التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

التفسير والبيان :

أفمن كان على نور وبصيرة من الله تدلّه على الحقّ والصّواب ، ويؤيّده شاهد له على صدقه ، وهو كتاب الله من إنجيل أو قرآن ، وهم المؤمنون بالفطرة بأنه لا إله إلا الله ، كمن كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها؟ كما قال تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزّمر ٣٩ / ٢٢] ، وقال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الرّوم ٣٠ / ٣٠].

وكذلك يؤيّده كتاب موسى عليه‌السلام وهو التّوراة ، الذي أنزله الله تعالى إلى تلك الأمّة إماما لهم ، أي كتابا مؤتما به في الدّين وقدوة يقتدون به ، ورحمة من الله بهم ؛ لأنه همزة وصل بخير الدّارين ، فمن آمن به حقّ الإيمان ، قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن ، ويكون ذلك الكتاب رحمة لمن آمن به وعمل به. وكون الإنجيل والتّوراة تابعين للقرآن ليس في الوجود ، بل في دلالتهما على هذا المطلوب ، وتبشيرهما بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونه موصوفا فيهما : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف ٧ / ١٥٧].

(أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ...) أي أولئك الذين يؤمنون بما في التّوراة من البشارة بمحمد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يؤمنون بهذا القرآن إيمانا حقّا عن يقين وإذعان.

وفي الجملة : من كان مؤمنا بالفطرة وبالعقل ، وبنور القرآن ، وبالوحي الثابت الذي نزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرّسل ، فهو على منهج الحقّ والصّواب.

ومن يكفر بالقرآن من أهل مكة ومن تحزّبوا على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم من اليهود والنّصارى والوثنيين ، فالنّار موعده لا ريب في وروده إياها ، أي أن مآله حتما إلى جهنم وهو من أهل النّار ، جزاء تكذيبه ، كما قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها ، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [هود ١١ / ١٦].

٤١

و (الْأَحْزابِ) هم كما قال مقاتل : بنو أميّة ، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي ، وآل طلحة بن عبيد الله. وقال سعيد بن جبير : الأحزاب : أهل الأديان كلّها ، وروي عن مقاتل : «من الملل كلّها» لأنهم يتحازبون.

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النّار».

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي فلا تكن أيها المكلّف السّامع في شكّ من أمر هذا القرآن ، فإنه حقّ من الله لا ريب ولا شكّ فيه ، كما قال تعالى : (الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [السّجدة ٣٢ / ١ ـ ٢]. والخطاب بقوله : (فَلا تَكُ) للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد جميع المكلّفين.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ..) أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بهذا القرآن ، كما قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف ١٢ / ١٠٣] ، والسبب أن المشركين مستكبرون مقلّدون زعماءهم ، وأن أهل الكتاب حرّفوا دين أنبيائهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى ما يأتي :

١ ـ إن من تبيّن الرشد والصّواب بالفطرة والعقل ، واهتدى بنور الوحي الإلهي فهو الذي يؤثر الآخرة على الدّنيا ، ولا يستوي إطلاقا مع من آثر الدّنيا الفانية وزينتها الموقوتة على الآخرة الباقية الخالدة.

٢ ـ اليهود والنصارى المؤمنون بحقّ يؤمنون بما في التّوراة والإنجيل من البشارة بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما غير المؤمنين بحقّ ، المتأخرون منهم أو من غيرهم ، فهم

٤٢

الذين موعدهم النّار ، فمن يكفر بالقرآن أو بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام ، من أهل الملل كلها أو أهل الأديان كلها ، فهو من أهل النّار.

٣ ـ القرآن الكريم حقّ ثابت من عند الله ، فلا يشكّنّ أحد بذلك ، وليبادر إلى الإيمان بما جاء فيه. ولكن مع الأسف أكثر الناس لا يؤمنون به.

الكافرون والمؤمنون وجزاء أعمال كلّ منهم

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

الإعراب :

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ) إما نعت للظالمين ، وإما خبر لمبتدأ أي هم الذين.

(ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) ما : فيها ثلاثة أوجه :

٤٣

أ ـ أن تكون ظرفية زمانية في موضع نصب بيضاعف ، وتقديره : يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والإبصار ، أي أبدا ، كقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود ١١ / ١٠٧] أي مدة دوام السموات والأرض ، أي : أبدا.

