التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

الإعراب :

(سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ) سمّى : يتعدى إلى مفعولين ، يجوز حذف أحدهما ، فالأول : ها في (سَمَّيْتُمُوها) والثاني : محذوف ، وتقديره : سميتموها الهة. و (أَنْتُمْ) تأكيد تاء سميتموها ، ليحسن العطف على الضمير المرفوع المتصل فيها.

البلاغة :

(أَعْصِرُ خَمْراً) مجاز مرسل باعتبار ما سيكون ، أي أعصر عنبا يؤول إلى خمر.

المفردات اللغوية :

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) أي أدخل يوسف السجن ، وصادف أن دخل معه غلامان آخران للملك ، أحدهما : ساقيه ، والآخر صاحب طعامه أي خبازه ، فرأياه يعبر الرؤيا ، فقالا : لنختبرنه. (قالَ أَحَدُهُما) وهو الساقي. (خَمْراً) أي عنبا يكون خمرا. (وَقالَ الْآخَرُ) وهو صاحب الطعام الخباز. (نَبِّئْنا) خبرنا. (بِتَأْوِيلِهِ) بتعبيره. (مِنَ الْمُحْسِنِينَ) من الذين يحسنون تأويل الرؤيا ، أو من العالمين.

قال لهما مخبرا أنه عالم بتعبير الرؤيا. (تُرْزَقانِهِ) في منامكما. (نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) في اليقظة أي بتفسيره الذي يؤول إليه في الواقع. (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) تأويله ويتحقق المراد منه ، كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ، ويرشدهما إلى الطريق القويم ، قبل أن يجيبهما على سؤالهما.

(ذلِكُما) أي ذلك التأويل (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) بالإلهام والوحي ، وليس من قبيل التكهن أو التنجيم ، وهذا أيضا فيه حثّ على إيمانهما ثم قواه بقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ) دين (قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) هم : تأكيد كفرهم بالآخرة ، وهذا تعليل لما قبله ، أي علمني ذلك ؛ لأني تركت ملة أولئك.

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ..) معطوف على (تَرَكْتُ) أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة وإظهار أنه من بيت النبوة ، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق به. وهو دليل على أنه يجوز لغير المعروف أن يصف نفسه حتى يعرف ، فيستفاد منه. (ما كانَ لَنا) أي ما كان ينبغي لنا أو ما صحّ لنا معشر الأنبياء. (أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي شيء كان ، لعصمتنا. (ذلِكَ) أي التوحيد. (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) بالوحي. (وَعَلَى النَّاسِ) وعلى سائر الناس ، ببعثتنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) المبعوث إليهم ، وهم الكفار (لا يَشْكُرُونَ) الله على هذا الفضل ، فيشركون ويعرضون عنه.

ثم صرح يوسف بدعوتهما إلى الإيمان فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أي يا ساكنيه أو

٢٦١

يا صاحبيّ فيه. (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ ..) استفهام تقرير. (أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي هل الأرباب الشتى المتعددون خير أم الله الواحد المنفرد بالألوهية ، الغالب الذي لا يعادله ولا يقاومه غيره؟ (مِنْ دُونِهِ) أي غيره. (سَمَّيْتُمُوها) سميتم بها أصناما. (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها) أي بعبادتها (مِنْ سُلْطانٍ) حجة وبرهان ، أي فليست هي إلا أشياء ذات أسامي أطلقتم عليها من غير حجة تدل على تحقق مسمياتها فيها ، فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة ، والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة ، ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها.

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما القضاء في أمر العبادة إلا لله وحده ؛ لأنه المستحق لها بالذات ، من حيث إنه الواجب لذاته ، الموجد للكل ، المالك لأمره. (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أمر على لسان الأنبياء ألا تعبدوا إلا الذي دلت عليه الحجج. (ذلِكَ) التوحيد (الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم الحق ، وأنتم لا تميزون المعوج من القويم. وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة ، فإنه عليه‌السلام بين لهم :

أولا ـ رجحان التوحيد على تعدد الآلهة.

وثانيا ـ برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الألوهية ، فإن استحقاق العبادة إما بالذات وإما بالغير ، وكلا القسمين منتف عن تلك الآلهة.

وثالثا ـ نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دود.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم الكفار (لا يَعْلَمُونَ) فيخبطون في جهالاتهم ، ولا يدرون ما يصيرون إليه من العذاب ، فهم يشركون.

المناسبة :

بعد أن اتخذ العزيز وأهل مشورته قرارهم بحبس يوسف ، بالرغم من اقتناعهم بعفته ونزاهته وبراءته ، ذكر الله تعالى هنا تنفيذهم ذلك القرار الذي عزموا عليه ، من إدخاله السجن ، وأنهم لما أرادوا حبسه حبسوه وحبسوا معه اثنين من عبيد الملك ، وأن الله لطف بهم إذ علّمه تعبير الرؤيا ، وكان ذلك طريقا لإنقاذه من السجن.

