التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبا له بصفة الرسالة بإبلاغ جميع ما أنزله الله عليه ، فقام بالواجب أتم القيامة ، وبلّغ الرسالة ، وأدّى الأمانة ، ونصح للأمة ، فجزاه الله خير الجزاء ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية من حديث عائشة رضي‌الله‌عنها ، قالت : من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب ، وهو يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي. وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت : «لو كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) [الأحزاب ٣٣ / ٣٧].

ومعنى الآية يا أيها الرسول المرسل من عند ربه برسالة إلى الناس كافة بلّغ جميع ما أنزل إليك من ربك ، ولا تخشى في ذلك أحدا ، ولا تخف أن ينالك مكروه.

وإن لم تبلغ فورا ما أنزل إليك ولم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به ، بأن كتمته ولو إلى حين ، فما قمت بواجب التبليغ إلى الناس ، كما قال تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة ٥ / ٩٩].

والحكمة في هذا الأمر بالتبليغ وتأكيده بقوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ..) بجعل كتمان بعضه مثل كتمان كله ، مع أن الرسل معصومون من كتمان شيء مما أنزله الله إليهم. هو إعلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن التبليغ حتم لا يجوز له الاجتهاد بتأجيل شيء عن وقته.

والحكمة بالنسبة للناس أن يعرفوا هذه الحقيقة بالنص ، فلا يختلفوا فيها.

وقد بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فورا جميع ما أنزل إليه من القرآن ، قال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم ، وقد شهدت له

٢٦١

أمته بإبلاغ الرسالة ، وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفا ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبته يومئذ : «أيها الناس ، إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون؟» قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول : «اللهم هل بلغت».

روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع : «يا أيها الناس ، أي يوم هذا؟» قالوا : يوم حرام ، قال : «أي بلد هذا؟» قالوا : بلد حرام ، قال : «فأي شهر هذا؟» قالوا : شهر حرام ، قال : «فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا» ثم أعادها مرارا ، ثم رفع أصبعه إلى السماء ، فقال : «اللهم هل بلغت» مرارا ، قال أحمد : يقول ابن عباس : والله لوصية إلى ربه عزوجل ، ثم قال : «ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».

ثم أعلن الله لنبيه كفالته وضمانه بعصمته من الناس ، أي أنه يحميه من الفتك والقتل ولا يمكن الأعداء مما يريدون ، وقد حاول المشركون قتله وقرروا ذلك في دار الندوة بعد موت أبي طالب ، فعصمه الله وهاجر إلى المدينة ، وكذلك فعل اليهود بعد الهجرة ، والمراد العصمة من القتل ، فلا يعترض عليه بأنه تعرض لأذى المشركين في مكة ، وفي الطائف ، وبعد الهجرة يوم أحد حيث شج في وجهه ، وكسرت رباعيته صلوات الله عليه.

روى الترمذي وأبو الشيخ ابن حيان والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن بضعة رجال من الصحابة : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية ،

٢٦٢

وكان العباس ممن يحرسه ، فلما نزلت ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحرس». وروي «أن أبا طالب كان يبعث مع رسول الله من يحرسه إذا خرج حتى نزل (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فذهب ليبعث معه ، فقال : يا عم ، إن الله حفظني ، لا حاجة لي إلى من تبعث».

وعن أنس رضي‌الله‌عنه : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرسه سعد وحذيفة ، حتى نزلت هذه الآية ، فأخرج رأسه من قبة أدم ، وقال : انصرفوا يا أيها الناس ، فقد عصمني الله من الناس.

وهذه الآية المكية وضعت في سياق تبليغ أهل الكتاب المأمور به في المدينة ، لتدل على تعرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإيذائهم ، كما تعرض لإيذاء المشركين ، والله عصمه من الفريقين.

وقيل : نزلت الآية بعد يوم أحد ، بدليل قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) ومعناه : أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك.

وللآية معنى أعم في الواقع وهو : بلّغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء» كما قال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة ٢ / ٢٧٢] وقال : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد ١٣ / ٤٠].

