التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

(أَنْ تَقُولُوا : ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أي لئلا تحتجوا وتقولوا ، يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه : ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر ، فقد جاءكم بشير ونذير ، يبشر من أطاعه بالجنة وهو من آمن بالله وعمل بما أمر به وانتهى عما نهى عنه. وينذر من عصاه وخالف أمر الله بالنار ، يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال الطبري : معناه : إني قادر على عقاب من عصاني ، وثواب من أطاعني (١). ومن دلائل قدرة الله نصر نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعلاء كلمته في الدنيا ، وعلو منزلته في الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أثبتت الآية الأولى : (لَقَدْ كَفَرَ ...) كفر النصارى بقولهم : إن الله هو المسيح ابن مريم ، أي يدينون له. وأعلمهم الله أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره ، وقد أمات أمه ، ولم يتمكن من دفع الموت عنها ، فلو أهلكه هو أيضا ، فمن يدفعه عن ذلك أو يرده؟! والمسيح وأمه مخلوقان محدودان محصوران ، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للألوهية ، وإنما الله هو مالك السموات والأرض وما بينهما من النوعين والصنفين ، يخلق ما يشاء كخلق عيسى من أم بلا أب آية لعباده ، والله قادر على كل شيء.

وأبطلت الآية الثانية : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى) دعاوى اليهود والنصارى معزتهم وحظوتهم عند الله ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه ، فإن صح ما يزعمون فلم أنزل العذاب بهم في الدنيا من هزيمة وتخريب وتدمير ديارهم وتشريدهم ، وأعد لهم عذاب جهنم لكفرهم ومعاصيهم ، فليسوا إذن أبناء الله وأحباءه ؛ فإن الحبيب لا يعذب حبيبه ، وأنتم تقرّون بعذاب العصاة منكم ،

__________________

(١) تفسير الطبري : ٦ / ١٠٨

١٤١

فذلك دليل على كذبكم. وإنما هم في الحقيقة كسائر البشر يحاسبهم على الطاعة والمعصية.

وأوضحت الآية الثالثة : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبيان أمر النجاة والسعادة الأبدية ، وإناطتها بالإيمان والعمل الصالح ، فالجنة لمن أطاع الله ورسوله ، والنار لمن عصى الله ورسوله ، وفي تقرير أحكام الحياة وقوانين المجتمع لئلا أو كراهية أن تقولوا : ما جاءنا من مبشر ولا منذر. وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسمائة وتسع وستون سنة.

تذكير موسى قومه بنعمة الله

ومطالبتهم بدخول الأرض المقدسة وموقفهم الرافض

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي

١٤٢

وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))

الإعراب :

(أَنْبِياءَ) ممنوع من الصرف ؛ لأن فيه ألف التأنيث. (خاسِرِينَ) منصوب على الحال من واو (فَتَنْقَلِبُوا) وهو العامل في الحال. (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ .. مِنَ الَّذِينَ) : في موضع رفع صفة (رَجُلانِ) وكذلك قوله تعالى : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) جملة فعلية في موضع رفع صفة (رَجُلانِ).

(أَبَداً ما دامُوا فِيها) أبدا : منصوب ظرف زمان. و (ما) في (ما دامُوا) ظرفية زمانية مصدرية ، وتقديره : لن ندخلها أبدا مدة دوامهم فيها. و (ما دامُوا) : في موضع نصب على البدل من قوله تعالى : (أَبَداً) وهو بدل بعض من كل.

(إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) : (أَخِي) إما منصوب عطفا على (نَفْسِي) ، أو عطفا على اسم (رَجُلانِ) ويحذف خبره لدلالة الأول عليه وتقديره : وإن أخي لا يملك إلا نفسه ؛ وإما مرفوع بالابتداء عطفا على موضع (إن وما عملت فيه) ويضمر الخبر كالأول أو معطوف على ضمير (أَمْلِكُ) وحسن العطف على الضمير المرفوع لوجود الفصل بين المتعاطفين. (أَرْبَعِينَ سَنَةً) ظرف منصوب ، ويتعلق بيتيهون فيكون التحريم مؤبدا ، أو يتعلق بمحرّمة فلا يكون التحريم مؤبدا ، وجملة (يَتِيهُونَ) حالية من الهاء والميم في (عَلَيْهِمْ).

البلاغة :

(وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) تشبيه بليغ ، أي كالملوك في رغد العيش والطمأنينة ، فحذف أداة الشبه ووجه الشبه.

(أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) جملة اعتراضية لبيان مدى فضل الله على الصالحين.

المفردات اللغوية :

(جَعَلَ فِيكُمْ) منكم. (مُلُوكاً) أحرارا تملكون أنفسكم وأموالكم وأهلكم بعد أن كنتم في أيدي القبط ، وصرتم أصحاب خدم وحشم.

١٤٣

(ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) من المن والسلوى وفلق البحر وغير ذلك. (الْمُقَدَّسَةَ) المطهرة. (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أمركم بدخولها وهي الشام. (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) تتراجعوا وتنهزموا خوف العدو. (خاسِرِينَ) في سعيكم. (جَبَّارِينَ) جمع جبار : وهو الرجل الطويل القوي المتكبر.

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) قال لهم رجلان يخافون مخالفة أمر الله ، وهما يوشع وكالب من النقباء الاثني عشر الذين بعثهم موسى عليه‌السلام لكشف أحوال الجبابرة. (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالعصمة ، فكتما ما اطلعا عليه من حالهم إلا عن موسى ، بخلاف بقية النقباء ، فأفشوا ، فجبن القوم.

(ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) باب القرية ، ولا تخشوهم ، فإنهم أجساد بلا قلوب. (فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) قالا ذلك تيقنا بنصر الله وإنجاز وعده. (قاعِدُونَ) عن القتال. (قالَ) أي موسى حينئذ. (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي) وإلا (أَخِي) ولا أملك غيرهما ، فأجبرهم على الطاعة. (فَافْرُقْ) فافصل. (فَإِنَّها) أي الأرض المقدسة. (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) أن يدخلوها. (يَتِيهُونَ) يتحيرون. (فَلا تَأْسَ) تحزن.

المناسبة :

الواو في قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) واو عطف ، وهو متصل بقوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كأنه قيل : أخذ عليهم الميثاق وذكرهم موسى عليه‌السلام نعم الله تعالى ، وأمرهم بمحاربة الجبارين ، فخالفوا في القول في الميثاق ، وخالفوه في محاربة الجبارين.

أي بعد أن أقام الله الدليل على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وناقش أهل الكتاب في ذلك ، ذكر موقفين من مواقف اليهود يدلان على عنادهم ، أولهما : جحود نعم الله الكثيرة عليهم ، وثانيهما : عصيانهم أوامر موسى بدخول أرض فلسطين ومحاربة الجبارين ، ليكون ذلك مواساة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعريفا له أن صدودهم عن الحق خلق متأصل فيهم.

١٤٤

التفسير والبيان :

أخبر الله تعالى عن كليمه موسى بن عمران عليه‌السلام حينما ذكّر قومه بنعم الله عليهم في جمعه لهم بين خيري الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريق الاستقامة. فقال : واذكر يا محمد لبني إسرائيل وسائر الناس الذين تبلغهم دعوتك حين قال موسى لقومه بعد أن أنقذهم من ظلم فرعون وقومه : تذكروا نعما ثلاثا :

١ ـ تذكروا نعمة الله عليكم بتتابع الأنبياء فيكم من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده ، حتى ختموا بعيسى عليه‌السلام ، ثم أوحى الله إلى خاتم النبيين من ولد إسماعيل بن إبراهيم ، وبنو إسرائيل من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وكان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بالتوراة.

ومن المعلوم : أن النبوة : هي الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع في المستقبل بوحي أو إلهام من الله عزوجل. والخلاصة : أنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء.

٢ ـ وجعلكم ملوكا ، أي أحرارا بعد أن كنتم مملوكين في أيدي القبط ، فأنقذكم الله ، فسمى إنقاذكم ملكا. وقيل : الملك : هو من له مسكن وخادم ، وقيل : من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق. والخلاصة : أنهم أحرار عندهم ما يكفيهم من زوجة وخادم ودار ، بدليل ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري مرفوعا : «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا» وروى أبو داود أيضا عن زيد بن أسلم : «من كان له بيت وخادم فهو ملك» وعرف اليوم يؤيد هذا ، فيقال للمخدوم المالك مسكنه الهانئ في معيشته : «ملك زمانه».

٣ ـ وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين : عالمي زمانهم ، من فلق البحر ،

١٤٥

وإغراق العدو ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الأمور العظام.

