التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

واحدة ، وعقيدة واحدة ، وشريعة واحدة ، فكانوا على الحق. ولكن الحكمة الإلهية اقتضت جعل الشرائع مختلفة للاختبار.

٥ ـ المبادرة إلى الطاعات والتنافس في فعل الخيرات سمة الأتقياء الصالحين ، ودل قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها ، وذلك لا اختلاف فيه في العبادات كلها ، إلا في الصلاة في أول الوقت ، فإن أبا حنيفة يرى أن الأولى تأخيرها ، وعموم الآية دليل عليه.

وفيه دليل أيضا على أن الصوم في السفر أولى من الفطر.

٦ ـ في قوله تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) دليل على جواز النسيان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه قال : (أَنْ يَفْتِنُوكَ) وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد.

٧ ـ إن إباء حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإعراض عنه سبب للمصائب في الدنيا ؛ لأن الله تعالى قال في اليهود : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي يعذبهم بالجلاء والقتل وفرض الجزية. وإنما قال (بِبَعْضِ) لأن المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم.

٨ ـ كان العرب في الجاهلية يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع ، وكان اليهود يفعلون مثلهم ، فيقيمون الحدود على الضعفاء الفقراء ، ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء ، لذا أنكر الله عليهم بقوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).

ومن أفعال الجاهلية تفضيل بعض الأولاد على بعض في الهبة أو العطية ، فإن فعل لم ينفذ وفسخ ، وهو قول الحنابلة والظاهرية ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لبشير في حديث النعمان الآتي تخريجه : «ألك ولد سوى هذا؟» قال : نعم ، فقال : «أكلّهم وهبت له مثل هذا؟» فقال : لا ، قال : «فلا تشهدني إذن ، فإني لا أشهد على جور» وفي رواية : «وإني لا أشهد إلا على حق» قالوا : وما كان جورا وغير حق فهو باطل لا يجوز ، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث

٢٢١

آخر : «أشهد على هذا غيري» ليس إذنا في الشهادة ، وإنما هو زجر عنها ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد سماه جورا وامتنع من الشهادة فيه. وفعل أبي بكر لا يعارض قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أما القول بأن الأصل حرية الإنسان في التصرف في ماله مطلقا فلا يعارض الحديث ، لذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن النعمان بن بشير : «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم».

وأجاز ذلك مالك وأصحاب الرأي والشافعي والثوري والليث ؛ لفعل أبي بكر الصديق في نحلة عائشة دون سائر ولده ، وبقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه النسائي عن النعمان بن بشير : أن أباه بشير بن سعد جاء بابنه النعمان فقال : يا رسول الله ، إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكل بنيك نحلت؟» قال : لا ، قال : «فأرجعه» وفي رواية : «فأشهد على هذا غيري».

٩ ـ لا أحد أعدل من الله ، ولا أحسن حكما من حكم الله تعالى.

موالاة اليهود والنصارى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))

٢٢٢

الإعراب :

(يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي : في إغوائهم وإفسادهم ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

(أَنْ يَأْتِيَ) في موضع نصب ؛ لأنه خبر عسى. و (فَيُصْبِحُوا) عطف عليه.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) مرفوع على الاستئناف. ومن نصبه إما عطف على المعنى ، كأنه قدّر تقديم (أَنْ) بعد (فَعَسَى) وعطف عليه ، وتصير الجملة : «عسى أن يأتي الله بالفتح» وهي في معنى المذكور في الآية ؛ أو أنه معطوف على (بِالْفَتْحِ) وهو مصدر في تقدير «أن يفتح» ولما عطف على اسم ، افتقر إلى تقدير (أن) ؛ أو معطوف على (فَيُصْبِحُوا) وهو وجه بعيد لكنه جائز.

(فَعَسَى اللهُ) : عسى من الله واجب ؛ لأن ذلك من الكريم بمنزلة الوعد ، لتعلق النفس به.

