التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

وقدّروا أني نبي على الحقيقة ، وكان على يقين أنه على بيّنة ؛ لأن خطابه للجاحدين ، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره ، فمن يمنعني من عذاب الله؟! وإذا تابعتكم وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده ، لما نفعتموني ، ولما رددتموني حينئذ غير خسارة وضلال ، باستبدال بما عند الله ما عندكم.

ولما كانت عادة الأنبياء ابتداء الدعوة إلى عبادة الله ، ثم اتباعها بدعوى النبوة ، فإن صالحا عليه‌السلام الذي طلبوا منه المعجزة على صحة قوله ، أتاهم بمعجزة الناقة. روي أن قومه خرجوا في عيد لهم ، فسألوه أن يأتيهم بآية ، وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة ، فدعا صالح ربه ، فخرجت الناقة كما سألوا.

وقال لهم : هذه آية على صدقي : ناقة الله ، التي تتميز عن سائر الإبل بأكلها وشربها وغزارة لبنها ، كما قال تعالى : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) [القمر ٥٤ / ٢٧ ـ ٢٨].

فاتركوها تأكل ما شاءت في أرض الله من المراعي ، دون أن تتحملوا عبء مؤنتها ، ولا تمسوها بسوء أيا كان نوعه ، فيأخذكم عذاب عاجل لا يتأخر عن إصابتكم إلا يسيرا وذلك ثلاثة أيام ، ثم يقع عليكم.

فلم يسمعوا نصحه ، وكذبوه وعقروها ، عقرها بأمرهم قدار بن سالف ، كما قال تعالى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) [القمر ٥٤ / ٢٩] فقال لهم : استمتعوا بالعيش في داركم ، أي بلدكم ، وتسمى البلاد الديار ، مدة ثلاثة أيام ، ذلك وعد مؤكد غير مكذوب فيه.

ثم وقع ما أوعدهم به : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا ..) أي فلما حان وقت أمرنا بالعذاب والإهلاك ، وحل العقاب ووقعت الواقعة ، ونزلت الصاعقة ، نجينا صالحا والمؤمنين معه ، برحمة منا ، ونجيناهم من عذاب شديد ، ومن ذل ومهانة

١٠١

حدثت يومئذ أي يوم وقوع الهلاك أو يوم القيامة ، والخزي : الذل العظيم البالغ حد الفضيحة ، إن ربك هو القوي القادر الغالب على كل شيء ، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وكلمة (يَوْمِئِذٍ) إما بفتح الميم فهو معرب ، أو بكسرها فهو مبني مضاف لغير متمكن.

وأصبح أمرهم أنه أخذتهم صيحة العذاب وهي الصاعقة ذات الصوت الشديد المهلك ، التي تزلزل القلوب ، وتصعق عند سماعها النفوس ، فصعقوا بها جميعا ، وأصبحوا جثثا هامدة ملقاة على الأرض.

وكأنهم لسرعة هلاكهم لم يوجدوا في الدنيا ، ولم يقيموا في ديارهم ، بسبب كفرهم وجحودهم بآيات ربهم ، ألا إنهم كفروا بربهم ، فاستحقوا عقابه الشديد ، ألا بعدا لهم عن رحمة الله ، وسحقا لثمود ، وهلاكا لهم ولأمثالهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت قصة صالح مع قومه ثمود على العبر والعظات التالية :

١ ـ إن جحود ثمود وكفرهم بآيات الله وعدم إطاعتهم أوامر رسولهم كان هو شأن هؤلاء القوم إيثارا لتقليد الآباء والأسلاف ، بالرغم من أن صالحا عليه‌السلام منهم نسبا وقبيلة ، وأقام لهم الأدلة الكافية الشافية على وجوب عبادة الله وتوحيده ، من الخلق والإيجاد في الأرض ، وجعلهم عمارا لها.

٢ ـ إن الاستغفار من الذنوب والتوبة من المعاصي سبب سريع لإجابة الدعاء ؛ لأن الله قريب من عباده ، رحيم بهم ، مجيب دعوة المحتاجين والمضطرين ، قريب الإجابة لمن دعاه.

٣ ـ لا تلاقي بين جحود الجاحدين من ثمود وأمثالهم وبين النبي صالح وأمثاله من الأنبياء ؛ لأن الجاحدين متمسكون بتقليد الآباء والأسلاف ، والنبي ثابت على مبدئه ثبوت الجبال الراسيات ، لأنه على يقين من صحة دعوته ، وبصيرة من

١٠٢

صدق ما أوحى الله به إليه ، ولأنه أشد الناس خوفا من عذاب الله إن عصاه وخالف أمره.

٤ ـ كانت الناقة معجزة عجيبة مدهشة ؛ لخلقها من الصخرة وخلقها في جوف الجبل ، وخلقها حاملا من غير ذكر ، وخلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة ، ولما كان لها من شرب يوم ، ولكل القوم شرب يوم آخر ، ولإدرارها بلبن كثير يكفي الخلق العظيم ، فهذه ستة وجوه ، كل وجه منه معجز ، مما جعل تلك الناقة آية ومعجزة.