ثم أمرهم موسى بدخول فلسطين ومجاهدة الأعداء فقال لهم : يا قوم الأرض المقدسة (الطاهرة) : أرض بيت المقدس ، أو فلسطين ، للسكنى لا للملك ؛ لأن بيت المقدس مقر الأنبياء ومسكن المؤمنين (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي قسمها لكم وسماها ، فقد وعد الله إبراهيم بحق السكنى في تلك البلاد المقدسة ، لا أنها ملك لهم ؛ لأن هذا مخالف للواقع ، فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح ؛ لأن الله قال بعدئذ : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) قال ابن عباس : كانت هبة ، ثم حرمها عليهم بشؤمهم وعصيانهم. ولأن قوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) مشروط بقيد الطاعة ، فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط.

(وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي لا تتراجعوا وتدبروا من خوف الجبابرة ، ولا تنكلوا عن الجهاد ، فتصبحوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة.

وقيل : المراد لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوة موسى عليه‌السلام ، وإلى الوثنية والفساد في الأرض.

قال النقباء الذين أرسلهم موسى عليه‌السلام للتجسس في الأرض المقدسة : إن فيها قوما جبارين أي طوالا عتاة يجبرون الناس على ما أرادوا. وكانوا من الكنعانيين ، وإنا لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها ، فإن خرجوا منها فإنا داخلون فيها. وإنما قالوا هذا على سبيل الاستبعاد كقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف ٧ / ٤٠].

١٤٦

وهذا دليل آخر على امتناعهم عن الدخول ، وعدم أحقيتهم بشيء من تراب فلسطين الطاهرة.

قال رجلان من النقباء الذين يخافون الله تعالى ـ وقد أنعم الله عليهما بالهداية والإيمان والطاعة والتوفيق لما يرضيه ، والثقة بعون الله تعالى ، والاعتماد على نصرة الله ، وهما الرجلان الصالحان من قوم موسى : يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا ـ قالا : ادخلوا عليهم باب المدينة ، فإذا فعلتم ذلك نصركم الله ، وأيدكم بجنده ، وكنتم الغالبين.

وإن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله ، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم ، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم ، والتوكل على الله صفة المؤمنين.

ومع هذا كرر اليهود الرفض وأصروا على العناد والتمرد ، ولم تنفعهم عظة الرجلين الصالحين شيئا ، وقالوا يا موسى : لن ندخلها أبدا ما داموا فيها ، وأبدا : تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول ، وقولهم : (ما دامُوا فِيها) بيان للأبد ، فاذهب أنت وربك الذي أمرك بالجهاد والخروج من مصر والإتيان إلى هنا ، فقاتلا الجبارين ، إنا هاهنا قاعدون عن الجهاد منتظرون.

وهذا قول في غاية التنكر لموسى عليه‌السلام ، والبعد عن الأدب معه.

فقال موسى غاضبا حزينا باثا شكواه إلى الله وحسرته ، معتذرا من عصيان قومه : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) أي لا يطيعني أحد منهم ، فيمتثل أمر الله ، ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون. وفي هذا إيماء إلى أنه لم يكن على ثقة من ثبات يوشع وكالب حال وجود العدد القليل ، فاقض وافصل بيني وبين هؤلاء الفاسقين الخارجين عن طاعتك ، فتحكم لنا بما نستحق ، وتحكم عليهم بما يستحقون.

١٤٧

وهذا في معنى الدعاء عليهم. ولذلك وصل به قوله : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) على وجه التسبيب.

ويصح أن يكون المعنى : فباعد بيننا وبينهم ، وخلصنا من صحبتهم كقوله تعالى : (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم ٦٦ / ١١].

قال الله تعالى لما دعا عليهم موسى عليه‌السلام حين نكلوا عن الجهاد : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أي إن الأرض المقدسة محرم عليهم دخولها قدر مدة أربعين سنة ، فتاهوا في صحراء مقفرة أي ساروا فيها متحيرين لا يهتدون طريقا ، والتيه : المفازة أو البيداء أو البرية التي يتاه فيها ، لا يدرون أين مصيرهم. روي أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ (وقال ابن عباس : وهي تسعة فراسخ) يسيرون في كل يوم جادّين ، حتى إذا سئموا وأمسوا ، إذا هم في الموضع الذي ابتدؤوا منه ، يسيرون ليلا ، وقد يسيرون نهارا ، وكان يطلع لهم عمود من نور بالليل يضيء لهم ، ويظللهم الغمام من حر الشمس نهارا ، وينزل عليهم المن والسلوى ، حتى انقرضوا كلهم إلا من لم يبلغ العشرين.

