التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

وبعد أن أجاب تعالى عن شبهة اليهود ، وفنّد حجتهم ، وبيّن فساد طريقتهم ، خاطب جميع الناس خطابا يأمرهم فيه الانصياع لدعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإيمان برسالته.

فهذا الرسول قد جاءكم بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله عزوجل ، فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه ، يكن الإيمان خيرا لكم ؛ لأنه يزكيكم ويطهركم من الأدناس والأرجاس ، ويرشدكم لما فيه السعادة في الدنيا والآخرة ، والحق الذي أتى به من ربه : هو القرآن المعجز ، والدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره.

ثم هدد الحق تعالى وأنذر أنه إن تكفروا فإن الله غني عنكم وعن إيمانكم وقادر على عقابكم ، ولا يتضرر بكفرانكم ، فإن له جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا ، أي جميع ما في الكون مملوك لله ، وهو الذي خلقهم ، وكلهم عبيد له خاضعون لحكمه ، كما قال تعالى : (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم ١٤ / ٨] وقال هاهنا : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بمن يستحق منكم الهداية فيهديه ، وبمن يستحق الغواية فيغويه ولا يخفى عليه شيء من أعمال عباده (حَكِيماً) في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ، ولا يضيع عمل عامل منهم ، ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمسيء والمحسن ، لقوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ اليهود وغيرهم ممن كفر بالإسلام بعيدون عن الحق والصواب جدا ؛ لأنهم كفروا بالله وبرسوله وبالقرآن ، ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام.

٤١

٢ ـ عقاب الكافرين الظالمين : الخلود في نار جهنم ، وعدم المغفرة لهم ، وإبعادهم عن طريق الهداية الربانية بظلمهم وبكفرهم وعنادهم ، فهم ظلموا محمدا بكتمان نعته ، وظلموا أنفسهم إذ كفروا ، وظلموا الناس إذ كتموهم ومنعوهم عن دين الإسلام. وقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) هو فيمن يموت على كفره ولم يتب.

٣ ـ دعوة الإسلام هي دعوة الحق من الله ، فهي الدين الحق المشتملة على شهادة أن لا إله إلا الله ، المؤيدة بالقرآن المعجز ، الداعية إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والإعراض عما سواه ، والعقل يدل على أن هذا هو الحق ، مما يدل على أن محمدا جاء بالحق من ربه.

المسيح عيسى ابن مريم في القرآن

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

٤٢

الإعراب :

(وَلا تَقُولُوا : ثَلاثَةٌ) : ثلاثة : خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : ولا تقولوا : آلهتنا ثلاثة.

(سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ) أن المصدرية وصلتها : في موضع نصب لحذف حرف الجر وتقديره : سبحانه عن أن يكون له والد ، ومن أن يكون له ولد. وكذلك قوله تعالى : (أَنْ يَكُونَ) (عَبْداً لِلَّهِ) في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : من أن يكون عبدا لله.

البلاغة :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ) أطلق العام وأريد به الخاص وهم النصارى بدليل قوله بعده : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) وهو قول النصارى.

(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) فيه قصر موصوف على صفة.

(وَرُوحٌ مِنْهُ) : (مَنْ) : كما تأتي للتبعيض تأتي لابتداء الغاية ، كما هنا ، مثل قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية ٤٥ / ١٣].

المفردات اللغوية :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي الإنجيل والمراد بهم هنا النصارى (لا تَغْلُوا) لا تتجاوزوا الحد بالتفريط أو الإفراط (إِلَّا الْحَقَ) أي إلا القول الحق من تنزيهه عن الشريك والولد (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) المراد أنه حدث بكلمة (لكِنْ) التكوينية ، لا بمادة أخرى كغيره من الناس ، وأوصلها الله إلى مريم. (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي ذو روح من الله تعالى أي وجد بنفخ من روح الله وهو جبريل ، وأضيف إليه تعالى تشريفا له ، وليس كما زعمتم : ابن الله ، أو إلها معه ، أو ثالث ثلاثة ؛ لأن ذا الروح مركب ، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه. (وَلا تَقُولُوا : ثَلاثَةٌ) أي ولا تقولوا : الآلهة ثلاثة : الله وعيسى وأمه (انْتَهُوا) عن ذلك (خَيْراً) وأتوا خيرا لكم منه وهو التوحيد (سُبْحانَهُ) تنزيها له عن الولد. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وعبيدا ، والملكية تنافي البنوة. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) شهيدا على ذلك.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ) يتكبر ويأنف (وَيَسْتَكْبِرْ) يجعل نفسه كبيرة غرورا منه وإعجابا بها (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) ثواب أعمالهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يزيدهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت

٤٣

ولا خطر على قلب بشر (عَذاباً أَلِيماً) مؤلما هو عذاب النار (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (وَلِيًّا) يدفعه عنهم (وَلا نَصِيراً) يمنعهم منه.

المناسبة :

لما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الطريق الأقوم ، أردف ذلك بمحاجة النصارى ، وألزمهم الرأي الحق في عيسى ابن مريم.

التفسير والبيان :

ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، فإن النصارى تجاوزوا الحد في عيسى حتى ألّهوه ، فنقلوه من منزلة النبوة إلى اتخاذه إلها من دون الله ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه ، فادعوا فيهم العصمة ، واتبعوهم في كل ما قالوه ، سواء كان حقا أو باطلا. وكذلك اليهود غلوا في تحقير عيسى وإهانته وكفروا به. والمطلوب هو التوسط بين الأمرين ، فلا إفراط بتعظيم عيسى وتقديسه ، ولا تفريط بتحقيره.

يا أهل الكتاب لا تتجاوزوا حدود الله بالزيادة أو النقص في الدين ، ولا تعتقدوا إلا بالحق الثابت بنص ديني متواتر أو برهان عقلي قاطع ، وإياكم ما زعمتم من دعوى الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد ، ولا تكفروا بعيسى وتبهتوا أمه ، وتحتقروه وتهينوه ، كما فعلت اليهود ، ولا تتغالوا في تعظيم عيسى وتقديسه ، حتى تجعلوه إلها أو ابن الله ، كما زعمت النصارى.

إنما المسيح عيسى ابن مريم البتول الطاهرة القديسة ، رسول الله إلى بني إسرائيل ، أمرهم بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له ، ونهاهم عن الشرك والتثليث ، وحثهم على التقوى ، وزهّدهم في الدنيا ، وبشرهم بخاتم النبيين والمرسلين ، كما حكى القرآن عنه : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف ٦١ / ٦].

٤٤

وهو مكون بكلمة (لكِنْ) التكوينية من غير أب : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢](إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران ٣ / ٤٧]. فكما أن الله قادر على أن يخلق بشرا من غير أب ولا أم وهو آدمعليه‌السلام ، أو من غير أم وإنما من أب فقط وهو حواء ، أو بسبب ظاهر معتاد من أب وأم ، قادر على أن يخلق إنسانا من غير أب وهو عيسى عليه‌السلام : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران ٣ / ٥٩] وأخبر الله تعالى عن بشرية عيسى وعبوديته لله تعالى فقال : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الزخرف ٤٣ / ٥٩] والمادة أو الطبيعة بنفسها مخلوقة عاجزة عن خلق غيرها ، فإن الأصل الأول للأشياء المخلوقة كلها هو الله تعالى.

وهو مؤيد أيضا بروح كائنة من الله تعالى ، لا جزءا ولا بعضا منه ، كما فهم المسيحيون ، وإلا لكان كل بشر مخلوق بنفخ الروح من الله من طريق الملك بعضا من الله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) أي من الله [الجاثية ٤٥ / ١٣]. وتأييده بالروح الأمين ثابت بقوله تعالى : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة ٢ / ٨٧ ، ٢٥٣] ووصف الله المؤمنين أيضا بتأييدهم بروح من الله فقال : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة ٥٨ / ٢٢].