المفردات اللغوية :

(أَوْلِياءَ) نصراء وحلفاء توالونهم وتوادونهم (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) لاتحادهم في الكفر (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) من جملتهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بموالاتهم الكفار (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي أن إيمانهم ضعيف معتل غير صحيح ، بسبب الشك والنفاق (يُسارِعُونَ) في موالاتهم (يَقُولُونَ) معتذرين عنها (دائِرَةٌ) يدور بها الدهر علينا من مصيبة ، كجدب أو هزيمة وغلبة (بِالْفَتْحِ) بالنصر لنبيه بإظهار دينه وفتح البلاد وغير ذلك (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) يفتضح المنافقين (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) من الشك وموالاة الكفار نادمين.

(حَبِطَتْ) بطلت أعمالهم الصالحة (فَأَصْبَحُوا) صاروا (خاسِرِينَ) الدنيا بالفضيحة ، والآخرة بالعقاب الأليم.

سبب النزول :

أخرج ابن إسحاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع ، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول ، وقام دونهم ، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وكان أحد بني عوف من الخزرج ، وله من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي ، فحالفهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبرأ

٢٢٣

من حلف الكفار وولايتهم ، قال : ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت القصة في المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) الآية.

وفي رواية أخرى عن عطية بن سعد قال : «جاء عبادة بن الصامت من بني الخزرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إن لي موالي من اليهود كثير عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولّى الله ورسوله ، فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من موالاة مواليّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن أبي : «يا أبا الحباب ، أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه» قال : إذن أقبل ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ..) إلى قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وذكر في السيرة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة كان الكفار معه ثلاثة أقسام :

قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه ، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.

وقسم حاربوه وعادوه.

وقسم وقفوا محايدين ، لم يصالحوه ولم يحاربوه ، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه ، وكانوا في الحقيقة والباطن معادين له وهم (المنافقون).

وقد عامل كل فريق بما أمره الله به ، فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمان ، وكانوا طوائف ثلاثة حول المدينة : بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ، فحاربه بنو قينقاع بعد بدر ، ونقض بنو النضير العهد بعد ذلك بستة أشهر ، ثم نقض بنو قريظة العهد لما خرج إلى غزوة الخندق ، وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد حارب كل فئة ونصره الله عليها ، وكان نصارى العرب والروم حربا عليه كاليهود.

٢٢٤

التفسير والبيان :

مضمون الآيات أن الله تعالى ينهى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهله ، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض ، ثم تهدد وتوعد من يواليهم.

أيها المؤمنون بالله ورسوله ، لا توالوا اليهود والنصارى أعداء الإسلام ، أي لا تتخذوهم أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله ، ولا تسروا إليهم بأسراركم ، ولا تطمئنوا إلى صداقتهم ومحبتهم أو مودتهم ، إذ لن يخلصوا لكم ، وبعضهم أولياء بعض ، أي إن اليهود بعضهم أنصار بعض ، والنصارى بعضهم أنصار بعض ، وقد نقض اليهود عهودهم ، والكل متفق على معاداتكم وبغضكم.

ثم توعد من يواليهم فقال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي ومن ينصرهم أو يعينهم أو يستنصر بهم ، فإنه في الحقيقة منهم أي من جملتهم وكأنه مثلهم ، وليس من صف المؤمنين الصادقين. وهذا تغليظ من الله وتشديد على المنافقين الذين يتصادقون مع اليهود والنصارى المخالفين في الدين ؛ لأن موالاتهم تستدعي الرضا بدينهم. وهذا يومئ إلى أن العلاقات والمحالفات بين المسلمين وغيرهم لمصالح دنيوية غير منهي عنها في الآية.

وسبب هذا الوعيد : أن من يوالي هؤلاء في شؤون الدين وقضاياه ومقتضيات الدعوة ونشاطها ، فينصرهم أو يستنصرهم بهم ، فهو ظالم لنفسه بوضعه الولاية في غير موضعها ، والله لا يهديه إلى خير أو حق بسبب موالاة الكفر.

وواقع الأمر أن المنافقين الذين في قلوبهم شك وريب ونفاق يسارعون فيهم ، أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر ، وهم عبد الله بن أبي وجماعته المنافقون.

