التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

سائر القرى المحيطة بها بتاتا أمر عجيب.

ثم إن عدم وصول الآفة إلى لوط عليه‌السلام وأهله ، مع قرب مكانهم من ذلك الموضع معجزة قاهرة أيضا.

١٠ ـ وصف الله تعالى الحجارة التي رمي بها قوم لوط بصفات ثلاث هي :

الأولى ـ كونها من سجّيل ، أي الشّديد الكثير ، أو الطين المتحجّر.

الثانية ـ قوله تعالى : (مَنْضُودٍ) أي متتابع ، أو مصفوف بعضه على بعض ، أو مرصوص.

الثالثة ـ (مُسَوَّمَةً) أي معلّمة ، من السّيما وهي العلامة ، أي كان عليها أمثال الخواتيم.

وقوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكَ) قال الحسن : دليل على أنها ليست من حجارة الأرض.

وقوله تعالى : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) يعني قوم لوط ؛ أي لم تكن تخطئهم ، وهي أيضا عبرة لكلّ ظالم من أهل مكة وغيرهم.

روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرّجال ، ونساؤهم بالنّساء ، فإذا كان ذلك ، فارتقبوا عذاب قوم لوط ، أن يرسل الله عليهم حجارة من سجّيل» ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

١١ ـ دلّ قوله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) على أن من فعل فعل قوم لوط ، حكمه الرّجم ، كما تقدّم في سورة الأعراف.

١٢١

قصة شعيب عليه‌السلام

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا

١٢٢

عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

الإعراب :

(مُفْسِدِينَ) حال مؤكدة لمعنى عاملها : (تَعْثَوْا).

(أَنْ نَفْعَلَ) في موضع نصب ، معطوف على (نَتْرُكَ) أي : أن نترك عبادة آبائنا وفعل ما نشاء في أموالنا.

(لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) فاعل ، والضمير مفعول أول ، والثاني : (أَنْ يُصِيبَكُمْ).

(ضَعِيفاً) حال من كاف (لَنَراكَ) لأنه من رؤية العين ، ولو كان من رؤية القلب لكان مفعولا ثانيا.

(مَنْ يَأْتِيهِ) اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب بتعلمون.

(وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) جاء بالتاء هنا على الأصل ، ولم يعتد بالفصل بالمفعول به بين الفعل والفاعل ، وقد جاء القرآن بالوجهين ، وكأنه جيء بالتاء هاهنا طلبا للمشاكلة ؛ لأن بعدها : كما بعدت ثمود ، وأنث الفعل على لفظ الصيحة ، وذكر في قصة صالح على معنى الصياح.

البلاغة :

(عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) مجاز عقلي ، أسند الإحاطة للزمان الذي هو اليوم ، مع أنه ليس بجسم والعذاب فيه.

(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) فيه استعارة تمثيلية كالشيء الذي يلقى وراء الظهر.

١٢٣

المفردات اللغوية :

(وَإِلى مَدْيَنَ) أي وأرسلنا إلى مدين. والمراد أهل مدين ، وهو بلد بناه مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، فسمي باسمه. (اعْبُدُوا اللهَ) وحدوه. (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) بثروة ، وسعة في الرزق ، ونعمة تغنيكم عن التطفيف ، أو أراكم بنعمة من الله تعالى ، حقها أن تقابل بغير ما تفعلون ، أو أراكم بخير ، فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه. (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن لم تؤمنوا (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) بكم ، لا يشذ منه أحد منكم ، يهلككم ، ووصف اليوم به مجاز ، لوقوعه فيه.

(أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أوفوهما بالعدل ، أمر بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيها على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف ، بل يلزمهم السعي في الإيفاء ، ولو بزيادة لا يتأتى دونها. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) لا تنقصوا من حقهم شيئا. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي تفسدوا ، بنقص الحق أو القتل أو غيره كالسرقة والغارة ، وكل من الجملتين الأخيرتين تعميم بعد تخصيص ، فقوله : (لا تَبْخَسُوا) أعم من أن يكون في المقدار أو في غيره. وقوله : (لا تَعْثَوْا) يعمّ العثو تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد.

(بَقِيَّتُ اللهِ) رزقه الباقي لكم بعد إيفاء الكيل والوزن ، أو ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم (خَيْرٌ لَكُمْ) من البخس ومما تجمعون بالتطفيف (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بشرط أن تؤمنوا ، فإن ثواب الفعل الصالح والنجاة مشروط بالإيمان (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظكم عن القبائح ، أو رقيب أحفظ عليكم أعمالكم ، فأجازيكم عليها ، وإنما أنا نذير ناصح مبلّغ ، وقد أعذرت حين أنذرت.