ثم كشف القرآن لكل الناس : أهل الكتاب والمسلمين عن حقيقة مهمة جدا هي أن النسبة إلى الدين لا تنفع إلا بالعمل به ، فقال : (قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي قل يا محمد لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) : لستم على شيء من الدين يعتد به حتى تقيموا التوراة والإنجيل فيما أمرا به من التوحيد الخالص والعمل الصالح ، ومما فيهما الإيمان بمحمد والأمر باتباعه والإيمان بمبعثه

٢٦٣

والاقتداء بشريعته ، وتعملوا بما أنزل إليكم من ربكم ، يعني القرآن العظيم ، الذي أكمل الله به الدين وختم برسالة محمد رسالات الأنبياء.

ثم كرر تعالى ما ذكر في الآية السابقة (٦٤) : وهو القسم من الله تعالى بأن كثيرا من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن إلا غلوا في تكذيبهم وكفرا على كفرهم ، لتعصبهم الموروث وحقدهم وحسدهم (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة ٢ / ١٠٩] ، وإهمالهم التفكير بإنصاف وتجرد ، فلا تأس على القوم الكافرين ، أي لا تحزن يا محمد ولا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم ، فإن ضرر ذلك راجع إليهم ، لا إليك ، وفي المؤمنين غنى عنهم.

أما القليل منهم الذين آمنوا بالله وحده لا شريك له وبكتبه ورسله ، فلا يزيدهم القرآن إلا هدى ورشادا وإسعادا.

وبعد الكشف عن تلك الحقيقة المهمة وضع القرآن قانونا عاما لكل الناس ، وهو : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي إن الذين صدقوا بالله ورسوله وهم المسلمون ، واليهود حملة التوراة أتباع موسى عليه‌السلام ، والصابئون (١) كذلك الخارجون عن الأديان كلها (٢) والنصارى أتباع المسيح عليه‌السلام ، من آمن منهم (٣) بالله ورسله واليوم الآخر إيمانا صحيحا صادقا ، وعمل عملا صالحا ، فلا خوف عليهم أبدا من عذاب يوم القيامة ، ولا هم يحزنون أبدا على لذات الدنيا ونعيمها ولا على شيء يصيبهم في الآخرة ، بل هم في جنات النعيم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت آية التبليغ على رد قول من قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتم شيئا من أمر الدين تقيّة ، وعلى بطلان هذا القول من الرافضة. ودلت أيضا على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم

__________________

(١) مبتدأ وخبره محذوف.

(٢) ولم يعطف على ما قبله بالنصب ؛ لأن الصابئين أشد الفرق المذكورين في الآية ضلالا.

(٣) بدل منصوب من اسم إن وما عطف عليه.

٢٦٤

يسرّ إلى أحد شيئا من أمر الدين ؛ لأن المعنى بلّغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا.

قال ابن عباس : «المعنى بلّغ جميع ما أنزل إليك من ربك ، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته» وهذا تأديب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته ، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه.

ودلت آية (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله عزوجل أخبر أنه معصوم ، ومن ضمن سبحانه له العصمة ، فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به.

ودلت آية : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يرشدهم على أن التوفيق إلى الخير والسعادة محجوب من الله عن الذين كفروا ، فهم بسبب كفرهم حجبوا رحمة الله عنهم.

ودلت آية (قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ ..) على أن اليهود والنصارى ليسوا في الواقع على شيء من الدين حتى يعملوا بما في التوراة والإنجيل والقرآن ، فيؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ويعملوا بما يوجبه ذلك عليهم من الكتابين.

ومن كفر يزيده الله كفرا على كفره ، ويزيده طغيانا أي تجاوزا الحد في الظلم والغلو فيه.

والعبرة للمسلم من هذه الآية أن يعلم أنه لا يكون على شيء يعتد به من أمر الدين حتى يقيم القرآن ، فيهتدي بهديه ، ويلتزم بحدوده.

وأومأت آية : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ..) إلى أن أهل الكتاب لم يقيموا دين الله ، فلا حفظوا نصوص الكتب المنزلة ، ولا تركوا ما عندهم على ظواهرها بل أولوها تأويلا فاسدا ، ولا آمنوا بالله واليوم الآخر ، ولا عملوا الصالحات.