قيل : وكانوا ستمائة ألف ، ومات هارون في التيه ومات موسى بعده فيه بسنة ، وكان رحمة لهما وعذابا لأولئك ، وسأل موسى ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر فأدناه.

ونبئ يوشع بعد سن الأربعين ، وأمر بقتال الجبارين ، فسار بمن بقي ، وقاتلهم ، وكان يوم الجمعة ، ووقفت له الشمس ساعة حتى فرغ من قتالهم. روى أحمد في مسنده حديثا : «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ، ليالي سار إلى بيت المقدس».

وتتمة كلام الله تسلية لموسى عنهم : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فلا تحزن على القوم المتمردين فيما حكمت عليهم به ، فإنهم مستحقون لذلك.

١٤٨

وتساءل الزمخشري وغيره : كيف يوفق بين قوله (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) وبين قوله (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) وأجابوا بوجهين :

أحدهما ـ أن يراد كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها ، فلما أبوا الجهاد قيل : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ).

والثاني ـ أن يراد فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ، فإذا مضت الأربعون ، كان ما كتب(١).

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت هذه القصة تقريع اليهود وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمر به كل منهما من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مقاتلة الأعداء ، مع أن معهم موسى كليم الله يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم ، بالرغم مما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من إغراقه مع جنوده في اليم ، وهم ينظرون ، لتقر به أعينهم.

وإذا كان أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه ، فكذلك أحفادهم تمردوا على محمدعليه‌السلام ، وهو تسلية له.

وهذا يدل على قبح طبائع اليهود وإمعانهم في مخالفة أوامر الله ، بالرغم من تذكير موسى لهم بنعم الله الكثيرة عليهم وأهمها ثلاث :

١ ـ بعث كثير من الأنبياء في بني إسرائيل.

٢ ـ وجعلهم ملوكا : أي يملكون أمرهم لا يغلبهم فيه غالب ، بعد أن كانوا مملوكين لفرعون مقهورين ، فأنقذهم الله وأغرق عدوهم.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤٥٤ وما بعدها ، التفسير الكبير للرازي : ١١ / ١٩٧ ـ ١٩٩

١٤٩

٣ ـ وإعطاؤهم ما لم يعط أحد من عالمي زمانهم.

وقد أمرهم موسى بمجاهدة الأعداء من الكنعانيين الجبارين في فلسطين ، وبدخول الأرض المقدسة (المطهرة أو المباركة) فتمردوا وأبوا الدخول ، بالرغم من تبشير الرجلين الصالحين من النقباء (يوشع وكالب) لهم بالنصر والغلبة والفتح ، وقالا : ولا يهولنكم عظم أجسامهم ، فقلوبهم ملئت رعبا منكم ، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة.

وتمادوا بعناد وإفراط على الله ، فرفضوا الدخول إلى الأرض المقدسة وقالوا لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) وهذا منهم كفر ؛ لأنهم شكّوا في رسالة موسى.

فدعا موسى عليه‌السلام عليهم ، وطلب فصل القضاء بينه وبينهم. فاستجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة ، ومات هارون وموسى في التيه. روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه‌السلام ، فلما جاءه صكّه ففقأ عينه ، فرجع إلى ربه ، فقال : «أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت» قال : فرد الله إليه عينه وقال : «ارجع إليه ، فقل له : يضع يده على متن ثور ، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة» قال : «أي رب ثم مه» قال : «ثم الموت» قال : «فالآن» فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلو كنت ثمّ ، لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر». وفعل موسى مع الملك ؛ لأنه لم يعرفه ، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه ، يريد نفسه ، فدافع عن نفسه ، فلطم عينه ، ففقأها.

وكان العقاب الإلهي لبني إسرائيل المتمردين عن الطاعة هو تصفيتهم وتجديد بنية الشعب ، وظهور جيل جديد من الشباب يتحملون المسؤولية ، وكانوا أهلا للجهاد ومقاومة الجبارين ، وجعلهم أئمة وارثين.

١٥٠

قصة قابيل وهابيل وأول جريمة قتل في الدنيا

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))

الإعراب :

(إِنِّي أُرِيدُ ..) أصله : إنني بثلاث نونات ، فحذفت الثانية ؛ لأنه أقل تغييرا من حذف الأولى والثالثة.