٢٦٢

التفسير والبيان :

لما أرادوا حبس يوسف حبسوه ، وحبسوا معه غلامين من عبيد الملك ، أحدهما : ساقيه ، والآخر : خبازه ؛ لأنه رفع إليه أنهما تمالا على سمه في طعامه وشرابه ، وليس ذلك مصادفة ، ولكن تقدير العزيز العليم ، وكان يوسف مشهورا في السجن بصدق الحديث وتعبير الرؤيا.

فرأيا رؤيا ، فقال الساقي : إني رأيت في المنام أني أعصر عنبا يصير بعدئذ خمرا ، وقال الخباز : إني رأيت أني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه ، فقالا ليوسف : أخبرنا بتأويل وتفسير ما رأينا ، فهل سيحدث حقا أو هو مجرد أضغاث أحلام؟ (إِنَّا نَراكَ ..) إنا نعلم أنك من الذين يحسنون تأويل الرؤيا ، أي من المحسنين في علم التعبير ؛ لأنه متى عبّر لم يخطئ ، كما قال : (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أو من المحسنين الذين يريدون الخير والإحسان للناس.

فانتهز يوسف هذه الفرصة ، وهي ثقة هذين الرجلين به وبعلمه وإخلاصه ، فاندفع يدعوهما ومن معهما في السجن إلى توحيد الله الخالص ، وترك الأوثان ، فكان دخوله السجن لحكمة.

ومهد لدعوته بما يدل على المعجزة على صدقه ، فقال لهما : لا يأتيكما طعام في يومكما إلا أخبرتكما به قبل وصوله إليكما.

وهذا من تعليم الله إياي بوحي منه وإلهام ، لا بكهانة ولا عرافة ونحوهما من علوم البشر. وهذا يدل على أن يوسف أوحي إليه ، وهو في السجن ليدعو الضعفاء والفقراء والمظلومين والمذنبين ، فهم أقرب إلى التصديق بدعوته من غيرهم.

وسبب الوحي أني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر وهم الكنعانيون وغيرهم من أهالي فلسطين ، والمصريين الذين كانوا يعبدون آلهة متعددة كالشمس

٢٦٣

(رع) والعجل (أبيس) والفراعنة (حكام مصر) فهؤلاء لا يرجون ثوابا ولا عقابا في المعاد ، وهم كافرون بالآخرة والحساب والجزاء على الوجه الصحيح الذي دعا إليه الأنبياء ، كالاعتقاد بأن الفراعنة يعودون إلى الآخرة بأجسامهم المحنطة ، ويكون لهم فيها الحكم والسلطان ، كما كانوا في الدنيا. وتكرير لفظ (هُمْ) للتأكيد وبيان اختصاصهم بالكفر ، ولمبالغتهم في إنكار المعاد.

وقد هجرت طريق الكفر والشرك ، وتركت ملة الكافرين الذين لا يصدقون بالله ولا يقرون بوحدانيته ، وأنه خالق السموات والأرض ، واتبعت ملة آبائي الأنبياء المرسلين : إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين يدعون إلى التوحيد الخالص. وتعبيره (آبائِي) مفيد أن الجد أب ، وأنه من بيت النبوة ، بعد أن عرفهما أنه نبي يوحى إليه لإخباره بالمغيبات ، ليقوي رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله.

وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى ، واتبع طريق المرسلين ، وأعرض عن طريق الضالين ، فإن الله يهدي قلبه ، ويعلمه ما لم يكن يعلم ، ويجعله إماما يقتدى به في الخير ، وداعيا إلى سبيل الرشاد. وذلك ترغيب بالإيمان بالله وتوحيده.

ثم قرر منهج الأنبياء بصفة عامة ، فقال : ما صح لنا وما ينبغي لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله ، أي شيء كان ، من ملك أو جني أو إنسي ، فضلا عن أن شرك به صنما أو وثنا لا يسمع ولا يبصر.

ذلك التوحيد ، وهو الإقرار بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو من فضل الله علينا ، إذ هدانا إلى الإقرار بوجوده وتوحيده في ربوبيته وألوهيته ، وعلى الناس بإرسالنا إليهم ، ننبههم إلى الصواب ونرشدهم إليه ، ونبعدهم عن طريق الضلال ، فهو فضل إلهي على الرسل وعلى المرسل إليهم.

٢٦٤

ولكن أكثر الناس المبعوث إليهم لا يشكرون فضل الله ، فيشركون ولا يتنبهون ، ولا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم ، بل (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) [إبراهيم ١٤ / ٢٨].

