية :

(طَرَفَيِ النَّهارِ) أي في الغداة والعشي ، أي الصّبح والظّهر والعصر كما قال الحسن وقتادة والضّحاك ، وطرف الشيء : الطّائفة منه من النّهاية والبداية. (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) جمع زلفة أي طائفة وجزء من أول الليل قريب من النّهار ، وذلك يشمل صلاة المغرب وصلاة العشاء ، كما قال الحسن البصري.

(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يكفرنها ، وفي الحديث الذي أخرجه أبو نعيم عن أنس : «الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» والحسنات كالصلوات الخمس وغيرها من أعمال البر ، والسيئات : الذنوب الصغائر. (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) عظة للمتعظين.

(وَاصْبِرْ) على الطاعات وعن المعاصي. (لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بالصبر على الطاعة.

سبب النزول :

روى الشيخان ، وابن جرير ، عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبره ، فأنزل الله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فقال الرجل : إليّ هذه؟ قال : لجميع أمتي كلهم.

وأخرج الترمذي وغيره عن أبي اليسر قال : أتتني امرأة تبتاع تمرا ، فقلت :في البيت أطيب منه ، فدخلت معي البيت ، فأهويت إليها فقبلتها ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت ذلك له ، فقال : أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟! وأطرق طويلا ، حتى أوحى الله إليه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) إلى قوله : (لِلذَّاكِرِينَ).

١٧٠

وروي ذلك من حديث أبي أمامة ومعاذ بن جبل وابن عباس وبريدة وغيرهم. ومنه يفهم أن ذنب الرجل لا حدّ فيه ، وإنما هو ذنب يكفره العمل الصالح ، من إقامة الصلاة وإحسان القول والعمل.

ورواية الترمذي عن ابن مسعود هي : قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني عالجت امرأة في أقصى المدينة ، وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها ، وأنا هذا ، فاقض فيّ ما شئت. فقال له عمر : لقد سترك الله! لو سترت على نفسك ؛ فلم يردّ عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، فانطلق الرجل ، فأتبعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا فدعاه ، فتلا عليه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ، وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) إلى آخر الآية ، فقال رجل من القوم : هذا له خاصة؟ قال : «لا ، بل للناس كافة» قال الترمذي : حديث حسن صحيح.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بالاستقامة ، وعدم تجاوز حدود الدين ، وعدم الركون إلى ذوي الظلم ، أردفه بالأمر بالصلاة والصبر ، وهو يدل على أن أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة ، ويليها الصبر ، فإنه نصف الإيمان ، فهما عدة الامتثال ، والصلاة أساس العبادات ، وعمود الدين.

التفسير والبيان :

موضوع هاتين الآيتين : الاستعانة بالصلاة والصبر ، كما قال تعالى في آية أخرى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة ٢ / ١٥٣].

أما بالنسبة للصلاة فالآية في تحديد أوقاتها ، ومعناها : أدّ الصلاة تامة كاملة الأركان والشروط والأوصاف ، باعتبارها صلة بين العبد والرب ، مطهرة

١٧١

للنفس ، مرضاة للرب ، مانعة عن الفحشاء والمنكر ، وأداؤها في جميع أجزاء اليوم ، فقوله : (طَرَفَيِ النَّهارِ) يشمل ثلاث صلوات هي الصبح والظهر والعصر ، وقوله : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) يشمل صلاتي المغرب والعشاء.

فتكون الآية شاملة جميع أوقات الصلاة ، كما جاء في آيات أخر هي :

١ ـ (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء ١٧ / ٧٨].

٢ ـ (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا ، وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم ٣٠ / ١٧ ـ ١٨] فصلاة الصبح عند الإصباح ، وبقية الصلوات تدخل تحت تعبير المساء ؛ لأنه يشمل ما بين الظهر والغروب فما بعده.

٣ ـ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها ، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ ، فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ ، لَعَلَّكَ تَرْضى) [طه ٢٠ / ١٣٠] والتسبيح يكون بالصلاة وغيرها.