٥ ـ اقتضى العدل الإلهي ورحمة الله إنجاء صالح عليه‌السلام ومن آمن معه ، وكانوا أربعة آلاف ، وإهلاك قبيلة ثمود بسبب الجحود برسالة نبيهم ، وكفرهم بربهم ، وإنكارهم وجوده.

٦ ـ لا شك بأن وعد الأنبياء صادق صحيح ، ووعيدهم مؤكد الحصول ، وقد أوعد صالح قومه بالعذاب بعد ثلاثة أيام ، وتحقق ذلك في اليوم الرابع.

٧ ـ كان عذابهم بالصيحة أو بالصاعقة أو بالرجفة ، صيح بهم فماتوا ، وأصبحوا جثثا ملقاة هنا وهناك في أنحاء ديارهم. والصيحة : إما صيحة جبريل ، أو صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة ، وصوت كل شيء في الأرض ، فتقطعت قلوبهم وماتوا ، لما أحدثته من رهبة وهيبة عظيمة.

٨ ـ سحقا وهلاكا لثمود الذين كفروا ربهم ، وبعدا وطردا لهم عن رحمة الله بسبب جحودهم وكفرهم.

١٠٣

قصة إبراهيم عليه‌السلام

ـ بشارته بإسحاق ويعقوب ـ

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦))

الإعراب :

(وَلَقَدْ) اللام لتأكيد الخبر ، ودخلت (لَقَدْ) هاهنا ؛ لأن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة ، وقد للتوقع.

(قالُوا : سَلاماً ، قالَ : سَلامٌ) الأول منصوب بقالوا أو على المصدر ، والثاني مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سلام ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي وعليكم سلام ، أو مرفوع على الحكاية.

(أَنْ جاءَ) إما في محل نصب على تقدير حذف حرف الجرّ ، أي عن جاء ، وإما في محل

١٠٤

رفع على أنه فاعل (لَبِثَ) أي فما لبث مجيئه ، أي ما أبطأ مجيئه بعجل حنيذ ، أي مشوي.

(وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) منصوب بتقدير فعل دل عليه (فَبَشَّرْناها) أي بشرناها بإسحاق ، ووهبنا له يعقوب ، أو معطوف على موضع قوله : (بِإِسْحاقَ). ويقرأ بالضم مبتدأ ، أو مرفوعا بالجار والمجرور ، ويقرأ بالجر معطوفا على (بِإِسْحاقَ).

(شَيْخاً) حال من معنى اسم الإشارة أو التنبيه ، ويقرأ بالرفع إما خبرا بعد خبر أو بدلا من (بَعْلِي) أو يكون (بَعْلِي) بدلا من هذا ، وشيخ خبر عن هذا ، أو شيخ خبر مبتدأ آخر ، أي هذا شيخ ، ونظيره في هذه الأوجه الأربعة قوله تعالى : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا) [الكهف ١٨ / ١٠٦].

(أَهْلَ الْبَيْتِ) منصوب على المدح أو النداء بقصد التخصيص ، والأصح أنه منصوب على الاختصاص.

(فَلَمَّا ذَهَبَ ..) لما ظرف زمان ، جوابه محذوف ، أي أقبل يجادلنا. وجملة (يُجادِلُنا) حال من ضمير أقبل وهو ضمير إبراهيم.

(آتِيهِمْ عَذابٌ) مرفوع باسم الفاعل الذي جرى خبرا ، فجرى مجرى الفعل ، أي فإنه يأتيهم.

البلاغة :

(أَأَلِدُ؟) استفهام معناه التعجب.

(ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ .. وَجاءَتْهُ) بينهما طباق.

(جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) كناية عن العذاب الذي حكم به الله عليهم.

المفردات اللغوية :

(رُسُلُنا) الملائكة ، قيل : كانوا تسعة ، وقيل : ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل (بِالْبُشْرى) ببشارة الولد ، وقيل : بهلاك قوم لوط (قالُوا : سَلاماً) سلمنا عليك سلاما ، أو منصوب بقالوا أي ذكروا سلاما (قالَ : سَلامٌ) أمركم سلام أو جوابي سلام أو وعليكم سلام ، وقد أجابهم بالرفع بأحسن من تحيتهم (فَما لَبِثَ) أبطأ (حَنِيذٍ) مشوي بالرّضف أي بالحجارة المحماة (لا تَصِلُ إِلَيْهِ) أي لا تمتد للتناول (نَكِرَهُمْ) أنكر ذلك منهم ، ضد عرفه (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أحسّ منهم خوفا في نفسه (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) إنا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب ،

١٠٥

وإنما نمدّ إليه أيدينا ؛ لأنا لا نأكل. ولوط : النبي الكريم ابن أخي إبراهيم وأول من آمن به.