وبعد أن أبطل يوسف عليه‌السلام عبادة الشرك والمشركين ، وأثبت النبوة ، دعا إلى التوحيد الخالص القائم على الاعتراف بإله واحد ورب واحد ، لا بآلهة متعددة ، وهكذا مبدأ الأنبياء يهدمون عبادة الوثنية أولا ، ثم يقيمون الأدلة العقلية على وجود الله ووحدانيته ، فقال : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ ..).

أي يا صاحبيّ في السجن ، هل تعدد الآلهة وتشتت الأرباب المتفرقين في الذوات والصفات التي تدعو إلى النزاع والتصادم وفساد الكون خير لكما ولغيركما في طلب النفع ودفع الضر والإعانة في عالم الغيب ، أو الله الواحد الأحد الذي لا يحتاج لغيره ولا ينازع في تصرفه وتدبيره ، القهار بقدرته وإرادته ، الذي ذل كل شيء لجلاله وعظمته؟!

ثم بين حقيقة آلهتهم فقال : (ما تَعْبُدُونَ ...) أي إن تلك الآلهة التي تعبدونها وتسمونها آلهة إنما هي أسماء مجردة لمسميات وضعوها من تلقاء أنفسهم ، ليس لها مقومات ، ولا مستند من عند الله ، وما أنزل الله بتسميتها أربابا حجة ولا برهانا ، حتى تصح عبادتها ويطيعها الناس ، إنها تسمية لا دليل عليها من عقل ولا نقل سماوي.

ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله ، وقد أمر عباده قاطبة ألا يعبدوا إلا إياه ، وهذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له هو الدين المستقيم الذي أمر الله به ، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه.

ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك هو الدين الحق الذي لا عوج فيه ، فلهذا كان أكثرهم مشركين ، كما قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف ١٢ / ١٠٣].

٢٦٥

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ قدّر الله تعالى مع سجن يوسف سجن اثنين آخرين من عبيد الملك ، كانا سبب الإفراج عنه من السجن في المستقبل.

٢ ـ إن تعبير الأحلام يحتاج لعلم وصلاح وتقوى وإحسان ، وإن الرؤيا قد تكون حقا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان عن أنس : «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة».

٣ ـ كان يوسف بشهادة السجناء من زمرة المحسنين ، وإحسانه : أنه كان يعود المرضى ويداويهم ، ويعزّي الحزانى. وأنه كان من العالمين الذين أحسنوا العلم ، فقولهم فيه يعني أنه عالم يؤثر الإحسان ، ويأتي بمكارم الأخلاق ، وجميع الأفعال الحميدة.

٤ ـ أعلن يوسف للسائلين اللذين سألاه عن تفسير رؤيا في المنام : أنه كان يخبرهما عن نوع الطعام وصفاته الذي يأتيهما من جهة الملك أو غيره ، قبل الإتيان به ، بوحي من الله عزوجل ، لا تكهّنا وتنجيما ، وهو إخبار بالغيب دال على نبوته ، ومعجزة مثبتة لرسالته.

٥ ـ النبي المكلف بالدعوة ينتهز كل الفرص المناسبة للقيام بواجبه ، وهذا ما فعله يوسف عليه‌السلام ، فإنه دعا إلى محاربة الشرك والوثنية ، وإبطال عبادة المشركين ، وإلى توحيد الله تعالى ، متبعا ملة أجداده وآبائه الأنبياء : إبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أنبياء على الحق ، وفائدة ذكر هؤلاء الأنبياء أنه عليه‌السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب ، قرن به كونه من أهل بيت النبوة.

٢٦٦

وليس من شأن الأنبياء الإشراك بالله أيا كان نوع الشرك.

وهذا من فضل الله على الرسول مما يشير إلى عصمته من الزنى ، والمرسل إليهم هم المؤمنون الذين عصمهم الله من الشرك. وقوله (مِنْ شَيْءٍ) رد على كل أصناف الشرك كعبادة الأصنام ، وعبادة النار ، وعبادة الكواكب ، وعبادة الطبيعة ، وإرشاد إلى الدين الحق ، وهو أنه لا موجد إلا الله ، ولا خالق إلا الله ، ولا رازق إلا الله.

ولكن أكثر الناس لا يشكرون على نعمة الإيمان والتوحيد. وقوله (مِنْ فَضْلِ اللهِ) يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله تعالى.

٦ ـ نفى يوسف بالدليل العقلي والنقلي تعدد الآلهة ، وأثبت صحة القول بوحدانية الإله وربوبيته.

٧ ـ إن الآلهة المزعومة من الأصنام والأوثان وغيرها أسماء مخترعة من عند الناس أنفسهم ، ليس لها من الألوهية شيء إلا الاسم ؛ لأنها جمادات ، وأما مسمياتها فليست لها حقيقة موضوعية ، ويرفضها العقل والنقل.

٨ ـ لا حكم إلا لله ، لأنه خالق الكل ، فهو المستحق العبادة وحده لا شريك له ، لذا أمر ألا يعبد سواه.

