التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

لليهود : «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» أي أن المشهور بين المفسرين أن الله تعالى رفع عيسى بروحه وجسده إلى السماء ، وقال الرازي : المراد رافعك إلى محل كرامتي ، وجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم ، ومثله قوله تعالى عن إبراهيم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات ٣٧ / ٩٩] وإنما ذهب إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العراق إلى الشام ، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم ، وتدل الآية (وَرافِعُكَ إِلَيَ) على أن الرفعة بالدرجة والمنقبة ، لا بالمكان والجهة ، كما أن الفوقية في قوله : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [آل عمران ٣ / ٥٥] ليست بالمكان ، بل بالدرجة والرفعة (١).

ثم دلل سبحانه وتعالى على قدرته على حماية عيسى من الصلب وإنقاذه من اليهود والروم الظالمين ورفعه إليه بقوله : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي إن الله عزيز لا يغلب ، حكيم في صنعه وفي جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها. ويجازي كل عامل بعمله ، ومن جزائه لليهود في الدنيا ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد في الأرض.

هذه عقيدتنا في صلب المسيح ورفعه مستقاة من أوثق مصدر في الوجود وهو القرآن الكريم كلام الله ، المنقول إلينا بالتواتر ، فلا مجال لتصديق روايات أخرى لم تثبت صحتها ، بل إن ما فيها من تناقض واختلاف كثير يدل على الشك فيها ثم القطع بأنها ليست محل ثقة.

ثم إن القول بعدم الصلب أكرم وأفضل لكرامة عيسى عليه‌السلام ، وأما القول بأنه صلب ليجعل نفسه فداء للبشرية والعالم ، وليكفر عن خطيئة آدم عليه‌السلام وخطايا أبنائه ، فهو من أوهام المسيحية ، ومن القصص الروائية في الأناجيل التي دونتها أيدي البشر ؛ لأن الله تعالى أناط التخلص من الخطيئة

__________________

(١) تفسير الرازي : ٨ / ٦٩

٢١

بالتوبة ، وقد تاب آدم عليه‌السلام وأنهى المشكلة وتقبل الله توبته : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة ٢ / ٣٧] ولا يقبل عاقل قضية الفداء وإباحة ارتكاب المعاصي لأتباع المسيح ؛ لأن المسيح صلب تكفيرا لخطاياهم.

ثم حسم تعالى القول في شأن المسيح ، فأبان أن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى ، فيؤمن به إيمانا صحيحا حقا لا انحراف فيه ، فيعلم اليهودي أنه رسول صادق غير كذاب ، ويعلم النصراني أنه بشر ليس بإله ولا ابنا للإله.

وقوله تعالى : (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ، ونحوه : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات ٣٧ / ١٦٤](وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها). [مريم ١٩ / ٧١] والمعنى : وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى وبأنه عبد الله ورسوله ، يعني إذا عاين الموت قبل أن تزهق روحه ، حين لا ينفعه إيمانه ؛ لانقطاع وقت التكليف (١) ، ولأن كل أحد ينجلي له ما كان جاهلا به ، فيؤمن به ، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك(٢).

ويوم القيامة يشهد عيسى على اليهود بأنهم كذبوه ، وعلى النصارى بأنهم دعوه «ابن الله» فتظهر حقيقة حاله ، كما قال تعالى عنه : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة ٥ / ١١٧] أي يشهد للمؤمنين منهم بالإيمان وعلى الكافر بالكفر ؛ لأن كل نبي شهيد على أمته كما قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤٣٧

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٧٧

٢٢

عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء ٤ / ٤١] قال قتادة عن آية (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) : يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله ، وأقر بعبودية الله عزوجل.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أخلاق اليهود وطباعهم وعرة صعبة غريبة ، فهم لا يذعنون للحق ، وإنما يجادلون فيه ، وينحازون عنه إلى المطالبة بأمور على سبيل التعجيز والإلحاد والعناد والمراوغة والتعنت.