ب ـ أن تكون في موضع نصب ، على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : بما كانوا ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الفعل به.

ج ـ أن تكون (ما) نافية ، ومعناه لا يستطيعون السمع ولا الإبصار ، لما قد سبق لهم في علم الله تعالى.

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) مبتدأ وخبر.

(لا جَرَمَ) ردّ لكلامهم ، وهو نفي لما ظنوا أنه ينفعهم. و (جَرَمَ) فعل ماض بمعنى كسب.

(أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) في موضع نصب من وجهين : أحدهما ـ تقديره : كسب ذلك الفعل لهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ، أي كسب ذلك الفعل الخسران في الآخرة. وهذا قول سيبويه. والثاني ـ التقدير : لا صدّ ولا منع عن أنهم في الآخرة ، وحذف حرف الجر ، فانتصب بتقدير حذف حرف الجر ، وهذا قول الكسائي.

(مَثَلاً) تمييز منصوب.

البلاغة :

(كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) تشبيه مرسل مجمل ؛ لوجود أداة التشبيه وحذف وجه الشبه ، أي مثل الفريق الكافر كالأعمى والأصم في عدم البصر والسمع ، ومثل الفريق المؤمن كالسميع والبصير.

المفردات اللغوية :

(وَمَنْ أَظْلَمُ) لا أحد. (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك والولد إليه. (يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) في الموقف يوم القيامة مع جملة الخلق ، بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم ، والمراد : يحاسبهم ربهم. (الْأَشْهادُ) جمع شاهد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ ، وعلى الكفار بالتكذيب. (لَعْنَةُ اللهِ) اللعنة واللعن : الطرد من رحمة الله تعالى. (يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يصرفون عن دين الله : دين الإسلام. (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) يطلبون السبيل معوجة ، والعوج : الالتواء. (هُمْ) تأكيد للأولى. (مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي ما كانوا معجزين لله في الدنيا أن يعاقبهم ، ولا يمكنهم أن يهربوا من عذاب الله تعالى. (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره.

٤٤

(أَوْلِياءَ) أنصار يمنعونهم من عذابه أو عقابه ، ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشد وأدوم. (يُضاعَفُ لَهُمُ) بإضلالهم غيرهم. (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) للحق. (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) أي يبصرونه ، لفرط كراهتهم له ، كأنهم لم يستطيعوا ذلك. (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم. (وَضَلَ) غاب. (يَفْتَرُونَ) على الله من ادعاء الشريك.

(لا جَرَمَ) حقا. قال الفراء : إنها بمنزلة قولنا : لا بد ولا محالة ، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة (حقا). تقول العرب : لا جرم أنك محسن ، على معنى : حقا إنك محسن.

(وَأَخْبَتُوا) خشعوا وسكنوا وأخلصوا لله تعالى ، وأصل الإخبات : قصد الخبث وهو المكان المطمئن المستوي. (مَثَلُ) صفة. (الْفَرِيقَيْنِ) الكفار والمؤمنين. (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) هذا مثل الكافر ، وتشبيه بالأعمى لتعاميه عن آيات الله ، وبالأصم لعدم استماعه كلام الله تعالى وتدبر معانيه. (وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) هذا مثل المؤمن لتبصره بالقرآن وسماعه له سماع تدبر وإمعان ، فيكون كل واحد منهما مشبها باثنين. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتعظون ، أصله : تتذكرون ، فأدغم التاء في الذال.

المناسبة :

بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس : وهما الذي يريد الدنيا وزينتها ، والذي يريد الآخرة ، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة.

وكان القصد من آية (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) ذم الحريصين على الدنيا ونسيان الآخرة ، والقصد من آية (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) الرّد على منكري نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والطعن في معجزاته ، وأما المراد من آية (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فهو الرّد على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله ، وهذا محض الافتراء على الله تعالى ، وهو داخل تحت عموم وعيد المفترين على الله تعالى.

التفسير والبيان :

يبين الله تعالى حال المفترين عليه ووصفهم بأنهم أظلم الناس ، وفضيحتهم في الآخرة أمام الخلائق كلهم ، فيذكر أنه لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن اختلق

٤٥

الكذب على الله تعالى ، في صفته أو حكمه أو وحيه ، أو زعم وجود شفعاء له بدون إذنه ، أو اتخاذه ولدا من الملائكة كالعرب القائلين بأن الملائكة بنات الله ، واليهود القائلين بأن عزيرا ابن الله ، والنصارى القائلين بأن المسيح ابن الله.