٩ ـ الدعوة إلى توحيد الإله هو الدين المستقيم أو القويم الذي لا عوج فيه ، ولكن أكثر الناس لا يدرون حقيقة الدين الصحيح.

١٠ ـ أورد الرازي خمس حجج على بطلان تعدد الآلهة وهي بإيجاز وتصرف ما يأتي(١) :

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٨ / ١٤٠ وما بعدها.

٢٦٧

الأولى ـ أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم ، وهو المراد بقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ٢١ / ٢٢] فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل والتنازع والصراع ، أما توحيد الإله فيقتضي حصول النظام وحسن الترتيب.

الثانية ـ أن هذه الأصنام ونحوها من البشر والكواكب معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة.

الثالثة ـ أن كونه تعالى واحدا يوجب عبادته ؛ لأنه لو كان له ثان ، لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا ، فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك. وهذا دليل على فساد القول بعبادة الأوثان ؛ لأنها على فرض كونها نافعة ضارة لا نعلم حصول النفع ودفع الضرر من هذا الصنم ، أو من ذاك ، أو بالتعاون والاشتراك ، فلا يعرف المستحق للعبادة ، هو هذا أم ذاك.

الرابعة ـ لو فرض أن هذه الأصنام تنفع وتضر ، على ما يزعم أصحاب الطلاسم ، فإن ذلك في وقت مخصوص وواقعة مخصوصة ، والإله تعالى قادر على جميع المقدورات في كل الأوقات ، فكان الاشتغال بعبادته أولى.

الخامسة ـ إن اتصاف الإله بصفة (الْقَهَّارُ) يقتضي ألا يقهره أحد سواه ، وأن يكون هو قهارا لكل ما سواه ، وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته ؛ إذ لو كان ممكنا لكان مقهورا لا قاهرا ، ويجب أن يكون واحدا لا متعددا ، إذ لو تعدد لما كان قاهرا لكل ما سواه ، فالإله لا يكون قهارا إلا إذا كان واجبا لذاته وكان واحدا ، وهذا لا ينطبق على الأفلاك والكواكب والنور والظلمة والطبيعة ونحوها من الآلهة المزعومة.

١١ ـ يستحسن للعالم إذا استفتاه أحد الجهال والفساق أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولا ، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك.

٢٦٨

١٢ ـ إذا جهلت منزلة العالم فوصف نفسه بما هو ملائم المسألة ، وكان غرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين ، لم يكن ذلك من باب تزكية النفس المنهي عنها (١) : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النجم ٥٣ / ٣٢].

الفصل السابع من قصة يوسف

ـ ١ ـ

تأويل يوسف رؤيا صاحبيه في السجن ووصيته للناجي منهما

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

المفردات اللغوية :

(أَمَّا أَحَدُكُما) أي الساقي فيخرج بعد ثلاث (رَبَّهُ) سيده (خَمْراً) يسقيه خمرا على عادته (وَأَمَّا الْآخَرُ) الخباز ، فيخرج بعد ثلاث ، فيصلب ، فقالا : كذبنا وما رأينا شيئا ، فقال : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي قطع الأمر الذي سألتما عنه ، صدقتما أم كذبتما. والاستفتاء : طلب الفتوى عن السؤال المشكل ، والفتوى : جواب السؤال.

(لِلَّذِي ظَنَ) أيقن (أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) وهو الساقي (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) سيدك ، فقل له : إن في السجن غلاما محبوسا ظلما (فَأَنْساهُ) أي الساقي (ذِكْرَ) يوسف (فَلَبِثَ) مكث يوسف (فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) البضع : من الثلاث إلى التسع ، قيل : إنه مكث سبعا في السجن.

__________________

(١) تفسير الكشاف : ٢ / ١٣٧

٢٦٩

المناسبة :

بعد أن قرر يوسف عليه‌السلام مسألة التوحيد وعبادة الله والنبوة ، عاد إلى الإجابة عن السؤال ، وتعبير الرؤيا.

التفسير والبيان :

قال يوسف : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) وهو الساقي الذي رأى أنه يعصر خمرا ـ ولكنه لم يعينه في خطابه لئلا يحزن ـ فيسقي سيده خمرا كما كان في عادته. وقوله : (رَبِّهِ) لم يقصد ربوبية العبودية ، فإن ملك مصر في زمن يوسف لم يدّع الألوهية كفرعون مصر أيام موسى عليه‌السلام. روي أن يوسف قال له : ما أحسن ما رأيت ، أما حسن العنبة فهو حسن حالك ، وأما الأغصان : فثلاثة أيام ، يوجه إليك الملك عند انقضائهن ، فيردك إلى عملك ، فتصير كما كنت ، بل أحسن (١). وهذا دليل على أنه كان بريئا من تهمة المشاركة في تسميم الملك.