ثم ذكر الله تعالى فائدة الصّلاة بقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ ..) أي إنّ فعل الخيرات أو الأعمال الحسنة ، ومنها الصّلوات الخمس ، تكفّر الذّنوب السّالفة ، والسّيئات الصّغائر ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السّنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه ، وإذا حدّثني عنه أحد ، استحلفته ، فإذا حلف صدّقته ، وحدّثني أبو بكر ـ وصدق أبو بكر ـ أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من مسلم يذنب ذنبا ، فيتوضأ ، ويصلّي ركعتين ، إلا غفر له».

وفي الصّحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفّان : أنه توضأ لهم كوضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ ، وقال : «من

١٧٢

توضأ وضوئي هذا ، ثم صلّى ركعتين ، لا يحدّث فيهما نفسه ، غفر له ما تقدّم من ذنبه».

والحسنات : جميع الأعمال الصّالحة ، حتى ترك السّيئة ، والسّيئات : الذّنوب الصّغائر ؛ لأن الكبائر لا يكفّرها إلا التّوبة ؛ لقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [النّساء ٤ / ٣١] ، ولما رواه مسلم : «الصّلوات الخمس كفّارة لما بينهن ، إذا اجتنبت الكبائر».

وأمّا شروط التّوبة الصّادقة فهي أربعة : الإقلاع عن الذّنب ، والنّدم عليه ، والعزم على عدم العود إلى مثله في المستقبل ، والعمل الصّالح الذي يساعد على محو أثر الذّنب ، ومنه ردّ الحقوق لأصحابها ، وطلب السّماح ممن آذاه.

(ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي إنّ النّصح السّابق بفعل الحسنات والاستقامة ، وعدم تجاوز حدود الدّين ، وعدم الرّكون إلى الظّلمة ، عظة للمتّعظين الذي يعقلون الأحداث ويقدّرون مخاطرها ويخشون الله عزوجل.

(وَاصْبِرْ ..) أي الزم الصّبر على الطّاعة ومشاقّها ، وعن المعصية ومغرياتها ، وابتعد عن المنكر والمحرّمات ، وفي حال الشّدائد والمصائب ، فإن الله لا يهدر ثواب المحسنين أعمالا ، الصّابرين على مراد الله وقدره. وهذا دليل على أن الصّبر إحسان وفضيلة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيتان إلى ما يأتي :

١ ـ الأمر بالصّلوات المفروضة وإيجابها ، وخصّت بالذّكر هنا ؛ لأنها ثانية الإيمان ، وإليها يفزع في النّوائب ، وكان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه (١) أمر ، فزع إلى الصّلاة.

__________________

(١) حزبه : نزل به مهمّ ، أو أصابه غمّ.

١٧٣

٢ ـ الآية دليل على قول أبي حنيفة رحمه‌الله في أنّ التّنوير بالفجر أفضل ، وفي أنّ تأخير العصر أفضل ؛ لأنّ ظاهر هذه الآية يدلّ على وجوب إقامة الصّلاة في طرفي النّهار ، وطرفا النّهار : الزّمان الأوّل لطلوع الشّمس والزّمان الثاني لغروبها ، وبما أنّ ظاهر الآية غير مراد بالإجماع ، فوجب حمله على المجاز ، وهو إقامة الصّلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النّهار ؛ لأنّ ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه. وإقامة صلاة الفجر عند التّنوير أقرب إلى وقت الطّلوع من إقامتها عند التّغليس ، وكذلك إقامة صلاة العصر عند ما يصير ضلّ كلّ شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عند ما يصير ظلّ كلّ شيء مثله ، والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى.

٣ ـ أوضحت الآية أوقات الصّلوات الخمس المفروضة ؛ لأنّ طرفي النّهار يشملان صلاة الصّبح ، وصلاة الظّهر والعصر ، والزّلف من الليل يقتضي الأمر بإقامة صلاتي المغرب والعشاء. والزّلف : الساعات القريبة بعضها من بعض ، وزلف الليل تشمل المغرب والعشاء.

٤ ـ الحسنات وهي الأعمال الصّالحة ومنها الصّلوات الخمس ، وقول الرّجل : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، والأولى حمل اللفظ على عمومه. وأما السّيئات فهي الذّنوب الصّغائر ، للحديث المتقدّم : «ما اجتنبت الكبائر».