(أُولئِكَ يُعْرَضُونَ ..) أي أولئك المغرقون في الكفر والشرك والافتراء على الله ، يعرضون على ربهم أي يحاسبهم ربهم حسابا شديدا ، ويقول الأشهاد من الملائكة الأبرار : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم وافتروا عليه ، فلعنة الله على الظالمين ، أي أنهم مطرودون من رحمة الله تعالى.

وبما أن العرض عام في كل العباد ، فإن المراد به هنا عرض خاص وهو العرض بقصد افتضاحهم ، فيحصل لهم الخزي والنكال في أسوأ حال ، والعرض يكون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال ، أو على من شاء الله من الخلق بأمر الله تعالى ، من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.

والآية مثل قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر ٤٠ / ٥١ ـ ٥٢].

وروى الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في النجوى يوم القيامة : «إن الله عزوجل يدني المؤمن ، فيضع عليه كنفه ، ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك ، قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وإني أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين».

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ ..) إن هؤلاء الظالمين يردون الناس عن اتباع الحق

٤٦

والإيمان والطاعة ، وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عزوجل ، ويحولون بينهم وبين الجنة ، (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويعدلون بالناس عن سبيل الله إلى المعاصي والشرك ، فهم يريدون أن يكون طريقهم عوجا غير معتدلة ، والحال أنهم كافرون بالآخرة أي جاحدون بها مكذبون ، وأعاد لفظ (هُمْ) تأكيدا.

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ ...) إن أولئك الظالمين الصادين عن سبيل الله لا يعجزون ربهم أن يعاقبهم بالدمار والخسف كما فعل بغيرهم ، بل هم تحت قهره وسلطانه ، وهو قادر على الانتقام منهم في الدنيا قبل الآخرة ، وليس لهم أنصار ينصرونهم من دون الله تعالى ، ويحجبون عنهم العذاب ، ويضاعف لهم العقاب بسبب إضلالهم غيرهم ، كما ضلوا بأنفسهم ، وكانوا صمّا عن سماع الحق ، عميا عن اتباعه.

ونظير الآية قوله تعالى : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) [إبراهيم ١٤ / ٤٢] وقوله سبحانه : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل ١٦ / ٨٨] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين : «إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته».

وعلة مضاعفة العذاب هي : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) أي لم يستمعوا إلى القرآن سماع تدبر واتعاظ ، ولم يبصروا طريق الحق والخير وينظروا إلى آيات القرآن وآيات الكون ، الدالة على صدق الوحي ، كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ، وَالْغَوْا فِيهِ ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت ٤١ / ٢٦] وقال : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام ٦ / ٢٦].

فليس المراد نفي السمع والبصر ، بل المقصود أنهم وإن كانوا يسمعون ويبصرون في الظاهر ، إلا أنهم ما استخدموا هاتين الحاستين استخداما صحيحا في

٤٧

تلقي المعارف والمعلومات وتكوين العقيدة السلمية ، ونظرا لعنادهم وعتوهم وكراهتهم الحق والهدى ، ما كانوا يطيقون سمع آيات القرآن والتبصر بآيات الكون.

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا ...) أي أولئك الموصوفون بالأوصاف السابقة خسروا أنفسهم ؛ لأنهم أدخلوا نارا حامية يتزايد سعيرها ، كما قال تعالى : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ، كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء ١٧ / ٩٧] ولا موت ولا حياة فيها.

وضلّ عنهم أي ذهب عنهم الذي كانوا يفترونه من دون الله من الأنداد والأصنام ، فلم تجد عنهم شيئا ، بل ضرتهم كل الضرر ، كما قال تعالى : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف ٤٦ / ٦] وقال سبحانه : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم ١٩ / ٨١ ـ ٨٢].

(لا جَرَمَ ...) حقا إنهم في الآخرة أخسر الناس صفقة ؛ لأنهم استبدلوا بنعيم الجنان ودرجاتها عذاب جهنم ودركاتها ، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن ، وعن شرب الرحيق المختوم بسموم وحميم ، وعن الحور العين بطعام من غسلين ، وعن القصور العالية بالهاوية ، وعن قرب الرحمن بغضب الديان وعقابه.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) بعد أن ذكر تعالى حال الأشقياء أعقبه بذكر السعداء ، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله ، وعملوا في الدنيا الأعمال الصالحة ، فآمنت قلوبهم ، وثابروا على الطاعات وترك المنكرات ، وخشعوا لله وأنابوا إليه ، فلهم جنات العلى ذات النعم التي لا تعد ولا تحصى ، من كل ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وهم مخلدون فيها ، ماكثون فيها على الدوام ، لا يموتون ولا يهرمون ، ولا يمرضون ، ولا يخرج منهم مستقذر ، وإنما هو رشح مسك يعرقون به.