فقد سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنزال كتاب مكتوب من السماء دفعة واحدة إلى فلان وفلان يؤيد ما يدعيه ويصدقه فيما يقول ، تعنتا ، كما أتى به موسى.

وطلبوا من موسى أن يريهم الله تعالى رؤية جهرة عيانا.

واتخذوا العجل إلها بالرغم من الأدلة القاطعة التي أيد الله تعالى بها موسى عليه‌السلام من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها ، التي تدل على أنه لا معبود إلا الله عزوجل.

٢ ـ لا يخضع اليهود إلا للمادة ، لذا ألزمهم الله تعالى إطاعة التوراة وإطاعة موسى برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة ، لتخويفهم.

٣ ـ إنهم محتالون مخادعون ماكرون ، فقد أمرهم الله باحترام يوم السبت وعدم العمل فيه ، فاحتالوا على صيد السمك بوضع حواجز على سواحل البحار يوم الجمعة ، يبقى فيها السمك الآتي بالمد البحري ، حينما ينحسر عنه بالجزر.

٤ ـ إنهم ينقضون العهود ويخالفون المواثيق ، فقد أخذ الله عليهم العهد

٢٣

المؤكد على العمل بالتوراة ، ثم نقضوا الميثاق ، وخالفوا مقتضى العهد بجرأة نادرة.

٥ ـ استحقوا غضب الله عليهم وتسلط الروم الظلمة عليهم بأسباب كثيرة هي نقض الميثاق ، والكفر بآيات الله وعدم الاعتراف برسالتي عيسى ومحمد عليهما‌السلام ، وقتل الأنبياء بغير حق ولا ذنب ، وتحدي الأمر الإلهي بقولهم : قلوبنا غلف لا ينفذ إليها الخير والهدى الإلهي ، وكفرهم بعيسى والإنجيل ، وقذف السيدة مريم بالزنى ورميهم لها بيوسف النجار ، وهو البهتان العظيم ، وادعاؤهم قتل المسيح عيسى ابن مريم.

٦ ـ الثابت المؤكد بإخبار الله الصادق القاطع أنهم لم يقتلوا عيسى ولم يصلبوه ، بل حماه الله منهم ، وخلصه من مكرهم وكيدهم ، ورفعه الله إليه إما رفعا حقيقيا بالروح والجسد إلى السماء ، كما قال الأكثرون ؛ لأن الله متعال عن المكان ، وإما رفع منزلة وتفخيم وتعظيم كما قال الرازي.

٧ ـ ما من أحد من اليهود والنصارى إلا ويدرك قبل موته حقيقة عيسى عليه‌السلام ، ويؤمن به إيمانا حقيقيا في وقت لا ينفعه الإيمان ، إذا عاين الملك ؛ لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت ، فاليهودي يقرّ في ذلك الوقت بأنه رسول الله ، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله. وهذا معلوم بالأحاديث أيضا ، روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته ، وإن الكافر إذا حضر (حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته». وروى ابن مردويه عن ابن عباس : «ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار».

٨ ـ سيفاجأ النصارى يوم القيامة بشهادة عيسى المتضمنة تكذيب من كذبه ،

٢٤

وتصديق من صدقه ، وبراءته من ادعاء النصارى أنه ابن الله ، وإقراره بأنه عبد الله ورسوله ، ودعوته إلى عبادة الله تعالى ربه وربهم ، ومراقبته لهم أثناء حياته ، واعتذاره عن انحرافهم بعد وفاته.

عاقبة ظلم اليهود وأخذهم الربا

وثواب المؤمنين منهم

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢))

الإعراب :

(وَبِصَدِّهِمْ كَثِيراً كَثِيراً) : منصوب ؛ لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره : صدا كثيرا. (وَالْمُقِيمِينَ) يجوز فيه النصب والجر ، أما النصب فهو على المدح بتقدير أعني وأمدح. وأما الجر فيجوز من ثلاثة أوجه : أن يكون معطوفا على (بِما) وتقديره : يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة من الأنبياء ، أو أن يكون معطوفا على الكاف في (إِلَيْكَ) وتقديره : بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة ، أو أن يكون معطوفا على كاف (قَبْلِكَ) وتقديره : من قبلك وقبل المقيمين الصلاة من أمتك. والعطف على الكاف في (إِلَيْكَ) و (قَبْلِكَ) على رأي الكوفيين ولا يجوز ذلك عند البصريين.

(وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) مرفوع من خمسة أوجه : إما مبتدأ وخبره : (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) ، وإما

٢٥

خبر مبتدأ محذوف وتقديره : وهم المؤتون ، وإما معطوف على ضمير (الْمُقِيمِينَ) وإما معطوف على ضمير (يُؤْمِنُونَ) وإما معطوف على قوله : (الرَّاسِخُونَ).

البلاغة :

(الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) استعارة ، استعار الرسوخ للثبوت في العلم والتمكن فيه (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) فيه التفات من الغيبة إذ الأصل : سيؤتيهم ، إلى الخطاب ، وتنكير الأجر للتفخيم.

المفردات اللغوية :

(فَبِظُلْمٍ) أي فبسبب ظلم (هادُوا) هم اليهود الذين تابوا بعد عبادة العجل (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) هي التي في قوله تعالى : (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ..) [الأنعام ٦ / ١٤٦] الآية (وَبِصَدِّهِمْ) أي منعهم الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (كَثِيراً) صدا كثيرا. (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) في التوراة (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) بالرشاوى في القضاء (أَلِيماً) مؤلما (الرَّاسِخُونَ) الثابتون في العلم المتقنون له (وَالْمُؤْمِنُونَ) المهاجرون والأنصار (أَجْراً عَظِيماً) هو الجنة.

المناسبة :

الآيات استمرار في الكلام عن اليهود ، فبعد أن عدد الله تعالى قبائحهم وأفعالهم التي أدت إلى غضب الله ، ذكر تعالى هنا نوع العقاب الذي عاقبهم الله به في الدنيا وهو تحريم بعض الطيبات ، وفي الآخرة وهو العذاب المؤلم. أما المؤمنون الصالحون منهم فلهم الأجر العظيم وهو الجنة.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوا من الذنوب العظيمة ، حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم لعلهم يرجعون ، كما قال تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ)

٢٦

[آل عمران ٣ / ٩٣] ، والمراد أن جميع الأطعمة كانت حلالا لهم من قبل أن تنزل التوراة ، ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها.

ثم إنه تعالى حرّم أشياء كثيرة في التوراة ، كما قال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا ، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [الأنعام ٦ / ١٤٦] أي إنما حرمنا عليهم ذلك ؛ لأنهم يستحقون التحريم بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه ، ولذا قال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي فبسبب ظلمهم ، وصدهم الناس وصد أنفسهم عن اتباع الحق ، وأمرهم بالمنكر ، ونهيهم عن المعروف ، وكتمانهم البشارة بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه سجية لهم اتصفوا بها من قديم الدهر وحديثه ، ولهذا كانوا أعداء الرسل ، وقتلوا خلقا من الأنبياء ، وكذبوا عيسى ومحمدا عليهما‌السلام.

وبسبب أخذهم الربا الذي نهاهم الله عنه على ألسنة أنبيائهم ، فإنهم احتالوا عليه بأنواع الحيل ، وأكلوا أموال الناس بالباطل بالرشوة والخيانة ونحوهما من غير مقابل ، كما قال تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة ٥ / ٤٢] والسحت : الكسب الحرام.

وكان جزاؤهم الأخروي إعداد عذاب مؤلم لهم في نار جهنم ولكل كافر أمثالهم.

