التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

أكل ، والحياة تعرف بأن يطرف بعينه أو يحرك ذنبه. قال علي كرم الله وجهه : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة ، وهي تحرك يدا أو رجلا ، فكلها. والصحيح من قول مالك وهو المذكور في الموطأ أنه إن كان ذبح البهيمة ونفسها يجري وهي تضطرب فليأكل.

أما الميتة والدم ولحم الخنزير فلا تحل أصلا ، ولو بذكاة.

والخلاصة : إن غلب على الظن أن الحيوان يعيش مع ما أصابه ، كانت الذكاة محللة له ، أما إن غلب على الظن أنه يهلك بما حصل ، فاختلفوا : فقال الحنفية ، والشافعية في مشهور المذهب : تعمل فيه الذكاة ، ما دام فيه أمارة على الحياة ، من تحريك عين أو ذنب أو رجل. وقال قوم منهم مالك في وجه عنه : لا تعمل فيه الذكاة.

ومنشأ الاختلاف : هل الاستثناء متصل أو منقطع؟ فمن رأى وهم الجمهور أنه متصل أخرج من الجنس بعض ما تناوله اللفظ ، فما قبل الاستثناء حرام ، وما بعده خرج منه ، فيكون حلالا. ويؤيد كون الاستثناء متصلا إجماع العلماء على أن الذكاة تحلل ما يغلب على الظن أنه يعيش ، ولا يجعل الاستثناء منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له.

ومن رأى أن الاستثناء منقطع ، رأى أنه لا تأثير للاستثناء في الجملة المتقدمة ، وكأنه قال : ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال ؛ لأن التحريم إنما يتعلق بهذه الحيوانات بعد الموت ، وهي بعد الموت لا تذكى ، فيكون الاستثناء منقطعا. وأجيب عن ذلك بأن الاستثناء متصل باعتبار ظاهر الحلال ، فإن ظاهر هذه الحيوانات أنها تموت بما أصيبت به ، فتكون حراما بحسب الظاهر ، إلا ما أدرك حيا وذكي ، فإنه يكون حلالا.

٨١

١٠ ـ ما ذبح على النّصب :

النصب حجارة كانت حول الكعبة ، عددها ثلثمائة وستون حجرا منصوبا ، كانت العرب في الجاهلية يذبحون عندها ، تقربا للأصنام التي يعظمونها ، ويلطخون بها ما أقبل من البيت ، كأنهم يثبتون بذلك كون الذبح وقع قربة ، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب (الحجارة). وليست النصب هي الأوثان ، فإن النصب حجارة غير منقوشة ، والأوثان حجارة منقوشة. فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع ، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي ذبحت عند النصب ، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح ، اجتنابا للشرك الذي حرمه الله ورسوله.

وأضاف القرآن محرمات أخرى هي :

الاستقسام بالأزلام : أي محاولة معرفة ما قسم له ، أو قدر في الأمر من خير أو شر. والأزلام جمع زلم : وهي قطعة من خشب على هيئة السهم الذي لا نصل فيه وهو الذي يجرح الصيد. ولهذه العملية معنيان : معنى روحي عبادي أو اعتقادي ، والآخر مادي.

أما المعنى الروحي العبادي : فهو يشبه عادة التطير ، كان أحدهم إذا أراد أن يقدم على عمل أو سفر ، ذهب إلى الكعبة ، فاستشار الأزلام الموجودة عند الآلهة ، وقد كان عند هبل المنصوب على بئر سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه ، مما أشكل عليهم ، فما خرج منها رجعوا إليه.

قال ابن جرير الطبري : الأزلام عبارة عن قداح ثلاثة كتب على أحدها : «افعل» وعلى الآخر : «لا تفعل» وأغفل الثالث. فإذا أجالها (حركها) فطلع سهم الأمر فعل ، أو النهي تركه ، وإن طلع الفارغ أعاد (١). ويفعل ذلك إذا

__________________

(١) تفسير الطبري : ٦ / ٤٩

٨٢

أراد سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو نحو ذلك.

وأما المعنى المادي فهو اليانصيب اليوم الذي هو نوع من القمار ، وهو قداح الميسر ، وعددها عشرة ، سبعة منها فيها حظوظ ، وثلاثة غفل. وكانت تستعمل الأزلام بمثابة نوع من أنواع اللعب بالميسر في الجاهلية ، كانوا يشترون جزورا نسيئة ، وينحرونه قبل أن ييسروا ، ويقسمونه ٢٨ قسما أو عشرة أقسام ، فإذا خرج واحد باسم رجل ، فاز صاحب الأقداح ذوات الأنصباء ، وغرم من خرج له الغفل.