٤٨

ثم ذكر الله شبه الكافرين والمؤمنين وضرب مثلا لكليهما فقال : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) أي مثل الفريقين المذكورين اللذين وصفا سابقا وهم الكفار بالشقاء ، والمؤمنين بالسعادة ، كمثل الأعمى والأصم ، والسميع والبصير ؛ الكافر مثل الأعمى ، لتعاميه عن وجه الحق في الدنيا والآخرة ، وعدم اهتدائه إلى الخير وعدم معرفته إياه ، ومثل الأصم ؛ لعدم سماعه الحجج ، فلا يسمع ما ينتفع به ؛ والمؤمن مثل متفتح السمع والبصر ، لاستفادته بما يسمع من القرآن ، ويرى في الأكوان. والسمع والبصر وسيلتا العلم والهدى ، وطريقا تكوين العقل.

لا يستوي هذا وذاك صفة وحالا ومالا ، أفلا تذكرون أي تعتبرون ، فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء ، وكيف لا تميزون بين هذه الصفات المتباينة؟! كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر ٥٩ / ٢٠] وقال سبحانه : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ، إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر ٣٥ / ١٩ ـ ٢٢] واستعمال : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تنبيه على أنه يمكن علاج هذا العمى وهذا الصمم.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات ما يأتي :

١ ـ لا أحد أظلم لأنفسهم من الذين افتروا على الله كذبا ، فنسبوا كلامه إلى غيره ، وزعموا أن له شريكا وولدا ، وقالوا للأصنام : هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

٢ ـ ينادى بالكفار والمنافقين على رؤوس الخلائق : هؤلاء الذين كذبوا على الله ، ألا لعنة الله على الظالمين ، أي بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.

٤٩

والأشهاد المنادون بذلك : هم الملائكة ، أو الأنبياء والمرسلون ، والعلماء لذين بلّغوا الرسالات.

٣ ـ إن سبب اللعنة على الظالمين وطردهم من رحمة الله إنما هو صدّ أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة لله تعالى ، وعدولهم بالناس عن سبيل الله إلى المعاصي والشرك ، وكفرهم وجحودهم بالآخرة.

٤ ـ الظالمون وغيرهم لا يعجزون الله بعقابهم في الدنيا ، ولا يقدرون على الإفلات من سلطان الله وقدرته وخسف الأرض بهم ، وليس لهم أنصار ينصرونهم من دون الله تعالى ، وعقابهم مضاعف على قدر كفرهم ومعاصيهم بسبب إضلالهم غيرهم ، وبسبب تعطيلهم قدرات السمع والبصر في استماع الحق وإبصاره.

٥ ـ هؤلاء الظالمين خسروا أنفسهم وضاع عنهم افتراؤهم ، وتبدد كل ما تعلقوا به من آمال خاسرة ، وهم حقا في الآخرة أخسر الناس صفقة ؛ لاستبدالهم بنعيم الجنة بعذاب جهنم.

٦ ـ المؤمنون المصدقون بالله ورسوله ، العاملون الصالحات ، الخاشعون الخاضعون المنيبون لربهم ، هم أصحاب الجنة الماكثون فيها أبدا.

٧ ـ لا تساوي إطلاقا بين المؤمنين والكافرين ، كما لا تساوي بين الأعمى والبصير ، ولا بين الأصم والسميع ، أفلا تنظرون في الوصفين وتتعظون وتعتبرون؟! والخلاصة : إن الله تعالى وصف السعداء أهل الجنة بصفات ثلاث هي : الإيمان ، والعمل الصالح ، والخشوع إلى الله تعالى ؛ ووصف الأشقياء المنكرين الجاحدين أهل النار بأربع عشرة صفة هي :

١ ـ كونهم مفترين على الله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ).

٥٠

٢ ـ إنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ).

٣ ـ حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة لهم : (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ : هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ).