ويلاحظ أن تحريم الطيبات كان عاما ، أما العذاب الأخروي فكان للمصرّين منهم على الكفر ، الذين ماتوا عليه كافرين ، لذا استدرك سبحانه فقال فيما معناه : أما الراسخون في العلم النافع الثابتون فيه المطلعون على حقائق الدين ، الذين يؤمنون إيمانا صادقا بالله وبما أنزل إليك ، وما أنزل على من قبلك من الرسل كموسى وعيسى ، ولا يفرقون بين أحد منهم ، والمؤمنون إيمانا حقيقيا

٢٧

بالله واليوم الآخر أي بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال ، والمؤدون زكاة أموالهم للمستحقين ، والمطيعون أوامر ربهم ، وأخص منهم مقيمي الصلاة الذين يؤدونها على أتم وجه ، مستوفية أركانها وشروطها. وتخصيص المدح لإقامة الصلاة ؛ لأنها تستدعي إيتاء الزكاة ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتزكي النفس ، وتهوّن على النفس إيتاء المال لمستحقه ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [المعارج ٧٠ / ١٩ ـ ٢٢].

هؤلاء الموصوفون بما تقدم ، سيؤتيهم ربهم أجرا عظيما هو الجنة ، لا يدرك حقيقته إلا الله.

روى ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن الآية (لكِنِ الرَّاسِخُونَ ..) أنزلت في عبد الله بن سلام ، وأسيد بن سعية ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن عبيد حين فارقوا يهود وأسلموا ، أي دخلوا في الإسلام وصدقوا بما أرسل الله به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقه الحياة أو الأحكام :

ذكر سبحانه وتعالى أسباب استحقاق اليهود العذاب الأليم في نار جهنم وتحريم بعض الطيبات في عالم الدنيا : وهي الظلم ، وقدّم على التحريم ؛ إذ هو الذي قصد الإخبار عنه بأنه سبب التحريم ، وصد أنفسهم وغيرهم عن اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكل الربا وأكل أموال الناس بالباطل ، وهذا كله تفسير للظلم الذي تعاطوه ، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وعبادة العجل وغير ذلك مما ذكر.

وهذا يؤيد مذهب الجمهور غير الحنفية القائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، قال ابن العربي (١) : لا خلاف في مذهب مالك في أن الكفار مخاطبون

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٥١٤

٢٨

(بمعنى أنهم مطالبون بأن يؤمنوا ، وأن يؤدوا الفرائض الشرعية بعد الإيمان) وقد بيّن الله تعالى في هذه الآية أنهم نهوا عن الربا وأكل المال بالباطل ، فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن ، وأنهم دخلوا في الخطاب ، فبها ونعمت ، وإن كان ذلك خبرا عما أنزل الله عزوجل على موسى في التوراة ، وأنهم بدّلوا وحرّفوا وعصوا وخالفوا ، فهل تجوز لنا معاملتهم ، والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم ، أم لا؟.

فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز ، وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد. والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم ، واقتحامهم ما حرّم الله سبحانه عليهم ، فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة ، قال الله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) [المائدة ٥ / ٥] وهذا نص في مخاطبتهم بفروع الشريعة ، وقد عامل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود ، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله.

ثم استثنى مؤمني أهل الكتاب ؛ لأن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلّها ، ولم تكن حرّمت بظلمنا ، فنزل : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) والراسخ : هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه.

هؤلاء المؤمنون من الكتابيين مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما والمؤمنون من المهاجرين والأنصار أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومقيمو الصلاة ، ومؤدو الزكاة ، سيعطيهم الله ثوابا عظيما لا يقدر وصفه إلا الله وهو الجنة.

وأشارت الآيات إلى أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين : الظلم للخلق ، والإعراض عن الدين الحق ، أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ

٢٩

الَّذِينَ هادُوا) وأما الإعراض عن الدين الحق ، فإليه الإشارة بقوله : (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً).

ومظاهر الظلم كثيرة وهي أكل الربا ، وأخذ أموال الناس بالباطل بطريق الرشوة والاحتيال والغش ونحوها ، وسماع الكذب ، وأكل السحت ، وهذه الذنوب الأربعة هي الموجبة لتشديد العقاب عليهم في الدنيا وفي الآخرة ، أما في الدنيا فهو تحريم الطيبات عليهم ، وأما في الآخرة فهو العذاب المؤلم في نار جهنم.

