التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

فمبادرته كانت للفرار ، ومبادرتها كانت للتشبّث فيه ، فأمسكت ثوبه وجذبته إليها. (وَقَدَّتْ) شقت قميصه من دبر ، أي من الخلف والقد : الشق طولا. (وَأَلْفَيا سَيِّدَهالَدَى الْبابِ) وجدا زوجها وصادفاه عند الباب. (قالَتْ : ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) أي نزهت نفسها ، وأو همت زوجها أنها فرّت منه تبرئه لساحتها عنده وإغراء به للانتقام من يوسف. و (ما) نافية أو استفهامية ، والمعنى : أي شيء جزاؤه إلا السجن أي الحبس. (أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم بأن يضرب. وتعبير (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) من اختصار القرآن المعجز ، الذي يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة.

(قالَ : هِيَ راوَدَتْنِي) قال يوسف : هي طالبتني بالمواتاة ، دفاعا عن نفسه لما عرضت له من السجن أو العذاب ، ولو لم تكذب عليه لما قال ذلك. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قيل : ابن عمها ، أو ابن خالها ، وكان صبيا في المهد ، أنطقه الله تعالى.

(مِنْ قُبُلٍ) من قدام أو أمام. (مِنْ دُبُرٍ) من خلف. (فَلَمَّا رَأى) زوجها (قالَ : إِنَّهُ) أي إن قولك : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً مِنْ كَيْدِكُنَ) أي من حيلتكن أيها النساء ، والخطاب لها ولأمثالها ، أو لسائر النساء. (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) أي إن كيد النساء ألصق وأعلق بالقلب ، وأشد تأثيرا في النفس ، ولا قدرة للرجال عليه ولا يفطنون لحيلهن.

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) أي ثم قال زوجها : يا يوسف أعرض عن هذا الأمر ، ولا تذكره واكتمه لئلا يشيع الخبر بين الناس. (وَاسْتَغْفِرِي) يا زليخا. (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) أي الاثمين المذنبين ، ولكن شاع الخبر واشتهر. والتذكير للتغليب.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى ما أكرم به يوسف من المكارم المادية بالإقامة في قصر عزيز مصر ، والمعنوية من النبوة أو العلم والحكمة ، ذكر هنا محنته مع امرأة العزيز ، والتزامه العفة والنزاهة والطهارة ، حتى إنه آثر دخول السجن على ارتكاب الفاحشة ، والتخلص من افتتان النساء به.

التفسير والبيان :

كان يوسف عليه‌السلام في غاية الحسن والجمال ، وقد أوصى عزيز مصر امرأته بإكرامه وحسن تعهده ، فأحبته حبا شديدا لجماله وحسنه وبهائه ، فحملها

٢٤١

ذلك على أن تجملت له ، ودعته لمخالطتها ، وتمحلت لمواقعته إياها ، وأحكمت إغلاق الأبواب عليه قيل : كانت سبعة ، وقالت : هيت لك ، أي هلمّ أقبل وبادر ، وتهيأت لك ، وزيدت كلمة (لَكَ) لبيان المخاطب ، مثل : سقيا لك ورعيا لك. وهذا أسلوب في غاية الاحتشام.

فامتنع من ذلك أشد الامتناع ، وقال : أعوذ بالله معاذا ، وألتجئ إليه وأعتصم به مما

تريدين مني ، فهو يعيذني أن أكون من الجاهلين (إِنَّهُ) (الضمير للشأن والحديث) ربي أي سيدي ومالكي (قطفير) (أَحْسَنَ مَثْوايَ) أي منزلي ومقامي وأحسن إلي ، حين قال لك : أكرمي مثواه فلا أقابله بالخيانة ، وإتيان الفاحشة في أهله ، إنه لا يفلح الظالمون الذين يجازون الإحسان بالإساءة ، أو لا يظفر الظالمون بمطالبهم ، ومنهم الخائنون المجازون الإحسان بالسوء.

ولقد همّت بالانتقام منه والتنكيل به ، لعصيانه أمرها ، وعدم نزوله عند رغبتها ، ومخالفته مرادها ، وهي سيدته وهو عبدها ، أو همت بمخالطته.

(وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) كثر كلام الناس وتعليقاتهم حول معنى هذه الآية ، والأمر فيها سهل يسير ، لا يصح تفسير كلمة (وَهَمَّ بِها) وحدها دون بقية الجملة ، وإذا فسرت الجملة مع بعضها ، تبين أنه لم يهمّ بها قط ؛ لأن رؤية برهان ربه قد منعه من ذلك ، بدليل أن (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود وجوابها محذوف دائما ، وتقديره : لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ولخالطها ؛ لأن قوله : (وَهَمَّ بِها) يدل عليه ، كقولك : (هممت بقتله لولا أني خفت الله) معناه : (لولا أني خفت الله لقتلته) ففي الكلام تقديم وتأخير ، أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها.