٥ ـ دلّت الآية على أنّ المعصية لا تضرّ مع الإيمان ؛ لأنّ الإيمان أشرف الحسنات وأجلّها وأفضلها. وعلى أنّ الحسنات يذهبن السّيئات ، فالإيمان الذي هو أعلى الحسنات درجة ، يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان ، فلأن يقوى على المعصية التي هي أقل السّيئات درجة ، كان أولى ، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكليّة ، فلا أقل من أن يفيد إزالة العذاب الدائم.

١٧٤

٦ ـ دلّت الآية مع الأحاديث الواردة في سبب نزولها على أن القبلة واللّمس الحرام لا يجب فيهما الحدّ. واختار ابن المنذر أنه لا يجب فيهما أدب أو تعزير.

٧ ـ القرآن الكريم موعظة وتوبة لمن اتّعظ وتذكّر ، وخصّ الذّاكرين بالذّكر ؛ لأنهم المنتفعون بالذّكرى.

٨ ـ الصّبر على الصّلاة كما قال تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه ٢٠ / ١٣٢] ، والصّبر على الطّاعات ، وعلى ما يلقاه المؤمن من أذى الأعداء ، وعلى الشّدائد والمصائب ، الصّبر على كلّ ذلك إحسان وفضيلة ، وله ثواب عظيم ، وقد قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان : «الصّبر نصف الإيمان ، واليقين : الإيمان كلّه» إلا أنه ضعيف.

سبب إهلاك القرى والأمم السّالفة

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))

الإعراب :

(إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ ...) منصوب ؛ لأنه استثناء منقطع ، ويجوز فيه الرّفع على البدل من

١٧٥

(أُولُوا بَقِيَّةٍ) كما جاز الرّفع في قوله تعالى : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) [يونس ١٠ / ٩٨] وإن كان استثناء منقطعا ، وهي لغة بني تميم.

(وَاتَّبَعَ) عطف على مضمر دلّ عليه الكلام ؛ إذ المعنى : فلم ينهوا عن الفساد ، واتّبع الذين ظلموا.

(وَكانُوا مُجْرِمِينَ) عطف على (اتَّبَعَ) أو جملة اعتراضية.

(بِظُلْمٍ) حال من الفاعل ، أي واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها.

المفردات اللغوية :

(فَلَوْ لا فَلَوْ لا) : للتّحضيض والحثّ على الفعل ، أي فهلا كان. (مِنَ الْقُرُونِ) جمع قرن ، وهو الجيل من الناس المقترنون في زمن واحد ، وشاع تقديره بمئة سنة. (أُولُوا بَقِيَّةٍ) أولو عقل ورأي وبصر بالأمور ، أو أولو فضل ، والأصل في البقية : ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره ، واستعمل كثيرا في الباقي الأصلح ؛ لإنفاق الأردأ عادة وإبقاء الأجود ، وتلك قاعدة بقاء الأصلح ، ومنه يقال : فلان من بقيّة القوم ، أي من خيارهم. ويجوز أن يكون مصدرا كالتّقية ، أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب.

(ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي ما أنعموا فيه من الشهوات. (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أي كافرين ، وهو سبب استئصال الأمم ، وهو فشو الظلم فيهم ، واتّباعهم الهوى ، وترك النّهي عن المنكرات مع الكفر. (بِظُلْمٍ) بشرك. (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) فيما بينهم ، لا يضمون إلى شركهم فسادا وتباغيا ، وذلك لفرط رحمة الله ومسامحته في حقوقه ، ولذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد على حقوق الله تعالى.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) مسلمين كلّهم ، وهو دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة ، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كلّ أحد ، وأن ما أراده يجب وقوعه. (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) بعضهم على الحق ، وبعضهم على الباطل ، لا تكاد تجد اثنين يتفقان مطلقا. (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) إلا أناسا هداهم الله من فضله ، فاتّفقوا على ما هو أصول دين الحقّ والعمدة فيه. (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) : إن كان الضمير للناس ، فالإشارة إلى الاختلاف ، واللام للعاقبة ، أي الصّيرورة ، أو أن الضّمير يعود للنّاس وإلى الرّحمة. وإن كان الضّمير يعود لمن رحم ، فإلى الرّحمة.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وعيده وقضاؤه وأمره. (مِنَ الْجِنَّةِ) الجنّ ، سمّوا بهذا لاستتارهم. وقوله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) أي من عصاتهما. (أَجْمَعِينَ) صفة للعصاة ، أو منهما أجمعين لا من أحدهما.