فأنواع الأزلام ثلاثة : الأول ـ نوع مع الشخص وعدده ثلاثة : مكتوب على واحد : افعل ، والثاني لا تفعل ، والثالث غفل. والنوع الثاني ـ سبعة قداح واحدها قدح ، وكانت عند هبل في جوف الكعبة ، مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل. والنوع الثالث ـ قداح الميسر وعددها عشرة ، سبعة منها فيها حظوظ ، وثلاثة غفل.

وكلا المعنيين نوع من الخرافة والوهم ، والتخلف العقلي الذي يعوق تقدم الأمة ويدعو إلى السير على غير هدى ولا بصيرة. ومثل ذلك معرفة الحظ بواسطة المسبحة أو المصحف ، أو أوراق الشدّة أو الودع أو الفنجان ، فكل ذلك حرام منكر شرعا ، لا يجوز اللجوء إليه. وقد شرع الإسلام بديلا شرعا هو صلاة الاستخارة ركعتين ثم الدعاء المأثور عقب الصلاة ، وتسمية الأمر المستخار له ، وانتظار النتيجة من انشراح الصدر أو انقباضه ، وتكرار الصلاة مرات إذا لم ينكشف الحال.

وحديث الاستخارة رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلّمنا الاستخارة ، كما يعلمنا سورة من القرآن ، فيقول : «إذا همّ أحدكم بالأمر ، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم

٨٣

ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسمي حاجته) خير لي في ديني ومعاشي وعاجل أمري وآجله ، فاقدره لي ، ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسميه) شر لي في ديني ومعاشي وعاجل أمري وآجله ، فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به» قال : ويسمي حاجته.

(ذلِكُمْ فِسْقٌ) أي كل المحرمات المذكورة فسق وخروج عن منهج الدّين ، ورغبة عن شرع الله إلى معصيته ، وتجاوز للمألوف من الحكمة والمعقول.

ولما حذّر الله المؤمنين من تعاطي المحرّمات المذكورة ، حرّضهم على التمسك بما شرعه لهم ، وبشرهم بالغلبة بما يقوي عزيمتهم ويشجعهم ، فنزل يوم عرفة عام حجة الوداع : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ..) إلخ الآية ، اليوم : هو يوم عرفة عام حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة ، وكان يوم جمعة ، وهو يوم نزول هذه الآية ، يئس الكفار من إبطال دينكم والتغلب عليكم ، والرجوع إلى دينهم كفارا ، ويئس الشيطان أن يعبد في أرضكم.

روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في هذه الآية فقال : يئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم : وهو عبادة الأوثان أبدا.

وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب ، ولكن بالتحريش بينهم».

(فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) أي فلا تخافوهم في مخالفتكم إياهم ، واخشوني أي اتّقوني ، أنصركم عليهم وأؤيدكم ، وأجعلكم فوقهم في الدّنيا والآخرة.

٨٤

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) اليوم أكملت لكم دينكم وهو الإسلام ، فأبنت لكم حلاله وحرامه وجميع الأحكام التي تحتاجون إليها ، فصار كل شيء واضحا لا لبس فيه ولا غموض ، كاملا غير منقوص.

(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي منّتي ، فلم يحجّ معكم مشرك أبدا ، وفتحت مكة ، وتحقق الوعد ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وتحقق لكم النصر.

(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) مرضيا هو محل احتكام ومحاكمة الخلائق عليه يوم القيامة : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران ٣ / ٨٥].

هذه بشارات ثلاث تحققت بهذه الآية ، مكث بعدها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا وثمانين ليلة ثم قبض وتوفّاه الله.

قرأ ابن عباس هذه الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ...) فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا ، لاتّخذنا يومها عيدا ، فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ويوم جمعة. وروى مسلم والأئمة عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر ، فقال : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ؛ قال : وأي آية؟ قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه ، والمكان الذي أنزلت فيه ، نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفة في يوم جمعة.

وليس المراد بإكمال الدّين أنه كان ناقصا قبل اليوم ثم أكمله ، وإنما المراد أن الأحكام صارت غير قابلة للنسخ ، وأصبحت مؤبدة صالحة لكل زمان ومكان ، والمراد بالإكمال : إتمامه في نفسه وفي ظهوره ، أما إتمامه في نفسه فباشتماله على الفرائض والحلال والحرام ، والتنصيص على أصول العقائد وأسس التشريع وقوانين الاجتهاد ، مثل : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص ١١٢ / ١] ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ

٨٥

شَيْءٌ) [الشورى ٤٢ / ١١] ، (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الأنعام ٦ / ٧٣ ومواضع أخرى] ، (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل ١٦ / ٩٠] ، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) [النحل ١٦ / ٩١] ، (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران ٣ / ١٥٩] ، (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٢ / ٤٠] ، (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤ ومواضع أخرى] ، (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [المائدة ٥ / ٢].