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) وراء الستر ، تسمع محاورتهم ، أو تقوم بالخدمة. (فَضَحِكَتْ) سرورا بزوال الخوف ، أو بهلاك أهل الفساد (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي وهبناها من بعد إسحاق يعقوب (يا وَيْلَتى) أصله يا ويلي وهلاكي أي يا عجبا ، وهي كلمة تقال عند التعجب من بلية أو فجيعة أو فضيحة. (بَعْلِي) زوجي ، وأصله القائم بالأمر ، ويجمع على بعولة (شَيْخاً) ابن مائة أو مائة وعشرين (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) ابنة تسعين أو تسع وتسعين ، فهي عقيم (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) يعني الولد من هرمين ، وهو تعجب من حيث العادة لا القدرة الإلهية (مِنْ أَمْرِ اللهِ) قدرته وحكمته ، فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ومهبط المعجزات ، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ، ليس ببدع ولا حقيق بأن يستغربه عاقل ، فضلا عمن نشأت وشبت في ملاحظة الآيات. (إِنَّهُ حَمِيدٌ) تحمد أفعاله (مَجِيدٌ) كثير الخير والإحسان (الرَّوْعُ) الخوف والرعب (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) بدل الروع.

(يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) يجادل رسلنا في شأنهم قائلا : إن فيها لوطا. (لَحَلِيمٌ) غير عجول على الانتقام من المسيء إليه (أَوَّاهٌ) كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس (مُنِيبٌ) راجع إلى الله ، والمقصود من ذلك بيان الحامل له على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط رحمته.

(يا إِبْراهِيمُ) على إرادة القول ، أي قالت الملائكة : يا إبراهيم (أَعْرِضْ) عن هذا الجدال (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم (غَيْرُ مَرْدُودٍ) غير مصروف بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك.

المناسبة :

هذه هي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة ، وقد ذكرت قصة إبراهيم في سورة البقرة ، وذكر إبراهيم في القرآن كثيرا ، ذكر مع أبيه وقومه ، وذكر هنا مع الملائكة مبشرين له بإسحاق ويعقوب ، مخبرين له بهلاك قوم لوط ، وذكر مع إسماعيل خاصة في موضع آخر ، وكانت قرى لوط بنواحي الشام ، وإبراهيم ببلاد فلسطين ، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط ، مروا بإبراهيم ونزلوا عنده ، وكان كل من نزل عنده يحسن ضيافته.

التفسير والبيان :

والله لقد جاءت رسلنا الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وقيل مع

١٠٦

جبريل سبعة ملائكة آخرون ، وذلك مروي عن عطاء وغيره من التابعين ، جاءت الرسل إبراهيم بالبشرى تبشره بالولد إسحاق لقوله تعالى هنا : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) وقوله : (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الذاريات ٥١ / ٢٨]. وقيل : البشرى بهلاك قوم لوط وسلامة لوط. قالوا : سلاما عليك ، قال : سلام عليكم ، وهذا أحسن مما حيوه لأن الرفع بقوله (سَلامٌ) يدل على الثبوت والدوام ، كما ذكر علماء البيان.

فما لبث أي فما أبطأ وذهب سريعا ، فأتاهم بالضيافة بعجل (وهو فتى البقر) مشوي على الرّضف (جمع رضفة) وهي الحجارة المحماة بالنار أو بالشمس ، كما قال تعالى : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ ، فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ، قالَ : أَلا تَأْكُلُونَ) [الذاريات ٥١ / ٢٦].

فلما رأى إبراهيم أيديهم لا تمتد إلى الطعام ، أنكر ذلك منهم ، ووجد في نفسه خوفا وفزعا منهم ، إذ أدرك أنهم ليسوا بشرا ، وربما كانوا ملائكة عذاب.

قالوا له : لا تخف ، فنحن لا نريد سوءا بك ، وإنما أرسلنا لا هلاك قوم لوط ، وكانت ديارهم قريبة من دياره.

ونحن نبشرك بغلام عليم ، يحفظ نسلك ، ويبقي ذكرك ، وهو إسحاق ، ثم يعقوب من بعده وهو الذي من ذريته أنبياء بني إسرائيل.

وكانت امرأة إبراهيم قائمة وراء ستار بحيث ترى الملائكة ، أو كانت واقفة تخدم الملائكة ، فضحكت سرورا بزوال الخوف وتحقيق الأمن ، أو استبشارا بهلاك قوم لوط لكراهتها لأفعالهم المنكرة ، وغلظ كفرهم وعنادهم ، فجوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) أي فبشرناها بولد هو إسحاق ، وسيلد لإسحاق ولد هو يعقوب كما في قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) [الأنعام ٦ / ٨٤]. وفسر مجاهد وعكرمة : (فَضَحِكَتْ) أي حاضت ، وكانت آيسة ، تحقيقا للبشارة.

١٠٧

وهو تفسير غريب مخالف لرأي الجماهير.

وذلك لأنه لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر ، تمنّت سارّة أن يكون لها ابن ، وأيست لكبر سنّها ، فبشرت بولد يكون نبيا ، ويلد نبيا ، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها.