١٧٦

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى ما حلّ بالأمم السّابقة المكذّبة لرسلها ، من عذاب الاستئصال في الدّنيا ، واستحقاق النّار في الآخرة ، ذكر هنا سبب العذاب وهو أمران : الأول ـ أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض ، والثاني ـ أن الظّالمين اتّبعوا طلب الشّهوات واللّذات ، واشتغلوا بتحصيل الرّياسات. والظّالمون : هم تاركو الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

التّفسير والبيان :

فهلا وجد من القرون ، أي الأمم والأقوام الماضية الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم جماعة أولو عقل ورأي وبصيرة وأهل خير ينهون عما كان يقع بينهم من الشّرور والمنكرات والفساد في الأرض. وهذا توبيخ للكفار.

لكن قد وجد قليل من هؤلاء ، وهم الذين أنجاهم الله تعالى عند حلول غضبه وفجأة نقمته ، قد نهوا عن الفساد في الأرض. فهذا استثناء منقطع ، ولا يمكن جعله استثناء متّصلا ، وإلا كان القليل من النّاجين غير مرغّبين في النّهي عن الفساد.

واتّبع الظّالمون أنفسهم ، وهم الأكثرية ما أترفوا فيه من نعيم وعزّة وسلطان. والمترف : الذي أبطرته النّعمة وسعة المعيشة. والمراد بالذين ظلموا : تاركو النّهي عن المنكر. واتّباعهم التّرف : اشتغالهم بالشّهوات والمال واللّذات والرّياسات ، واستمرارهم على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات ، وعدم التفاتهم إلى إنكار المصلحين منهم ، وإيثار الترف على الآخرة.

(وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أي والحال أنهم كانوا ظالمين. فالله تعالى لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ، كما قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود ١١ / ١٠١] ، وقال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصّلت ٤١ / ٤٦].

١٧٧

وفي الآية إيماء إلى أن التّرف مدعاة إلى الإسراف ، والإسراف يفضي إلى الفسوق والعصيان ، والظّلم والانحراف ، وتلك عادة متّبعة كما قال تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها ، فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء ١٧ / ١٦].

ثمّ بيّن تعالى عدله وسنّته في المصلحين ، فقال تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ) أي ليس من شأن الله تعالى أن يهلك أهل القرى ، ظالما لها ، وأهلها قوم مصلحون ، تنزيها لذاته تعالى عن الظّلم ، وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظّلم. وقيل الظّلم : الشّرك ، ومعناه : أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها ، وهم مصلحون في المعاملات فيما بينهم ، أو في أمورهم الاجتماعية ، يتعاطون الحقّ فيما بينهم ، ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر ، أي لا ينزل عذاب الاستئصال لأجل كون القوم مجرّد كونهم معتقدين للشّرك والكفر ، بل إنما ينزل العذاب إذا أساؤوا في المعاملات ، وسعوا في الإيذاء والظّلم ، كما فعل قوم شعيب ، وقوم هود ، وقوم فرعون ، وقوم لوط. ويؤيده أنّ الأمم تبقى مع الكفر ، ولا تبقى مع الظّلم.

ثم أخبر الله تعالى أنه قادر على جعل الناس أمة واحدة من إيمان أو كفر ، فقال تعالى: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ..) قال الزّمخشري معبّرا عن مذهب المعتزلة : يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل ملّة واحدة ، وهي ملّة الإسلام ، كقوله تعالى : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المؤمنون ٢٣ / ٥٢]. فهم يحملون الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار ، والمراد نفي الاضطرار ، وأنه لم يقهرهم على الاتّفاق على دين الحقّ ، ولكنه مكّنهم من الاختيار الذي هو أساس التّكليف ، فاختار بعضهم الحقّ ، وبعضهم الباطل ، فاختلفوا ، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربّك أي إلا أناسا هداهم الله ولطف بهم ، فاتّفقوا على دين الحقّ غير مختلفين فيه.