٤ ـ كونهم ملعونين من عند الله : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).

٥ ـ كونهم صادّين عن سبيل الله مانعين عن متابعة الحق : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

٦ ـ سعيهم في إلقاء الشبهات ، وتعويج الدلائل المستقيمة : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً).

٧ ـ كونهم كافرين : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ).

٨ ـ كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله : (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ).

٩ ـ إنهم ليس لهم أولياء يدفعون عنهم عذاب الله ، فليست أصنامهم شفعاء عند الله: (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ).

١٠ ـ مضاعفة العذاب لهم ، لسعيهم في الإضلال ومنع الناس عن الدين ، مع ضلالهم الشديد : (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ).

١١ ـ تعطيلهم وسائل الإيمان والمعرفة والاعتقاد الصحيح : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ).

١٢ ـ كونهم خاسرين أنفسهم لاشترائهم عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ).

٥١

١٣ ـ غيبة افترائهم وذهابه عنهم بحيث لم يعودوا يتنبهون لضلالهم : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

١٤ ـ كونهم خاسرين في الآخرة : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ).

قصة نوح عليه‌السلام

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١))

٥٢

الإعراب :

(أَنْ لا تَعْبُدُوا) بدل من (إِنِّي لَكُمْ) أو مفعول (مُبِينٌ) ويجوز أن تكون (أَنْ) مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير.

(ما نَراكَ) الكاف : مفعول أول. (الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) فاعل (اتَّبَعَكَ) ، و (اتَّبَعَكَ) وفاعله : مفعول ثان لنراك إذا كان من رؤية القلب ، وفي موضع الحال إذا كان من رؤية العين.

(بادِيَ الرَّأْيِ) منصوب على الظرف ، أو في بادي الرأي ، والعامل فيه : (نَراكَ) أي ما قبل إلا ؛ لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها. و (بادِيَ) بغير همز : اسم فاعل من بدا يبدو : إذا ظهر ، أي : ظاهر الرأي ، وقرئ بالهمز : من بدأ يبدأ ، أي أول الرأي.

(أَنُلْزِمُكُمُوها) أنلزم : يتعدى إلى مفعولين ، الأول : الكاف والميم ، والثاني : الهاء والألف ، وأثبت الواو في : (أَنُلْزِمُكُمُوها) ، ردا إلى الأصل ؛ لأن الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها ، كقولك : المال لك وله. وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعا ، وقدم الأعرف منهما ، جاز في الثاني الفصل والوصل.

(وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) جملة اسمية في موضع الحال ، و (لَها) : في موضع نصب لأنه يتعلق بكارهون.

(تَزْدَرِي) تقديره : تزدريهم ، فحذف المفعول من الصلة وهو العائد ، مثل : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان ٢٥ / ٤١] أي بعثه الله. وأصله : تزتري على وزن تفتعل ، ثم أبدل من التاء دالا لقرب مخرجهما.

البلاغة :

(فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) شبّه من لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك الصحراء لا يعرف طرقها على سبيل الاستعارة التمثيلية.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) استفهام للإنكار والتقريع.

المفردات اللغوية :

(إِنِّي لَكُمْ) أي بأني لكم. (نَذِيرٌ مُبِينٌ) بيّن الإنذار ، أبيّن لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص. (أَنْ لا تَعْبُدُوا) أي بألا تعبدوا. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن عبدتم غيره (عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) مؤلم في الدنيا والآخرة ، وهو في الحقيقة صفة المعذّب ، لكن يوصف به العذاب وزمانه على طريقة : جدّ جده ، ونهاره صائم للمبالغة.

٥٣

(الْمَلَأُ) الأشراف والزعماء. (إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) لا فضل لك علينا ، ولا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة. (أَراذِلُنا) أسافلنا وأخساؤنا وأصحاب الحرف الخسيسة والفقراء ، جمع أرذل الذي هو جمع رذل ، مثل كلب وأكلب وأكالب. (بادِيَ الرَّأْيِ) ظاهر الرأي من غير تعمق ، من البدو ، أو أول الرأي أو ابتداء الرأي من غير تفكر فيك ، من البدء ، أي في بدء الحكم عليك من أول وهلة ووقت حدوث أول رأيهم. وهو منصوب على الظرف ، أي وقت حدوث أول رأيهم. (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي زيادة تؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة. (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) في ادعاء الرسالة والنبوة ، وهذا الخطاب أدرجوا قومه معه فيه ، وغلب المخاطب على الغائبين.

(أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على حجة شاهدة بصحة دعواي الرسالة أو معجزة. (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي النبوة.

(فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) خفيت عليكم فلم تهدكم ، وحقه أن يقال : فعميتا ، ولكن أفرد الضمير إما لأن البينة في نفسها هي الرحمة ، أو لأن حذفها للاختصار أو الاقتصار على ذكره مرة ، أو لأنه لكل واحدة من البينة والرحمة. (أَنُلْزِمُكُمُوها) يعني أنجبركم أو أنكرهكم على قبولها والاهتداء بها. (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) لا تختارونها ولا تتأملون فيها ، أي لا نقدر على ذلك.

(لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على التبليغ ، وهو وإن لم يذكر فمعلوم مما ذكر. (مالاً) جعلا تعطونيه. (إِنْ أَجرِيَ) أى ما ثوابي المأمول. (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) جواب لهم حين سألوا طردهم. (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) بالبعث ، فيجازيهم ويأخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم. (تَجْهَلُونَ) عاقبة أمركم. (مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) أي يمنعني من عذابه ، أي لا ناصر لي إن طردتهم. (أَفَلا) فهلا. (تَذَكَّرُونَ) تتعظون ، فإن طردهم ليس بصواب.

(خَزائِنُ اللهِ) أي خزائن رزقه أو أمواله حتى جحدتم فضلي. (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) عطف ، أي ولا أقول لكم : أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني ، أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة ولا تصميم قلبي. (وَلا أَقُولُ : إِنِّي مَلَكٌ) بل أنا بشر مثلكم. (تَزْدَرِي) تحتقر شأنهم لفقرهم. (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) أي فإن ما أعد الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا. (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) قلوبهم. (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إن قلت شيئا من ذلك.

المناسبة :

بعد أن أثبت الله تعالى بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن القرآن وحي من الله تعالى ، وبعد أن ذكر حال فريقي المؤمنين والكافرين المكذبين ، وحض على الاعتبار

٥٤

والاتعاظ بالحالين بقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ذكر مجموعة من قصص الأنبياء للعظة والتذكر ، وبيان اشتراك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع من قبله من الأنبياء في الدعوة إلى أصول واحدة مشتركة بين الأنبياء ، وهي عبادة الله وحده والإيمان بالبعث والجزاء ، وتنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم.

التفسير والبيان :

أول هذه القصص المذكورة هنا هي قصة نوح عليه‌السلام ، وكان قد ذكر تعالى هذه القصة في سورة يونس ، وأعاد ذكرها هنا لما فيها من عظات وفوائد ، أهمها إعلام الكفار أن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم كغيره من الرسل ، جاء للدعوة إلى توحيد الله وإثبات البعث والحساب والجزاء.

وتضمنت قصة نوح هنا عدة عناصر هي :

وصف دعوته إجمالا ، ومناقشة قومه والرد عليهم ، واستعجالهم العذاب ، وكيفية صنع نوح السفينة ، وإغراقهم بالطوفان ، ونجاة نوح ومن آمن معه ، والتماس نوح إنجاء ابنه معه. وكان نوح عليه‌السلام أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام.

والمعنى : تالله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه المشركين ، فقال لهم : إني لكم نذير من الله ظاهر الإنذار ، أنذركم عذابه وبأسه إن أنتم عبدتم غير الله ، فآمنوا به وأطيعوا أمره ، ولا تعبدوا غيره ، ولا تشركوا به شيئا ؛ لأني أخاف عذاب يوم القيامة ، الذي هو عذاب شديد الألم.

ثم ذكر الله تعالى أجوبة قومه له وهي أربع شبهات :

الأولى ـ (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) أي قال السادة الكبراء من الكافرين منهم : ما أنت إلا بشر مثلنا ، أي لست بملك ، ولكنك بشر مشابه لنا في الجنس ، فلا مزية تمتاز بها علينا تستوجب الطاعة.

٥٥

الثانية ـ (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ ..) أي ولم يتبعك إلا أراذل القوم الأخساء أصحاب الحرف الخسيسة كالزرّاع والصناع ، وهم الفقراء والضعفاء ، في بادئ الأمر وظاهره دون تأمل ولا تفكر ولا تدبر في عواقب الأمور. ولو كنت صادقا لاتبعك الأشراف والأكياس من الناس ، كقوله تعالى : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء ٢٦ / ١١١].