ثم إن المراد بالهم : خطرات حديث النفس ، والميل إلى المخالفة بحكم الطبيعة

٢٤٢

البشرية ، وهذا لا مؤاخذة فيه شرعا ، فلا يقال : كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ ودليل رفع المؤاخذة على الهم الذي هو مرتبة دون العزم والحزم ما أورده البغوي من حديث عبد الرزاق والصحيحين عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى : إذا همّ عبدي بحسنة ، فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها ، فاكتبوها له بعشر أمثالها ، وإن همّ بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإنما تركها من جرائي ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها».

والبرهان الذي رآه : هو برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم ، أو هو حجة الله تعالى في تحريم الزنى ، والعلم بما على الزاني من العقاب. وقيل : هو تطهير نفوس الأنبياء عليهم‌السلام عن الأخلاق الذميمة ، وقيل : هو النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش ، وجائز أن يراد كل هذه المعاني ؛ لأنها متقاربة غير متعارضة ، تحقق هدفا واحدا وهو طاعة الله عزوجل.

والخلاصة : لم يرتكب يوسف عليه‌السلام المعصية قط ، ولو لا حفظ الله ورعايته وعصمته لهمّ بها. وللعلماء في الآية تفسيران : الأول ـ إنه لم يهمّ بها لرؤية برهان ربه ، فهو الذي منعه من الهمّ ، والثاني ـ إنه همّ بمقتضى الطبيعة البشرية ، ثم تنبه للمانع من وقوع المعصية ، ورأى برهان الله وتذكره ، مثل قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٧٤].

وبه تبين وجود الفارق بين الهمين : همها به وهمه ، فهي قد همت بالانتقام منه والتنكيل به ، شفاء لغيظها ، أو همت بمخالطته ، فكان همها المعصية ، وهو همّ عزم وتصميم. وهو قد همّ بالدفاع عن نفسه ، والتخلص منها ، حين رأى بوادر الإقدام عليه ، ولكنه رأى برهان ربه وعصمته التي جعلته يهم بالفرار من هذا المأزق ، فكان همه النجاة منها وهو مجرد حديث نفس وخاطر ، وما هم بالسوء بها لما رأى برهان ربه ؛ لعصمة الأنبياء ، قال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ

٢٤٣

وَالْفَحْشاءَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) لذا أتبعه بقوله : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي فبادر إلى الباب هربا ، وبادرت هي إلى الباب صدا له عن الهرب. وأراد الله صرف السوء عنه فقال : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) أي مثل ذلك التثبيت على العفة أمام دواعي الفتنة والإغراء ثبتناه ، وكما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه ، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره. والسوء : المنكر والمعصية وخيانة السيد ، والفحشاء : الزنى والفجور.

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي إن يوسف من عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته وصفاهم من الشوائب ، فلا يستطيع الشيطان إغواءهم ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) [ص ٣٨ / ٤٧].

وحدثت المفاجأة الغريبة المحرجة بقدوم زوجها ، وهما يتسابقان إلى الباب ، فقال تعالى: (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي وتسابقا إلى الباب ، بناء على حذف الجارّ وإيصال الفعل كقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف ٧ / ١٥٥] أو بناء على تضمين (اسْتَبَقَا) معنى : ابتدرا ، والتسابق مختلف الغرض ، فيوسف فرّ منها مسرعا يريد الباب ليخرج ، وهي أسرعت وراءه لتمنعه الخروج. (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) أي لحقته في أثناء هربه ، فأمسكت بقميصه من الخلف ، فقطعته.

(وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أي وحينئذ وجدا سيدها وهو زوجها عند الباب ، فحاولت بمكرها وكيدها التنصل من جرمها وإلصاق التهمة بيوسف ، فقالت : ما جزاء من أراد بأهلك فاحشة إلا أن يحبس ، أو عذاب مؤلم موجع ، فيضرب ضربا شديدا. وكانت نساء مصر تلقب الزوج بالسيد ، ولم يقل : سيدهما ؛ لأن استرقاق يوسف غير شرعي.

٢٤٤

وهنا ذكر الرازي علامات كثيرة دالة على أن يوسف عليه‌السلام هو الصادق وهي (١) :

١ ـ إن يوسف عليه‌السلام كان في اعتبارهم عبدا ، والعبد لا يتسلط على مولاه إلى هذا الحد.

٢ ـ شوهد يوسف يعدو عدوا شديدا ليخرج ، وطالب المرأة لا يفعل ذلك.

٣ ـ زيّنت المرأة نفسها على أكمل الوجوه ، خلافا لما كان عليه حال يوسف.

٤ ـ لم تكن سيرة يوسف في المدة الطويلة دالة على حالة تناسب ، هذا الفعل المنكر.