٢٦٥

تكذيب اليهود رسلهم وقتلهم إياهم

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١))

الإعراب :

(أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أن في حالة النصب هذه خفيفة ناصبة للفعل المستقبل. ويجوز الرفع في (تَكُونَ) على أن تجعل «أن» مخففة من الثقيلة ، وتقديره : وحسبوا أنه لا تكون فتنة. فخففت أن وجعلت (أَلَّا) عوضا عن تشديدها. وإنما جاز أن تقع «أن» خفيفة مخففة من الثقيلة ؛ لأن في «حسب» طرفا من اليقين والشك ، والمخففة من الثقيلة إنما تقع بعد فعل اليقين كعلمت وعرفت ، وأن الخفيفة تقع بعد فعل الشك كرجوت وطمعت. وتكون هاهنا تامة بمعنى تقع ، فلا تفتقر إلى خبر.

(كَثِيرٌ مِنْهُمْ) إما مرفوع على البدل من واو (عَمُوا وَصَمُّوا) ؛ أو مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره : العمي والصم كثير منهم ؛ أو مرفوع لأنه فاعل (عَمُوا وَصَمُّوا) وتجعل الواو للجمعية لا للفاعل ، على لغة من قال : «أكلوني البراغيث» وهذا ضعيف ؛ لأنها لغة غير صحيحة.

البلاغة :

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) عبر بالمضارع عن حكاية الحال الماضية بما عملوا استحضارا لأوضاعهم القبيحة ، ومراعاة لخواتيم الآيات.

(فَعَمُوا وَصَمُّوا) استعار العمى والصمم للإعراض عن الهداية والإيمان.

٢٦٦

المفردات اللغوية :

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) على الإيمان بالله ورسله (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) من الحق كذبوه (فَرِيقاً) منهم كذبوه (وَفَرِيقاً) منهم (يَقْتُلُونَ) كزكريا ويحيى ، والتعبير به دون : قتلوا حكاية للحال الماضية ، مراعاة لفواصل الآيات ، والمراد : فريقا كذبوه وفريقا قتلوه.

(وَحَسِبُوا) ظنوا (أَلَّا تَكُونَ) ألا تقع (فِتْنَةٌ) عذاب بهم على تكذيب الرسل وقتلهم (فَعَمُوا) عن الحق ، فلم يبصروه (وَصَمُّوا) عن استماعه (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازيهم به.

المناسبة :

الكلام مستمر في شأن أهل الكتاب وتعداد قبائحهم ، فبعد أن أبان سبحانه أنه أخذ الميثاق على اليهود ، أعاد التذكير به مرة أخرى.

التفسير والبيان :

يذكر الله تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل بالسمع والطاعة لله ولرسوله ، فنقضوا العهد والميثاق ، واتبعوا آراءهم وأهواءهم ، وقدموها على الشرائع ، فما وافقهم منها قبلوه ، وما خالفهم ردوه.

والميثاق : العهد المؤكد ، وأخذ الله العهد على اليهود في التوراة بتوحيد الله واتباع أحكام شرع الله ، فنقضوا الميثاق وعاملوا الرسل إما بالتكذيب المستلزم للإعراض ، وإما بالقتل.

وظنوا أن لا يترتب على ما صنعوا شر لهم ، وألا تقع بهم فتنة أي اختبار بما فعلوا من الفساد ، لزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، ولكن ترتب على فسادهم سوء ، وهو أنهم عموا عن الحق ، وصموا آذانهم عن استماعه وعن تدبر آيات الله ، فلا يسمعون حقا ، ولا يهتدون إليه ، فتسلط عليهم البابليون وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا أموالهم وسبوا أولادهم ونساءهم ، ثم تاب الله عليهم مما كانوا فيه حين تابوا

٢٦٧

وتركوا الفساد ، وأعاد إليهم ملكهم على يد ملك من ملوك الفرس ، وعمر لهم بيت المقدس ، ورد من كان في أسر بختنصّر إلى وطنهم.

ثم عموا وصموا مرة أخرى ، حيث طلبوا رؤية الله ، وقتلوا الأنبياء كزكريا ويحيى ، وحاولوا قتل عيسى بن مريم ، وعصوا أوامر الله والرسل ، فسلط الله عليهم الفرس ، ثم الرومان ، فأزالوا ملكهم وسلبوا استقلالهم.

وقوله تعالى : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) يشير إلى أن أكثرهم عصاة ، وأقلهم مؤمنون صالحون.