قالت سارّة لما بشرت بالولد : عجبا كيف ألد وأنا عجوز كبيرة شيخة عقيم ، وزوجي في سن الشيخوخة لا يولد لمثله ، إن هذا الخبر لشيء عجيب غريب عادة.

فأجابتها الملائكة : كيف تعجبين من قضاء الله وقدره ، أي لا عجب من ان يرزقكما الله الولد ، وهو إسحاق ، فإن الله لا يعجزه شيء في الكون وهو على كل شيء قدير : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢].

فإن رحمة الله الواسعة وبركاته الكثيرة عليكم يا أهل بيت النبوة ، وقد توورثت النبوة في نسل إبراهيم إلى يوم القيامة ، إنه تعالى المحمود في جميع أفعاله وأقواله ، المستحق لجميع المحامد ، الممجد في صفاته وذاته ، الكثير الخير والإحسان ، فهو محمود ماجد.

ثم أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام أنه لما ذهب عنه الخوف من الملائكة حين لم يأكلوا ، وبشروه بعد ذلك بالولد ، وأخبروه بهلاك قوم لوط ، وعلم أنهم ملائكة العذاب لقوم لوط ، أخذ يجادل الملائكة وهم رسل الله في قوم لوط ، وجعلت مجادلتهم مجادلة لله ؛ لأنهم جاؤوا بأمره.

لأن إبراهيم حليم غير متعجل بالانتقام من المسيء إليه ، كثير التأوه مما يسوء الناس ويؤلمهم ، ويرجع إلى الله في كل أموره ، أي أن رقة قلبه وفرط رحمته حملته على المجادلة.

١٠٨

فأجابته الملائكة : يا إبراهيم أعرض عن الجدال في أمر قوم لوط ، إنه قد جاء أمر ربك بتنفيذ القضاء والعذاب فيهم ، وإنهم آتيهم عذاب غير مصروف ولا مدفوع عنهم أبدا ، لا بجدال ولا بدعاء ولا بشفاعة ونحوها.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت القصة إلى ما يلي :

١ ـ تبادل السلام بين الملائكة وبين الأنبياء ، فقد سلم الملائكة على إبراهيم عليه‌السلام بقولهم : سلاما ، كما تقول : قالوا خيرا ، فرد عليهم بتحية أحسن ، فقال : سلام عليكم.

٢ ـ دلت الآية أن من أدب الضيف أن يعجّل قراه ، فيقدم الموجود الميسر في الحال ، ثم يتبعه بغيره إن كان لديه شيء وسعة ، ولا يتكلف المفقود غير المستطاع الذي يتضايق به.

والضيافة من مكارم الأخلاق ، ومن آداب الإسلام ، ومن خلق النبيين والصالحين. وهي سنة وليست بواجبة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري عن أبي شريح ، وأحمد وأبو داود عن أبي هريرة : «الضيافة ثلاثة أيام ، وجائزته يوم وليلة ، فما كان وراء ذلك ، فهو صدقة». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي شريح وأبي هريرة : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».

والمخاطب بالضيافة أهل المدن أو الحضر والبادية في رأي الشافعي ، وقال مالك : ليس على أهل الحضر ضيافة ، لحديث القضاعي عن ابن عمر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الضيافة على أهل الوبر ، وليست على أهل المدر» لكنه حديث لا يصح ، كما قال القرطبي.

١٠٩

والسنة إذا قدّم للضيف الطعام أن يبادر المقدّم إليه بالأكل ؛ فإن تكريم الضيف من مضيفه تعجيل التقديم ، وتكريم صاحب المنزل من ضيفه المبادرة بالقبول. فلما قبض الملائكة أيديهم ، تخوف إبراهيم ، أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه.

ومن أدب الطعام : أن ينظر المضيف في ضيفه ، هل يأكل أولا؟ وذلك بلمح نظر سريع ، لا بتأكيد النظر. روي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبد الملك ، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة ، فقال له : أزل الشعرة عن لقمتك ؛ فقال له : أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي؟! والله لا أكلت معك.

٣ ـ مشاركة الزوجة لعواطف زوجها أمر مستحسن ، فإن سارّة ضحكت استبشارا بتعذيب قوم لوط ، لكراهتها خبائثهم ، قال الجمهور : هو الضحك المعروف. وأنكر بعض اللغويين أن يكون في لغة العرب : ضحكت بمعنى حاضت.

٤ ـ من السنة قيام المرأة بخدمة الرجال الضيوف بنفسها ، وترجم البخاري لحديث في ذلك : «باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس» قال القرطبي : ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب.

٥ ـ امتنع الملائكة من الطعام ؛ لأنهم ملائكة ، والملائكة لا يأكلون ولا يشربون ، وإنما أتوا إبراهيم في صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها ، وهو كان مشغوفا بالضيافة.

٦ ـ ذكر الطبري أن إبراهيم عليه‌السلام لما قدّم العجل قالوا : لا نأكل طعاما إلا بثمن ؛ فقال لهم : «ثمنه أن تذكروا الله في أوله ، وتحمدوه في آخره» فقال جبريل لأصحابه : بحق اتخذ الله هذا خليلا.

ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام ، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا.

١١٠

٧ ـ إن رحمة الله متكاثرة ، وبركاته على أهل بيت النبوة متعاقبة ، فكان التبشير بولادة ولد لزوجين عجوزين معجزة خارقة للعادة ، وتخصيصا لبيت النبوة بكرامة عالية رفيعة ، والله تعالى قادر على كل شيء ، وإنه حميد مجيد ، فلا عجب بعدئذ.

٨ ـ إن جدل إبراهيم في شأن إهلاك قوم لوط ليس من الذنوب ، بدليل إيراد المدح العظيم عقبه بقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) أي إن رقة قلبه وفرط رحمته وسعة حلمه حملته على المجادلة ، التي كان المراد منها سعي إبراهيم في تأخير العذاب عن قوم لوط ، رجاء إقدامهم على الإيمان والتوبة من المعاصي.

٩ ـ دلت آية (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) على أن زوجة الرجل من أهل البيت ، وأن أزواج الأنبياء من أهل البيت ، فعائشة رضي‌الله‌عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وممن قال الله فيهم : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٣٣].

قصة لوط عليه‌السلام مع قومه

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا

١١١

إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

الإعراب :

(يُهْرَعُونَ) في موضع الحال.

(هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ هؤُلاءِ) مبتدأ ، و (بَناتِي) عطف بيان ، و (هُنَ) ضمير فصل ، و (أَطْهَرُ) خبر المبتدأ.

(فِي ضَيْفِي) وحّد الضيف وإن كان جمعا في المعنى ؛ لأن ضيفا في الأصل مصدر يصلح للواحد والاثنين والجماعة.

(لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً .. لَوْ) حرف امتناع لامتناع ، وجوابه محذوف تقديره : لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد ، والحذف هاهنا أبلغ ؛ لأنه يوهم تعظيم الجزاء. و (آوِي) منصوب بأن ، ليكون الفعل معها بتأويل المصدر معطوفا على (قُوَّةً) وتقديره : لو أن لي بكم قوة أو اويا. مثل قول ميسون بنت الحارث أم يزيد بن معاوية :

ولبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إلى من لبس الشفوف

أي : وأن تقرّ عيني.

(إِلَّا امْرَأَتَكَ) مستثنى منصوب من قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ) ويرفع على البدل من (أَحَدٌ). والمراد بالنهي (وَلا يَلْتَفِتْ) في رأي المبرد المخاطب ، ولفظه لغيره ، كما تقول لغلامك : لا يخرج فلان ، أي لا تدعه يخرج.

البلاغة :

(أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) استفهام معناه التعجب والتوبيخ.

١١٢

(أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) استعارة ، والمراد بها قومه وعشيرته ؛ لأن الإنسان يلجأ إليهم ويستند كالاستناد إلى ركن.

(عالِيَها سافِلَها) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(سِيءَ بِهِمْ) ساءه مجيئهم وحزن بسببهم ؛ لأنهم جاؤوا في صورة غلمان ، فظن أنهم أناس ، فخاف أن يقصدهم قومه ، فيعجز عن مدافعتهم. (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه ، وهو كناية عن شدة الانقباض ، للعجز عن مدافعة المكروه ، يقال : ما لي به ذرع أي مالي به طاقة (عَصِيبٌ) شديد الأذى. (يُهْرَعُونَ) يسرعون ، يقال: هرع وأهرع : إذا حمل على الإسراع (وَمِنْ قَبْلُ) قبل مجيئهم (كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الفواحش وهي إتيان الرجال في الأدبار. (هؤُلاءِ بَناتِي) فتزوجوهن (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) أنظف فعلا أو أقل فحشا ، وقال أبو حيان : الأحسن أن تكون الإضافة مجازية أي بنات قومي ، أي البنات أطهر لكم ؛ إذ النبي يتنزل منزلة الأب لقومه. وفي قراءة ابن مسعود : «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ، وهو أب لهم» ويدل عليه : أنه فيما قيل: لم يكن له إلا بنتان ، وهذا بلفظ الجمع ، وأيضا فلا يمكن أن يزوج ابنتيه من جميع قومه. وقيل : أشار إلى بنات نفسه ، وندبهم إلى النكاح ؛ إذ كان من سنتهم تزويج المؤمنة بالكافر. وقيل : (أحل وأطهر) ليس أفعل التفضيل ؛ إذ لا طهارة في إتيان الذكور. (وَلا تُخْزُونِ) تفضحوني ، من الخزي ، أو لا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء (فِي ضَيْفِي) أضيافي ، يطلق الضيف على الواحد والجمع (رَشِيدٌ) ذو رشد وعقل يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح (مِنْ حَقٍ) من حاجة (لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) من إتيان الرجال.

(لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) طاقة ، أي لو قويت بنفسي على دفعكم (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) قوي أمتنع به عنكم ، أو عشيرة تنصرني ، لبطشت بكم (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بسوء (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ) طائفة أو بقية من الليل ، والسّرى : السير ليلا (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) ولا يتخلف أو ولا ينظر إلى ورائه ، والنهي في اللفظ لأحد ، وفي المعنى للوط ، وسبب النهي ألا يرى عظيم ما ينزل بهم (إِلَّا امْرَأَتَكَ) فلا تسر بها (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) تعليل بطريقة الاستئناف ، قيل : إنه لم يخرج بها ، وقيل : خرجت والتفتت فقالت : وا قوماه ، فجاءها حجر فقتلها. (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) كأنه علة الأمر بالإسراء ، أو قد سألهم عن وقت هلاكهم ، فأخبروه بذلك.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) عذابنا أو أمرنا به (جَعَلْنا عالِيَها) أي قراهم (سافِلَها) بأن رفعها جبريل إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض (مِنْ سِجِّيلٍ) طين طبخ بالنار ، بدليل آية أخرى (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) [الذاريات ٥١ / ٣٣] أي طين متحجر.

١١٣

(مَنْضُودٍ) متتابع منظم ومعدّ لعذابهم (مُسَوَّمَةً) معلمة للعذاب ، أي لها علامة خاصة عند ربك أي في خزائنه (وَما هِيَ) الحجارة أو بلادهم (مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي أهل مكة وأمثالهم ، وهذا وعيد لكل ظالم ، روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سأل جبريل عليه‌السلام ، فقال : يعني ظالمي أمتك ، ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة.

المناسبة :

هذه هي القصّة الخامسة من القصص المذكورة في هذه السّورة ، وهي قصة لوط عليه‌السلام ، وقوم لوط : أهل سدوم في الأردن. قال ابن عباس : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط (ابن أخي إبراهيم) وبين القريتين أربع فراسخ ، ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم ، وكانوا في غاية الحسن ، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله.

التفسير والبيان :

ولما جاءت رسلنا من الملائكة لوطا ، بعد ما أعلموا إبراهيم بهلاكهم هذه الليلة ، وكانوا في أجمل صورة بهيئة شباب حسان الوجوه ، ابتلاء من الله ، فساءه شأنهم ومجيئهم ، وضاقت نفسه بسببهم ؛ لأنه ظنّ أنهم من الإنس ، فخاف عليهم خبث قومه ، وأن يعجزوا عن مقاومتهم ، وقال : هذا يوم عصيب أي شديد البلاء.

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ ..) وجاء لوطا قومه عند ما سمعوا بالضّيوف وقدومهم ، بإخبار امرأته قومها ، يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك ، لإتيان الفاحشة ، وليس ذلك غريبا ، فإنهم كانوا قبل مجيئهم يعملون السّيئات ويرتكبون الفواحش ، فلم يزل هذا من سجيّتهم ، حتى أخذوا وهم على تلك الحال ، كما حكى الله عنهم : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت ٢٩ / ٢٩] أي ظلوا يقترفون الفاحشة إلى وقت الهلاك.

١١٤

(قالَ : يا قَوْمِ ، هؤُلاءِ ..) قال لوط : يا قوم ، هؤلاء البنات فتزوّجوهنّ ، والمراد بنات القوم ونساؤهم ؛ فإن النّبي للأمّة بمنزلة الوالد ، كما قال ابن عباس ، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدّنيا والآخرة ، كما قال لهم في الآية الأخرى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) [الشّعراء ٢٦ / ١٦٥ ـ ١٦٦] ، قال مجاهد وقتادة وغير واحد : لم يكنّ بناته ، ولكن كنّ من أمته ، وكلّ نبي أبو أمته. وقال ابن جريج : أمرهم أن يتزوّجوا النّساء ، لم يعرض عليهم سفاحا. وقال سعيد بن جبير : يعني نساءهم هنّ بناته ، وهو أب لهم.

(فَاتَّقُوا اللهَ ..) أي فاخشوا الله ، وأقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم ، ولا تفضحوني أو لا تخجلوني في ضيوفي ، فإن إهانتهم إهانة لي.

أليس منكم رجل فيه رشد وحكمة وعقل وخير يقبل ما آمر به ويترك ما أنهى عنه ، ويهديكم إلى الطريق الأقوم.

قالوا : لقد علمت سابقا ألا حاجة لنا في النّساء ولا نشتهيهنّ ، فلا فائدة فيما تقول ، وليس لنا غرض إلا في الذّكور ، وأنت تعلم ذلك منا ، فأي فائدة في تكرار القول علينا في ذلك؟ والمراد أنهم صمموا على ما يريدون.

قال لوط لقومه متوعّدا : لو كان لدي قوة تقاتل معي ، أو عشيرة تؤازرني وتنصرني عليكم ، وتدفع الشّرّ عني ، لكنت قاتلتكم وحلت بينكم وبين ما تريدون.