٥ ـ لم تصرح المرأة بنسبته إلى الفاحشة ، بل أجملت كلامها ، وأما يوسف فصرح بالأمر.

٦ ـ إن زوج المرأة كان عاجزا ، فطلب الشهوة منها أولى.

لكل هذا لم تطلب عقوبة شديدة ، وإنما أرادت أن يحبس يوما أو أقل ، على سبيل التخفيف والتخويف ؛ لأن حبها الشديد ليوسف حملها على أن تشفق عليه ، ولكنها من جانب آخر استحيت أن تقول : إن يوسف قصدني بالسوء ، وأرادت تصيّد عذر ما ، وحماية سمعتها وكرامتها أمام زوجها.

ذكر بعضهم : ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله ، فألقى عليه هيبة النبوة ، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه.

ثم جاء دور براءة يوسف : (قالَ : هِيَ راوَدَتْنِي ..) قال يوسف بارّا صادقا مدافعا عن نفسه حينما اتهمته بقصد السوء : هي التي راودته عن نفسه ،

__________________

(١) المرجع السابق : ١٨ / ١٢٣

٢٤٥

فامتنع منها ، وأنها تبعته وجذبته حتى قدت قميصه ، ولم تترك حيلة إلا لجأت إليها لمواقعتها.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ..) وللعلماء قولان في هذا الشاهد ، هل هو صغير أو كبير؟ وهل هو إنسان أو القميص؟ ، فصار في تعيين هذا الشاهد ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه كان ابن عم لها كبير ، وكان رجلا حكيما عاقلا حصيف الرأي ، فقال : إن كان (١) شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب ، وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة ، فلما نظروا إلى القميص ، ورأوا الشق من خلفه ، قال ابن عمها : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ..) أي من عملكن ، ثم قال ليوسف : أعرض عن هذا واكتمه ، وقال لها : استغفري لذنبك. وهذا قول طائفة كبيرة من المفسرين.

والثاني ـ وهو قول ابن عباس وجماعة : أن ذلك الشاهد كان صبيا أنطقه الله تعالى في المهد. روى ابن جرير حديثا مرفوعا عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى بن مريم».

والثالث ـ أن ذلك الشاهد هو القميص. قال الرازي : وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ، ولا ينسب إلى الأهل.

ولما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به وظهر للقوم براءة يوسف عن هذا المنكر ، قال العزيز أو الشاهد : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) إن هذا

__________________

(١) إن كان قميصه : كان في موضع جزم بالشرط ، وفيه إشكال نحوي ؛ لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل ، وليس هذا في كان ، فقال المبرد : هذا لقوة كان ، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال الزجاج : المعنى : إن يكن ، أي إن يعلم ، والعلم لم يقع.

٢٤٦

الاتهام من جملة كيدكن (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) أي إن مكر المرأة وكيدها شديد التأثير في النفوس ، غريب لا يفطن له الرجال ، ولا قبل لهم به ، ولا لحيلها وتدبيرها.

ويا يوسف أعرض عن ذكر هذه الواقعة واكتم خبرها عن الناس ، ويا أيتها المرأة اطلبي المغفرة لذنبك ، إنك كنت من زمرة الخاطئين أي المذنبين. وقوله هذا ؛ لأنه لم يكن غيورا ، فكان ساكنا ، أو لأن الله تعالى سلبه الغيرة ، وكان فيه لطف بيوسف ، حتى كفي ما قد يبادر به وعفا عنها.

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع الآيات بيان محنة يوسف ، وإظهار براءته ، واتهام زوجة العزيز ، وتكون الآيات دالة على ما يأتي :

١ ـ اتهام امرأة العزيز بمراودة يوسف عن نفسه ، وذكر في الآية ثلاثة تصرفات تؤكد تهمتها وهي : المراودة ، وإغلاق الأبواب ، ودعوتها يوسف لنفسها قائلة : (هَيْتَ)(١)(لَكَ) وهي لغة أهل حوران جنوب سوريا ، أي هلمّ أقبل وتعال.

٢ ـ دفاع يوسف عن نفسه ، مستخدما في الجواب ثلاثة أشياء : (مَعاذَ اللهِ ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ، استعاذ بالله واستجار به مما دعته إليه ، وتذكر فضل سيده عليه إذ آواه وأحسن مثواه ومقامه وتعهده بالرعاية والحفظ ، ونظر إلى المستقبل نظرة العاقل المتأمل الذي يصون

__________________

(١) قال النحاس : فيها سبع قراءات : هيت وهيت وهيت (الهاء فيهن مفتوحة) وهيت لك بكسر الهاء وفتح التاء ، وهيت لك بكسر الهاء والياء الساكنة والتاء المضمومة ، وهئت لك ، وهئت لك.