الثالثة ـ (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي ما رأينا لكم علينا امتيازا ظاهرا في فضيلة أو قوة أو ثروة أو علم أو عقل أو جاه أو رأي ، يحملنا على اتباعكم : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف ٤٦ / ١١].

الرابعة ـ (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) أي بل يترجح لدينا كذبكم في ادعائكم الصلاح والسعادة في الدار الآخرة. ويلاحظ أنهم أشركوا معه أتباعه في هذه الإجابة ، وكان الخطاب لنوح ومن آمن معه.

ثم أخبر الله تعالى عن ردود نوح عليه‌السلام على قومه الذين أثاروا تلك الشبهات ، وغيرها مما لم يحكها القرآن وطواها ، أو لم يقولوها ولكن كلامهم يستلزمها.

(قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ ..) قال نوح : يا قومي ، أخبروني ماذا أفعل وما ترون؟ إن كنت على يقين وحجة ظاهرة فيما جئتكم به من ربي ، يتبين لي بها أني على حق من عنده ، وآتاني رحمة من عنده وهي النبوة والوحي ، فعمّيت عليكم أي خفيت عليكم ، فلم تهتدوا إليها ، ولا عرفتم قدرها ، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها ، أنكرهكم على قبولها ونغصبكم عليها ، وأنتم لها كارهون ، معرضون عنها ، فلا يعقل الإكراه في الدين.

وهذا دليل النبوة والترفع عن آراء الجهال والسذّج.

(وَيا قَوْمِ ، لا أَسْئَلُكُمْ ..) أي لا أطلب منكم على نصحي لكم مالا أي أجرا

٥٦

آخذه منكم ، وإنما أجري على الله عزوجل. وهذا قول تكرر صدوره من جميع الأنبياء بعد نوح ، مثل هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم‌السلام.

(وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ..) أي ليس من شأني طرد المؤمنين وتنحيتهم من مجلسي.

ويظهر من هذا أن أكابر الكفار كانوا يبغون تخصيصهم ببعض المزايا والامتيازات ، كتخصيص مجلس خاص بهم ، لا يلتقون فيه مع الضعفاء والفقراء ، أنفة منهم وكبرا وترفعا ، كما حدث تماما بين النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قومه قريش ، فقال تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام ٦ / ٥٢].

(إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) إن هؤلاء الأتباع سيلقون ربهم وسيحاسبهم على أعمالهم ، كما يحاسبكم ، ويعاقب من طردهم ، ولكني أراكم قوما تجهلون الحقائق وتترددون في ظلمات الجهل في استرذالكم لهم ، وسؤالكم طردهم ، فإن تفضيل الناس بعضهم على بعض إنما هو بالعمل الطيب والخلق الفاضل ، لا بالثروة والمال والجاه كما تزعمون.

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي ...) أي يا قوم من ينصرني من عذاب الله إن طردتهم ، فذلك ظلم عظيم ، كما قال تعالى : (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام ٦ / ٥٢] أفلا تذكّرون ، أي أفلا تتعظون وتتفكرون فيما تقولون؟! (وَلا أَقُولُ لَكُمْ ..) أي لا تعني النبوة والرسالة أني أملك خزائن رزق الله تعالى ، وأقدر على التصرف فيها ، وإنما أنا بشر كغيري من الناس مؤيد بالمعجزات ، أدعو إلى عبادة الله بإذنه ، ولا أعلم من الغيب إلا ما أطلعني الله عليه ، ولست ملكا من الملائكة ، ولا أستطيع القول لهؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم : لن ينالهم خير ، وليس لهم ثواب على أعمالهم ، وهو ما وعدهم الله به

٥٧

على الإيمان من سعادة الدنيا والآخرة ، الله أعلم بما في صدورهم ، فإن كان باطنهم كظاهر هم في الإيمان ، فلهم الحسنى ، وإن حكم إنسان على سرائرهم ، كان ظالما قائلا ما لا علم له به.

والمقصود بالآية أن نوحا عليه‌السلام أخبرهم بتذلله وتواضعه لله عزوجل.

وفي هذا دلالة على الخط الفاصل بين الأنبياء وبين الزعماء ، الأولون يهتمون بإرشاد الناس إلى ما فيه سعادتهم الدنيوية والأخروية دون إغراء بمال أو عطاء نفعي ، والآخرون يعتمدون في كسب الأتباع على الوعود بالمنافع المادية وبذل الأموال رخيصة من أجل كسب تأييدهم.