وبعد هذه المخاوف من الفضيحة التي أقلقت لوطا على ضيفانه ، بشرته الملائكة بنجاته منهم وهلاكهم بالعذاب : (قالُوا : يا لُوطُ ، إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ ..) أي قالت الملائكة للوط : إنا رسل ربّك أرسلنا لنجاتك من شرّهم ، وإهلاكهم ، لن يصلوا بسوء إليك ولا إلى ضيوفك ، وحينئذ طمس الله أعينهم ، فلم يعودوا

١١٥

يبصروا لوطا ومن معه ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ ، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) [القمر ٥٤ / ٣٧].

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ..) أي فاخرج من هذه القرية في جزء من الليل يكفي لتجاوز حدودها ، كما قال تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذّاريات ٥١ / ٣٥ ـ ٣٦].

(وَلا يَلْتَفِتْ ..) أي ولا ينظر أحد منكم إلى ما وراءه أبدا ، حتى لا يصيبه شيء من العذاب ، أو يتعاطف معهم ، وامضوا حيث تؤمرون.

(إِلَّا امْرَأَتَكَ ..). أي امض بأهلك إلا امرأتك فلا تأخذها معك ، إنه مصيبها ما أصابهم من العذاب ؛ لأنها كانت كافرة خائنة.

ثم ذكر علّة الإسراء ليلا ، فقال : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ..) أي إن موعد عذابهم وبدءه هو الصّبح من طلوع الفجر إلى شروق الشّمس ، كما قال تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) [الحجر ١٥ / ٧٣].

أليس موعد الصّبح بموعد قريب ، وسبب اختيار هذا الوقت كونهم متجمعين في مساكنهم. روي أنهم لما قالوا للوط عليه‌السلام : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) قال : أريد أعجل من ذلك ، بل الساعة ، فقالوا : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) قال المفسّرون : إن لوطا عليه‌السلام لما سمع هذا الكلام ، خرج بأهله في الليل.

فلما جاء أمرنا بالعذاب ، وكان ذلك عند طلوع الشّمس ، ونفذ قضاؤنا ، جعلنا عاليها وهي سدوم سافلها ، وخسفنا بهم الأرض ، وأمطرنا عليهم حجارة من طين متحجّر ، منضّد بعضها فوق بعض وتتابع في النّزول عليهم ، مسوّمة أي معلّمة للعذاب ، عليها علامة خاصة عند ربّك أي في خزائنه ، كقوله تعالى :

١١٦

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى. فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النّجم ٥٣ / ٥٣ ـ ٥٤]. فمن لم يمت حتى سقط للأرض ، أمطر الله عليه ، وهو تحت الأرض الحجارة ، حجارة من سجيل ، أي طين متحجّر قوي شديد.

وفي التّفسير : أمطرنا في العذاب ، ومطرنا في الرّحمة.

ثم ذكر الله تعالى العبرة من القصة متوعّدا بها كلّ ظالم فقال : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي وما هذه النّقمة أو تلك القرى التي وقعت فيها ممن تشبه بهم في ظلمهم كأهل مكة ببعيد عنه ، والمقصود أنه تعالى يرميهم بها. قال أنس : سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عن هذا ، فقال : يعني عن ظالمي أمتك ، ما من ظالم منهم ، إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. وفي هذا عبرة للظالمين في كلّ زمان ومكان. وجاء (بِبَعِيدٍ) مذكّرا على معنى بمكان بعيد.

ونظير الآية : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٣٧ ـ ١٣٨] ، أي وإنكم لتمرّون على ديارهم في أسفاركم نهارا أو ليلا ، أفلا تعقلون وتتدبّرون بما نزل بهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت قصة لوط عليه‌السلام مع قومه على ما يأتي :

١ ـ إنّ المؤمن يغار على حرمات الله ، ويستبق وقوع الحوادث استعدادا للبلاء قبل نزوله ، لذا استاء لوط عليه‌السلام من مجيء وقد الملائكة (ملائكة العذاب الذين بشّروا إبراهيم بالولد) وضاق صدره بمجيئهم وكرهه ، وقال : هذا يوم شديد في الشّر.

لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم ، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ ، بصرت بنتا لوط ـ وهما تستقيان ـ بالملائكة ، ورأتا هيئة حسنة ؛

١١٧

فقالتا : ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا : من موضع كذا نريد هذه القرية ، قالتا : فإن أهلها أصحاب الفواحش ؛ فقالوا : أبها من يضيفنا؟ قالتا : نعم! هذا الشيخ ، وأشارتا إلى لوط ؛ فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه عليهم.

٢ ـ كان مجيء القوم مسرعين بقصد ارتكاب الفاحشة دليلا ماديا محسوسا للملائكة وغيرهم على استحقاقهم العذاب الأليم والعقاب السريع. وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة ، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم ، خرجت حتى أتت مجالس قومها ، فقالت لهم : إنّ لوطا قد أضاف الليلة فتية ، ما رئي مثلهم جمالا ؛ وكذا وكذا ، فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه.