(قالُوا : يا شُعَيْبُ) قالوا له استهزاء. (أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام ، أجابوا به بعد أن أمرهم بالتوحيد. (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) معطوف على (ما) ، أي : وأن نترك فعلنا ما نشاء بأموالنا ، والمعنى : هذا أمر باطل لا يدعو إليه داع بخير ، وقصدوا الاستهزاء بصلاته ، وكان شعيب كثير الصلوات ، فخصوا الصلاة بالذكر ، وقالوا : إن دعوتك لا يؤيدها داع عقلي ، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه من الصلاة. (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قالوا ذلك استهزاء ، وتهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك. والحليم : العاقل المتأني ، والرشيد : المستقيم على الهداية الراسخ فيها.

(قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة. (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) ضمير (مِنْهُ) عائد إلى الله ، وذلك إشارة إلى ما آتاه الله من الحلال ، فهل أشوبه بالحرام ، من البخس والتطفيف. وجواب الشرط محذوف تقديره: فهل يعقل لي مع هذه السعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه؟! وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء. (إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أذهب إلى ما نهيتكم

١٢٤

عنه فأرتكبه. (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي ما أريد إلا أن أصلحكم بالعدل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) أي وما قدرتي على ذلك وغيره من الطاعات ، وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فوضت أمري إليه ، فإنه القادر المتمكن من كل شيء ، وما عداه عاجز في ذاته ، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار ، وفيه إشارة إلى محض التوحيد. (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أرجع ، إشارة إلى معرفة المعاد ، وهو أيضا يفيد الحصر ، بتقديم الصلة على الفعل.

وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإصابة الحق من الله تعالى ، والاستعانة به في أموره كلها ، والإقبال عليه ، وحسم أطماع الكفار ، وعدم المبالاة بمعاداتهم ، وتهديهم بالرجوع إلى الله للجزاء.

(لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) لا يكسبنكم خلافي الشديد معكم ومعاداتي. (ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الرجفة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) أي منازلهم أو زمن هلاكهم ، أي مكانا أو زمانا ، فإن لم تعتبروا بمن قبلهم ، فاعتبروا بهم. وإفراد (بِبَعِيدٍ) إما لأن المراد : وما إهلاكهم ببعيد ، أو ما هم بشيء بعيد ، أو بزمان أو مكان بعيد.

(إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) بالمؤمنين ، عظيم الرحمة بالتائبين. (وَدُودٌ) محب لهم ، فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل الصادق الود بمن يوده ، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.

(قالُوا) إيذانا بقلة المبالاة. (ما نَفْقَهُ) ما نفهم ، والفقه : الفهم الدقيق المتعمق. (مِمَّا تَقُولُ) من التوحيد. (ضَعِيفاً) ذليلا (رَهْطُكَ) عشيرتك وقومك ، والرهط : من الثلاثة إلى العشرة. (لَرَجَمْناكَ) بالحجارة. (بِعَزِيزٍ) أي كريم عن الرجم. وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد.

(أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) فتتركوا قتلي لأجلهم ، ولا تحفظوني لله. (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) أي الله. (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) جعلتموه بشرككم كالشيء الملقى خلف الظهر ، لا تراقبونه ، أو كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به وإهانة رسوله. (مُحِيطٌ) علما بما تعملون ، فيجازيكم ؛ لأنه لا يخفى عليه شيء منها.

(عَلى مَكانَتِكُمْ) حالتكم وتمكنكم في قوتكم. (إِنِّي عامِلٌ) على حالتي. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) الذي يعذبه الله تعالى. (وَارْتَقِبُوا) انتظروا عاقبة أمركم. (رَقِيبٌ) منتظر. وقد سبق مثله في سورة الأنعام بالفاء : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأنعام ٦ / ١٣٥ ومواضع أخرى] والفاء للتصريح بان الإصرار على الكفر سبب للعذاب ، وحذفها هاهنا ؛ لأنه جواب سائل قال : فما ذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاكهم. (الصَّيْحَةُ) صاح بهم جبريل فهلكوا. (جاثِمِينَ)

١٢٥

باركين على الرّكب ميتين. (كَأَنْ) مخففة أي كأنهم (لَمْ يَغْنَوْا) يقيموا. (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) شبههم بهم ؛ لأن عذابهم أيضا كان بالصيحة ، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم ، وصيحة مدين كانت من فوقهم.

المناسبة :

هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة ، وقد تقدم ذكر هذه القصة في سورة الأعراف ، وجيء بها في كل موضع لعظة وعبرة وأحكام مختلفة ، مع اختلاف في الأسلوب والنظم.