وأما إتمامه في ظهوره : فبإعلاء كلمته وتفوقه على كل الأديان ، وتوافقه مع المصالح العامة ، وانسجامه مع التطور ، ووسطيته وتوازن المصالح الخاصة والعامة فيه.

ثم نصّ الله تعالى على حالة الضرورة التي هي استثناء من الأحكام العامة ، فذكر أن المحرمات السابقة حرام على جميع المسلمين في كلّ الأحوال ، إلا المضطر ، الذي حمل قهرا على تناول شيء من الحرام ، أو الضار ، فمن اضطر في حال مجاعة إلى أكل شيء مما ذكر من المحرمات ، غير متجانف لإثم أي غير مائل إلى حرام لذاته ، ولا راغب في التمتع بما يوجب الإثم ، فله أن يتناول شيئا منها ليدفع الضرورة والضرر وبقدر الضرورة ، لا للتلذذ ولا لتجاوز الحدود التي يحتاج إليها لسدّ الرّمق ، فإن الله غفور لمثله يغفر لمتناول الحرام ، رحيم بخلقه حيث أباح لهم ما يدفع الضرر بما هو محرّم.

وقوله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) بمنزلة قوله في سورة البقرة : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [٢ / ١٧٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى الأحكام الآتية :

١ ـ تحريم الميتة وما في حكمها (المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ،

٨٦

والنطيحة ، وما أكل السبع منه ، والمذبوحة على النصب : حجارة حول الكعبة ، وما أهل لغير الله به : ذكر اسم غير الله عليه).

٢ ـ حرمة الدّم ولحم الخنزير.

٣ ـ إباحة البهيمة المذكاة ، والتي أدركت وفيها حياة مستقرة فذبحت وهي المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع منه وما أهل لغير الله به.

٤ ـ إباحة المحرمات المذكورة عند الاضطرار إليها لدفع الضرر.

٥ ـ الضرورة مقيّدة بقيدين : الأول ـ أن يقصد بالتناول دفع الضرر فقط. والثاني ـ ألا يتجاوز ما يسدّ الرّمق ؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها. فإن قصد التّلذذ ، أو تجاوز مقدار الضرورة وقع في الحرام.

والتذكية (الذبح الشرعي) تعمل في البهيمة الصحيحة والمريضة ، فيجوز تذكية المريضة ولو أشرفت على الموت إذا كان فيها بقية حياة.

ويرى الجمهور أن ذكاة الأم تؤثر في الجنين لما أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعلي وعبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنهم عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ، وفي رواية أخرى : «ذكاة الجنين ذكاة أمّه ، أشعر أو لم يشعر».

ويرى أبو حنيفة : أنه إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا ، لم يحل أكله ؛ لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين.

وأجمعوا على أن الجنين إذا خرج حيّا أن ذكاة أمّه ليست بذكاة له.

وآلة الذكاة عند الجمهور : كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم ، فهو من آلات الذكاة ما خلا السّنّ والعظم ، وعلى هذا تواترت الآثار. والسّن والظفر المنهي عنهما في التذكية : هما غير المنزوعين ؛ لأن ذلك يصير خنقا ؛ فأما المنزوعان فإذا

٨٧

فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما. وحرم قوم (إبراهيم النخعي والحسن البصري والليث بن سعد والشافعي) السّن والظفر والعظم على كل حال ؛ منزوعة أو غير منزوعة.

أما المقطوع فمختلف فيه :

قال مالك : لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين.

وقال الشافعي : يصح بقطع الحلقوم والمري ، ولا يحتاج إلى الودجين ؛ لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة ، وهو الغرض من الموت.

ومالك وغيره كأبي حنيفة اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم ، ويفترق فيه الحلال ـ وهو اللحم ـ من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج ، وعليه يدلّ حديث رافع بن خديج في قوله المتفق على صحته فيما رواه الجماعة : «ما أنهر الدّم» وهذا الرأي أوجه.

واختلفوا فيما إذا كان الذبح فوق الغلصمة (جوزة الحلق) وبقيت مع البدن ، فقال الشافعي : تؤكل ؛ لأن المقصود قد حصل. وقال مالك : لا تؤكل.

واختلفوا أيضا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع على الفور ، وأكمل الذكاة فقيل: يجزئه ، وقيل : لا يجزئه ، والأول أصح ؛ لأنه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها.

والمستحب أن يكون الذابح ممن ترضي حاله ويطيق الذبح ، سواء كان ذكرا أو أنثى، بالغا أو غير بالغ ، مسلما أو كتابيّا ، لكن ذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي.