٢٤٧

مستقبله ، وقرر أنه لا يظفر الظالمون الخائنون الذين يقابلون الإحسان بالإساءة.

٣ ـ هناك فرق واضح بين همّها به وهو المعصية من مخالطة وانتقام ، وبين همّه بها وهو الفرار والنجاة منها ؛ لأن الأنبياء معصومون عن المعاصي.

وأدلة عصمة الأنبياء (١) :

الدليل الأول ـ إن الزنى من منكرات الكبائر ، وكذلك الخيانة من منكرات الذنوب ، وأيضا مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموقعة بالفضيحة التامة والعار الشديد من منكرات الذنوب ، ثم إن إقدام الصبي الذي تربى في حجر إنسان على الإساءة إلى المنعم عليه من أقبح المنكرات والأعمال.

الدليل الثاني ـ إن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عن النبي ، لقوله تعالى : (ذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) ثم إن الله تعالى جعل يوسف عليه‌السلام من عباده المخلصين ـ بفتح اللام ـ الذين خلصهم الله من الأسواء ، وبكسر اللام : من الذين أخلصوا دينهم لله تعالى ، ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه‌السلام الذين قال الله فيهم : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) [ص ٣٨ / ٤٦ ـ ٤٧].

الدليل الثالث ـ من المحال أن يصدر عن الأنبياء عليهم‌السلام زلة أو هفوة ثم لا يتبعونها بالتوبة والاستغفار.

الدليل الرابع ـ كل من كان له تعلق بتلك الواقعة ، فقد شهد ببراءة يوسف عليه‌السلام من المعصية.

والذين لهم تعلق بهذه الواقعة : يوسف عليه‌السلام ، وتلك المرأة وزوجها ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٨ / ١١٥ وما بعدها.

٢٤٨

والنسوة ، والشهود ، ورب العالمين ، وإبليس ، الكل شهدوا ببراءة يوسف عن الذنب والمعصية ، كما تقدم سابقا.

٤ ـ قال العلماء : لما برّأت نفسها ؛ ولم تكن صادقة في حبه ـ لأن من شأن المحبّ إيثار المحبوب ـ قال : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه.

٥ ـ الشاهد من أهلها : إما طفل في المهد تكلم ، قال السهيلي : وهو الصحيح ، للحديث المتقدم : «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة» وذكر فيهم شاهد يوسف ، وإما رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره ، وكان من جملة أهل المرأة ، وكان مع زوجها.

٦ ـ في آية قدّ القميص مقبلا ومدبرا دليل على القياس والاعتبار ، والعمل بالعرف والعادة ؛ لأن القميص إذا جبذ من خلف تمزّق من تلك الجهة ، وإذا جبذ من قدّام تمزق من تلك الجهة ، وهذا هو الأغلب.

٧ ـ إذا كان الشاهد على براءة يوسف طفلا صغيرا ، فلا يكون فيه دلالة على العمل بالأمارات ؛ وإذا كان رجلا صحّ الاعتماد على الأمارة ، كالعلامة في اللقطة وغيرها ؛ فقال مالك في اللصوص : إذا وجدت معهم أمتعة ، فجاء قوم فادعوها ، وليست لهم بينة ، فإن السلطان ينظر في ذلك ، فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم. وقال الحنفية وغيرهم : إذا اختلف الرجل والمرأة في متاع البيت : إن ما كان للرجال فهو للرجال ، وما كان للنساء فهو للمرأة ، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومة ؛ وأصل الاعتماد على الأمارات هذه الآية.

٨ ـ الحذر من فتنة النساء ، فإن كيدهن عظيم ؛ لعظم فتنتهن ، واحتيالهن في التخلص من ورطتهن ، ذكر مقاتل عن أبي هريرة قال : قال

٢٤٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان ؛ لأن الله تعالى يقول : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء ٤ / ٧٦] ، وقال : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)».

الفصل الخامس من قصة يوسف

انتشار الخبر بين نسوة المدينة ومؤامرة امرأة العزيز بهن

وتقرير سجن يوسف

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))

٢٥٠

الإعراب :

(حُبًّا) تمييز.

(حاشَ لِلَّهِ) حذف الألف للتخفيف ، ومن قرأ : حاشى لله ، أتى به على الأصل. وحاشى : فعل في رأي الكوفيين ، بدليل تعلق حرف الجر بها في قوله : (حاشَ لِلَّهِ) وحرف الجر إنما يتعلق بالفعل لا بالحرف. وهي حرف في رأي سيبويه وأكثر البصريين ؛ لأن ما بعدها يجيء مجرورا ، يقال : حاش أبي ثوبان ، ولو كان فعلا لما جاز أن يجيء ما بعده مجرورا. وأما تعلق حرف الجر بها في قوله (لِلَّهِ) فإن اللام في قوله : (حاشَ لِلَّهِ) زائدة لا تتعلق بشيء ، مثل لام : (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف ٧ / ١٥٤] وباء (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) [العلق ٩٦ / ١٤] (ثُمَّ بَدا لَهُمْ ..) [يوسف ١٢ / ٣٥] فاعل بدا : مصدر مقدر ، دل عليه. (بَدا) أي ثم بدا لهم بداء ، وهو الراجح ، وقيل : دل عليه (لَيَسْجُنُنَّهُ) وقام مقامه ، وقيل : الفاعل محذوف تقديره : ثم بدا لهم رأي. واللام جواب ليمين مضمر ، وهو فعل مذكر لا فعل مؤنث.