وأما الآخر : وهو الخباز الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه : فيصلب ، فتأكل الطيور الجوارح كالنسر والعقاب والصقر والحدأة والرخمة من رأسه. روي أن يوسف قال له : بئسما رأيت ، السلال الثلاث ثلاثة أيام ، يوجه إليك الملك عند انقضائهن ، فيصلبك ، وتأكل الطير من رأسك ، وهذا يدل على أن الخباز هو الذي اتهم بتسميم الملك وثبتت عليه التهمة. لكن تفاصيل هذه الرواية والتي قبلها تعارض ظاهر الآية.

ثم نقل في التفسير : أنهما قالا : ما رأينا شيئا فقال : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي لا تناقشا فإن الأمر قد نفذ ، وسبق الحكم الذي تسألان عنه. والاستفتاء لغة : السؤال عن المشكل ، والفتوى : جوابه.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٨ / ١٤٢

٢٧٠

وهذا صحيح ؛ لأن يوسف أعلم الصاحبين أن هذا قد فرغ منه ، وهو واقع لا محالة ؛ لأن الرؤيا على رجل طائر ، ما لم تعبّر ، فإذا عبرت وقعت. روى الإمام أحمد عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر ، فإذا عبرت وقعت».

وجواب يوسف ليس مجرد تعبير رؤيا مبني على الظن والحسبان ، وإنما اعتمد على الوحي من الله تعالى ، والوحي يفيد القطع واليقين ، لا الظن والتخمين.

ثم أخبر يوسف عليه‌السلام خفية لمن ظن أي تيقن أنه ناج وهو الساقي ، دون علم الآخر ، لئلا يشعره أنه المصلوب ، وقال له : اذكر قصتي عند سيدك وهو الملك ، لعله يخرجني من السجن بعد أن علم براءتي ، وهذا من قبيل الأخذ بالأسباب الظاهرية المطلوبة عادة وشرعا ، للنجاة والإنقاذ.

فأنسى الشيطان ذلك الناجي تذكير الملك بقصة يوسف ، وكان النسيان من جملة مكايد الشيطان ، لئلا يخرج نبي الله يوسف من السجن ، فيدعو إلى توحيد الله وعبادته ، ومقاومة الشرك ، ومطاردة وساوس الشيطان.

فلبث يوسف في السجن منسيا مظلوما بضع سنين أي من الثلاث إلى التسع ، قيل : إنه مكث سبعا ، قال وهب بن منبّه : مكث أيوب في البلاء سبعا ، ويوسف في السجن سبعا ، وعذب بختنصّر سبعا. وقال مقاتل : مكث يوسف في السجن خمسا وبضعا.

وقال ابن عباس : ثنتا عشرة سنة ، وقال الضحاك : أربع عشرة سنة. والرأي الأول أصح ؛ لأنه داخل في معنى البضع.

ومن المعلوم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة ، إلا أن

٢٧١

الأولى بالصدّيقين ألا يلجأوا إلا إلى الله في رفع الأسباب ، فهو مسبب الأسباب ورافعها.

روي أن جبريل جاء إلى يوسف ، وهو في السجن ، معاتبا له إذ استغاث بالآدميين ، فقال له : يا يوسف من خلصك من القتل من أيدي إخوتك؟! قال : الله تعالى ، قال : فمن أخرجك من الجبّ؟ قال : الله تعالى ، قال : فمن عصمك من الفاحشة؟ قال : الله تعالى ، قال : فمن صرف عنك كيد النساء؟ قال : الله تعالى ، قال : فكيف تركت ربك ، فلم تسأله ، ووثقت بمخلوق؟! قال : يا ربّ ، كلمة زلّت مني ، أسألك يا إله إبراهيم وآله والشيخ يعقوب عليهم‌السلام أن ترحمني ؛ فقال له جبريل : فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيتان إلى ما يلي :

١ ـ إن تعبير الرؤيا يعتمد على العلم والصلاح والتقوى ، فلا يفيد ذلك من العالم إلا الظن ، وأما يوسف عليه‌السلام فكان تعبيره الرؤيا مقترنا بالوحي من ربه ، فيفيد اليقين.

٢ ـ من كذب في رؤياه ، ففسرها العابر له أيلزمه حكمها؟ قال : العلماء : لا يلزمه ، وإنما كان ذلك في يوسف ؛ لأنه نبي ، وتعبير النبي حكم ، فأوجد الله تعالى ما أخبر به الرائي كما قال ، تحقيقا لنبوته.

٣ ـ الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة في الشريعة ، لا إنكار عليه ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ١٩٥ ـ ١٩٦

٢٧٢

لكن الأمر بالنسبة ليوسف الصدّيق كان خلاف الأولى ؛ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

٤ ـ كان من جملة مكايد الشيطان إنساء الناجي من السجن تذكير مولاه الملك بقصة يوسف عليه‌السلام ، لئلا يطلع من السجن.