وما استوحش من الإنسي أو وقع في البئر ، لا تكون ذكاته إلا بين الحلق واللّبة ، على سنة الذبح ، في رأي المالكية. وأجاز أبو حنيفة والشافعي ذبحه أو طعنة في أي مكان من الجسم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الجماعة عن رافع بن خديج :

٨٨

«إن لهذه الإبل أوابد (١) كأوابد الوحش ، فإذا غلبكم منها شيء ، فافعلوا به هكذا ـ وفي رواية ـ فكلوه».

ويطلب الإحسان في الذّبح ، للحديث المتقدم عن أبي يعلى فيما رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه : «إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء» قال المالكية : إحسان الذبح في البهائم : الرّفق بها ؛ فلا يصرعها بعنف ولا يجرّها من موضع إلى آخر ، وإحداد الآلة ، وإحضار نيّة الإباحة ، والقربة ، وتوجيهها إلى القبلة ، والإجهاز (٢) ، وقطع الودجين والحلقوم ، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد ، والاعتراف لله بالمنّة ، والشكر له بالنعمة ، بأنه سخّر لنا ما لو شاء لسلّطه علينا ، وأباح لنا ما لو شاء لحرّمه علينا.

والاستقسام بالأزلام بأنواعه المختلفة حرام ، وإذا قصد به طلب القسم والنصيب فهو من أكل المال بالباطل. قال مجاهد : الأزلام : هي كعاب (٣) فارس والرّوم التي يتقامرون بها.

المطعومات الحلال والزّواج بالكتابيّات

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ

__________________

(١) الأوابد جمع آبدة : وهي التي قد توحشت ونفرت من الإنسي.

(٢) أجهزت على الجريح : إذا أسرعت قتله وقد تممت عليه.

(٣) الكعاب جمع كعب : وهو فصّ كفصّ النرد.

٨٩

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

الإعراب :

(وَما عَلَّمْتُمْ) مرفوع نائب فاعل عطفا على (الطَّيِّباتُ) لفعل (أُحِلَ).

(مُكَلِّبِينَ) منصوب على الحال من التاء والميم في (عَلَّمْتُمْ).

(مُحْصِنِينَ) حال من ضمير (آتَيْتُمُوهُنَ) المرفوع. ومثله (غَيْرَ مُسافِحِينَ). ومثله : (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) وهو معطوف على (غَيْرَ مُسافِحِينَ) لا على (مُحْصِنِينَ) لدخول (لا) معه تأكيدا للنفي المتقدم ، ولا نفي مع (مُحْصِنِينَ). ويجوز أن يجعل (غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) وصفا لمحصنين أو حالا من الضمير فيه.

(وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ فِي الْآخِرَةِ) : يتعلق بفعل مقدر ، دلّ عليه قوله تعالى : (مِنَ الْخاسِرِينَ) وتقديره : وهو خاسر في الآخرة. وإنما وجب هذا التقدير ؛ لأن الألف واللام في (الْخاسِرِينَ) بمعنى الذين ، وما وقع في صلة الذين لا يعمل فيما قبلها ، فإن جعلت الألف واللام لا بمعنى الذين جاز أن يكون (الْخاسِرِينَ) عاملا فيه.

البلاغة :

(وَطَعامُ الَّذِينَ ..) أطلق العام وأراد به الخاص وهو الذبائح.

(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) بينهما طباق ؛ لأن الإحصان هنا العفّة ، والسفاح : الزنى.

المفردات اللغوية :

(يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) من الطعام. (الطَّيِّباتُ) المستلذات التي هي من غير الخبائث ، وهي كلّ ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنّة أو قياس مجتهد. (الْجَوارِحِ) الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين ، واحدها جارحة ، من الجرح بمعنى الكسب ، قال تعالى : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام ٦ / ٦٠] أي ما كسبتم. (مُكَلِّبِينَ) من التكليب ، وهو تعليم الكلاب وإرسالها على الصيد ، ثم استعمل في تعليم الجوارح مطلقا ، فالمكلّب : مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها بأنواع الحيل وطرق التأديب والتثقيف. (تُعَلِّمُونَهُنَ) تؤدبونهن. (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) من آداب الصيد. (فَكُلُوا

٩٠

مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) بأن قتلن ، إن لم يأكلن منه ، بخلاف غير المعلمة فلا يحلّ صيدها ، وعلامة المعلّمة : أن تسترسل إذا أرسلت ، وتنزجر إذا زجرت ، وتمسك الصيد ولا تأكل منه ، وأقلّ ما يعرف به ذلك ثلاث مرات ، فإن أكلت منه ، فليس مما أمسكن على صاحبها ، فلا يحلّ أكله ، كما في حديث الصحيحين ، وفي هذا الحديث : أن صيد السهم إذا أرسل وذكر اسم الله عليه كصيد المعلّم من الجوارح (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) عند إرساله.

(وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي ذبائح اليهود والنصارى. (أُحِلَ) حلال. (وَالْمُحْصَناتُ) هنا الحرائر ، وقيل : العفيفات عن الزنى. (أُجُورَهُنَ) مهورهنّ. (مُحْصِنِينَ) أعفاء عن الزنى. (غَيْرَ مُسافِحِينَ) معلنين بالزنى بهنّ أو مجاهرين بالزنى. (مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) مسرّين بالزنى ، والخدن : الصديق ذكرا أو أنثى. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي يرتدّ. (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) الصالح قبل ذلك ، فلا يعتدّ به ولا يثاب عليه ، والمعنى : بطل ثواب عمله. (مِنَ الْخاسِرِينَ) إذا مات عليه.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير الطبري من طريق الشعبي : أن عدي بن حاتم الطائي قال : أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عن صيد الكلاب ، فلم يدر ما يقول له حتى نزلت هذه الآية : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير : أن عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، وإن كلاب آل ذريح تصيد البقر والحمير والظباء ، وقد حرّم الله الميتة ، فما ذا يحلّ لنا منها؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ، قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ).

وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي : «أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمر أبا رافع بقتل الكلاب في المدينة ، جاء الناس فقالوا : يا رسول الله ، ما يحلّ لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله الآية ، فقرأها».

٩١

المناسبة :

لما ذكر تعالى ما حرّمه في الآية المتقدّمة من الخبائث الضارّة لمتناولها ، إما في بدنه أو في دينه أو فيهما ، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة ، قال بعدها : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ، قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ، وهي مثل الآية المذكورة في سورة الأعراف في صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [٧ / ١٥٧].

التفسير والبيان :

يسألك المؤمنون يا محمد ، ما ذا أحلّ الله لهم من الطعام واللحوم؟ قل : أحلّ لكم الطيبات ، أي ما تستطيبه النفوس السليمة الفطرة ، وهي غير الخبائث ، وأحلّ لكم صيد الجوارح (الكواسب) المعلّمة.

أما الطيّبات : فهي ما عدا المنصوص على تحريمه في القرآن وهي المحرّمات العشر المتقدّمة ، وما أضيف إليها في السّنة النّبوية ، روى أحمد ومسلم وأصحاب السّنن عن ابن عباس : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع ، وكلّ ذي مخلب من الطّير». ورووا أيضا عن أبي ثعلبة الخشني : «كلّ ذي ناب من السّباع فأكله حرام». فأصبح أن ما لم يرد به نص نوعان : حلال طيب ، وحرام خبيث. والعبرة في الاستطابة والاستخباث : ذوق العرب في الحجاز.

والسبع عند أبي حنيفة : كل ما أكل اللحم. وعند الشافعي : ما يعدو على الناس والحيوان.

وبناء عليه : كلّ أنواع حيوان البحر حلال طيب ، سواء أكل العشب أو أكل اللحم. وحيوان البرّ يصاد منه ما يؤكل ما عدا سباع الوحش والطير. ولا يحلّ أكل ما يعيش في البرّ والبحر كالضفدع والتمساح والثعبان والسلحفاة ، للاستخباث وسمّ الثعبان.

٩٢

ويحلّ لكم ما علمتم من الجوارح ، أي يحلّ لكم اقتناء تلك الحيوانات المعلّمة وبيعها وهبتها ، ويحلّ لكم صيودها ، لقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ، وقوله : (مُكَلِّبِينَ) أي حال كونكم معلّمين ومؤدبين ، فهو حال من فاعل (عَلَّمْتُمْ) ، وقوله : (تُعَلِّمُونَهُنَ) حال من فاعل علمتم أو من الضمير في (مُكَلِّبِينَ) أي حال كونكم تعلمونهن مما علمكم الله.

ويفهم منه أنه لا بدّ في التعليم من أمور ثلاثة :

١ ـ أن تكون الجوارح معلّمة.

٢ ـ وأن يكون من يعلّمها ماهرا في التّعليم مدرّبا فيه.

٣ ـ وأن يعلم الجوارح مما علمه الله ، بأن تقصد الصيد بإرسال صاحبها ، وأن تنزجر بزجره ، وأن تمسك الصيد ولا تأكل منه إذا كان المعلّم كلبا ، وأن يعود الكلب إلى صاحبه متى دعاه إذا كان طيرا مثل البازي. ويعرف تعليم الكلب بترك الأكل ثلاثا ، ويعرف تعليم البازي بالرجوع إلى صاحبه إذا دعاه ، والفرق بينهما أن تعليم الكلب يكون بترك ما يألفه ويعتاده ، وعادة الكلب السّلب والنّهب ، فإذا ترك الأكل ثلاثا عرف أنه تعلّم ، وعادة البازي النّفرة ، فإذا دعاه صاحبه فعاد إليه ، عرف أنه تعلّم.