البلاغة :

(سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) استعار المكر للغيبة ؛ لأنها تشبهه في الإخفاء.

(وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) استعار لفظ القطع للجرح أي جرحن أيديهن.

المفردات اللغوية :

(نِسْوَةٌ) اسم لجمع امرأة ، وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي. (فِي الْمَدِينَةِ) مدينة مصر ، وهو ظرف لقال ، أي أشعن الحكاية في مصر ، أو هو صفة نسوة ، وكن خمسا : زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب. (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) فتاها : عبدها ، أي تطلب مواقعة غلامها إياها. والعزيز بلغة العرب : الملك. (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي دخل حبه شغاف قلبها. أي غلافه المحيط به حتى وصل إلى فؤادها. (فِي ضَلالٍ) في خطأ أي انحراف عن طريق الرشد ومقتضى العقل. (مُبِينٍ) أي بيّن واضح ، بحبها إياه.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) باغتيابهن لها ، وإنما سمي مكرا ؛ لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر مكره ، ولأنهن أردن إغضابها لتعرض عليهن يوسف ، فيفزن بمشاهدته. (وَأَعْتَدَتْ) أعدّت وهيأت لهن. (مُتَّكَأً) ما يتكئن عليه من الوسائد في مكان يجلسن فيه متكئين. وقيل : المتكأ : طعام يقطع السكين للاتكاء عنده ، وهو الأترج. (وَآتَتْ) أعطت. (وَقالَتِ) ليوسف ، (أَكْبَرْنَهُ) أعظمنه. (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) جرحن أيديهن بالسكاكين ، ولم يشعرن بالألم لشغل قلبهن بيوسف ، ودهشتهن من جماله الرائع.

٢٥١

(وَقُلْنَ : حاشَ لِلَّهِ) تنزيها لله من صفات العجز ، وتعجبا من قدرته على خلق مثله. (ما هذا بَشَراً) أي ما يوسف من جنس البشر ؛ لأن هذا الجمال غير معهود للبشر. (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) ما هذا إلا ملك ، لما حواه من الحسن الفائق ، جاء في الحديث : «أنه أعطي شطر الحسن» أو لما جمع الله له من الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة التي هي من خواص الملائكة.

(قالَتْ) امرأة العزيز ، لما رأت ما حل بهن : (فَذلِكُنَ) أي فهذا هو. (الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في حبه والافتتان به قبل تصوره حق التصور ، ولو تصورتنه بما عائنتن لعذرتنني ، والمراد بيان عذرها. (فَاسْتَعْصَمَ) امتنع امتناعا شديدا ، مأخوذ من العصمة وهي المنع من الوقوع في المعصية. (ما آمُرُهُ) به. (مِنَ الصَّاغِرِينَ) الذليلين المهانين ، فقلن له : أطع مولاتك. (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أمل إليهن وأوافقهن على أهوائهن. (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) وأصر من المذنبين ، والقصد بذلك الدعاء.

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) دعاءه. (السَّمِيعُ) للقول ودعاء الملتجئ إليه. (الْعَلِيمُ) بالفعل والأحوال وما يصلحهم. (بَدا) ظهر لهم رأي جديد ، وهو أن يسجنوه. الآيات الشواهد الدالة على براءة يوسف. (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي ليدخلنه السجن إلى زمن ، ينقطع فيه كلام الناس ، فسجن سبع سنين أو خمس سنين. والحين : الوقت غير المحدود من الزمن.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى محنة يوسف مع امرأة العزيز ، ونجاته من تلك المحنة وقناعة زوجها ببراءته بناء على شهادة حكم شاهد من أقاربها بما رأى ، أورد تعالى ما تمخضت عنه المحنة والمحاولة من نتائج طبيعية هي انتشار الخبر وشيوعه في مصر ، ومحاولة امرأة العزيز تبرئة ساحتها أمام النساء بمكيدة محكمة وخطة مدروسة ، واعترافها أمامهن بأنها التي راودته عن نفسه ، فامتنع ، وأنها ما تزال مصرة مصممة على ما تريد ، وإلا أودع في قيعان السجون ، وتم اتخاذ القرار بالسجن ، وآثره يوسف ابتغاء مرضاة الله ، بل دعا إليه ربه ، فسجن سبع سنين أو خمس سنين.