وحدة الوحي للرسل وحكمة إرسالهم

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦))

الإعراب :

(تَكْلِيماً) مصدر كلّم ، وفي ذكر هذا المصدر تأكيد للفعل ودليل على أنه كلمه حقيقة لا مجازا ؛ لأن الفعل المجازي لا يؤكد بالمصدر.

(رُسُلاً) منصوب من ثلاثة أوجه : إما منصوب على المدح بفعل مقدر وتقديره : وأمدح رسلا مبشرين. أو منصوب على البدل من قوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ) أو منصوب على

٣٠

الحال من أحد المنصوبين قبله وهما : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ ... وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ) والوجه الأول هو الأولى ، وهو أن يعنى بالرسل جميع من تقدم ذكره ، فينتصب على المدح بتقدير فعل.

واللام في (لِئَلَّا) متعلق إما بقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وإما بفعل مقدر يشار به إلى جميع ما تقدم ، وتقديره : فعلنا ذلك لئلا يكون للناس.

(أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) الباء للحال ، أي : أنزله معلوما ، كما تقول : خرج زيد بسلاحه ، أي خرج متسلحا.

البلاغة :

(كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) تخصيصه بالذكر للتشريف ، وقوله : (وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) لإظهار فضلهم ، والتشبيه مرسل مفصل.

(يَشْهَدُونَ .. وشَهِيداً) جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي أنزلنا إليك كتابا بواسطة جبريل عليه‌السلام ، والوحي : إعلام في خفاء (١). وقال الزجاج : الإيحاء : الاعلام على سبيل الخفاء. ويأتي في اللغة على معان منها :

١ ـ الإشارة : مثل قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم ١٩ / ١١] أي أشار إليهم.

٢ ـ الإلهام : مثل قوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي) [المائدة ٥ / ١١١](وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص ٢٨ / ٧].

٣ ـ الإلهام غريزة : مثل قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [النحل ١٦ / ٦٨].

٤ ـ الاعلام في خفاء : مثل قوله تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)(٢) [الأنعام ٦ / ١١٢].

(الْأَسْباطِ) جمع سبط : وهو ولد الولد ، والمراد بالأسباط هنا : أولاد يعقوب لصلبه أو أولاد أولاده.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ١٥

(٢) تفسير الألوسي : ٨ / ٥

٣١

(زَبُوراً) هو الكتاب المنزل على داود عليه‌السلام. والزبور في اللغة بالضم مصدر : هو المزبور بمعنى المكتوب ، وبالفتح : اسم للكتاب المؤتى.

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) روي أنه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي ، أربعة آلاف من إسرائيل ، وأربعة آلاف من سائر الناس.

(مُبَشِّرِينَ) بالثواب من آمن (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب من كفر.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) في ملكه لا يغلب (حَكِيماً) في صنعه.

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) يبين نبوتك (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) من القرآن المعجز (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي عالما به أو وفيه علمه.

سبب النزول :

نزول الآية (١٦٣) :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال : قال عدي بن زيد : ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى ، فأنزل الله هذه الآية.

فهي قد نزلت في قوم من اليهود ـ منهم سكين وعديّ بن زيد ـ قالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى ، فكذبهم الله.

نزول الآية (١٦٦) :

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) : روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال : دخل جماعة من اليهود على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله ، فقالوا : ما نعلم ذلك ، فأنزل الله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ..).

المناسبة :

تستمر الآيات في مناقشة أهل الكتاب وبيان ألوان عنادهم ، فهم كما سبق لا يؤمنون بكل الرسل ، ويتطلبون أشياء صعبة من الرسل ، سواء من موسى أو

٣٢

محمد عليهما‌السلام ، وهنا تذكر الآيات في ختام محاجتهم أن الوحي جنس واحد لا يختلف بين الرسل ، فلو صدقوا الإيمان بموسى أو غيره ، لآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يفرقون بين نبي ونبي؟ فالكلام متصل بقوله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) فأعلم تعالى أن أمر محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء.