ويرى أهل السّنّة : أن الآية بيان لقدرة الله تعالى على جعل الناس كلهم على

١٧٨

منهج واحد من إيمان أو كفر ، بخلقهم قابلين دينا واحدا ، لكنه تعالى لم يشأ ذلك ، مثل قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس ١٠ / ٩٩] وإنما شاء أن يكون لهم دور اختياري في الاتّجاه إلى الحقّ والإيمان ونبذ الضّلالة والشّرك ، وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) استثناء منقطع ، أي لكن من رحم ربّك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف.

(وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أي في الأديان والاعتقادات والمذاهب والآراء ، وقيل : في الهدى ، أو في الرّزق يسخر بعضهم بعضا ، قال ابن كثير : والمشهور الصّحيح الأول.

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي المرحومين من أتباع الرّسل الذين تمسّكوا بما أمروا به من الدّين ، الذي أخبرتهم به رسل الله إليهم ، ولم يزل ذلك دأبهم ، حتى جاء خاتم الرّسل ، ففاز من اتّبعه بسعادة الدّنيا والآخرة ، فهم الفرقة النّاجية.

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال الزّمخشري ممثلا رأي المعتزلة : (لِذلِكَ) : إشارة إلى ما دلّ عليه الكلام الأول وتضمّنه ، يعني : ولذلك المذكور من التّمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف ، خلقهم ، ليثيب مختار الحقّ بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره (١).

ويرى أهل السّنة كما ذكر أبو حيان : أنّ اللام ليست للتّعليل ، وإنما هي على التّحقيق لام الصّيرورة في ذلك المحذوف ، أي ليس الاختلاف والرّحمة علّة الخلق ، وإنما خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف. مثل قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ٢٨ / ٨]. ولا يتعارض هذا مع قوله

__________________

(١) الكشّاف : ٢ / ١٢٠

١٧٩

تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذّاريات ٥١ / ٥٦] لأن معنى هذا الأمر بالعبادة (١).

والإشارة في قوله تعالى : (لِذلِكَ) : إشارة إلى الاختلاف والرّحمة معا في رأي ابن عباس ، واختاره الطّبري ، وقال مجاهد وقتادة : (لِذلِكَ) : إشارة إلى الرّحمة التي تضمّنها قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) والضّمير في (خَلَقَهُمْ) عائد على المرحومين.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ..) أي سبق في قضاء الله وقدره لعلمه التّام وحكمته النّافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنّة ، ومنهم من يستحق النّار ، وأنه لا بدّ أن يملأ جهنّم من هذين الثّقلين : الجنّ والإنس ، وهم الذين لا يهتدون بما أرسل الله به الرّسل من الآيات والأحكام. قال ابن عباس : خلقهم فريقين : فريقا يرحم فلا يختلف ، وفريقا لا يرحم فيختلف ، فذلك قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ). وقوله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ مَنْ) : لبيان الجنس ، أي من جنس الجنّة وجنس النّاس .. وقوله تعالى : (أَجْمَعِينَ) تأكيد.

وفي الصّحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اختصمت الجنّة والنّار ، فقالت الجنّة : مالي لا يدخلني إلا ضعفاء النّاس وسقطهم (٢) ، وقالت النّار : أوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين ، فقال الله عزوجل للجنّة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ، وقال للنّار : أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء ، ولكلّ واحدة منكما ملؤها ، فأما الجنّة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنّة ، وأما النّار فلا تزال تقول : هل من مزيد ، حتى يضع لها ربّ العزّة قدمه ، فتقول : قط قط (٣) ، وعزّتك».

__________________

(١) البحر المحيط : ٥ / ٢٧٣

(٢) السّقط : رديء المتاع.

(٣) قط بمعنى حسب ، وهو الاكتفاء. والقطّ : الكتاب والصّكّ بالجائزة ، ومنه قوله تعالى : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا).

١٨٠