٢٢٥

وسبب موالاة هؤلاء المنافقين لأعداء الإسلام : أنهم يتأولون في مودتهم أنهم يخشون انتصار الكافرين على المسلمين ، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى ، فينفعهم ذلك. وهذا شأن المنافقين المستضعفين في كل زمان ومكان ، يتخذون صداقات ومودات عند زعماء الكفر لتأييدهم ودعمهم أثناء الأزمات ، وقد أثبت الواقع تخليهم عنهم وقت المحنة الشديدة وبيع صداقتهم بثمن بخس ، وقد رأينا في عصرنا كيف تتخلى أمريكا مثلا عن رئيس دولة ما عاش كل عهده حليفا لها ، ومنفذا لمآربها ، وسائرا في مخططاتها ، فهي التي تستخدمه وتستهلكه ، ثم تتخلى عنه وقت المحنة والأزمة ، فخاب كل من استعان بغير الله وبغير أهل دينه.

لذا رد الله على مزاعم وتأويلات هؤلاء : بأنه لعل الله يأتي بالفتح والنصر والفصل بين المؤمنين والكافرين كما حدث في فتح مكة وغيره ، أو يأتي بأمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل في شأن هؤلاء الكافرين ، كإلقاء الرعب في قلوب يهود بني النضير ، ونحو ذلك من وقائع إدالة المؤمنين أي نصرهم على الكافرين ، فيصبح المنافقون الذين والوا اليهود والنصارى نادمين على ما كان منهم ، مما لم يفدهم شيئا ، وإنما كان ذلك عين السوء والمفسدة ، فإنهم فضحوا أمام المؤمنين بعد أن كانوا مستورين. قال المفسرون : (فَعَسَى) : من الله واجب ؛ لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله ، فهو بمنزلة الوعد لتعلق النفس به ورجائها له (١).

وبه يتبين أن المقصود بالفتح : تحقيق الفتوح في مكة وغيرها من بلاد العرب وإجلاء اليهود من الحجاز وخيبر وغيرها. وأما الأمر من عند الله فهو تدبير شيء خفي للأعداء ، كإجلاء اليهود من موطنهم ، أو قهرهم مثل قهر بني قريظة ، أو إلقاء الرعب في قلوبهم كما حدث لبني النضير ، أو إخضاع اليهود والنصارى لأحكام الإسلام وسلطة الدولة الإسلامية بفرض الجزية عليهم.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٦

٢٢٦

وحينئذ تتبدد تأويلات المنافقين ، ويظهر كذبهم وافتراؤهم ، لذا قال تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ..) أي يقول بعض المؤمنين لبعض أو لليهود تعجبا واستهجانا وشماتة : أهؤلاء الذين أقسموا بالله : إنهم معكم وإنهم مناصروكم على أعدائكم اليهود ، ثم انكشفوا على حقيقتهم ، وتبينت عداوتهم ، كما قال تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ : إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) [التوبة ٩ / ٥٦] أي أنهم جماعة خائفون يظهرون الإسلام تقيّة أو مناورة أو سياسة ، لا حقيقة. وأردف المؤمنون القول : هؤلاء المنافقون بطلت أعمالهم التي يؤدونها نفاقا من صلاة وصيام وحج وجهاد ، فخسروا بذلك الدنيا والأجر والثواب في الآخرة.

والمفسرون اختلفوا في سبب نزول هذه الآيات الكريمات ، فذكر السدي : أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد : أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي ، فآوي إليه ، وأتهود معه ، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث ، وقال الآخر : أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام ، فآوي إليه وأتنصر معه ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) الآيات.

وقال عكرمة فيما رواه ابن جرير : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني قريظة ، فسألوه ما ذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه ، أي إنه الذبح. وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول ، كما قال ابن جرير ، وكما ذكر في سبب النزول.

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل الآيات على ما يأتي :

١ ـ قطع الموالاة والمودة شرعا بين المؤمنين وبين الكافرين في أمور الدين

٢٢٧

وقضاياه الكبرى الأساسية. ولا مانع من وجود علاقات لمصالح دنيوية تقتضيها الضرورة ، بدليل ما قال الطبري في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) : يعني ومن يتولّ اليهود والنصارى دون المؤمنين ، فإنه منهم ، فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين ، فهو من أهل دينهم وملتهم ، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض ، وإذا رضيه ورضي دينه ، فقد عادى ما خالفه وأسخطه ، وصار حكمه حكمه (١).