وتضمنت القصة هنا تبليغ شعيب عليه‌السلام دعوته ، ومناقشة قومه له وردّه عليهم ، وإنذار شعيب لهم بالعذاب ، ثم وقوعه بالفعل ، ونجاة المؤمنين.

ومدين : اسم مدينة بين الحجاز والشام قرب (معان) بناها مدين بن إبراهيم عليه‌السلام.

التفسير والبيان :

ولقد أرسلنا إلى مدين أخاهم في القبيلة شعيبا الذي كان من أشرفهم نسبا ، فقال : يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له ، فهذا أمر بالتوحيد الذي هو أصل الإيمان ، ثم نهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان فقال : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان ، كما قال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين ٨٣ / ١ ـ ٣] والمطففون : المنقصون ، و (يُخْسِرُونَ) : ينقصون.

(إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي إني أراكم بثروة وسعة في الرزق ورفاه في المعيشة ، تغنيكم عن الطمع والدناءة في بخس الناس حقوقهم ، وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله تعالى ، وإني أخشى عليكم عذاب يوم يحيط بكم جميعا ،

١٢٦

فلا يترك أحدا منكم ، وهو إما عذاب الاستئصال في الدنيا ، وإما عذاب الآخرة في جهنم.

ويا قوم وفّوا الكيل والوزن بالعدل ، آخذين ومعطين ، وهو أمر بالإيفاء بعد النهي عن البخس ، للتأكيد والتنبيه على أنه لا يكفي الامتناع عن تعمد التطفيف ، بل يلزمهم الإيفاء ولو بزيادة قليلة.

ثم نهاهم عن النقص في كل الأشياء ، فقال : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) والبخس : النقص في كل الأشياء ، أي إياكم والظلم أو الجور في حقوق الناس. (وَلا تَعْثَوْا ..) العثو : الفساد التام ، أي لا تفسدوا شيئا من مصالح الدين والدنيا ، وقد كانوا يقطعون الطريق ، وأنتم تتعمدون الإفساد ، فقوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا) يشمل إنقاص الحقوق وغيره من أنواع الفساد الدنيوية والدينية ، وقوله بعدها (مُفْسِدِينَ) معناه : حالة كونكم قاصدين الإفساد ، فلا إثم في حال الخطأ أو إرادة الإصلاح.

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ ..) أي ما يبقى لكم من الربح الحلال بعد إيفاء المكيال والميزان خير لكم من الحرام ، وأكثر بركة وأرجى عاقبة مما تأخذونه بطريق الحرام ، بشرط أن تكونوا مؤمنين ؛ لأن جعل البقية خيرا لهم إنما هو متحقق في حال الإيمان ، وأما مع الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال ، ثم إن الإيمان حافز باعث على الطاعة ، فإنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب ، عملوا على تحصيل ما يؤدي إلى الثواب والنجاة من العقاب ، وذلك خير من مسعاهم في أخذ الزائد القليل من الحرام في أثناء الكيل والوزن.

وما أنا عليكم برقيب على أعمالكم ، ولا مستطيع منعكم من القبائح ، وإنما أنا ناصح أمين ، فافعلوا الحلال والواجب بدافع من أنفسكم لله عزوجل ، ولا تفعلوه ليراكم الناس ، ما علي إلا البلاغ ، وعلى الله حساب الأقوال والأفعال.

١٢٧

ثم ذكر الله تعالى ردّ أهل مدين على شعيب عليه‌السلام في الأمر بعبادة الله وحده ، وترك البخس أو عدم نقص الكيل والميزان.

أما الردّ على الأول وهو العبادة لله فقالوا : (يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ...) أي هل صلاتك (أي الأعمال المخصوصة) ـ وكان شعيب كثير الصلاة ـ تأمرك بترك عبادة الآباء والأجداد وهي عبادة الأوثان والأصنام؟! قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية ، وأعلنوا التمسك بطريقة التقليد في التدين والإيمان ، كما يقال اليوم لعالم الدين المصلح : هل علمك أو مشيختك دافع لك إلى ترك ما نحن عليه؟!

وأما الرّد على الأمر الثاني وهو ترك البخس فقالوا : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ..) أي وهل صلاتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نريد فعله؟ والمقصود بيان أنهم أحرار في أموالهم يتصرفون فيها بما هو مصلحة لهم ، ولا يؤدون الزكاة ، ولا ينفقون منها شيئا في سبيل الخير ، وإنما يزيدونها بمختلف الوسائل ، فما أمرتنا به من ترك التطفيف والبخس ، والاقتناع بالحلال القليل ، وأنه خير من الحرام الكثير ، مناف لسياسة تنمية المال وتكثيره ، وما ذلك إلا حجر على حريتنا الاقتصادية.