٢٥٢

التفسير والبيان :

وقال جماعة من نساء الكبراء والأمراء في مدينة مصر ، منكرات على امرأة العزيز وعائبات عليها ومتعجبات منها : امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ، أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها ، وما تزال محاولاتها مستمرة ، بدلالة فعل (تُراوِدُ) الذي يفيد الاستمرار في الطلب في المستقبل ، وما زال قلبها متعلقا به.

وأكدوا إنكارهم عليها بأمرين ؛ لأن المألوف أن المرأة مطلوبة لا طالبة ، وهي امرأة الوزير الأول ، وتطلب مخالطة عبدها وخادمها :

الأول ـ (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه المحيط به ، ونفذ إلى سويدائه ، فلم تعد تبالي بالعواقب وما يؤول إليه الحال.

والثاني ـ (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنا لنعتقد ونعلم أنها في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه لفي خطأ واضح وبعد عن الصواب وجهل يتنافى مع مكانتها. وأردن من هذا القول المكر والحيلة ، ودفعها إلى دعوتهن والاقتناع بعذرها فيما فعلت. قال محمد بن إسحاق : بل بلغهن حسن يوسف ، فأحببن أن يرينه ، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) أي باغتيابهن ، وسوء مقالتهن ، وكلامهن : امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ، وسمي الاغتياب مكرا ؛ لأنه في خفية وحال غيبة ، كما يخفي الماكر مكره ، فكما أن الغيبة تذكر على سبيل الخفية ، فكذلك المكر.

(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) أي لما بلغها ما تقوله النساء عنها غيابيا ، أرسلت إليهن ، أي دعتهن إلى منزلها للضيافة ، وأعدت لهن ما يتكئن عليه من الكراسي

٢٥٣

والوسائد والطعام الذي يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه ، وأعطت كل واحدة من النساء سكينا لقطع اللحم والفاكهة. ونحوها ، وذلك مكيدة منها ، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته ، فمكرت بهن كما مكرن بها.

(وَقالَتِ : اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) أي وبيناهم في تناول الفاكهة والطعام ، وكلّ تمسك بسكينها ، أمرته بالخروج عليهن ، بعد أن كانت قد خبأته في مكان آخر ، وكانت ذكية ماهرة في اختيار الوقت المناسب وهو أن يفجأهن وقت انشغالهن بما يقطعنه ويأكلنه.

(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ..) أي فلما خرج ورأينه ، أعظمنه ، ودهشن لجماله الفائق وحسنه الكامل ، وجعلن يقطعن أيديهن ، اندهاشا برؤيته ، فجرحن أيديهن ، وهن يظنن أنهن يقطعن ما قدم لهن من طعام ، وهكذا يفعل المدهوش الذي اجتذب نظره حادث مؤثر ، أو منظر غريب ، أو شيء مثير.

(وَقُلْنَ : حاشَ لِلَّهِ) بحذف الألف للتخفيف واتباع المصحف ، وقرأ أبو عمرو : وحاشا لله بإثبات الألف وهو الأصل ، لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد ، وحاشا : كلمة تفيد معنى التنزيه ، أي وقلن لها على الفور تنزيها لله تعالى عن العجز ، وتعجبا حيث قدر على خلق جميل مثله : وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا ؛ لأنهن لم يرين في البشر مثله ، ولا قريبا منه ، فإنه عليه‌السلام قد أعطي شطر الحسن ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بيوسف عليه‌السلام في السماء الثالثة ، فقال : «فإذا هو قد أعطي شطر الحسن».

ما هذا الذي رأيناه من جنس البشر ، وما هو إلا ملك كريم من الملائكة تمثل في صورة بشر ، والمقصود إثبات الحسن العظيم له ؛ لأنه استقر في الطباع أن لا حي أحسن من الملك ، وأن لا حي أقبح من الشيطان. فلما رأت النساء روعة

٢٥٤

جمال يوسف شبهنه بالملك ، ونفين عنه البشرية ، لغرابة جماله وروعة حسنه.

والأقرب عند الرازي : أن النسوة لما رأين عليه هيبة النبوة والرسالة ، وعلامة التطهر والعفة ، نفوا عنه آثار الشهوة البشرية والصفات الإنسانية ، وأثبتوا له طهر الملائكة.

قالت ، وقد نجحت في انبهارهن بجماله الأخاذ : فذلكن هو الذي وجهتن اللوم إلي بسببه ، وعبتنّ علي فعلي. وإنما قالت (فَذلِكُنَ) ولم تقل «فهذا» بالرغم من أنه حاضر أمامهن ، رفعا لمنزلته في الحسن ، وجدارة حبه والافتتان به ، واستبعادا لمحله السامي ، أي فذلك يوسف البعيد السامي في الكمال والجمال ، فأنا معذورة ، فهو حقيق أن يحب لجماله وكماله.