ودل قوله : (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أن حكمه حكمهم ، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد.

وهذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة ، وقد قال تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود ١١ / ١١٣] وقال تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران ٣ / ٢٨] وقال سبحانه : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) [آل عمران ٣ / ١١٨].

وأعلن تعالى فصل الموالي للكفار عن جماعة المؤمنين ، فقال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا ، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم ، ووجبت له النار كما وجبت لهم ؛ فصار منهم ، أي من أصحابهم.

٢ ـ إن مخاوف المنافقين التي أدت بهم إلى موالاة الكفار تتبدد أمام تدبير الله وتأييده ونصره ، وتدمير الأعداء ، وإحباط مخططاتهم ، وإذلالهم.

٣ ـ ظهور حقيقة المنافقين في مرأى المؤمنين ، فيتعجبون من شأنهم ، قائلين لبعضهم : أهؤلاء الذين ادعوا نصرتنا بالأيمان المغلظة؟ أو قائلين لليهود على

__________________

(١) تفسير الطبري : ٦ / ١٧٩

٢٢٨

جهة التوبيخ : أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم يعينونكم على محمد؟

فالآية تحتمل قول المؤمنين لبعضهم ، أو لليهود.

المرتدون ومعاداتهم المسلمين

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))

الإعراب :

(مَنْ يَرْتَدَّ) : من : شرطية ، ويرتدّ : مجزوم بها.

(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) في موضع جر صفة لقوم ، وكذلك قوله تعالى (أَذِلَّةٍ ..) و (أَعِزَّةٍ) وكذلك (يُجاهِدُونَ) وصف لهم. ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال منهم.

(وَهُمْ راكِعُونَ) : جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير (يُؤْتُونَ). ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على (الصَّلاةَ) والواو ليست للحال ، فلا يكون لها موضع من الإعراب.

البلاغة :

(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) بينهما طباق.

(لَوْمَةَ لائِمٍ) التنكير في الكلمتين للمبالغة.

المفردات اللغوية :

(مَنْ يَرْتَدَّ) يرجع عن الإسلام ، والردة : الرجوع عن الإسلام إلى الكفر أو إلى غير دين ،

٢٢٩

أو ترك ركن من أركان الإسلام كالزكاة جهارا وعنادا. (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) يثيبهم ، ويخلصون له العمل ويطيعونه في كل أمر ونهي. (أَذِلَّةٍ) جمع ذليل أي عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع ، من الذل وهو الحنو والعطف. (أَعِزَّةٍ) أشداء متعالين عليهم. (لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) أي أنهم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين كإنكار منكر ، أو أمر بمعروف أو مجاهدة في سبيل الله ، لا يأبهون لقول قائل ولا اعتراض معترض ولا لوم لائم يلومهم وينتقدهم ، خلافا للمنافقين الذين يخافون لوم الكفار. (ذلِكَ) المذكور من الأوصاف فضل الله. (وَاللهُ واسِعٌ) كثير الفضل. (عَلِيمٌ) بمن هو أهله.

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) أي إنما ناصركم ومعينكم على طريق الأصالة والحقيقة هو الله. وأما ولاية من عداه فهي على سبيل التبع والظاهر. (وَهُمْ راكِعُونَ) خاشعون وخاضعون. (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي يعينهم وينصرهم. (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) الحزب : الجماعة المجتمعة على أمر واتجاه خاص ، وحزب الله : أتباعه ، والغالبون: المنتصرون لنصر الله إياهم.

سبب النزول :

نزلت هذه الآيات فيمن ارتد من القبائل في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم ثلاث :

١ ـ بنو مدلج ورئيسهم الأسود العنسي الذي تنبأ باليمن ، وكان كاهنا ، وقتل على يد فيروز الديلمي.

٢ ـ وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب الذي تنبأ في اليمامة ، وأرسل كتابا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يذكر فيه أنه شريك له ، وأن الأرض قسمان ؛ فكتب له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين.