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي مطلع عليهم ، وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم ، وعالم بما يدبرونه من الكيد والمكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.

فقه الحياة أو الأحكام :

تكررت المعاهدات والمواثيق مع بني إسرائيل ألا يعبدوا إلا الله ، وما يتصل به ، وكل هذا يتناسب مع ما بدئت به سورة المائدة : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

ولكن اليهود أعداء الله والإنسانية نقضوا العهود والمواثيق ، وقابلوا الرسل إما بالتكذيب والصد والإعراض ، وإما بالقتل ، فقد كذبوا عيسى وغيره من الأنبياء ، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء.

وظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عزوجل ابتلاء واختبار بالشدائد ، اغترارا بقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة ٥ / ١٨]. وإنما اغتروا بطول الإمهال ، فعموا عن الهدى ، وصموا عن سماع الحق ؛ لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه. ثم تاب الله عليهم بعد الاختبار ، وكشف عنهم الغمة والكربة ، وصيرهم أحرارا بعد أن كانوا أسرى مستعبدين.

٢٦٨

ثم فسدوا وعصوا ، وعمي كثير منهم وصمّ بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام ، ولم يتعظوا بشيء أبدا من المواعظ ، وأعرضوا عن سماع الحجج والبينات ، أي الآيات والبراهين الدالة على الحق والصواب.

وهكذا يترنح اليهود بين التوبة والعصيان ، وبين الإنقاذ والتعرض للدمار والهلاك ، وأكثرهم الفاسقون ، والقليل منهم الطائعون. ولن يجد الإنسان في التاريخ شعبا أكثر تعقيدا ، وأسوأ طبعا ، وأكثر اضطرابا وقلقا من اليهود. لذا تجدهم دائما في مخاوف وحذر ، ولن يهدأ لهم بال ، ولن ينعموا على مدى الدهر بالاستقرار والاطمئنان ، والمثال في فلسطين بالرغم من إقامة دولتهم واضح لكل إنسان.

تأليه المسيح عند المسيحيين مع أنه مجرد بشر رسول

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥))

٢٦٩

البلاغة :

(فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتهويل الأمر وغرس المهابة.

(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) استفهام توبيخ.

(انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) : تكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجب. ولفظ (ثُمَ) لإظهار ما بين العجبين من التفاوت ؛ أي إن بياننا للآيات في غاية الوضوح ، وإعراضهم عنها أعجب.

المفردات اللغوية :

(لَقَدْ كَفَرَ) الكفر : ضد الإيمان ، والكفر أيضا : جحود النعمة ، والكفر بالفتح : التغطية والستر ، يقال كفرت الشيء : سترته ، وكفر الفلاح البذر في الأرض : ستره. (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) العبادة : الخضوع والتذلل ، ومفاد هذا الكلام : أني أنا المسيح عبد الله مثل سائر العباد ، ولست بإله (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) في عبادة غير الله (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) منعه أن يدخلها (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) يمنعونهم من عذاب الله.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي أحد آلهة ثلاثة ، والآخران : عيسى وأمه ، وهم النصارى (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) من التثليث ويوحدوا (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ثبتوا على الكفر (مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم وهو النار. (غَفُورٌ) لمن تاب (رَحِيمٌ) به (قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فهو يمضي مثلهم وليس بإله ، كما زعموا ، وإلا لما مضى وزال من الوجود.

(وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) مبالغة في الصدق (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) كغيرهما من الناس ، ومن كان كذلك لا يكون إلها لتركيبه وضعفه (كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) على وحدانيتنا (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى) كيف (يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الحق مع قيام البرهان.

سبب النزول :

قال السدي وغيره : نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله ، فجعلوا الله ثالث ثلاثة.

٢٧٠

المناسبة :

بعد أن استقصى الله تعالى الكلام مع اليهود وفنّد حججهم ، وعدد قبائحهم ، شرع هنا في الكلام عن النصارى ، وبيّن فساد عقيدتهم في ادعاء ألوهية المسيح عليه‌السلام ، وأنه ولد إلها ، أي أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى ، وهذا في الأصل قول اليعقوبية ، ثم ساد بين النصارى. ثم حكى تعالى قول المسيح ، ليقيم الحجة القاطعة على فساد قول أتباعه.