والخلاصة : أن ردهم على شعيب في الأمرين تضمن إمعانهم في التمسك بالتقليد ، وفي الطمع المادي الذي لا يبالي فيه صاحبه بالحلال والحرام.

ثم أكدوا سخريتهم وهزءهم بقولهم : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) أي إنك لصاحب الحلم والأناة والعقل والتروي ، والرشد والاستقامة! وأرادوا وصفه بضد ذلك من الجهالة والطيش وسفاهة الرأي ، وغواية الفعل ، فعكسوا ليتهكموا به.

ثم حسم أطماع الكفر فقال : (يا قَوْمِ ، أَرَأَيْتُمْ ..) أي أخبروني يا قوم إن كنت على بصيرة من ربي فيما أدعو إليه ، ويقين تام وحجة واضحة فيما آمركم به

١٢٨

وأنهاكم عنه ، ورزقني من لدنه رزقا طيبا من النبوة والحكمة ، أو رزقا حسنا حلالا طيبا من غير بخس ولا تطفيف ، أخبروني إن كنت على يقين من ربي ، وكنت نبيا على الحقيقة ، أيصح لي ألا آمركم بترك عبادة الأوثان ، والكف عن المعاصي ، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك ، فجواب الكلام محذوف.

(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي لا أنهاكم عن الشيء ، وأخالف أنا في السر ، فأفعله خفية عنكم ، والمراد لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه ، بل أنا متمسك به.

ثم أكد مهمته : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ ...) أي ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي ، وأمري بالمعروف ، ونهي عن المنكر ، مدة استطاعتي للإصلاح ، لا آلو جهدا في ذلك. وفيه إيماء إلى إثبات عقله ورشده ، وإبطال تهكمكم.

وما توفيقي في إصابة الحق فيما أريده إلا بالله وهدايته وعونه ، عليه توكلت في جميع أموري ، ومنها تبليغ رسالتي ، وإليه أنيب أي أرجع. وهذا يعني ثباته على المبدأ والدعوة ، دون أن يخشى منهم سوءا.

ويا قوم ، لا يحملنكم خلافي معكم ، ولا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد ، فيصيبكم ما أصاب غيركم وأمثالكم من العذاب والنقمة ، مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق ، أو قوم هود من الريح الصرصر العاتية ، أو قوم صالح من الرجفة.

وما حدث بقوم لوط من العذاب ليس ببعيد زمانا ولا مكانا ، فإن لم تعتبروا بمن قبلهم ، فاعتبروا بهم.

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ..) أي اطلبوا المغفرة من ربكم على سالف الذنوب من

١٢٩

عبادة الأوثان ونجس المكيال والميزان ، ثم توبوا إليه فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة ، وارجعوا إلى طاعته ، فإن ربي رحيم بمن تاب إليه وأناب ، كثير الود والمحبة ، يحب من تاب ، فهو عظيم الرحمة للتائبين ، كثير المودة فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه من الإحسان. وهذا دليل على أن الاستغفار والتوبة عن الذنوب يسقطها ، ويكون سببا لخيري الدنيا والآخرة.

وبعد أن فشلت المحاورات والمجادلات ، لجأ القوم إلى الإهانة والتهديد وإلصاق التهم الباطلة بشعيب عليه‌السلام ، وعدم المبالاة به.

(قالُوا : يا شُعَيْبُ ، ما نَفْقَهُ ..) قال أهل مدين : يا شعيب ما نفهم كثيرا من قولك ، مع أنه كما قال الثوري : كان يقال له خطيب الأنبياء ، وأنت واحد ضعيف ، لا حول لك ولا قوة ولا قدرة على شيء من النفع والضر ، ولولا جماعتك وعشيرتك الأقربون ومعزتهم علينا ، لرجمناك بالحجارة ، وليس عندنا لك معزة ولا تكريم ، ولا حرمة ولا منزلة في الصدور. والرهط : من الثلاثة إلى العشرة ، ورهط الرجل : عشيرته الذين يستند إليهم ويتقوى بهم. والمعنى أنك لما لم تكن علينا عزيزا ، سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك.

وكل ما ذكروه لا يبطل ما قرره شعيب عليه‌السلام من الدلائل ، بل هو مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة.