(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي فكلوا من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم دون أن تأكل منه ، فإن أكلت منه فلا يحلّ أكل الفاضل عنه في رأي الجمهور ؛ لحديث عدي بن حاتم عند أحمد والشيخين أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أرسلت كلابك المعلّمة ، وذكرت اسم الله ، فكل مما أمسكن عليك ، إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» وفي رواية : «إذا أرسلت كلبك المعلّم فاذكر اسم الله ، فإن أمسك عليك ، فأدركته حيّا فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاة».

٩٣

واذكروا اسم الله على الكلب عند إرساله ، ويؤيده حديث عدي بن حاتم المتقدم : «إذا أرسلت كلبك المعلّم ، وذكرت اسم الله عليه ، فكل ما أمسك عليك» ، والتّسمية : واجبة عند الجمهور ، مستحبة عند الشافعي.

واتّقوا الله في هذه الحدود ، أي احذروا مخالفة أمره فيما أرشدكم إليه ، واتّخذوا وقاية من عذابه بامتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. إن الله سريع الحساب ، أي يحاسبكم على أعمالكم من غير توان ولا تهاون ، ولا يضيع شيئا من أعمالكم ، بل تحاسبون عليها وتجازون في الدّنيا والآخرة ، وهو يحاسب الناس كلهم يوم القيامة في وقت واحد ، فيكون حسابه سريعا. ومناسبة ذلك لما قبله أنه لما ذكر المحرّمات والمحللات وأبان الحلال والحرام ، نبّه إلى أنه تعالى سيحاسب العاملين على أعمالهم من غير إمهال متى جاء يوم الحساب. روي أنه يحاسب الناس جميعا في مقدار نصف يوم.

اليوم أحل لكم تفضلا من الله الطّيبات : وهي ما يستطاب ويشتهي عند أهل النفوس الكريمة.

وأحل لكم طعام الكتابيين أي ذبائحهم عند الجمهور ، لا الخبز والفاكهة ولا جميع المطعومات ؛ لأن الذبائح هي التي تصير طعاما بفعلهم ، وأما بقية المطعومات فهي مباحة لجميع الناس ، فلا وجه لتخصيصها بهم. وأهل الكتاب : هم اليهود والنصارى الذين أنزل الله على أنبيائهم التوراة والإنجيل.

فلا تحلّ ذبائح المشركين عبدة الأصنام والأوثان. روى ابن جرير عن أبي الدّرداء وابن زيد أنهما سئلا عمّا ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله ، قال ابن زيد : أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئا. وقال أبو الدّرداء ـ وقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها : جرجيس ، أهدوه لنا ، أنأكل منه؟ ـ «اللهم عفوا ، إنما هم أهل كتاب ، طعامهم حلّ لنا ، وطعامنا حلّ لهم» وأمره بأكله.

٩٤

ولا تحلّ ذبائح المجوس ولا التّزوج بنسائهم ، لما روي في السّنة. وطعامكم حلّ لهم أي وذبائحكم حلّ لأهل الكتاب ، فلكم إطعامهم منه أو بيعهم منه. وإنما قال ذلك للتّنبيه على أن الحكم مختلف في الذّبائح والمناكحة ، فإن إباحة الذّبائح حاصلة من الجانبين ، بخلاف إباحة المناكحات فإنها من جانب واحد ، والفرق واضح وهو أن إباحة الطعام من الجانبين لا تستلزم محظورا ، أما لو أبيح لأهل الكتاب التّزوّج بالمسلمات ، لكان لهم ولاية شرعية على زوجاتهنّ ، والله تعالى لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيّا.

وأحلّ لكم أيها المؤمنون التّزوّج بالحرائر المؤمنات والكتابيّات من اليهود والنصارى ، سواء كنّ ذميّات أو حربيّات ، إذا آتيتموهنّ أجورهنّ أي مهورهنّ. وتقييد الحلّ بإتيان المهور لتأكيد الوجوب ، لا لاشتراطه في الحلّ ، وتخصيص ذكر الحرائر للحثّ على ما هو الاولى منهنّ ، لا لان من عداهنّ لا يحلّ ، إذ نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتّفاق ، وكذا يصح عند أبي حنيفة.

أحلّ لكم الزّواج بالحرائر حالة كونكم أعفاء عن الزّنى متعففين بالزّواج بهنّ غير مسافحين أي مرتكبين الفاحشة مجاهرين بها ، وغير متخذي أخدان أي مسرّين إتيان الفاحشة ، أي أن المباح هو الزّواج بالحرائر العفيفات عن الزّنى ، بشرط إتيان مهورهنّ بقصد الإحصان والإعفاف ، لا سفح الماء عن طريق الزّنى العلني ، ولا عن طريق الزّنى السّرّي وهو اتّخاذ الأخدان.