وإذا كان هذا حالكن معه في لحظة ، فما ذا أفعل وهو معي دائما في المنزل ، وإني أعترف وأقر أني والله لقد راودته عن نفسه ، فامتنع بإباء وشمم عما أردته منه ؛ لأنه عفيف طاهر ، ورث العفة عن أسلافه.

قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر ، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن ، وهي العفة مع هذا الجمال.

ثم قالت متوعدة إياه بالعقاب : ولئن لم يفعل ما آمره به في المستقبل القريب ، ليسجنن وليكونن من الذليلين المقهورين ؛ لأن زوجي لا يخالف أمري ورغبتي.

وهذا دليل على أن حبه استولى على مجامع نفسها ، وأن السجن المؤكد الدائم سيكون عقابه ، لا مجرد الحبس المؤقت الذي كانت قد أشارت به على زوجها ، عند اكتشاف أمرها لدى الباب ، وأنها بهذا التهديد واثقة بسطانها على زوجها ، مع علمه بأمرها ، واستنكاره سلوكها ، فقد أصبح عشقها له ، وحبها المتناهي أمرا علنيا لا تواري فيه ، ولا تخشى أحدا من نقدها وتوجيه اللوم لها.

٢٥٥

فعندئذ استعاذ يوسف عليه‌السلام من شرهن وكيدهن. والكيد : الاحتيال والاجتهاد ، وقال : (رَبِّ السِّجْنُ ...) أي يا رب ، أنت ملاذي وملجئي ، إن السجن الذي توعدت به أحب إلي مما يدعونني إليه هؤلاء النسوة من الفاحشة وارتكاب المعصية.

وكنى عن امرأة العزيز في قوله (كَيْدَهُنَ) بخطاب الجمع ، إما لتعظيم شأنها في الخطاب ، وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض. والأولى حمل اللفظ على العموم ، أي كيد النساء ، وليس كيد امرأة العزيز فقط.

وقد أسند الدعوة إلى النساء جميعا ؛ لأنهن زيّن له مطاوعتها ونصحنه بالاستجابة لرغبتها ، وقلن له : إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار.

وهو في دعائه هذا آثر المشقة على اللذة ؛ لأن العذاب المكروه وهو السجن مع البراءة أهون من الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، فإن البريء المسجون يشعر بسعادة عظيمة وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة ، وقد اختار أهون الشرين وأخف الضررين : السجن والزنى ، ففي السجن راحة بال وهدوء نفس وخروج عن بيئة الفساد ، وتخلص من التحكم في أمره.

ثم أكد دعاءه مبينا عجزه وضعفه ، ومفوضا أمره لمن له القدرة والقوة ، فقال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ..) أي وإن لم تبعد عني أثر كيدهن ، أمل إلى موافقتهن على أهوائهن ، وأكن من الجاهلين السفهاء الذين تستهويهم الشهوات ، والذين لا يعملون بما يعلمون ؛ لأن الحكيم لا يفعل القبيح ، ولأن من لا ينتفع بعلمه فهو ومن لا يعلم سواء.

أي إن وكلتني إلى نفسي ، فليس لي منها قدرة ، وإنما أعتصم وألجأ إلى حولك وقوتك ، فأنت المستعان وعليك التكلان ، فلا تكلني إلى نفسي. وهذا

٢٥٦

فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه من الصبر.

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ ..) أي فأجاب ربه دعاءه المفهوم من قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي ..) الذي فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف ، فصرف عنه كيدهن ، وعصمه عصمة عظيمة ، وحماه من التورط في المعصية أو الجهل والسفه باتباع أهوائهن ، إنه تعالى السميع لدعاء الملتجئين إليه ، العليم بصدق إيمانهم وبأحوالهم وما يصلحهم.

وهذا دليل على حراسة ربه له وعنايته به وتربيته تربية مثلي تليق بالأنبياء.

وقد ترفع مع شبابه وجماله وكماله عن مواقعة امرأة عزيز مصر التي كانت أيضا في غاية الجمال والأبهة ، وأختار السجن خوفا من الله ورجاء ثوابه ، ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سبعة يظلهم الله في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلّق بالمساجد ، إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابّا في الله ، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه ، ورجل تصدّق بصدقة ، فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يميه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه».

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ ..) ثم ظهر من المصلحة والرأي للعزيز وامرأته والشاهد الذي شهد عليها من أهلها بعد شيوع الخبر ، وبعد ما عرفوا براءته ، وظهرت الآيات وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته ، ظهر لهم أن يسجنوه لأجل غير معلوم ، إيهاما أنه راودها عن نفسها ، وأنهم سجنوه على ذلك ، وتنفيذا لرغبة زوجة العزيز التي تبين أنها ذات سلطان على زوجها ، وأنه فقد الغيرة عليها ، وآثر رضاها بأى ثمن كان.