قال مجاهد : (رُوحٌ مِنْهُ) أي ورسول منه ، أي أنه مخلوق من روح مخلوقة. وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ) [الأعراف ٧ / ٧٣] وفي قوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) [الحج ٢٢ / ٢٦] وكما روي في الحديث الصحيح : «فأدخل على ربي في داره» أضافها إليه إضافة تشريف ، وهذا كله من قبيل واحد ، ونمط واحد.

وإذا كان الخلق الحقيقي لله تعالى لعيسى وغيره ، فآمنوا بالله الواحد الأحد ، وصدقوا بأن الله واحد أحد ، لا ولد له ولا صاحبة ، واعلموا وتيقنوا بأن

٤٥

عيسى عبد الله ورسوله ، وآمنوا إيمانا لائقا بكل الرسل دون تفرقة وهو أنهم عبيد الله لهم مهام فوضهم الله بها ، ولا تقولوا : الآلهة ثلاثة : الأب والابن والروح القدس ، أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر ، وكل منها إله كامل ، ومجموعها إله واحد ، ولا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ففي هذا ترك للتوحيد الخالص الذي جاءت به المسيحية في أصلها الصحيح ، وهو المبدأ الذي دعا إليه عيسى ومن قبله إبراهيم وسائر الأنبياء ، ولا يعقل الجمع بين التثليث والتوحيد ، فهو تناقض ترفضه بداءة العقول ، لذا ندد الله تعالى بالقائلين بالتثليث فقال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) [المائدة ٥ / ٧٣] وقال في آخر المائدة : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [٥ / ١١٦] وقال في أول المائدة : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [٧ / ١٧].

(انْتَهُوا) أيها النصارى عن القول بالتثليث ، وقولوا قولا آخر يكن خيرا لكم منه وهو التوحيد الخالص الذي دعا إليه جميع الأنبياء والمرسلين ومنهم عيسى.

(إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) بالذات ، منزه عن التعدد ، ليس له أجزاء أو أقانيم ، ولا هو مركب من أجزاء ، سبحانه ، أي أنه منزه عن أن يكون له ولد أو شريك ، كما قلتم في المسيح : إنه ابنه أو هو عينه ، فإن أردتم الابن الحقيقي فهذا محال على الله تعالى ؛ لأنه يقتضي كونه أبا أو زوجا ، وإن أردتم الابن المجازي فلا يختص ذلك بعيسى.

ليس لله ولد حقيقة ، بل له كل ما في السموات وما في الأرض ، أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيهما عبيده ، وهم تحت تدبيره وتصريفه ، وهو وكيل على كل شيء ، والمسيح من جملة مخلوقاته ، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد ؛ لأن الملكية تنافي البنوة ، كما قال تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا

٤٦

آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم ١٩ / ٩٣] وقال : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) [الأنعام ٦ / ١٠١].

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي شهيدا على ذلك ، وقال الرازي : والمعنى أن الله سبحانه كاف في تدبير المخلوقات ، وفي حفظ المحدثات ، فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر(١).

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ) ، أي لن يتكبر أو يأنف المسيح عن عبادة الله وحده ، أو عن أن يكون عبدا لله ، لعلمه بعظمة الله وما يستحقه من العبودية والشكر ، وكذلك الملائكة المقربون لن يترفعوا عن أن يكون أحدهم عبدا لله.

ومن يستنكف أو يترفع عن عبادته تعالى وحده ، ويدعي الإشراك أو التثليث ، فسيحشرهم إليه جميعا للجزاء ، ويجازيهم ويحاسبهم على أعمالهم ، أي فيجمعهم إليه يوم القيامة ، ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا جور فيه ولا حيف.

فأما المؤمنون بالله الذين يعملون الأعمال الصالحة ، فيعطيهم أجورهم وثواب أعمالهم كاملة غير منقوصة ، أي يعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة ، ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه.