(أَوْ فَسادٍ ..) مجرور بالعطف على : (نَفْسٍ). وقرئ : فسادا : بالنصب على المصدر.

البلاغة :

(قَتَلَ .. وأَحْيَا) بينهما طباق.

١٥١

(وَمَنْ أَحْياها) فيه استعارة ، والمراد استبقاها ؛ لأن إحياء النفس حقيقة من مقدورات الله وحده.

(لَئِنْ بَسَطْتَ .. ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ) بينهما طباق السلب.

المفردات اللغوية :

(وَاتْلُ) أي اقرأ يا محمد (عَلَيْهِمْ) على قومك (نَبَأَ) خبر (ابْنَيْ آدَمَ) هابيل وقابيل (بِالْحَقِ) متعلق باتل (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) ما يتقرب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها ، وهو مصدر في الأصل ، يستوي فيه الواحد وغيره ، وقربانهما : كبش لهابيل وزرع لقابيل (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) وهو هابيل ، بأن نزلت نار من السماء فأكلت قربانه (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) وهو قابيل ، فغضب وأضمر الحسد في نفسه إلى أن حج آدم.

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) اللام لام القسم ، أي لئن مددت يدك إلي لتقتلني.

(تَبُوءَ) ترجع بعقاب يعادل الإثم ، وباء بالنعمة وباء بالذنب : التزم وأقر (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) زينت وشجعت (مِنَ الْخاسِرِينَ) بقتله ، ولم يدر ما يصنع به ؛ لأنه أول ميت على وجه الأرض من بني آدم ، فحمله على ظهره (يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) ينبش التراب بمنقاره وبرجليه ويثيره على غراب ميت معه ، حتى واراه (يُوارِي) يستر (سَوْأَةَ أَخِيهِ) ما يسوء ظهوره وهو العورة والمراد الجثة. (يا وَيْلَتى) الويلة : الفضيحة والبلية ، أي وا فضيحتاه ، والويل : حلول الشر.

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) بسبب ذلك الذي فعله قابيل (بِالْبَيِّناتِ) الآيات الواضحة (أَنَّهُ) أي الشأن (بِغَيْرِ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أي بغير فساد أتاه من كفر أو زنى أو قطع طريق أو نحوه (أَحْياها) امتنع عن قتلها (لَمُسْرِفُونَ) مجاوزون الحد بالكفر والقتل وغير ذلك ، والإسراف البعد عن حد الاعتدال.

المناسبة :

أورد الله تعالى هذه القصة لبيان تأثير الحسد والحقد وحب الذات ، وأن ذلك يؤدي إلى المخاطر والمهالك والقبائح ، فقضى على رابطة الأخوة التي تجمع بين الأخوين ، وأدى إلى سفك الدماء. وأمثلة ذلك كثيرة ، فبعد أن ذكر تعالى حسد اليهود للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى هموا أن يقتلوه مع صحابته ، ذكر هنا قصة ابني آدم ، حسدا من الأخ على أخيه ، فوجه اتصال الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى

١٥٢

على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه.

التفسير والبيان :

أخبر الله تعالى عن سوء عاقبة الحسد في قصة ابني آدم وهما قابيل وهابيل ، كيف قتل الأول أخاه ، بغيا عليه ، وحسدا له فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عزوجل ، ففاز المقتول بالمغفرة ودخول الجنة ، وخاب القاتل وخسر في الدارين ، فقال :

اقرأ يا محمد ، واقصص على هؤلاء البغاة الحسدة حفدة القردة والخنازير ، من اليهود وأمثالهم خبر ابني آدم ، وهما قابيل وهابيل ، في رأي جماعة من السلف والخلف ، اقرأ واتل ذلك عليهم بالحق ، أي بالبيان الصحيح الواقعي الواضح الذي لا كذب ولا وهم ولا زيادة ولا نقصان فيه ، كما قال تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) [آل عمران ٣ / ٦٢] وقال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) [الكهف ١٨ / ١٣] وقال : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ) [مريم ١٩ / ٣٤].

وسبب القصة : أن الله تعالى شرع لآدم عليه‌السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال ، فكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى ، فيزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر ، وكانت أخت هابيل دميمة ، وأخت قابيل وضيئة ، فأراد أن يستأثر بها على أخيه ، فأبى آدم ذلك ، إلا بتقريب قربان ، فمن تقبل منه فهي له ، فتقبل من هابيل ، ولم يتقبل من قابيل.