التفسير والبيان :

يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنّسطورية القدامى ، والكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت الجدد : تالله لقد كفر الذين ادّعوا أن الله هو المسيح ابن مريم ، وضلوا ضلالا بعيدا ، فقالوا : إن الله مركب من ثلاثة أصول (أو أقانيم) وهي الأب والابن والروح القدس ، فالله هو الأب ، والمسيح هو الابن ، وقد حل الله الأب في المسيح الابن واتحد به ، فكوّن روح القدس ، وكل واحد من هؤلاء عين الآخر ، وخلاصة قولهم : الله هو المسيح.

مع أن أول كلمة نطق بها المسيح وهو صغير في المهد هي : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) ثم دعا الناس إلى رسالته فقال : يا بني إسرائيل ، اعبدوا الله ربي وربكم ، أي توجهوا بالعبادة إلى الله تعالى وحده. وفي قوله هذا دليل قاطع على فساد قول النصارى ؛ لأنه لم يفرق بين نفسه وغيره في أن دلائل حدوثه وخلقه مثل غيره من الناس.

وأتبع دعوته بالتحذير من الشرك والوعيد عليه فقال : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ ..) أي إن كل من يتخذ شريكا لله من ملك أو بشر أو كوكب أو صنم أو غيره ، فقد حرم الله عليه الجنة في علمه السابق القديم ، وفي شرعه لرسله ، أي حرمه دخولها ، ومنعه منها ، ومقره في الآخرة نار جهنم ، وليس للظالمين أنفسهم

٢٧١

باتخاذ الشركاء من نصير أو معين ينصرهم ، أي لا ينصرهم أحد فيما تقوّلوا على عيسى ولا يساعدهم عليه ، لاستحالته وبعده عن المعقول ، ولا ينصرهم أيضا ناصر في الآخرة من عذاب الله.

وكذلك كفر القائلون : إن الله خالق السموات والأرض وما بينهما ثالث آلهة ثلاثة ، وهو قول النصارى : المسيح ابن الله ، أو الله واحد من ثلاثة أقانيم : أب هو الله ، وابن هو المسيح ، وزوجة هي مريم ، أي إن كل فرق النصارى كفار ، سواء من قال : إن المسيح ثالث ثلاثة ، أو إن المسيح ابن الله ، أو إن الله هو المسيح ابن مريم. ومتأخرو النصارى يقولون بالتثليث ، أي إن الآلهة ثلاثة ، وبالتوحيد أي إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة عين الآخر.

وردّ الله على الجميع بقوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ما من إله في الوجود يستحق العبادة إلا إله واحد أحد لا شريك له ، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات ، فهو المتصف بالوحدانية ، وليس فيه شيء من صفات البشر ، فلا تركيب في ذاته ولا في صفاته ، وليس هناك تعدد ذوات وأعيان ، ولا تعدد أنواع ، ولا تعدد أجزاء : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى ٤٢ / ١١]. وهذه الآية مثل قوله تعالى في آخر السورة : (وَإِذْ قالَ اللهُ : يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ، قالَ : سُبْحانَكَ) [المائدة ٥ / ١١٦] يعني أن الآيتين لنفي تعدد الآلهة.

ثم توعدهم الله وأنذر على قولهم فقال : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ ...) أي إن لم يتجنبوا ويتركوا ما يقولون من هذا الافتراء والكذب وادعاء التثليث ، ويعودوا إلى القول بالتوحيد ، ليصيبنهم عذاب شديد مؤلم في الآخرة بسبب كفرهم. وفي هذا دلالة على أن إصابة العذاب للذين كفروا خاصة لا الذين تابوا من عقيدة التثليث.

٢٧٢

ثم كان من كرم الله تعالى وجوده ولطفه ورحمته مع هذا الكذب والافتراء أنه يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ، بأن يتوبوا من شركهم ، ويستغفروا الله من عقيدة التثليث ، والله غفور للتائبين رحيم بهم.

أما المسيح في الحقيقة فهو مجرد رسول ، كأمثاله من الرسل المتقدمين عليه ، وأنه عبد من عباد الله كما قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ، وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الزخرف ٤٣ / ٥٩] وهو كغيره من الرسل مؤيد بالمعجزات الخارقة للعادة : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء ٤ / ١٧١].