فوبخهم شعيب على سفاهتهم : (قالَ : يا قَوْمِ ، أَرَهْطِي ...) أي يا قومي وأهلي ، أرهطي أعز وأكرم عليكم من الله ، أتتركوني لأجل قومي؟ ولا تتركوني لأجل الله ، والله تعالى أولى أن يتبع أمره ، وقد اتخذتم جانب الله وراءكم ظهريا ، أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه ولا تعظمونه ، ولا تخافون بأسه وعقابه إن أقدمتم على الإساءة لنبيه ورسوله. إن ربي محيط علمه بعملكم ، عالم بأحوالكم ، فلا يخفى عليه شيء منها ، وسيجازيكم. وذلك تحذير وتهديد ووعيد.

١٣٠

ولما يئس شعيب عليه‌السلام من استجابتهم لدعوته أعلن موقف الحسم والفصل فيما بينه وبينهم : (وَيا قَوْمِ ، اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ..) أي يا قوم اعملوا على طريقتكم ، واعملوا كل ما في وسعكم وطاقتكم على إلحاق الشر بي ، فإني أيضا عامل على طريقتي بما آتاني الله من القدرة ، أي أنتم باقون على الكفر والضلال ، وأنا ثابت على الدعوة والثقة بقدرة الله تعالى ، وهذا تهديد شديد.

سوف تعلمون من ينزل به عذاب يخزيه ويذله في الدنيا والآخرة ، ومن هو كاذب في قوله مني ومنكم ، وانتظروا ما أقول لكم من إيقاع العذاب ، إني معكم رقيب منتظر. وهذا تصريح منه بالوعيد ، بعد الترك على ما هم عليه.

ثم جاء ما يؤيد صدقه : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا ...) أي ولما جاء أمرنا بعذابهم ، ونفذ قضاؤنا فيهم ، نجينا رسولنا شعيبا والمؤمنين معه ، برحمة خاصة بهم ، وأخذت الظالمين بظلمهم الصيحة : وهي صوت من السماء شديد مهلك مرجف ، وفي سورة الأعراف : هي الرجفة ، وفي الشعراء : عذاب يوم الظلة ، وهم أمة واحدة ، اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها ، فأصبحوا قعودا ميتين لا يتحركون ، وقد اختلف التعبير في كل سورة بما يناسب الإساءة ، ففي الأعراف هددوا بإخراج شعيب ومن معه من قريتهم ، فذكر هناك الرجفة ، وهنا أساؤوا الأدب في مقالتهم مع نبيهم فذكر الصيحة التي أخمدتهم ، وفي الشعراء طلبوا إسقاط كسف من السماء عليهم ، فأخذهم عذاب يوم الظلة.

كأنهم لم يقيموا في بلادهم طويلا في رغد عيش ، ولم يعيشوا فيها قبل ذلك ، ألا بعدا من رحمة الله ، وهلاكا لهم ، كما بعدت وهلكت من قبلهم ثمود ، وكانوا جيرانهم قريبا منهم في الدار ، وشبيها بهم في الكفر وقطع الطريق ، وكانوا عربا مثلهم.

فكان عذابهم واحدا وهو الصاعقة ذات الصوت الشديد ، التي زلزلت الأرض

١٣١

من شدتها ورجفت ، فخروا ميتين. قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح ، فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت قصة شعيب مع قومه على ما يأتي ، ومجملة : إيقاع العذاب بعد الإعراض عن رسالة السماء :

١ ـ اشتملت دعوة شعيب على جانبين : إصلاح العقيدة وإصلاح الحياة الاجتماعية ، ففي الجانب الأول : دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وفي الجانب الثاني : أمرهم بإيفاء الكيل والميزان وترك البخس والنقص أو التطفيف ، فإنهم كانوا مع كفرهم أهل بخس ونقص في حقوق الناس ؛ كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام ، أخذوا بكيل زائد ، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا ؛ وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص ، وشحوا عليه بما يقدرون ، فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك ، وبالوفاء بالحق التام الكامل نهيا عن التطفيف ، علما بأنهم كانوا بخير وفي سعة من الرزق وكثرة النعم ، لكن الطمع والشره المادي أرادهم وجعل سمعتهم سيئة بين الناس.

٢ ـ كان عذاب أهل مدين عذاب استئصال في الدنيا ، ودمار عام ؛ لقوله تعالى : (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) وصف اليوم بالإحاطة ، أي الإحاطة بهم ، فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم ، فقد أحاط العذاب بهم ، وهو كقولك : يوم شديد ؛ أي شديد حره. وقيل : هو عذاب النار في الآخرة. جاء في الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء».

١٣٢

٣ ـ اكتفى شعيب بمرة واحدة بالدعوة إلى توحيد الإله ، ولكنه كرر وأكد النهي عن بخس الحقوق بألوان مختلفة ، فأمر بالإيفاء (أي الإتمام) بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا ، ووصف الإيفاء بالقسط أي بالعدل والحق ، لكي يصل كل ذي حق إلى حقه ، وأراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود ، وكذا الصّنجات ، ثم عمم بعد التخصيص عن بخس الناس أشياءهم ، أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا ، ثم نهى عن الإفساد في مصالح الدنيا والآخرة : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض.