اتل عليهم حين قربا قربانا ، فتقبل الله من هابيل قربانه وهو الكبش السمين لتقواه وإخلاصه ، ولم يتقبل من قابيل قربانه وهو زرع قليل من سنبل القمح ، لقلة التقوى والإخلاص. وكيف كان القبول؟

روي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما أن أحدهما كان صاحب حرث

١٥٣

وزرع ، فقرّب شرّ ما عنده وأردأه ، غير طيبة به نفسه ، وكان الآخر صاحب غنم ، وقرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها ، طيبة به نفسه. وذكر بعضهم أن القربان المقبول كانت تجيء النار من السماء لتأكله ، ولا تأكل غير المقبول.

فصعد الأخوان مع أبيهم آدم الجبل ، فوضعا قربانهما ، ثم جلس الثلاثة ، وهم ينظرون إلى القربان ، فبعث الله نارا ، حتى إذا كانت فوقهما ، دنا منها عنق ، فاحتمل قربان هابيل ، وترك قربان قابيل. فقال قابيل : يا هابيل ، تقبّل قربانك ، وردّ علي قرباني ، لأقتلنك ، فقال هابيل : قربت أطيب مالي ، وقربت أنت أخبث مالك ، وإن الله لا يقبل إلا الطيب ، إنما يتقبل الله من المتقين ، أي الذين يخافون عقاب الله باجتناب الشرك وسائر المعاصي كالرياء والشح واتباع الأهواء ، قال تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران ٣ / ٩٢] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم : «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا».

فلما قالها غضب قابيل ، فرفع الحديدة وضربه بها ، فقال : ويلك يا قابيل ، أين أنت من الله ، كيف يجزيك بعملك؟ فقتله وطرحه في حفرة من الأرض ، وحثا عليه التراب.

وقال هابيل الرجل الصالح : إن مددت إلي يدك لتقتلني ، لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله ، فأكون أنت وأنا سواء في الخطيئة ، ثم بيّن علة امتناعه عن القتل : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إني أخشى عقاب الله وعذابه من أن أصنع كما تريد أن تصنع ، بل أصبر وأحتسب ؛ لأن الاعتداء على الأرواح من أكبر الجرائم. وفي هذا التصريح بعدم الإقدام على جريمة القتل ، فلا ينطبق عليه الوضع الوارد في الحديث الذي رواه أحمد والشيخان وغيرهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل! فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه».

١٥٤

ثم تابع هابيل المقتول عظته البالغة المؤثرة المذكرة بعذاب الآخرة ، لعلها تمنع أخاه من قتله : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي إني أريد بالابتعاد عن مقابلة الجريمة بمثلها أن تتحمل إثمي وإثمك ، وتلتزم بإثم قتلك إياي ، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي ، وهذا رأي أكثر العلماء.

وحينئذ تكون بما حملت من الإثمين من أهل النار في الآخرة ، والنار جزاء كل ظالم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان عن أبي موسى الأشعري : «كن كخيري ابني آدم».

يتبين من هذا أنه نفّره وحذره من القتل بثلاث مواعظ : الخوف من الله ، تحمل الإثمين : إثم القتل وإثم نفسه ، كونه من أصحاب النار ومن الظالمين.

ثم أخبر تعالى أن هذه المواعظ كلها لم ينزجر بها ، فحسّنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه ، فقتله ، فأصبح من جملة الذين خسروا أنفسهم من الدنيا والآخرة ، وأي خسارة أعظم من جريمة القتل هذه؟!

ثم حار القاتل وضاقت به الدنيا ولم يدر كيف يفعل بجثة أخيه ، فاستفاد من تجربة غيره وهو الغراب ، مما دل على جهله وسذاجته وقلة معرفته.

فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له حفرة ، ثم حثا عليه التراب ، فلما رآه قال : وا فضيحتي ، وهذا اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب ، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟! أي هل بلغ عجزي وضعفي وقلة معرفتي أن كنت دون الغراب علما وتصرفا؟ فدفن أخاه ، ووارى جثته ، وأصبح نادما على ما فعل ، وهذا شأن كل مخطئ ، يرتكب المعصية ، ثم يندم عليها.