وأمه صدّيقة ، أي مؤمنة به مصدقة له ، لها مرتبة تلي مرتبة الأنبياء والمرسلين ، وليست بنبية (١) ولا لها صفة الألوهية ، كما قال تعالى : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التحريم ٦٦ / ١٢].

وكل من المسيح وأمه من جنس البشر ونوعهم ، بدليل أنهما يأكلان الطعام للحفاظ على معيشتهما وحياتهما ، ويقضيان حاجتهما من البول والغائط ، ومن صدر منه مثل ذلك ، واتصف بالتركيب والضعف والحاجة إلى الطعام والشراب والنوم وقضاء الحاجة ، لا يمكن أن يكون إلها ، ولا أن يتصف بأي صفة من صفات الألوهية والربوبية.

فانظر أيها العاقل كيف نبين للنصارى الجهلة الدلائل القاطعة الواضحة على بطلان ما يدّعون ، ثم انظر بعد هذا البيان والإيضاح كيف يصرفون عن التأمل بهذه الأدلة ، وأين يذهبون ، وبأي قول يتمسكون.

__________________

(١) ليست مريم نبية ، كما زعم ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ، ونبوة أم موسى ، ونبوة أم عيسى ، استذلالا بخطاب الملائكة لسارة ومريم ، وبقوله تعالى : وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وهذا معنى النبوة. والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال ، قال الله تعالى : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى.

٢٧٣

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على كفر كل فرق وطوائف ومذاهب النصارى ، سواء قالوا : إن المسيح ثالث ثلاثة ، أو إن المسيح ابن الله ، أو إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم ؛ لأنهم في النتيجة يقولون : أب وابن وروح القدس إله واحد ، ولا يقولون : ثلاثة آلهة ، وهو معنى قولهم جميعا ، وإنما يمتنعون من عبارة التثليث ولا يصرحون بها لفظا ، وهي لازمة لقولهم ؛ لأنهم يقولون : إن الابن إله ، والأب إله ، وروح القدس إله.

فرد الله عليهم بأن الإله لا يتعدد ، وإن لم يكفوا عن القول بالتثليث ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، فليتوبوا إليه ، وليسألوه ستر ذنوبهم. والمراد الكفرة منهم ؛ لأنهم القائلون بالتعدد ، دون المؤمنين.

وما المسيح في حقيقته ، وإن ظهرت المعجزات أو الآيات على يديه ، كما جاءت بها بقية الرسل ، إلا عبد الله ورسول من عنده ، فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها. وهذا رد قاطع لقولهم واحتجاج عليهم.

ومن تتمة الحجة أن المسيح وأمه الصديقة كانا يأكلان الطعام ، أي أنه مولود مربوب ، ومن ولدته النساء ، وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين ، فمتى يصلح المربوب أن يكون ربا؟! وفي هذا دلالة على أنهما بشران.

وقولهم : كان يأكل الطعام بناسوته «البشري» لا بلاهوته ، أي أن له طبيعتين : بشرية وإلهية ، فهذا منهم اختلاط إله بغير إله ، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث ، لجاز أن يصير القديم محدثا ، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره ، حتى يقال : اللاهوت مخالط لكل محدث.

وعقب الله تعالى على اعتقاد النصارى : انظر كيف نبين لهم الدلالات على

٢٧٤

الألوهية الحقة والوحدانية الصمدانية ، ثم انظر كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟!.

مناقشة النصارى في تأليه عيسى ومطالبة أهل الكتاب بعدم

الغلو في الدين ولعنة بني إسرائيل لعدم النهي عن المنكر

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))

الإعراب :

(أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أن وصلتها يجوز في موضعها النصب والرفع. فالنصب : إما على البدل من (ما) على أنها نكرة ، وإما على حذف اللام ، أي لأن سخط. والرفع : على البدل من (ما) في (لَبِئْسَ ما) على أنّ (ما) معرفة.

٢٧٥

البلاغة :

(قُلْ : أَتَعْبُدُونَ) استفهام للإنكار.

(لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) تقبيح لسوء أعمالهم وتعجب منه بالتوكيد والقسم.