وفيه دلالة على أن النبي بشر لا ملك ، وأنه لا يعلم الغيب وإنما علمه عند الله ، كقوله تعالى : (قُلْ : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا ، إِلَّا ما شاءَ اللهُ ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ، وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) [الأعراف ٧ / ١٨٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ دعوة نوح قومه كدعوة سائر الأنبياء إلى عبادة الله وإطاعته وحده لا شريك له ، وترك عبادة الأصنام.

٢ ـ الاستمرار على الكفر أو عبادة الأصنام يوجب العذاب الأليم الموجع الشاق في الدار الآخرة.

٣ ـ إن الغالب في إعراض قوم نوح من الأشراف والسادة والكبراء كإعراض كل المكذبين الجاحدين مبني على أعذار واهية ، رأسها الاستكبار والاستعلاء على بقية الناس من الفقراء والضعفاء الذين يتبعون الحق غالبا ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٢٣].

٥٨

وهكذا يكون الغالب على ضعفاء الناس اتباع الحق ، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته ، كما ذكرت الآية : (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها ..) ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له فيما قال : أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال : بل ضعفاؤهم. فقال هرقل : هم أتباع الرسل.

٤ ـ قولهم : (بادِيَ الرَّأْيِ) ليس بمذمة ولا عيب في الواقع ؛ لأن الحق إذا وضح ، لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال ، بل لا بد من اتباع الحق حينئذ لكل ذي عقل وذكاء ، ولا يفكر عندئذ بالبعد عنه إلا غبي أو عيي ، والرسل عليهم‌السلام إنما جاؤوا بأمر جلي واضح. جاء في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر ، فإنه لم يتلعثم» أي ما تردد ولا تروى ؛ لرؤيته أمرا عظيما واضحا ، فبادر إليه وسارع.

٥ ـ الأنبياء يتمسكون عادة بما ثبت لديهم يقينا من وحي الله تعالى ، والنبوة والرسالة ، ولو عارضهم أكثر الناس.

٦ ـ لا يلجأ الأنبياء عادة إلى إكراه أحد من الناس على قبول دعوتهم : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) وهو استفهام بمعنى الإنكار ، أي لا يمكنني أن أضطركم إلى الإيمان والمعرفة بها ، وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، أو النبوة والرحمة الإلهية أو البينة. وهذا أول نص يمنع الإكراه على الدين.

٧ ـ لا يصح عقلا وذوقا وأدبا طرد الأنبياء من يؤمنون بهم ، لا لشيء إلا لأنهم فقراء ضعفاء ، فلو فعل ذلك أحدهم فرضا لخاصموه عند الله ، وجازاهم على إيمانهم ، وجازى من طردهم ، ولا يجد من ينصره ويمنعه من عذاب الله إن طردهم لأجل إيمانهم ، ويكون طرد المؤمنين بصفة دائمة لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي ، ولا يقدم عليه نبي. والمقصود هو الطرد المطلق على سبيل التأبيد.

٥٩

٨ ـ خزائن الرزق في تصرف الله تعالى ، والغيب لا يعلمه إلا الله عزوجل ، ولا يقول نبي : إن منزلته عند الناس منزلة الملائكة.

٩ ـ احتج بعض العلماء بآية : (وَلا أَقُولُ : إِنِّي مَلَكٌ) على أن الملائكة أفضل من الأنبياء؟ لدوامهم على الطاعة ، واتصال عباداتهم مذ خلقوا إلى يوم القيامة.

١٠ ـ الفضائل الحقيقة الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء : الاستغناء المطلق فلا أدعيه : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) والعلم التام : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) والقدرة التامة الكاملة : (وَلا أَقُولُ : إِنِّي مَلَكٌ) والملائكة أكمل المخلوقات في القدرة والقوة.

والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة أنه ما حصل لنوح عليه‌السلام إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية ، وأما الكمال المطلق فلا يدعيه.

١١ ـ إن استحقاق المؤمن ثواب الله تعالى لا يمنعه اعتراض أحد : (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم ، أو ينقص ثوابهم ، الله أعلم بما في أنفسهم فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به.

استعجال قوم نوح العذاب ويأسه منهم

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥))

٦٠