وذكر أن البخس بطر وترف وطمع ، فلم يكونوا بحاجة ، وإنما كانوا بخير : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي سعة في الرزق والمعيشة ، وقال : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة ، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم. وشرط للاستقامة وجود الإيمان : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط هذا ؛ لأنهم إنما يعرفون صحة كون بقية الله خيرا إن كانوا مؤمنين.

وجعل رقابة الله في السر والعلن على كل تاجر هي الأساس والباعث على الخشية والطاعة وأداء الحقوق : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم ، فلا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق.

٤ ـ كانت ردود القوم المحجوجين بالأدلة والبينات في غاية الجهالة والسفاهة ، فأعلنوا تمسكهم بالتقليد في عبادة الأوثان والأصنام ، وادعاء حريتهم التجارية التي لا تقوم على العدل والحق ، وسخروا من صلاته وعبادته التي كان يكثر منها ، ونالوا من صفاته ، فقالوا على سبيل الاستهزاء والسخرية : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ؟ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ!) أي أنت ذو سفاهة

١٣٣

وطيش ، وغواية وضلال ، لا لشيء إلا لأن شعيبا عليه‌السلام أمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم!! وإنما أقروا له بذلك ؛ لأنه كان مشهورا فيما بين الناس بصفة الحلم والرشد.

٥ ـ كان من قبائحهم قرض الدراهم لتنقيص قدرها ، وكسرها لإفساد وصفها ، قال المفسرون : كان مما ينهاهم عنه ، وعذّبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم ، كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة ، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدّا ، وعلى المقروضة وزنا ، وكانوا يبخسون في الوزن.

وتلك معاص ومفاسد تستحق العقاب ، وتوجب ردّ الشهادة.

٦ ـ حسم شعيب عليه‌السلام أطماع الكفار ، سواء في العقيدة أو في صلاح التعامل ، وأعلن ثباته على مبدئه بقوله : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي ما أريد إلا فعل الصلاح وإزالة الفساد ، وهو أن تصلحوا دنياكم بالعدل ، وآخرتكم بالعبادة ، ولم يتزحزح عن موقفه في توحيد الله تعالى : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) وثقته به وتفويض أمره إليه ورجوعه إليه في جميع النوائب ، واعتماده في الرشد والتوفيق عليه : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

وإذا كانت هذه صفاتي فاعلموا أن أمري بالتوحيد وترك إيذاء الناس هو دين حق ، وأن مهمتي هي الإبلاغ والإنذار ، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه.

ولم يتردد شعيب عليه‌السلام لحظة واحدة في إيفاء الحقوق وإتمام الكيل والميزان : (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) أي واسعا حلالا ، وكان شعيب عليه‌السلام كثير المال (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي ليس

١٣٤

أنهاكم عن شيء وأرتكبه ، كما لا أترك ما أمرتكم به. وهكذا فإن فعل النبي مطابق لقوله ؛ لأنه الأسوة الحسنة ، ولا يعقل غير ذلك.

والخلاصة : إنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية والجسمانية ، وهي المال والرزق الحسن ، فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه ، وأن أخالفه في أمره ونهيه.

٧ ـ دلّ قوله : (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته ، وأنه لا مدخل للكسب فيه ، وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى ، والإذلال من الله تعالى ، وإذا كان الكل من الله فإن شعيبا أراد القول لهم : فأنا لا أبالي بمخالفتكم ، ولا أفرح بموافقتكم ، وإنما أقرر دين الله ، وأوضح شرائعه.

٨ ـ التهديد والإنذار بالعذاب قبل وقوعه رحمة بالناس ولطف بهم ، لعلهم يرعوون ويرجعون من قريب إلى الله تعالى وإلى طاعته ، وإلى توحيده ، والتخلص من الشرك والوثنية. وقد أنذر شعيب عليه‌السلام قومه أهل مدين بقوله : لا يكسبنكم معاداتي أن يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا ، مثل ما حصل لقوم نوح عليه‌السلام من الغرق ، ولقوم هود من الريح العقيم ، ولقوم صالح من الرجفة ، ولقوم لوط من الخسف ، وكانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط.

٩ ـ الاستغفار والتوبة من الذنوب الماضية والتصميم على عدم العود إلى مثلها في المستقبل طريق النجاة والأمن من العذاب ؛ لأن الله عظيم الرحمة كثير الودّ والمحبة لعباده لينقذهم من العقاب. روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال : «ذاك خطيب الأنبياء».