قاتله أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، وقتله وحشي الذي قتل حمزة ، وكان يقول : قتلت في جاهليتي خير الناس ، وفي إسلامي شر الناس.

٣ ـ وبنو أسد بزعامة طليحة بن خويلد ، ارتد أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقاتله أبو بكر في خلافته ، ففر إلى الشام وأسلم وحسن إسلامه.

٢٣٠

وارتدت سبع قبائل في عهد أبي بكر وهم :

١ ـ غطفان بزعامة قرّة بن سلمة.

٢ ـ فزارة قوم عيينة بن حصن.

٣ ـ بنو سليم قوم الفجاءة عبد يا ليل.

٤ ـ بنو يربوع قوم مالك بن نويرة.

٥ ـ بعض قبيلة بني تميم ، بزعامة سجاح بنت المنذر ، الكاهنة زوجة مسيلمة.

٦ ـ كندة قوم الأشعث بن قيس.

٧ ـ بنو بكر بن وائل الحطم بن زيد.

وارتد في عهد عمر جبلة بن الأيهم الغساني ، الذي تنصر ولحق بالشام ؛ لأنه كان يطوف حول الكعبة ، فوطئ إزاره رجل من فزارة ، فلطمه جبلة ، فهشم أنفه ، فشكاه الفزاري إلى أمير المؤمنين عمر رضي‌الله‌عنه ، فحكم إما بالعفو أو القصاص ، فقال جبلة : أتقتص مني وأنا ملك ، وهو سوقة ، فقال عمر : الإسلام سوى بينكما ، ثم استمهل إلى غد ، فهرب.

فصار مجموع من ارتد إحدى عشرة فئة أو فرقة (١).

وأما الذين أتى الله بقوم يحبهم ويحبونه : فهم أبو بكر وأصحابه ، وقيل : هم قوم من أهل اليمن ، وقيل : هم رهط أبي موسى الأشعري ، ورجح الطبري أن الآية نزلت في قوم أبي موسى من أهل اليمن ، لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ هذه الآية قال : هم قوم أبي موسى(٢).

__________________

(١) الكشاف : ص ٤٦٦ ، تفسير الرازي : ١٢ / ١٨ وما بعدها ، سيرة ابن هشام : ٢ / ٥٧٦ ، ٦٢١ ، البداية والنهاية لابن كثير : ٥ / ٤٨ ـ ٥٢ ، تاريخ الخلفاء : ص ٧٦ ، سيرة عمر بن الخطاب للطنطاويين : ص ٣٦٠

(٢) تفسير الطبري : ٦ / ١٨٣

٢٣١

سبب نزول : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) :

ذكرت روايات يقوي بعضها بعضا أنها نزلت في علي بن أبي طالب الذي سأله سائل وهو راكع في تطوع ، فتصدق عليه بخاتمه. وأثبت الرازي أن هذه الآية مختصة بأبي بكر (١).

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) إعلام من الله عباده جميعا الذين تبرؤوا من اليهود وحلفهم رضا بولاية الله ورسوله والمؤمنين (٢).

المناسبة :

بعد أن نهى الله تعالى عن موالاة الكافرين ، وبيّن أن الذين يبادرون إلى توليهم مرتدون ، ذكر استغناءه عن أهل الردة ، واعتماده على صادقي الإيمان الذين يحبهم ويؤثرون حبه من إقامة الحق والعدل على سائر ما يحبون من مال ومتاع وولد.

التفسير والبيان :

موضوع الآيات بيان قدرة الله العظيمة على استبداله بالمرتدين من هو خير لدينه وإقامة شريعته ، وهو من كان أصلب دينا وأشد منعة وأقوم سبيلا ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٣٨] وقال تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) [النساء ٤ / ١٣٣] وقال عزوجل : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي بممتنع ولا صعب [إبراهيم ١٤ / ١٩ ـ ٢٠].

__________________

(١) تفسير الطبري : ٦ / ١٨٦ ، أسباب النزول للسيوطي ، تفسير القرطبي : ٦ / ٢٢١ ، تفسير الرازي : ١٢ / ٢٠ ـ ٢٣

(٢) تفسير الطبري : ٦ / ١٨٧

٢٣٢

يا أيها المؤمنون من يرجع عن الحق إلى الباطل ، فيترك دينه في المستقبل فسوف يأتي الله بقوم بديل عنهم وصفهم القرآن بست صفات :

١ ـ يحبهم الله تعالى : أي يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ، ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم.