المفردات اللغوية :

(مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بأحوالكم (يا أَهْلَ الْكِتابِ) اليهود والنصارى (لا تَغْلُوا) تجاوزوا الحدود ، والغلو : نقيض التقصير ، وهو الإفراط وتجاوز الحد (فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) أي غلوا باطلا ، بأن تضعوا عيسى أو ترفعوه فوق حقه (أَهْواءَ قَوْمٍ) آراء قوم مبعثها الهوى والشهوة دون الحجة والبرهان (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) بغلوهم وهم أسلافهم (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) من الناس (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) طريق الحق ، والسواء في الأصل : الوسط.

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) اللعن : الطرد من الرحمة واللطف الإلهي (عَلى لِسانِ داوُدَ) بأن دعا عليهم فمسخوا قردة ، وهم أصحاب أيلة (وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) بأن دعا عليهم فمسخوا خنازير ، وهم أصحاب المائدة (ذلِكَ بِما عَصَوْا) ذلك اللعن.

(كانُوا لا يَتَناهَوْنَ) أي لا ينهى بعضهم عن بعض (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يوالونهم ويؤيدونهم ، وهم أهل مكة بغضا لك. (ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) من العمل لآخرتهم.

المناسبة :

بعد أن رد الله تعالى على أباطيل اليهود ، ثم رد على أباطيل النصارى ، وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها ، أنكر على كل من عبد غير الله من الأصنام والأنداد والأوثان ، وأبان أنها لا تستحق شيئا من الألوهية ، ثم خاطب مجموع الفريقين من اليهود والنصارى فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ ، لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ).

التفسير والبيان :

قل يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله ، سواء من أهل الكتاب أو من المشركين عبدة الأوثان : أتعبدون غير الله الذي لا يقدر على دفع ضر عنكم ، ولا جلب نفع

٢٧٦

لكم ، والله هو السميع لأقوال عباده ، العليم بكل شيء ، فلم تعدلون عن عبادته ـ وهو النافع الحق لكم ـ إلى عبادة بشر ، أو جماد لا يسمع ولا يبصر ، ولا يعلم شيئا ، ولا يملك البشر والحجر وغيرهما ضرا ولا نفعا لغيره ولا لنفسه.

فإن اليهود الذين عادوا المسيح لم يقدر على إلحاق الضرر بهم ، بل حاولوا صلبه وقتله ، ولم يتمكن هو بدفع ضررهم عن نفسه ، وكذا لم يستطع تحقيق نفع دنيوي لأتباعه وأنصاره وصحبه ، وقد تعرضوا للطرد والتعذيب ، فكيف يعقل أن يكون إلها؟.

ثم أمر الله نبيه أن يقول أيضا لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) : يا أهل الكتاب ، لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ، ولا تبالغوا في تعظيم العزير ، ولا تعظيم عيسى ، حتى تؤلّهوا أحدا منهما فتخرجوا عيسى من مقام النبوة إلى مقام الألوهية ، وتجعلوا عزيرا ابن الله ، ولا تبالغوا أيضا أيها اليهود في إهانة عيسى وأمه ، وتنسبوها إلى الفاحشة.

ولا تتبعوا أهواء قوم وآراءهم النابعة من شهواتهم ، وهم شيوخ الضلال الذين ضلوا قديما ، وأضلوا كثيرا من الناس ، وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال.

ثم بيّن الله تعالى سبب ذلك : وهو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) أي أنه تعالى لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل ، فيما أنزله على داود نبيه عليه‌السلام ، وعلى لسان عيسى ابن مريم ، بسبب عصيانهم لله ، واعتدائهم على خلقه ، ولعن داود من اعتدى منهم يوم السبت ومن عصى الله ، ولعن عيسى العصاة من بني إسرائيل بسبب تمردهم ومخالفتهم أوامر الله. قال ابن عباس : لعنوا في التوراة والإنجيل ، وفي الزبور ، وفي الفرقان. كان العالم منهم لا ينهى أحدا عن ارتكاب المآثم

٢٧٧

والمحارم ، فلبئس الفعل فعلهم ، وهذا تقبيح لسوء فعلهم ، وتحذير من ارتكاب مثل ما ارتكبوه ؛ لأن شيوع المنكر يضر ضررا بليغا بالأمة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصون المجتمع من الرذيلة ، ويذكر بالفضيلة والأخلاق ، ويدفع إلى الخير ويحقق السعادة.

روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي ، نهتهم علماؤهم ، فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم».

وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل : أنه كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد ، وهو على حاله ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم قال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله : (فاسِقُونَ) ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلا ، والله لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهونّ عن المنكر ، ثم لتأخذنّ على يد الظالم ، ولتأطرنّه (١) على الحق أطرا ، ولتقسرنّه على الحق قسرا ، أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض ، ثم يلعنكم كما لعنهم».

وأخرج الترمذي عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابا منه ، ثم تدعونه ، فلا يستجيب لكم».

ثم ذكر الله تعالى أحوال المعاصرين من أهل الكتاب لنزول الوحي فقال : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ ..) أي ترى يا محمد كثيرا من اليهود يتولون المشركين من أهل مكة ، ويحالفونهم ، ويحرضونهم على قتالك ، ويتركون موالاة المؤمنين.

__________________

(١) أي تعطفنّه.

٢٧٨

روي أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة ، وحرضوا المشركين على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنهم لم يستجيبوا لدعوتهم ، وخابت مساعيهم ، ولم يتم لهم ما أرادوا.

فكان جزاؤهم تقبيح فعلهم وإنزال الغضب الإلهي عليهم وتخليدهم في العذاب ، فقال تعالى : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ..) أي بئس شيئا قدمته أنفسهم لآخرتهم من الأعمال التي استوجبت سخط الله عليهم ، وإنزال العذاب الأليم بهم ، والحكم عليهم بالخلود في نار جهنم.

مع أنهم لو آمنوا بالله حق الإيمان وبالرسول والقرآن ، لما والوا الكافرين في السر والباطن ، وعادوا المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه ، ولكن الكثيرون منهم فاسقون أي خارجون عن حظيرة الدين ، وعن طاعة الله ورسوله ، متمردون في النفاق ، مخالفون لحكم الله بموالاة المؤمنين ومناصرتهم ، أمام أعداء الأديان كلها ، وذلك إما لتحريفهم دينهم أو لنفاقهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي :

إن عبادة غير الله تدل على خرق العقل ، وسفاهة الرأي ، وضعف التفكير ، وطيش الإنسان ؛ لأن المعبود هو الذي يرجى منه النفع ، ويخاف من عذابه عند التقصير في حقه والمخالفة لأمره ، وكل من عدا الله من الكواكب والملائكة والأوثان والأنداد والأنبياء وزعماء البشر والقادة المتفوقين المنتصرين في معركة حربية فاصلة ، وإن تأمل الإنسان تحقيق النفع منهم ، ودفع الضرر والشر بواسطتهم ، فذلك نوع من الوهم والسخف ، وانتكاس الفطرة الإنسانية ، ومغالطة المعقول والتفكير السليم.

٢٧٩

فهذا عيسى الذي ظهرت المعجزات على يديه بإذن الله ، لا يستطيع تجاوز ما أجرى الله على يديه من خوارق العادات ، ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، وإذا أقررتم أن عيسى كان جنينا في بطن أمه ، وكان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يضر ، فكيف اتخذتموه إلها؟

ومن كان يدبر الكون قبل ولادته ، ومن الذي يدبره بعد وفاته؟

فالحق يا أهل الكتاب أن تلتزموا الاعتدال ، ولا تتبعوا الأهواء والعصبيات والتقليد الأعمى الموروث ، ولا تنخدعوا بآراء شيوخ الفتنة والضلال وأصحاب المصالح المادية.

وإن تقصير علماء بني إسرائيل في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدى بهم إلى إنزال اللعنة الإلهية بهم في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ، فهل هناك أشد عقابا من ذلك؟

وليحذر المسلمون من تقليد من استحق اللعنة والطرد من رحمة الله. قال ابن عطية : والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه ، وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين ؛ فإن خاف فينكر بقلبه ، ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه.

وقال العلماء : ليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية ، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا.

واقتضى قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) اشتراكهم في الفعل ، وذمهم على ترك التناهي ، ودلت الآية على النهي عن مجالسة المجرمين والأمر بتركهم وهجرانهم. وأكد ذلك بقوله تعالى في الإنكار على اليهود : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني المشركين الذين ليسوا على دينهم ، فلبئس ما سولت لهم أنفسهم وزينت.

٢٨٠