إلا أنه لم تقبل توبته ، بالرغم من المبدأ المعروف في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الندم توبة» (١) ؛ لأنه لم يندم ولم يتب من المعصية ، وإنما كان ندمه على قتل أخيه ؛

__________________

(١) رواه أحمد والبخاري والحاكم والبيهقي.

١٥٥

لأنه لم ينتفع بقتله ، وسخط عليه بسببه أبواه وإخوته (١) ، لذا كان من الذين سنوا سنة سيئة ، عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة ، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل ـ نصيب ـ من دمها ؛ لأنه أول من سنّ القتل».

ومن نتائج هذا القتل ، وبسبب هذا الجرم الفظيع ، والفعل القبيح الذي فعله أحد الأخوين بالآخر ظلما وعدوانا تقرر تشريع القصاص ، وفرض حكمه على بني إسرائيل ؛ لأن التوراة أول كتاب حرّم فيه القتل ، وذلك الحكم : أن من قتل نفسا بغير نفس أي بغير سبب موجب للقصاص الذي شرعه الله تعالى بقوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) ـ أي في التوراة ـ (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ..) الآية [المائدة ٥ / ٤٥] ، أو قتل بغير سبب فساد في الأرض بالإخلال بالأمن والطمأنينة ، كقطاع الطرق وعصابات اللصوص ، فاستحل القتل بلا سبب ولا جناية ، فكأنما قتل الناس جميعا ؛ لأنه لا فرق عند الله بين نفس ونفس ، والعدوان على نفس عدوان على المجتمع البشري كله ، لذا قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ، فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ، وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) [النساء ٤ / ٩٣].

ومن أحياها أي حرم قتلها ، وامتنع من القتل ، فكأنما أحيا الناس جميعا ، بتوفير الأمن والطمأنينة لهم ، وإزالة القلق والهلع من نفوسهم.

وهذا دليل على أن نفس الإنسان ليست ملكه ، وإنما هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه ، فمن اعتدى على نفس ولو بالانتحار ، استحق العذاب الشديد يوم القيامة ، ومن أحيا نفسا بأي سبب كان ، فكأنما أحيا الخلق كلهم.

ثم وجه الله تعالى تقريعا وتوبيخا لبني إسرائيل على ارتكابهم المحارم بعد

__________________

(١) تفسير الرازي : ١١ / ٢١٠

١٥٦

علمهم بها ، وإسرافهم في القتل ، وغلظة نفوسهم في الماضي وفي عهد النبوة ، مثل فعل بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع من اليهود حول المدينة ، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج في حروب الجاهلية ، ويقاتلون مع المشركين في حروبهم ضد المسلمين بعد الهجرة.

ومضمون التوبيخ : أن رسل الله الكرام جاءوهم بالبينات ، أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة الدالة على الأحكام المقررة عليهم ، المستهدفة تهذيب نفوسهم وتطهير أخلاقهم ، ومع ذلك كان الكثيرون منهم مسرفين في القتل وفي ارتكاب جرائم البغي والعدوان. وهذا وإن كان صادرا من أسلاف اليهود في الماضي ، فهو منسوب أيضا إلى الأمة بكاملها لرضا الخلف عن فعل السلف ، فكانت الأمة متكافلة متضامنة فيما بينها كالجسد الواحد.

فقه الحياة أو الأحكام :

العبرة في قصة ابني آدم أن الحسد كان سبب أول جريمة قتل في البشر ، وأنه هو أسّ المفاسد والمعايب والرذائل في المجتمع ، فالأمة المتحاسدة متمزقة متعادية متباغضة ، لا تجتمع على خير ، ولا تلتقي على فضيلة ، ولا تتعاون على برّ وصلاح وتقدم ، مما يؤدي إلى الضعف والذل والهوان وعبودية أفرادها لمن سواهم.

والمستفاد من الآية أنه إن همّ اليهود بالفتك بمحمد ، فليس ذلك جديدا عليهم ، فقد قتلوا الأنبياء قبله ، وقتل قابيل هابيل ، والشر قديم ، والتذكير بهذه القصة مفيد ؛ لأنها قصة صدق ، وليست حديثا موضوعا من نسج الخيال ، وفيها تبكيت لمن خالف الإسلام ، وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجمهور المفسرين على أن ابني آدم هما ابناه لصلبه ، وهما قابيل وهابيل ؛ وكان قربان قابيل حزمة من سنبل ؛ لأنه كان صاحب زرع ، واختارها من أردإ زرعه ، بل إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها ؛ وكان قربان هابيل كبشا ؛

١٥٧

لأنه كان صاحب غنم ، أخذه من أجود غنمه ، فتقبّل قربانه ، قال القرطبي : فرفع إلى الجنة ، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذبيح عليه‌السلام ، قاله سعيد بن جبير وغيره.