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين ، فهو ليس بدعا من الرسل ، ولو آمنوا بالرسل حقيقة لآمنوا بالنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالوحي جنس واحد لم يتغير ، وفي كتبهم البشارة به ووصفه.

والوحي : إعلام من الله نبيا أو رسولا كلاما أو معنى بطريقة تفيده العلم اليقيني القاطع بما أعلمه الله به. أو هو كما قال الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد : عرفان يجده الشخص من نفسه ، مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة.

ونموذج الوحي واحد : إلى نوح وبدأ به ؛ لأنه أقدم الأنبياء وأول نبي شرعت على لسانه الشرائع ، ثم إلى من بعده من النبيين : وهم إبراهيم أبو الأنبياء وخليل الله ، وإسماعيل ابنه الأكبر وأبو العرب وجد المصطفى عليه الصلاة والسلام ومات بمكة ، وإسحاق وهو ابن إبراهيم وأبو يعقوب المسمى إسرائيل ، وإليه تنسب اليهود ومات بالشام ، ثم لوط وإبراهيم عمه ، ثم يعقوب ، ثم الأسباط أولاد يعقوب العشرة ، وحفيداه ابنا يوسف ، فيصبح مجموعهم اثني عشر سبطا ، والأسباط في بني إسرائيل من نسل إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل. ثم إلى موسى وهارون وأيوب وداود وسليمان بن داود ويونس ، وقدم عيسى ابن مريم على هؤلاء ؛ لأن اليهود طعنوا به ، والواو لا تقتضي الترتيب ، وخص هؤلاء الأنبياء بالذكر لشرفهم وكرامتهم على الله.

٣٣

وآتى الله داود زبورا ، والزبور : هو الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه‌السلام. وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام ، وإنما هي حكم ومواعظ. وكان داود عليه‌السلام حسن الصوت ؛ فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجنّ والطير والوحش لحسن صوته ، وكان متواضعا يأكل من عمل يده ، وكان يصنع الدروع (١).

وأرسلناك يا محمد كما أرسلنا رسلا غير هؤلاء ، منهم من قصصنا عليك قبل تنزيل هذه السورة ، ذكروا في السور المكية ، كما قال تعالى في سورة الأنعام عن إبراهيم : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) [٦ / ٨٤ ـ ٨٦].

ومجموع الأنبياء الذين نص القرآن على أسمائهم خمسة وعشرون ، وهم : آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، ويونس ، وداود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين ، وسيدهم محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأجمع السور لقصص الأنبياء : هود والشعراء.

وهناك رسل آخرون لم نقصصهم عليك ، لم يذكروا في القرآن ؛ لأن أممهم مجهولة ، وفي ذكر غيرهم فائدة أجدى ، قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦] وقال تعالى أيضا : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر ٣٥ / ٢٤].

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ١٧

٣٤

والقصد من إيراد قصص الأنبياء العظة والتثبيت والذكرى كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ..) [يوسف ١٢ / ١١١] وقال سبحانه أيضا : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود ١١ / ١٢٠].

والمشهور في عدد الأنبياء والمرسلين حديث أبي ذر الطويل ، وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه‌الله في تفسيره ، حيث قال أبو ذر : قلت : يا رسول الله ، كم الأنبياء؟ قال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قلت : يا رسول الله ، كم الرسل منهم؟ قال : «ثلثمائة وثلاثة عشر ، جمّ غفير» قلت : يا رسول الله ، من كان أولهم؟ قال : «آدم» قلت : يا رسول الله ، نبي مرسل؟ قال : نعم خلقه الله بيده ، ثم نفخ فيه من روحه ، ثم سواه قبلا» ثم قال : «يا أبا ذر ، أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، ونوح ، وأخنوخ وهو إدريس ، وهو أول من خط بالقلم ، وأربعة من العرب : هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر ، وأول نبي من بني إسرائيل : موسى ، وآخرهم عيسى ، وأول النبيين : آدم وآخرهم نبيك» ورواه أيضا أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه (الأنواع والتقاسيم) وقد وسمه بالصحة (١).