١٠ ـ بعد أن يئس الكفار أهل مدين من تحقيق مآربهم عن طريق التهكم

١٣٥

والاستهزاء والسخرية من شعيب عليه‌السلام ، لجؤوا إلى التهديد والوعيد مظهرين أنه ضعيف لا سند له ، وأنهم أعزة أقوياء ، ولولا مجاملة عشيرته لقتلوه رجما بالحجارة ، وما هو بعزيز عليهم ولا كريم ، ولا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع.

وهذا شأن الكفار عادة ، يعتمدون على القوة المادية ، ويهملون النظر إلى تدبير الله وقوته وقهره وقدرته ، لذا أراد شعيب أن يلفت نظرهم إلى ضرورة رعاية جانب الله تعالى ، وليس مجرد رعاية جانب قومه ، فقال : أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراما لرهطي ، والله تعالى أولى أن يتبع أمره.

١١ ـ قابلهم شعيب عليه‌السلام بتهديد ووعيد أشد وآكد وأوقع وأصدق ، وقال لهم : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) سوف تعلمون الصادق من الكاذب ، وسوف ترون من يأتيه عذاب يخزيه ويهلكه. وانتظروا العذاب والسخط ، فإني منتظر النصر والرحمة.

١٢ ـ كان عذاب أهل مدين كثمود بالصيحة ، قيل : صاح بهم جبريل صيحة ، فخرجت أرواحهم من أجسادهم ، وصاروا ميتين ، كأن لم يعيشوا في دارهم.

١٣ ـ ينضم إلى العذاب الدعاء على الكفار وإعلان الطرد من رحمة الله تعالى : (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) أي هلاكا لهم وبعدا عن رحمة الله ، كما هلكت قبلهم ثمود ، وبعدت من رحمة الله تعالى.

١٤ ـ من فضل الله ورحمته أنه نجى شعيبا ومن معه من المؤمنين ، وهو تنبيه على أن كل ما يصل إلى العبد ، لا يكون إلا بفضل الله ورحمته ، وأن الخلاص والنجاة والإيمان والطاعة والأعمال الصالحة لا تحصل إلا بتوفيق الله تعالى.

١٣٦

قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون وملئه

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))

البلاغة :

(فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) استعارة مكنية ، شبه النار بماء يورد ، وحذف المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه ، وهو الورود ، وشبه فرعون في تقدمه على قومه بمنزلة من يتقدم على الواردين إلى الماء ، للري من العطش.

(وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) تأكيد لما سبق ؛ لأن الورد يكون عادة لتسكين العطش ، وفي النار إلهاب للعطش.

المفردات اللغوية :

(بِآياتِنا) أي بالمعجزات ، وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الإسراء [الآية ١٠١] وسورة النمل [الآية ١٢] والمفصّلة في سورة الأعراف [الآية ١٣٣]. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) السلطان : الدلائل والحجج القوية الظاهرة ، والمبين : الظاهر الجلي. والفرق بين هذه الكلمات الثلاث : أن الآيات : اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظن ، وبين الدلائل التي تفيد اليقين. وأما السلطان : فهو اسم لما يفيد القطع واليقين ، لكنه اسم للقدر المشترك بين الدلائل التي تؤكد بالحس ، وبين الدلائل التي لم تتأكد بالحس. والسلطان المبين : هو الدليل القاطع الذي تأكد بالحس. ولما كانت معجزات موسى عليه‌السلام هكذا ، وصفها الله بأنها سلطان مبين.

(وَمَلَائِهِ) الملأ : أشراف القوم وزعماؤهم. (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي وما شأنه وتصرفه بمرشد أو سديد أو بذي رشد وهدى ، وإنما هو غيّ محض وضلال صريح.

١٣٧

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ) أي يتقدمهم يوم القيامة إلى النار ، كما كان يتقدمهم في الدنيا إلى الضلال ويتبعونه في الحالين ، يقال : قدم بمعنى تقدم. (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أدخلهم فيها ، ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ، ونزل النار لهم منزلة الماء ، فسمي إتيانها موردا. (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) هي ، أي بئس المورد الذي وردوه ، فإن المورد يراد عادة لتبريد الأكباد وتسكين العطش ، والنار بالضد من ذلك. والآية كالدليل على قوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) فإن من هذه عاقبته لم يكن في أمره رشيدا.

(وَأُتْبِعُوا) ألحقوا (فِي هذِهِ) الدنيا (لَعْنَةً) طردا من رحمة الله (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يلعنون في الدنيا والآخرة (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي بئس العون المعان ، أو العطاء المعطى. والمخصوص بالذم محذوف ، أي رفدهم وهو اللعنة في الدارين.