٥ ـ لبث يوسف في السجن بضع سنين ، وهي إما خمس سنين ، وإما سبع سنين ، كما روي عن بعض المفسرين. وعلى أي حال فهي مدة طويلة ، صبر فيها يوسف على مراد الله ، وآثر السجن على الوقوع في معصية الزنى.

ـ ٢ ـ

تأويل يوسف رؤيا الملك

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

٢٧٣

الإعراب :

(لِلرُّءْيا) اللام زائدة للبيان أو لتقوية العامل ، كما في آية : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف ٧ / ١٥٤] لأنها تزاد في المفعول به إذا تقدم على الفعل ، وقد جاء أيضا زيادتها معه ، وليس بمتقدم ، مثل قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) [النمل ٢٧ / ٧٢] لكن زيادتها مع التقديم أحسن. (دَأَباً) منصوب على المصدر ، وقرئ بسكون الهمزة وفتحها.

البلاغة :

(إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ) استعمل صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية بين كل من (سِمانٍ .. وعِجافٌ وخُضْرٍ ..) و (يابِساتٍ) طباق.

(أَضْغاثُ أَحْلامٍ) شبه اختلاط الأحلام المشتملة على المحبوب والمكروه ، والسّار والمحزن باختلاط الحشيش المجموع من أصناف متنوعة.

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) براعة استهلال تتضمن الاستعطاف بالثناء للوصول إلى الجواب.

(يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) مجاز عقلي من قبيل الإسناد إلى الزمان والمراد به الناس ؛ لأن السنين لا تأكل ، وإنما يأكل الناس ما ادخروه فيها.

لمفردات اللغوية :

(وَقالَ الْمَلِكُ) ملك مصر وهو الريان بن الوليد (إِنِّي أَرى) أي رأيت (سِمانٍ) جمع سمينة (يَأْكُلُهُنَ) يبتلعهن (عِجافٌ) سبع من البقر هزيلة ضعيفة ، جمع عجفاء (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ) جمع سنبلة وهي التي تحمل الحب الذي انعقد ، واليابسات : ما آن حصاده (الْمَلَأُ) أشراف القوم (تَعْبُرُونَ) تفسرون ببيان المعنى المراد (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) بينوا لي تعبيرها ، وهو الانتقال من الصور الخيالية إلى الواقع الحسي المشاهد.

(أَضْغاثُ) أخلاط ، واحدها ضغث : وهو حزمة النبات أو مجموعة الحشيش فاستعير للرؤيا الكاذبة (أَحْلامٍ) جمع حلم بضم اللام وتسكينها : ما يرى في النوم ، وهو قد يكون واضح المعنى كأفكار اليقظة ، وقد يكون غامضا مضطربا يشبه مجموعة الحزم والحشائش التي لا تناسب بينها. وإنما جمعوا الأحلام للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان والكذب والزيف (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة ، أي ليس لها تأويل عندنا ، وإنما التأويل للمنامات الصادقة ، وهو مقدمة ثانية للاعتذار بالجهل بتأويله.

٢٧٤

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) أي من الفتيين وهو الساقي (وَادَّكَرَ) أي تذكر يوسف ، وفيه أبدل التاء في الأصل دالا ، ثم أدغم في الدال أصله «اذتكر» (بَعْدَ أُمَّةٍ) أي تذكر يوسف بعد طائفة من الزمن مجتمعة أي مدة. (فَأَرْسِلُونِ) إلى من عنده علم أو إلى السجن ، فأتى يوسف.

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أي يا يوسف الكثير الصدق أو المبالغ في الصدق ؛ لأنه جرب أحواله ، وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه (إِلَى النَّاسِ) أي إلى الملك وأصحابه أو إلى أهل البلد ؛ إذ قيل : إن السجن لم يكن فيه (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) تأويلها أو فضلك ومكانك ، وإنما لم يبت الكلام فيهما ؛ لأنه لم يكن جازما من الرجوع.

(تَزْرَعُونَ) ازرعوا (دَأَباً) متتابعة ، على عادتكم المستمرة ، وهي تأويل السبع السمان (فَذَرُوهُ) اتركوه وادخروه (فِي سُنْبُلِهِ) لئلا يفسد أو يسوس (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) في تلك السنين ، فادرسوه.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد السبع المخصبات (سَبْعٌ شِدادٌ) مجدبات صعاب ، وهي تأويل السبع العجاف (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن ، فأسند إلى السنين على المجاز تطبيقا بين المعبر والمعبر به (مِمَّا تُحْصِنُونَ) تحرزون وتدخرون للبذر (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي السبع المجدبات (عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) بالمطر من الغوث والإغاثة من القحط (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) الأعناب وغيرها لخصوبته. وهذه بشارة ، بعد أن أوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة ، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة ، ولعله علم ذلك بالوحي ، أو بما جرت به السنة الإلهية على أن يوسع على عباده ، بعد ما ضيق عليهم.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى تأويل يوسف رؤيا صاحبيه في السجن ، ذكر تأويل رؤيا ملك مصر الذي كان من ملوك العرب المعروفين بالرعاة (الهكسوس) بعد أن أعلن الكهنة والعلماء وأهل الرأي عجزهم عن تأويلها ، وقالوا : أضغاث أحلام ، فكان هذا سببا في اتصال يوسف بالملك.