وأما الذين استنكفوا وتكبروا أي امتنعوا من طاعة الله وعبادته فيعذبهم عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة حسبما يستحقون ، ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يلي أمورهم ويدبر مصالحهم ، ولا مناصرا ينصرهم من بأس الله ويرفع عنهم العذاب ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر ٤٠ / ٦٠] أي صاغرين حقيرين ذليلين ، كما كانوا ممتنعين مستكبرين.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١١ / ١١٧

٤٧

فقه الحياة أو الأحكام :

في الآيات دلالات على أحكام جوهرية في العقيدة هي :

١ ـ التغالي في الأمور ممنوع شرعا ، فقد تغالى اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم ، وتغالى النصارى فيه حتى جعلوه ربا ، وأول عبارة في الإنجيل هي : «هذا كتاب إلهنا وربنا يسوع المسيح» فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر ، ولذا ورد في صحيح البخاري عنه عليه الصلاة والسلام : «لا تطروني (١) كما أطرت النصارى عيسى ، وقولوا : عبد الله ورسوله».

٢ ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) فيه إشارة إلى ثلاثة أحكام :

الأول ـ قوله : (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) دل على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها ، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا.

الثاني ـ لم يذكر الله عزوجل امرأة وسمّاها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران ، فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة : هي ترسيخ صفة العبودية لها ، ومجاراة عادة العرب في ذكر الإماء بأسمائهن ، أما الحرائر فكانوا يصونون أسماءهنّ عن الذكر والتصريح بها ، لئلا تبتذل أسماؤهنّ.

الثالث ـ اعتقاد أن عيسى عليه‌السلام لا أب له واجب ، فإذا تكرر اسمه منسوبا للأم استشعرت القلوب نفي الأب عنه ، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود وقذفهم لها بالزنى.

٣ ـ كان لعيسى أربعة أسماء : المسيح ، وعيسى ، وكلمة ، وروح. والمراد بالكلمة : أنه وجد بكلمة (لكِنْ) التكوينية ، فكان بشرا من غير أب. والمراد

__________________

(١) الإطراء : مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.

٤٨

بقوله (وَرُوحٌ مِنْهُ) : أنه وجد بنفخة جبريل عليه‌السلام ، ويسمى النفخ في كلام العرب روحا ؛ فإن الروح والريح متقاربان ، والنفخ ريح يخرج من الروح. والمراد من قوله (مِنْهُ) التشريف والتفضيل ، لا أنه جزء أو بعض من الله ، فكلّ الخلائق من روح الله ، كما يقال : هذه نعمة من الله ، والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة. ويقال : هذا روح من الله أي من خلقه.

وقد وقع النصارى في الخطأ والضلال حينما قالوا : عيسى جزء من الله ؛ لأنه روح من الله.

٤ ـ الإيمان بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسلة ، وبأن الرّسل ومنهم عيسى عبيد لله : هو الواجب الذي لا محيد عنه ، وهو الحق الذي تقبله العقول الرشيدة ، فلا يصح جعل عيسى إلها.

٥ ـ يحرم القول بتعدد الآلهة أو بأن الآلهة ثلاثة ، قال ابن عباس : يريد بالتثليث : الله تعالى وصاحبته وابنه. والنصارى مجمعون على التثليث ويقولون : إن الله جوهر واحد ، وله ثلاثة أقانيم ، فيجعلون كلّ أقنوم إلها ، ويعنون بالأقانيم : الوجود والحياة والعلم. والسائد أنهم يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس ، فيعنون بالأب : الوجود ، وبالروح : الحياة ، وبالابن : المسيح. ومحصول كلامهم كما تقدّم يؤول إلى القول بأن عيسى إله ، بسبب ما كان يظهر على يديه من المعجزات وخوارق العادات ، وذلك خارج عن مقدور البشر ، فيكون المقتدر عليها متصفا بالألوهية.

وليس أدلّ على إسقاط صفة الألوهية عنه : أنه لو كان إلها لخلص نفسه من أعدائه ، ودفع شرّهم ، ولم يمكّنهم من صلبه ، كما يزعمون.