المناسبة :

هذه هي القصة السابعة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة ، وهي آخر قصة في هذه السورة ، وقد ذكرت قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون وملئه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ، فذكرت في سورة الأعراف [١٠٤ ـ ١٠٥] وفي سورة الشعراء [١٧ ـ ٢٨] وفي سورة طه [٤٨ ـ ٥٥] وفي سورة القصص [٣٨] وفي سورة غافر [٣٦ ـ ٣٧].

والعبرة منها واضحة وهي نجاة موسى ومن آمن معه ، وهلاك فرعون وأشراف قومه ، واللعنة عليهم في الدنيا والآخرة ، مثل كفار أولئك الأقوام الظالمين الذين أعرضوا عن دعوة أنبيائهم ، كما تقدم ، ولكن عذاب فرعون وملئه وهو الغرق في البحر لم يعمّ جميع قومه.

التفسير والبيان :

تالله لقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع ودلالاتنا الباهرة الدالة على توحيد الله إلى فرعون ملك القبط وملئه ، وفيها السلطان الواضح الجلي أي الدلالة القاطعة المؤيدة بالحس المشاهد ، على صدق نبوته.

١٣٨

وقيل : المراد من الآيات : التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام. وقيل : المراد بها الآيات التسع البينات وهي المعجزات ، وهي العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ونقص من الثمرات والأنفس. ومنهم من أبدل بنقص الثمرات والأنفس إضلال الجبل ، وفلق البحر.

وفي هذه الآيات سلطان مبين لموسى على صدق نبوته.

(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أي تبع الملأ منهج فرعون ومسلكه وطريقته في الغيّ والضلال ، من الكفر بموسى ، وظلم بني إسرائيل بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم. وإنما خصّ الملأ بالذكر ؛ لأنهم القادة والرؤساء المستشارون والمنفذون وغيرهم تبع لهم.

(وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي وما شأنه وتصرفه ومنهجه بصالح معقول ، فليس فيه رشد ولا هدى ، وإنما هو جهل وضلال ، وكفر وعناد ، وظلم وفساد وجزاؤهم في الآخرة : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أي يتقدم فرعون كبير قومه وقائدهم إلى نار جهنم يوم القيامة ، فيدخلهم فيها ؛ لأنه كما اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم ، كذلك هو يقدم يوم القيامة إلى النار ، فأوردهم إياها ، وله فيها الحظ الأوفر من العذاب الأكبر ، كما قال تعالى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ، فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [المزمل ٧٣ / ١٦] وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفرين في العذاب يوم القيامة ، كما قال تعالى : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف ٧ / ٣٨] وأخبر تعالى عن الكفرة أنهم يقولون في النار : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٦٨] وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار».

وورد في القرآن أن آل فرعون يعرضون على النار منذ ماتوا صباحا ومساء

١٣٩

كل يوم ، كما قال تعالى : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر ٤٠ / ٤٥ ـ ٤٦].

(وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أي وبئس المورد الذي يردونه النار وبئس المدخل المدخول فيه وهو النار ؛ لأن وارد الماء يرده للتبريد وإطفاء حرّ الظمأ ، ووارد النار يزداد احتراقا بلهبها ويتلظى بسعيرها. والورد قد يكون بمعنى الورود مصدرا ، وقد يكون بمعنى الوارد ، والمورود : الماء الذي يورد ، والموضع الذي يورد.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ألحق الله بهم زيادة على عذاب النار لعنة عظيمة في الدنيا من الأمم الآتية بعدهم ، وكذلك يوم القيامة يلعنهم أهل الموقف جميعا ، وهم من المقبوحين ، فعليهم لعنتان في الدنيا والآخرة فوق عذابهم ، كما قال تعالى : (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص ٢٨ / ٤٢] قال مجاهد : زيدوا لعنة يوم القيامة ، فتلك لعنتان.

(بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي بئس العون المعان والعطاء المعطى هذه اللعنة اللاحقة بهم في الدنيا والآخرة ، فقد سميت اللعنات رفدا تهكما بهم ، والرفد : هو العطية. قال ابن عباس عن هذه الجملة : هو اللعنة بعد اللعنة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات المذكورة من قصة موسى مع فرعون وقومه إلى العظات التالية :

١ ـ تتابعت آيات الله من التوراة وما فيها من شرائع وأحكام ، ومن المعجزات الدالة على وحدانية الله تعالى ، إلى فرعون وقومه ، فما أفادتهم الآيات ، وعصوها ، واتبعوا منهج فرعون ومسلكه في الغي والضلال.

١٤٠