ثم ذكر الله تعالى مزية لموسى عليه‌السلام وهي أنه كليم الله خصه الله بهذه المزية ؛ لأن قومه هم المقصودون بالحديث : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) أي تكليما صحيحا حقيقيا بلا واسطة ، والتكليم للأنبياء يسمى وحيا ، كما قال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى ٤٢ / ٥١] والحكمة في الحجاب : توجيه الاهتمام والانتباه إلى شيء واحد ، والرسول الذي يوحي بإذن الله ما يشاء :

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٨٥ وما بعدها.

٣٥

هو جبريل ملك الوحي ، المعبر عنه بالروح الأمين. وليس لنا أن نبحث عن كيفية الحديث وهل كان مشافهة أو لا؟ فالله أعلم بذلك.

ثم ذكر تعالى الحكمة من إرسال الرسل وهي إقامة الحجة على الناس ، وتبيان طريق الهداية الأسلم ؛ إذ لو لم يرسلوا لاحتج البشر بجهلهم ما يجب عليهم من الإيمان والعمل الصالح ، كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) [طه ٢٠ / ١٣٤] وقال عزوجل : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ١٥] فكان إرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يبقى لمعتذر عذر.

ومهمة الرسل : أنهم يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات ، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب.

وكان الله عزيزا لا يغلبه أحد ، حكيما في صنعه وجميع أفعاله ، فلا يبقى لأحد اعتراض.

ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله عزوجل ، من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين» وفي لفظ آخر : «من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه».

ولما تضمنت الآية المتقدمة : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) إثبات نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والرد على من أنكر ذلك من المشركين وأهل الكتاب ، قال الله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) فهو استدراك لما علم من السياق من إنكار اليهود والمشركين وغيرهم نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعدم شهادتهم برسالته ، ومضمونه أن الله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم ، الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ

٣٦

بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤٢] وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك.

ثم أكد تعالى شهادته بقوله : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان ، وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه ، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل ، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن يعلمه الله به ، كما قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة ٢ / ٢٥٥].

والملائكة يشهدون بذلك أيضا ، أي بصدق ما جاءك وأوحي إليك ، وأنزل عليك ، مع شهادة الله تعالى بذلك (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ما شهد به لك ، حيث أقام الدليل ، وأوضح السبيل ، فشهادته أصدق وأوقع : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ : اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام ٦ / ١٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أن الوحي جنس واحد ، فمن آمن بالنبوات أو آمن بنبي ، وجب عليه الإيمان بباقي الأنبياء.

وأول الأنبياء الذي أتى بتشريع هو نوح ، وقيل : إدريس أول نبي بعثه الله في الأرض ، ثم انقطعت الرسل ، حتى بعث الله نوحا ، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا ، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم ، ثم إسحاق بن إبراهيم ، ثم لوط ابن أخي إبراهيم ، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق ، ثم يوسف بن يعقوب ، ثم شعيب بن يوبب ، ثم هود بن عبد الله ، ثم صالح بن أسف ، ثم موسى وهارون ابنا عمران ، ثم أيوب ، ثم الخضر وهو خضرون ، ثم

٣٧

داود بن إيشا ، ثم سليمان بن داود ، ثم يونس بن متى ، ثم إلياس ، ثم ذو الكفل ، واسمه : عويدنا من سبط يهوذا بن يعقوب ، ثم موسى ثم عيسى ، ثم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عليهم صلوات الله وسلامه.

وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف وسبعمائة سنة ، وليسا من سبط واحد.

وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرفه ، حيث قدمه في الذكر بقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) على بقية الأنبياء.

والكتب المنزلة على الأنبياء أربعة هي : زبور داود ، وتوراة موسى ، وإنجيل عيسى ، وقرآن محمد عليهم‌السلام. وموسى هو كليم الله.