ويذكر أن الرّسل لما وصلوا إلى بلد لوط ، وجدوا لوطا في حرث (بستان) له. وقيل : وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم .. إلخ ما ذكر سابقا.

٣ ـ كان قوم لوط يعملون السّيئات ، أي كانت عادتهم إتيان الرّجال ، فلما جاؤوا إلى لوط ، وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا ، وقال : هؤلاء بناتي ، أي أرشدهم إلى التّزوج بالنّساء ، وإيثار البنات على الأضياف وقيل : ندبهم في هذه الحالة إلى النّكاح ، وكانت سنّتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة ؛ وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ ؛ فزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنتا له من عقبة بن أبي لهب ، والأخرى من أبي العاص بن الرّبيع قبل البعثة والوحي ، وكانا كافرين.

وقال جماعة من المفسّرين كمجاهد وسعيد بن جبير : أشار بقوله : (بَناتِي) إلى النّساء جملة ؛ إذ نبيّ القوم أب لهم ، ويؤيّد هذا أن في قراءة ابن مسعود : «النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأزواجه أمهاتهم ، وهو أب لهم» ، والظاهر أن هذا هو أمثل الآراء وأقربها إلى الصحة.

١١٨

٤ ـ إن الكريم الشّهم الأبي هو الذي يحافظ على كرامة ضيوفه ، لذا قال لوط : (فَاتَّقُوا اللهَ ، وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي لا تهينوني ولا تذلّوني.

ثم وبّخهم بقوله : (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ؟) أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، أو ذو رشد ، أو راشد أو مرشد أي صالح أو مصلح. والرّشد والرّشاد : الهدي والاستقامة.

٥ ـ من ألف الفساد والفحش بعد عن الصّلاح والطّهر ، لذا قال قوم لوط : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) أي ليس لنا إلى بناتك رغبة ولا هنّ نقصد ، ولا لنا عادة نطلب ذلك ، فإن نكاح الإناث أمر خارج عن مذهبنا أو طريقنا الذي نحن عليه ، ولا حاجة لنا بالبنات ، أو لأنك لا ترى مناكحتنا ، وما هو إلا عرض لا جدّية فيه ، فقوله : (مِنْ حَقٍ) أي مالنا في بناتك من حاجة ولا شهوة.

ثم أعلنوا عن شهوتهم فقالوا : (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) إشارة إلى الأضياف ، والرّغبة في إتيان الذّكور ، وما لهم فيه من الشّهوة.

٦ ـ لم يجد لوط عليه‌السلام سبيلا للرّدع والإرهاب إلا التّهديد وإظهار الغضب والضّجر من موقف قومه ، واستمرارهم في غيّهم ، وضعفه عنهم وعجزه عن دفعهم ، فتمنى لو وجد عونا على ردّهم ، وقال على جهة التّفجع والاستكانة : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي أنصارا وأعوانا ، لرددت أهل الفساد ، وحلت بينهم وبين ما يريدون ، أو لو أجد ملجأ ألجأ وأنضوي إليه من قبيلة أو عشيرة تؤازرني ضدّ البغي والبغاة ، والظّلم والظّالمين ، والفسق والفاسقين. وهو دليل على أن لوطا كان في غاية القلق والحزن بسبب إقدام أولئك الأوباش على ما يوجب الفضيحة في حقّ أضيافه.

١١٩

٧ ـ لما رأت الملائكة حزن لوط عليه‌السلام واضطرابه ومدافعته ، عرّفوه بأنفسهم : (قالُوا : يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) فلما علم أنهم رسل ، مكّن قومه من الدّخول ، فأمر جبريل عليه‌السلام يده على أعينهم فعموا ، وعلى أيديهم فجفّت.

وطمأنوه بقولهم : (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بمكروه ، وكان كلام الملائكة متضمّنا أنواعا خمسة من البشارات هي : أنهم رسل الله ، وأن الكفار لن يصلوا إلى ما همّوا به ، وأنه تعالى يهلكهم ، وأنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب ، وأن ركنه شديد ، وأن ناصره هو الله تعالى.

٨ ـ اقتضت رحمة الله تعالى وعدله إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين ، وتلك معجزة للنّبي وتكريم لمن آمن معه ، وردع للظّالمين وإرهاب للكافرين. فأنقذ الله لوطا وأهله وهم بنتاه إلا امرأته ، وأهلك قومه.

٩ ـ كان إهلاك قوم لوط ما بين طلوع الفجر إلى شروق الشمس بقلب جبريل عليه‌السلام قرى قوم لوط وجعل عاليها سافلها ، وهي خمس : سدوم (وهي القرية العظمى) وعامورا ، ودادوما ، وضعوة ، وقتم.

أي أن العذاب له وصفان : الأول : قوله تعالى : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) ، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض ، والثاني قوله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ).

وكان هذا العمل معجزة قاهرة من وجهين :

أحدهما ـ أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب من السماء فعل خارق للعادة.

والثاني ـ أن ضربها من ذلك البعد البعيد على الأرض ، بحيث لم تتحرك

١٢٠