التفسير والبيان :

هذه رؤيا ملك مصر التي قدر الله أن تكون سببا لخروج يوسف عليه‌السلام من السجن معززا مكرما ، والقصة أن الملك هالته هذه الرؤيا وتعجب من

٢٧٥

أمرها ، وكيفية تفسيرها ، فجمع الكهنة وكبار رجال دولته وأمراءه ، فقص عليهم ما رأى ، وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك ، واعتذروا عن تأويلها بأنها (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي أخلاط أحلام.

والمعنى : وقال ملك مصر : إني رأيت في منامي رؤيا أدهشتني ، وهي أن سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ، أكلتهن سبع بقرات عجاف هزيلات ، وسبع سنبلات خضر انعقد حبها ، غلبتها سبع أخر يابسات آن حصادها ، فالتوت عليها.

فقال للملأ من قومه وهم الكهنة والعلماء : عبّروا على هذه الرؤيا ، إن كنتم تعلمون تعبير الرؤيا ، وبيان معناها الخيالي ، وترجمتها إلى الواقع الحقيقي.

فقالوا : هذه أحلام مختلطة من خواطر وخيالات تتراءى للنائم في دماغه ، ولا معنى لها ، وتنشأ من اضطراب الهضم ، وتلبّك المعدة ، وتعب النفس أحيانا ، ولسنا عالمين بتأويل أمثالها ، فلو كانت رؤيا صحيحة ، لما كان لنا معرفة بتأويلها وهو تعبيرها.

وحينئذ تذكر الذي نجا من الموت من صاحبي يوسف في السجن ، وهو الساقي ، وكان الشيطان قد أنساه ما أوصاه به يوسف ، من عرض أمره للملك ، وكان تذكره بعد مدة من الزمان أي بعد نسيان ، فقال للملك والملأ الذين جمعهم حوله : أنا أخبركم بتأويل هذا المنام ، فابعثوني (وهو خطاب للملك والجمع ، أو للملك وحده على سبيل التعظيم) إلى يوسف الصديق الموجود حاليا في السجن.

فبعثوه فجاء فقال : يا يوسف ، أيها الرجل كثير الصدق في أقوالك وأفعالك وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام ، أفتنا في منام رآه الملك ، لعل الله يجعل لك فرجا ومخرجا بسبب تأويلك رؤياه.

فذكر له يوسف النبي عليه‌السلام تعبيره من غير لوم وعتاب على نسيانه

٢٧٦

ما وصاه به ، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك ، فقال : مبينا لهم خطة أربع عشرة سنة : إنه يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات.

ففسر البقر بالسنين ؛ لأنها تثير الأرض التي تكون سببا للثمرات والزروع ، وهن السنبلات الخضر.

ثم أرشدهم إلى ما يفعلون في سني الخصب ، فقال : مهما جنيتم في هذه السبع السنين الخصب من الغلال والزروع ، فادخروه في سنبله ، لئلا يأكله السوس ، إلا المقدار القليل الذي تأكلونه ، فادرسوه ، ولا تسرفوا فيه لتنتفعوا بالباقي في السبع الشداد الصعاب ، وهن السبع السنين الجدب التي تعقب هذه السنوات السبع المتواليات ، وهن البقرات العجاف ، اللاتي تأكل السمان ؛ لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب ، وهن السنبلات اليابسات ، ففي سني القحط لا تنبت الأرض شيئا ، وما بذروه لا يرجع منه شيء ، لهذا قال : (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً ..) أي إن أهلها يأكلون كل ما ادخرتم في تلك السنين السابقة لأجل السنين الجدباء ، إلا قليلا مما تحزنون وتحرزون وتدخرون لبذور الزراعة. ويلاحظ أنه نسب الأكل للسنين وأراد به أهلها.

والخلاصة : تأول يوسف عليه‌السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين محصبة ، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة.

ثم بشرهم بمجيء عام يغاث فيه الناس أي يأتيهم الغيث وهو المطر ، وتغل البلاد ، ويعصر الناس فيه ما كانوا يعصرون عادة من زيت الزيتون وسكر القصب وشراب التمر والعنب ونحوها.