٢ ـ ويحبون الله تعالى : باتباع أمره واجتناب نهيه ، وإطاعته وابتغاء مرضاته ، والبعد عما يوجب سخطه وعقابه.

٣ ، ٤ ـ أذلة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين : أي عاطفين على المؤمنين متواضعين لهم ، أشداء متعالين على الكافرين المعادين لهم ، وهما نحو قوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح ٤٨ / ٢٩] وقوله عزوجل في عزة الإيمان : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون ٦٣ / ٨].

٥ ـ يجاهدون في سبيل الله : أي يقاتلون من أجل رفعة كلمة الله ودينه ، وسبيل الله: هو طريق الحق والخير والفضيلة والتوحيد المؤدي إلى مرضاة الله ، والدفاع عن الوطن والأهل والديار.

٦ ـ لا يخافون لومة لائم : لا يخشون لوم أحد واعتراضه ونقده ؛ لصلابتهم في دينهم ، ولأنهم يعملون لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، على نقيض المنافقين الذين يخافون لوم حلفائهم اليهود.

ثم قال تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك المذكور من الصفات التي وصف بها القوم : وهي المحبة والذلة للمؤمنين والعزة على الكافرين والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة ، هو من فضل الله يعطيه من يشاء ، ويوفق إليه من يريد ، والله واسع ، أي ذو سعة فيما يملك ويعطي كثير الأفضال ، عليم بمن هو أهلها ، فهو تعالى واسع الفضل ، عليم بمن يستحق ذلك ، ممن يحرم منه.

٢٣٣

وبعد أن نهى الله عن موالاة الكافرين ، أمر بموالاة الله ورسوله والمؤمنين ، فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي ليس اليهود بأوليائكم وأنصاركم ، وإنما وليكم وناصركم بحق هو الله ومعه رسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة ، أي يؤدونها كاملة تامة الأركان والشروط ، ويؤتون الزكاة أي يعطونها بإخلاص وطيب نفس لمن يستحقها ، وهم خاضعون لأوامر الله ، بلا تململ ولا تضجر ولا رياء.

ومن يناصر دين الله بالإيمان به والتوكل عليه ، ويؤازر رسول الله والمؤمنين دون أعدائهم ، فإنه هو الفائز الناجي ، وهو الذي يحقق النصر والغلبة ، وعندها يتحقق نصر حزب الله وغلبتهم أي جماعة المؤمنين ، ويكون المؤمنون هم الغالبون ؛ لأنهم حزب الله ، كما قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) إلى قوله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة ٥٨ / ٢١ ـ ٢٢] فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين ، فهو مفلح في الدنيا والآخرة ، ومنصور فيهما.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ تضمنت الآيات وعيدا لمن سبق في علمه أنه سيرتد بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإخبارا غيبيا أنه سيرتد قوم من الناس.

كما تضمنت أيضا وعدا من الله لمن سبق له في علمه أنه لا يبدل ولا يغير دينه ، ولا يرتد.

فلما قبض الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتد قوم من أهل القبائل ، فأبدل الله المؤمنين بخير منهم ، ووفى للمؤمنين بوعده ، وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده (١).

__________________

(١) تفسير الطبري : ٦ / ١٨٢

٢٣٤

روى ابن جرير الطبري عن قتادة قال : أنزل الله هذه الآية ، وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس ، فلما قبض الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد : أهل المدينة ، وأهل مكة ، وأهل البحرين من عبد القيس.

قالوا : نصلي ولا نزكي ، والله لا تغصب أموالنا ، فكلّم أبو بكر في ذلك ، فقيل له : إنهم لو قد فقهوا لهذا ، أعطوها وزادوها. فقال : لا والله ، لا أفرّق بين شيء جمع الله بينه ، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله ، لقاتلناهم عليه ، فبعث الله عصابة (جماعة) مع أبي بكر ، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة ، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون (وهي الزكاة) صغرة (أذلاء مهينين) أقمياء (ذليلين ضعفاء).

فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطّة مخزية أو حرب مجلية ، فاختاروا الخطة المخزية ، وكانت أهون عليهم ، أن يقروا أن قتلاهم في النار ، وأن قتلى المؤمنين في الجنة ، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ، ردّوه عليهم ، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال (١).

والخلاصة : إن هذا من إعجاز القرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ أخبر عن ارتداد العرب ، ولم يكن ذلك في عهده ، وكان ذلك غيبا ، ووقع ما أخبر به بعد مدة ، وأهل الردة ـ كما بينت ـ كانوا بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن إسحاق : لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد : مسجد المدينة ، ومسجد مكة ، ومسجد جؤاثا (٢) ، وكانوا في ردتهم على قسمين : قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها ، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها ؛ قالوا : نصوم ونصلي ولا

__________________

(١) المرجع السابق : ٦ / ١٨٣

(٢) جؤاثا مهموز : اسم حصن بالبحرين ، وفي الحديث : «أول موضع جمعت فيه الجمعة بعد المدينة بجؤاثا».

٢٣٥

نزكي ؛ فقاتل الصدّيق جميعهم ، وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش ، فقاتلهم وسباهم ، على ما هو مشهور من أخبارهم.

٢ ـ أصح ما قيل في نزول قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) : أنها نزلت في الأشعريين ؛ ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين وقبائل اليمن من طريق البحر ، فكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي‌الله‌عنه على يدي قبائل اليمن (١). وروى الحاكم في المستدرك بإسناده : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشار إلى أبي موسى الأشعري ، لما نزلت هذه الآية فقال : «هم قوم هذا».

٣ ـ المؤمنون أذلة على بعضهم ، رحماء فيما بينهم ، يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم ، أعزة على الكافرين أشداء عليهم. قال ابن عباس : هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد ، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته.

٤ ـ دل قوله : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وقوله : (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) بخلاف المنافقين : على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي‌الله‌عنهم ؛ لأنهم جاهدوا في الله عزوجل في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقاتلوا المرتدين بعده ، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو وليّ لله تعالى. وقيل : الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة.

٥ ـ الله ولي الذين آمنوا ، وقال تعالى هنا : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) قال ابن عباس : نزلت في أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، وقال في رواية أخرى وكما ذكر في سبب النزول عن مجاهد والسدي : نزلت في علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ٢٢٠

٢٣٦

والأصح أن الآية عامة في جميع المؤمنين ؛ لأن (الَّذِينَ) لجماعة ، ومن عمومياتها ما يأتي:

قال جابر بن عبد الله : قال عبد الله بن سلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن قومنا من قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا ، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل ، فنزلت هذه الآية ، فقال : رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء.

وأولياء الله : هم الموصوفون بالآية لا غيرهم : الذين يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويخشعون لله تعالى. والمراد : يأتون بصلاة الفرض في أوقاتها بجميع حقوقها ، ويؤدون الزكاة المفروضة بطيب نفس.

٦ ـ من فوض أمره إلى الله ، وامتثل أمر رسوله ، ووالى المسلمين ، فهو من حزب الله ، وحزب الله : جند الله وأنصاره والمنفذون أوامره ، والمجتنبون نواهيه. وإذا توافرت هذه الصفات كانوا هم الغالبين : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات ٧٧ / ١٧٣].

النهي عن موالاة الكفار وأسبابه

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا

٢٣٧

وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣))

الإعراب :

(وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) : (الْكُفَّارَ) معطوف بالنصب على (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ). وقرئ بالجر عطفا على (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

(أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) في موضع نصب بتنقمون.

(وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ .. ما) في الموضعين بمعنى «الذي» في موضع جر بالعطف على اسم الله تعالى. (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) عطف على (بِاللهِ) وتقديره : آمنا بالله وبأن أكثركم فاسقون.

(مَثُوبَةً) تمييز منصوب ، والعامل فيه (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ).

(مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) : إما مجرور بدلا من (بِشَرٍّ) بدل الشيء من الشيء ؛ وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مع حذف مضاف وتقديره : «هو لعن من لعنه الله» فحذف المبتدأ وإما منصوب على الذم بتقدير فعل وتقديره : أذكر أو أذمّ من لعنه الله. (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) معطوف على (لَعَنَهُ) وكذلك (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ولم يأت بضمير جمع في (عَبَدَ) حملا على لفظ (مِنْ).

(مَكاناً) منصوب على التمييز. (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) في موضع نصب على الحال. وكذلك (خَرَجُوا بِهِ) أي : دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. والباء باء الحال كقولهم: خرج زيد بسلاحه ، أي متسلحا.

٢٣٨

البلاغة :

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) للحث والإثارة.

(هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) هذا من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس فقد جعلوا التمسك بالإيمان موجبا للإنكار.

(لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) من باب التهكم ، حيث استعملت المثوبة في العقوبة.

(شَرٌّ مَكاناً) نسب الشر للمكان وهو لأهله مبالغة في الذم.

المفردات اللغوية :

(هُزُواً) مهزوءا به وسخرية. (وَلَعِباً مِنَ) لبيان الجنس ، واللعب : ضد الجد. (وَالْكُفَّارَ) المشركين. (وَاتَّقُوا اللهَ) بترك موالاتهم. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) صادقين في إيمانكم. (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي والذين إذا دعوتم إلى الصلاة بالأذان والإقامة. (اتَّخَذُوها) الصلاة. (هُزُواً وَلَعِباً) بأن يستهزءوا بها ويتضاحكوا. (ذلِكَ) الاتخاذ. (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم.

(هَلْ تَنْقِمُونَ) تنكرون وتعيبون بالقول أو بالفعل. المعنى ما تنكرون إلا إيماننا ومخالفتكم في عدم قبوله ، المعبر عنه بالفسق اللازم عنه ، وليس هذا مما ينكر عقلا وعرفا.

(مَثُوبَةً) ثوابا وجزاء ، من ثاب إليه إذا رجع ، والجزاء يرجع إلى صاحبه. (الطَّاغُوتَ) : كل ما عبد من دون الله ، كالشيطان والأصنام ، وعبادة الطاغوت مجاز عن طاعته. وروعي في قوله (مِنْهُمُ) معنى «من» وفيما قبله لفظها وهم اليهود. (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) لأن مأواهم النار. (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) طريق الحق ، وأصل السواء : الوسط. وذكر (بِشَرٍّ ... وأَضَلُ) في مقابلة قول اليهود الذين قالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ذكر عيسى : لا نعلم شرا من دينكم. وقوله : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) عطف على (آمَنَّا).

(وَإِذا جاؤُكُمْ) منافقو اليهود. (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) أي دخلوا إليكم متلبسين بالكفر.

(وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا) من عندكم متلبسين به ، ولم يؤمنوا. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) أي يكتمونه من النفاق.

(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي اليهود. (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ) يقعون في الكذب. (وَالْعُدْوانِ) الظلم. (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) المال الحرام الدنيء كالرشوة في القضاء والربا وغير ذلك. (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) الكذب.

٢٣٩

(لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي يصنعونه من ترك النهي عن ذلك كله.

سبب النزول : نزول الآية (٥٧) :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : روى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري الأصفهاني (٢٧٤ ه‍) عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا ، وكان رجل من المسلمين يوادهما ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ) إلى قوله : (بِما كانُوا يَكْتُمُونَ).

وبه قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ، ونافع بن أبي نافع ، وغازي بن عمرو ، فسألوه : فمن نؤمن به من الرسل؟ قال : أؤمن بالله : (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى ، وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : لا نؤمن بعيسى ، ولا بمن آمن به ، فأنزل الله فيهم : (قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ ، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) الآية.

وفي رواية : فلما ذكر عيسى ، قالوا : لا نعلم دينا شرا من دينكم. وفي رواية عن ابن عباس : أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا).

المناسبة :

نهى الله تعالى في الآيات السابقة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء (حلفاء وأنصارا) من دونه ؛ لأن بعضهم أولياء بعض ، ثم كرر النهي هنا للتأكيد عن اتخاذ الكفار عامة أولياء ، لإيذائهم المؤمنين ومقاومتهم دينهم.

٢٤٠