ثم حذّر الله تعالى من المخالفات ورغب فيما تقدّم من أحكام الحلال ، فقال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أي ومن ينكر شرائع الإسلام وتكاليفه ، ويجحد أصول الإيمان وفروعه ، فقد أبطل ثواب عمله وخاب في الدّنيا والآخرة ، أما في الدّنيا فباعتبار ضياع أعماله وعدم الإفادة منها ، وفي الآخرة بالخسارة والهلاك في نار جهنم.

٩٥

وقد أطلق الإيمان وأراد المؤمن به مجازا وهو الشرائع والتكاليف ، وقيل : المراد : ومن يكفر بربّ الإيمان ، فهو مجاز بالحذف. والمقصود من هذه الآية : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ ...) تعظيم شأن ما أحلّ الله وما حرّمه ، والتّشديد على المخالف.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت آية (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) على ما يأتي :

١ ـ إباحة الطيبات أي المطعومات التي تستطيبها الأنفس الكريمة دون الخبائث التي حرمتها الشريعة.

٢ ـ إباحة الصيد بالجوارح من سباع البهائم والطير ، بشرط كونها معلّمة ، وكون معلّمها مؤدّبا ماهرا ، وكونه يعلمها مما علمه الله بأن ينشلى إذا أشلي (أغري) ، ويجيب إذا دعي ، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر ، وأن لا يأكل من صيده الذي صاده. فإن انخرم شرط من هذه الشروط وقع الخلاف.

٣ ـ حل ما جرحته الجوارح وقتلته ، وأدركه الصائد ميتا ، لإطلاق قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي حبس عليكم ، ولم يأكل مما صاد ، فإن أكل الكلب ونحوه لم يؤكل عند الجمهور ما بقي ، لأنه أمسك على نفسه ، ولم يمسك على صاحبه. ولم يشترطوا ذلك في الطيور ، بل يؤكل ما أكلت منه. وأباح المالكية أكل ما بقي من الصيد وإن كان بضعة ، وإن أكل الجارح منه ، سواء كان كلبا أو فهدا أو طيرا.

فلو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير بضع (جرح) لم يؤكل ، لأنه مات خنقا ، فأشبه أن يذبح بسكين كالّة ، فيموت في الذبح قبل أن يفرى حلقه.

وجمهور العلماء على أن الجارح إذا شرب من دم الصيد أن الصيد يؤكل. وكره الشعبي والثوري أكل ذلك الصيد.

فإن وجد الصائد مع كلبه كلبا آخر ، فهو محمول على أنه غير مرسل من صائد

٩٦

آخر ، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه ، فلا يؤكل ، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عدي بن حاتم عند أحمد والشيخين : «وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل» وفي رواية : «فإنما سميت على كلبك ، ولم تسم على غيره». فإن اشترك صائدان بإرسال كلبين كان الصيد شركة بينهما.

وكذلك لا يؤكل ما رمي بسهم ، فتردى من جبل أو غرق في ماء ، أو غاب عن الصائد ثلاثة أيام ، فمات وهو لا يراه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم في الحديث المتفق عليه عند أحمد والشيخين : «وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله ، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل ، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل ، فإنك لا تدري ، الماء قتله أو سهمك» وروى أبو داود في حديث أبي ثعلبة الخشني : «فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل» وزاد : «فكله بعد ثلاث ما لم ينتن».

وأجاز مالك وأبو حنيفة والشافعي الصيد بكلاب اليهودي والنصراني إذا كان الصائد مسلما. وجمهور الأمة غير مالك على جواز صيد الصائد من أهل الكتاب.

٤ ـ جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد بدليل قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) ، يؤيده ما رواه مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية ، نقص من أجره كل يوم قيراطان».

٥ ـ ودلت الآية : (وَما عَلَّمْتُمْ ..) أيضا على أن العالم أفضل من الجاهل ، لأن الكلب إذا علّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب. ويزداد فضل العالم إذا عمل بما علم ، لقول علي رضي‌الله‌عنه «لكل شيء قيمة ، وقيمة المرء ما يحسنه».

٦ ـ وجوب تسمية الله عند الإرسال ، لقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) وهو رأي الجمهور غير الشافعي ، ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث عدي المتقدم : «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل». أما عند إدراكه حيا فتجب

٩٧

التسمية عند ذكاته. وقال الشافعي : إنها مستحبة.

ويستفاد من آية (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ما يأتي :

١ ـ إباحة طيبات الرزق : وهي ما تستطيبه الأنفس الكريمة.

٢ ـ إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب (اليهود والنصارى). ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالفاكهة والبرّ ، يجوز أكله ، إذ لا يضر فيه تملك أحد.