وهذا الإخبار بمغيبات المستقبل من وحي الله وإلهامه ، لا مجرد تعبير للرؤيا ، فهو بشارة في العام الخامس عشر بعد تأويل الرؤيا بمجيء عام مبارك خصيب ، كثير الخير ، غزير النعم ، وهو إخبار من جهة الوحي.

٢٧٧

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع الآيات تعبير رؤيا الملك الذي كان سببا في خروج يوسف من السجن ، وقد دلت على الآتي :

١ ـ لما دنا فرج يوسف عليه‌السلام رأى الملك الأكبر : الرّيان بن الوليد رؤياه ، فعرضها على الكهنة والعلماء ، فاعتذروا عن تأويلها ، وكان عجزهم عن التعبير سببا في إحالة الأمر إلى يوسف.

٢ ـ كانت رؤيا الملك في آخر الأمر بشرى ورحمة ليوسف.

٣ ـ الرؤيا نوعان : منها حق ، ومنها أضغاث أحلام وهي الكاذبة ، كما قال ابن عباس.

٤ ـ في الآية دليل على بطلان قول من يقول : إن الرؤيا على أوّل ما تعبر ؛ لأن القوم قالوا : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ولم تقع كذلك ؛ فإن يوسف فسّرها على سنّي الجدب والخصب ، فكان كما عبّر ، وأما حديث أبي يعلى عن أنس مرفوعا : «الرؤيا لأول عابر» فيظهر أنه ضعيف.

وفيها دليل أيضا على فساد أن الرؤيا على رجل طائر ، فإذا عبرت وقعت.

وأما الحديث المتقدم الذي رواه الإمام أحمد بهذا اللفظ والمعنى فلم تثبت صحته.

٥ ـ إن تذكر الخير والإقدام على فعله بعد نسيان ، كما حدث للناجي الذي نسي ذكر أمر يوسف للملك ، مردّه إلى القضاء والقدر والتوفيق الإلهي.

٦ ـ كان ذهاب ساقي الملك إلى يوسف في سجنه سببا في معرفة مكانه في الفضل والعلم ، فخرج من السجن ، كما كان تأويل الرؤيا سببا في إنقاذ أهل مصر من المجاعة مدة سبع سنوات ، وهكذا فإن الأنبياء والرسل عليهم‌السلام رحمة

٢٧٨

للناس جميعا ، سواء في تصحيح العقيدة وتقويم الأخلاق ، وتصحيح السلوك ، أو في الحياة المعيشية والاقتصادية.

وقد استفيد من فعل يوسف سلامة الخطة ونجاح سياسة التخطيط ، وتعليم الناس كيفية حفظ الحبوب من التسوس ، وهو إرشاد زراعي رفيع المستوى.

٧ ـ قال القرطبي : آية (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ ..) أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال ؛ فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة ، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة ، ودفعه مصلحة ؛ ولا خلاف في أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ؛ ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية ، ومراعاة ذلك فضل من الله عزوجل ، ورحمة رحم بها عباده ، من غير وجوب عليه ، ولا استحقاق (١).

٨ ـ كان إخبار يوسف عليه‌السلام عن عام الإنقاذ والخصب بعد أربع عشرة سنة وحيا من الله وإلهاما له ، وتلك معجزة تدل على صدق نبوته.

٩ ـ دل قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي مما تحبسون أو تدخرون لتزرعوا ، على أن في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وهو يدل أيضا على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة.

١٠ ـ قال القرطبي أيضا : هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر ، وأنها تخرّج على حسب ما رأى ، لا سيما إذا تعلقت بمؤمن ؛ فكيف إذا كانت آية لنبي ، ومعجزة لرسول ، وتصديقا لمصطفى للتبليغ ، وحجة للواسطة بين الله جل جلاله وبين عباده (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ٢٠٣

(٢) المرجع السابق : ٩ / ٢٠٤

٢٧٩

١١ ـ لم يكن لإخبار يوسف عليه‌السلام عن عام الغوث إشارة في رؤيا الملك ، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله ، وفيه تطمين لأهل مصر بشيوع الرخاء الاقتصادي ، والرفاه المعيشي ، واستقرار أحوال الناس بحسب عاداتهم القديمة بعصر الأعناب ، واستخراج الأدهان ، وحلب الألبان لكثرتها ، وكثرة النبات ، وذلك دليل على رحمة الإنسان والحيوان ، وهو فضل من الله وإحسان.

الفصل الثامن من قصة يوسف

ـ ١ ـ

طلب الملك رؤية يوسف والأمر بإخراجه من السجن

وامتناعه من الخروج حتى تثبت براءته

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢))

الإعراب :

(لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بِالْغَيْبِ) حال من الفاعل أو المفعول ، أي لم أخنه وأنا غائب عنه ، أو وهو غائب عني ، أو ظرف مكان أي بمكان الغيب.

٢٨٠