وسبب القصة : التنازع على الزواج من أخت قابيل توأمته المولودة معه ، فقد كان آدم عليه‌السلام يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر ، ولا تحل له أخته توأمته ، فولدت حواء مع قابيل أختا جميلة واسمها «إقليمياء» ومع هابيل أختا ليست كذلك ، واسمها «ليوذا» فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل : أنا أحق بأختي ، فأمره آدم فلم يأتمر ، وزجره فلم ينزجر ، فاتفقوا على تقديم القربان (١).

وكانت النتيجة قبول قربان هابيل لصلاحه ؛ بدليل قوله لأخيه : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). قال ابن عطية : المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة ؛ فمن اتقاه وهو موحّد فأعماله المصدّقة لنيته مقبولة ؛ وأما المتقى الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة.

وكان استسلام هابيل لتهديد أخيه قابيل بالقتل معتمدا على أسس ثلاثة : الخوف الحقيقي من الله تعالى ، والخشية من تحمل إثمين : إثم قتله وإثم فعل المقتول الذي عمله قبل القتل ، والابتعاد عن أن يكون من أصحاب النار ومن الظالمين. وهذه المبادئ من أصول المواعظ التي تنفر من الإقدام على جريمة القتل وغيرها.

ودل قوله : (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد. واستدل بعضهم بهذا القول على أن قابيل كان كافرا ؛ لأن لفظ (أَصْحابِ النَّارِ) إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ١٣٤

١٥٨

قال القرطبي : وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية. ومعنى (مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) مدة كونك فيها (١).

وإقدام قابيل على القتل جعله من الخاسرين في الدنيا والآخرة ، وتضمنت الآية بيان حال الحاسد ، حتى إنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة ، وأمسّهم به رحما ، وأولاهم بالحنو عليه.

ودلت الآية : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً) على الاستفادة من تجارب الآخرين.

وبالرغم من أن قابيل أصبح من النادمين ، فلم يكن ندمه جاعلا له من التائبين ؛ لأن ندمه لم يكن على القتل وإنما على حمل أخيه على ظهره سنة ، أو لأنه لم ينتفع بقتله ، وسخط عليه أبواه وإخوته ، أو لأجل ترك أخيه بالعراء استخفافا به بعد قتله ، فلما رأى فعل الغراب بدفن الغراب الآخر ندم على قساوة قلبه (٢).

ودلت آية : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ..) على تشريع القصاص في حق القاتل على بني إسرائيل. وقوله : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) ليس إشارة إلى قصة قابيل وهابيل ، بل هو إشارة إلى ما ذكر في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام وهو القتل العمد العدوان ، ومنها قوله : (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) ومنها قوله : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).

وتخصيص بني إسرائيل بالذكر ، وإن كان القتل حراما والقصاص عاما في جميع الأديان والملل ؛ لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا ، وكان قبل ذلك قولا مطلقا ، فغلظ الأمر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء ، فهم مع علمهم بشناعة القتل أقدموا على قتل الأنبياء

__________________

(١) المرجع السابق : ٦ / ١٣٨

(٢) تفسير الرازي : ١١ / ٢١٠

١٥٩

والرسل ، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى. وكان تخصيص بني إسرائيل مناسبا أيضا لما عزموا عليه من الفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأكابر أصحابه(١).

والقتل حرام في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال : كفر بعد إيمان ، وزنى بعد إحصان ، وقتل نفس ظلما وتعديا. وقوله : (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) هو الشرك ، وقيل : قطع طريق. وقتل نفس بمثابة قتل جميع الناس ، وإحياؤها بمثابة إحياء جميع الناس.

ودلت الآية أيضا على أن أحكام الله تعالى قد تكون معللة لأنه تعالى قال : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا) أي أن تشريع تلك الأحكام معلل بتلك المعاني.

حد الحرابة أو حكم قطاع الطرق

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))

__________________

(١) المرجع السابق : ١١ / ٢١١ ، تفسير القرطبي : ٦ / ١٤٦

١٦٠