٢٥٧

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن خبر السوء سرعان ما يشيع في أنحاء المجتمع ، وأشد ما يكون شيوعا ما يكون النساء وراءه.

٢ ـ كان نقد أكابر النساء في المجتمع المصري لامرأة العزيز لأول وهلة ، وبحكم العادة المألوفة ، حقا وصوابا ، إذ كيف تراود امرأة الوزير الأول عبدا لها وخادما عندها ، وهذا مستعظم عادة ، لترفع السادة وأنفتهن من مخالطة الخدم والأتباع. لذا انتقدوا شدة حبها للغلام ، ووجدوا أنها حائدة عن طريق الصواب.

٣ ـ قابلت امرأة العزيز المكر بمثله ، فدعت نساء المدينة إلى وليمة ، لتوقعهن فيما وقعت فيه ، ولتبدي معذرتها أمامهن ، فانبهرن ودهشن بجمال يوسف لحسن وجهه ورينته وما عليه ، وجرحن أيديهن بالسكاكين التي كانت معهن لقطع ما يحتاج إلى تقطيع من الطعام ، وكن يحسبن أنهن يقطعن الأترجّ (وهو النارانج أو الكبّاد أو الكريفون وهو ثمر أكبر من الليمون الحامض يؤكل بعد إزالة قشرته).

٤ ـ لم يملك النساء أنفسهن عن التعبير بما دهشن به عند رؤية يوسف ، وقالوا : ليس هذا من النوع الإنساني ، وإنما هو من جنس الملائكة ، والمقصود منه إثبات الحسن الفائق والجمال الرائع ، وأنه في التبرئة عن المعاصي كالملائكة ، وقوله : (حاشَ لِلَّهِ) تبرئة ليوسف عما رمته به امرأة العزيز من المراودة ، أي بعد يوسف عن هذا.

٥ ـ لما رأت امرأة العزيز افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي بحبه ، واللوم : الوصف بالقبيح.

٢٥٨

٦ ـ آثر يوسف الصديق دخول السجن ابتغاء مرضاة الله ، وأن السجن أحب أي أسهل عليه وأهون من الوقوع في المعصية ، لا أنّ دخول السجن مما يحبّ حقيقة. حكي أن يوسف عليه‌السلام لما قال : (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) أوحى الله إليه : «يا يوسف! أنت حبست نفسك حيث قلت : السجن أحبّ إلي ، ولو قلت : العافية أحبّ إلي لعوفيت».

٧ ـ جمع يوسف عليه‌السلام في دعائه ليكون قدوة للبشر بين التأثر بالنوازع البشرية والميل الإنساني إلى النساء وبين جهاد النفس الذي استعان بالله عليه ، وأوضح أن الوقوع في أهواء النساء جهل ، وكون المنزلق من زمرة الجاهلين ، أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم ، أو ممن يعمل عمل الجهال الذين يعملون بنقض ما يعلمون. ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله ؛ ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه.

٨ ـ استجاب الله تعالى دعاء يوسف ، ولطف به ، وعصمه عن الوقوع في الزنى لصبره والاستعاذة بالله من الكيد. وهو شأنه تعالى يستجيب دعاء كل ملهوف ، مستعصم به ، ممتنع عن المعاصي ابتغاء رضوان الله تعالى.

٩ ـ اتخذ العزيز وأهل مشورته قرارا بسجن يوسف إلى مدة غير معلومة ، كتمانا للقصة ألا تشيع بين الناس ، بالرغم مما ثبت لهم من عفته ونزاهته ، ورأوا الآيات ، أي العلامات على براءته من قدّ القميص من دبر ، وشهادة الشاهد ، وحزّ الأيدي بالسكاكين ، وقلة صبر النساء عن لقاء يوسف.

١٠ ـ لم يرض يوسف عليه‌السلام بارتكاب الفاحشة لعظم منزلته وشريف قدره ، بالرغم من إكراهه على ذلك بالسجن ، وأقام خمسة أعوام. وبناء عليه قال العلماء : لو أكره رجل بالسجن على الزنى ما جاز له إجماعا.

فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء ، والصحيح أنه إذا كان فادحا ،

٢٥٩

فإنه يسقط عنه إثم الزنى وحدّه ، فإن الله تعالى لا يجمع على عبده العذابين ، ولا يجعله بين بلاءين ، فإنه من أعظم الحرج في الدين : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج ٢٢ / ٧٨].

الفصل السادس من قصة يوسف

يوسف في السجن ودعوته إلى الدين الحق

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠))

٢٦٠