والأنبياء آلاف كثيرة والرسل مئات كما سبق ، منهم من ذكر اسمه وقصته في القرآن وهم خمسة وعشرون نبيا ، ومنهم من لم يذكر.

ومهمة الرسل التبشير والإنذار ، والحكمة من إرسالهم هداية الناس إلى الحق والخير والصراط المستقيم.

والله تعالى وملائكته شهدوا بصدق رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله يعلم أنه أهل لإنزال القرآن عليه ، ودلت الآية : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) على أنه تعالى عالم بكل علم ، وكفى الله شاهدا.

٣٨

ضلال الكافرين وجزاؤهم ودعوة الناس إلى الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

الإعراب :

(خالِدِينَ فِيها) منصوب على الحال ، والعامل فيها : يهديهم ، ومعناه : ما يهديهم إلا طريق جهنم في حال خلودهم. (بِالْحَقِ) أي مصحوبا بالحق وهو القرآن ، وقيل : الباء للتعدية ، أي جاءكم ومعه الحق ؛ فهو في موضع الحال.

(فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ). خيرا : إما منصوب بفعل مقدر دل عليه (فَآمِنُوا) فهو يدل على إخراجهم من أمر وإدخالهم فيما هو خير لهم ، فكأنه قال : ائتوا خيرا لكم. وكذلك قوله تعالى فيما بعد : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) أو منصوب ؛ لأنه صفة لمصدر محذوف وتقديره : فآمنوا إيمانا خيرا لكم ؛ أو منصوب ؛ لأنه خبر (يكن) المقدرة ، وتقديره : فآمنوا يكن خيرا لكم.

المفردات اللغوية :

(وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي منعوهم من دين الإسلام بكتمهم نعت محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم اليهود (قَدْ ضَلُّوا) لم يهتدوا إلى الحق (كَفَرُوا) بالله (وَظَلَمُوا) نبيه بكتمان نعته (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أي الطريق المؤدي إليها (يَسِيراً) هينا (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (خَيْراً لَكُمْ) أي آمنوا به واقصدوا خيرا لكم مما أنتم فيه (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا ، فلا يضره كفركم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بخلقه (حَكِيماً) في صنعه بهم.

٣٩

المناسبة :

أثبت الحق تعالى في الآيات السابقة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهادته له بما أنزل عليه ، ثم أنذر في هذه الآيات من يكفر به ، وقد ذكر فيها صفات اليهود الذين تقدم ذكرهم ، وهي أنهم كفروا بمحمد وبالقرآن ، وصدوا غيرهم عن سبيل الله.

التفسير والبيان :

إن الذين كفروا بالله وبرسوله وبالقرآن ، وصدوا غيرهم عن دين الإسلام واتباع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاقتداء به ، بإلقاء الشبهات في قلوبهم ، نحو قولهم : لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء ، كما نزلت التوراة على موسى ، وقولهم : إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة ، وقولهم : إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود .. هؤلاء وهم اليهود قد ضلوا ضلالا بعيدا أي خرجوا عن الحق والصواب وبعدوا عنه بعدا عظيما شاسعا.

ثم أعلن الله تعالى حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله ، الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه ، وهو أنه لا يغفر لهم ، ولا يهديهم طريقا إلى الخير ، ولا يوفقهم بعدئذ إلى صواب ، وليس من شأنه أن يوصلهم إلا إلى الجزاء على أعمالهم وهو طريق جهنم. وقوله : (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) استثناء منقطع ، فهي طريق الكافرين الظالمين.

ومصيرهم في جهنم هو الخلود فيها ، أي البقاء فيها على حال واحدة لا تغيير فيها ولا فناء ، وهو خلود أبدي ، والأبد : الزمن الممتد ، والله أعلم باستمراره بما يتناسب مع أعمالهم ، وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره ؛ لأنه القادر على كل شيء ، الواحد القهار ، يفعل بما تقتضيه الحكمة والعدل. وفي هذا تحقير لشأنهم.

٤٠