أما ما يحتاج إلى عمل أو صنع كخبز الدقيق وعصر الزيت ونحوه ، والتذكية التي تحتاج إلى الدين والنية ، فرخص الله تعالى فيه ، تألفا لأهل الذمة ، وترغيبا لهم في الإسلام ، حتى وإن قال النصراني عند الذبح : باسم المسيح ، واليهودي قال : باسم عزير ، لأنهم يذبحون على الملّة.

والجمهور على أن الذكاة عاملة في حلّ الذبيحة ، ماحل له منها وما حرم عليه ، لأنه مذكّى. وقال جماعة من أهل العلم : إنما حلّ لنا من ذبيحتهم ما حلّ لهم ، لأن ما لا يحلّ لهم لا تعمل فيه تذكيتهم ، فلا تحل الشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب. وقصرت لفظ الطعام على البعض ، وحمله الجمهور على العموم في جميع ما يؤكل.

والعلماء مجمعون إلا من شذ منهم على أن ذبائح الكفار لا تؤكل ولا يتزوج منهم ، لأنهم ليسوا أهل كتاب على المشهور عند العلماء.

ولا بأس بالأكل والشرب والطبخ في آنية الكفار كلهم ، ما لم تكن ذهبا أو فضة أو جلد خنزير بعد أن تغسل وتغلى ، لأنهم لا يتوقّون النجاسات ويأكلون الميتات ، فإذا طبخوا في تلك القدور تنجّست ، فتغسل. جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ثعلبة الخشني قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ،

٩٨

إنا بأرض قوم من أهل كتاب ، نأكل في آنيتهم ، وأرض صيد ، أصيد بقوسي ، وأصيد بكلبي المعلّم ، وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلّم ، فأخبرني ما الذي يحلّ لنا من ذلك؟ قال : «أما ما ذكرت أنكم بأرض قوم من أهل كتاب تأكلون في آنيتهم ، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها».

٣ ـ إباحة إطعام أهل الكتاب من ذبائح المسلمين ، فإذا اشتروا منا اللحم ، يحل لهم اللحم ، ويحل لنا ثمن المأخوذ منهم.

٤ ـ مشروعية نكاح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات. والمحصنات : الحرائر في قول مجاهد والجمهور ، والعفيفات العاقلات في قول ابن عباس.

٥ ـ بطلان ثواب الأعمال إذا كان العامل جاحدا أحكام الله وشرائعه ، كافرا بأصول الإيمان وفروعه ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي بما أنزل على محمد ، أو يجحد الإيمان (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أي بطل ولغا ثواب عمله ، ولم يعد لعمله فائدة أخروية.

فرضية الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم وذكر نعمة الله

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ

٩٩

وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

الاعراب :

(وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب عطف على (أَيْدِيَكُمْ) والتقدير : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم. وقرئ بالجر عطفا على (بِرُؤُسِكُمْ) وقدّر ما يوجب الغسل كأنه قال : وأرجلكم غسلا. قال أبو زيد الأنصاري من رواة الحديث الثقات ومن أهل اللغة ، وكان من أهل العدل والتشيع توفي سنة ٢١٥ ه‍ : المسح خفيف الغسل ، فبينت السنة أن المراد بالمسح في الرجل هو الغسل.

البلاغة :

(إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، فعبّر عن إرادة الفعل بالفعل ، وأقام المسبّب مقام السبب للملابسة بينهما كما ذكر الزمخشري.

وفي الآية إيجاز بالحذف أيضا ، أي إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون.

المفردات اللغوية :

(إِذا قُمْتُمْ) أي أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون. (وُجُوهَكُمْ) جمع وجه : وهو ما تقع به المواجهة ، وحده طولا : ما بين أعلى منبت شعر الرأس إلى منتهى اللحيين أو أسفل الذقن ، وعرضا : ما بين الأذنين. (الْمَرافِقِ) جمع مرفق وهو مفصل الساعد أو الذراع من الأعلى والعضد من الأسفل. (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) الباء للإلصاق ، أي ألصقوا المسح بها من غير إسالة ماء ، وهو اسم جنس فيكفي فيه عند الشافعي : أقل ما يصدق عليه وهو مسح بعض الشعر. (الْكَعْبَيْنِ) هما العظمان الناتئان عند اتصال الساق بالقدم من الجانبين. (جُنُباً) أصابتكم جنابة بجماع أو إنزال مني. (فَاطَّهَّرُوا) فاغتسلوا.

سبب النزول :

روى البخاري عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : سقطت قلادة لي بالبيداء ، ونحن داخلون بالمدينة ، فأناخ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل ، فثنى رأسه في حجري راقدا ، وأقبل أبو بكر ، فلكز فيّ لكزة شديدة وقال : حبست الناس في قلادة ،

١٠٠