٦ ـ الانتهاء عن القول بالتثليث هو الخير المحض ، وهو الصواب ؛ لأن الله إله واحد ، منزّه عن أن يكون له ولد ، بل له ما في السموات وما في الأرض ، والملكية

٤٩

تنافي البنوة ، فلا شريك له ، وعيسى ومريم من جملة ما في السموات وما في الأرض ، وما فيهما مخلوق ، فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق.

٧ ـ لن يترفع المسيح ولن يأنف ولن يحتشم من أن يكون عبدا لله ، وكذلك الملائكة المقرّبون من رحمة الله ورضاه لن يترفعوا عن عبوديتهم لله. ومن يأنف عن عبادة الله ويستكبر فلا يلتزم بفعل العبادة أو الطاعة ، فإن الله سيجمع الخلائق إلى المحشر ، ويجازي كلّا بما يستحق.

فالمؤمنون العاملون الصالحات لهم ثواب أعمالهم كاملا غير منقوص ، ويزيدهم الله من فضله ورحمته وإحسانه. والمستنكفون المتكبرون يعذبون عذابا مؤلما ، دون أن يجدوا لهم وليّا يلي أمورهم ، أو نصيرا ينصرهم.

٨ ـ استدلّ بعضهم بقوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) على تفضيل الملائكة على البشر ، وأنهم أعظم من المسيح خلقا وأفعالا. وردّ عليهم بأن الآية في معرض تفضيل الملائكة في عظم الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة ، فهم أقدر على الامتناع من عبادة الله من المسيح ، ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل.

دعوة الناس إلى الإيمان بالنور المبين (القرآن)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))

٥٠

الإعراب :

(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) : صراطا : إما منصوب بتقدير فعل ، وتقديره : يعرفهم صراطا ، ودل (يَهْدِيهِمْ) على المحذوف ؛ أو منصوب على أنه مفعول ثان ليهدي ، وتقديره : ويهديهم صراطا مستقيما إلى ثوابه.

المفردات اللغوية :

(بُرْهانٌ) حجة من ربكم عليكم ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نُوراً مُبِيناً) وهو القرآن (صِراطاً) طريقا (مُسْتَقِيماً) سويا وهو دين الإسلام.

المناسبة :

أقامت الآيات السابقة الحجة على المنافقين والمشركين واليهود والنصارى ، وأثبتت نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان ذلك مقدمة لهاتين الآيتين اللتين وجهت فيهما الدعوة إلى الناس كافة لاتباع دعوة الإسلام.

التفسير والبيان :

يا أيها الناس ، قد جاءكم برهان ساطع ودليل قاطع من ربكم ، يبين لكم حقيقة الإيمان بالله وأنظمة المجتمع الصالحة لحياة أفضل ، وهو النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، النبي العربي الأمي الأمين ، الذي نشأ بينكم في الجاهلية ، ولكنه لم يتلوث بمفاسدها وأدرانها ، وإنما تعهده ربه بالتربية والعناية والإعداد لحمل الرسالة ، فكان المثل الأعلى في سلوكه وخلقه وسيرته وقيادته ، وكان برهانا عمليا عظيما على صدق رسالته : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤].

وأنزلنا إليكم مع هذا البرهان نورا مبينا أي ضياء واضحا على الحق ، وهو القرآن الكريم الذي جاء لتصحيح العقيدة والنظام ، فقرر التوحيد الخالص ، وحارب الوثنية والشرك ، وأبان زيف اليهودية والنصرانية المحرفة الحالية ،

٥١

وأرسى معالم الهداية وأوضح طريق العبادة الصحيحة لله تعالى ، ووضع أسس الأخلاق وأنظمة الحياة الرشيدة في السياسة والحرب والسلم والاقتصاد والاجتماع وعلوم الكون ، فكان ذلك أيضا بالإضافة إلى السيرة الذاتية للنبي برهانا على كون هذا الدين هو دين الحق الذي لا معدل عنه ولا مثيل له.

وترتب عليه أن الذين آمنوا بالله ، وتمسكوا واعتصموا بالقرآن أو الإسلام ، واتبعوا نوره ، فيدخلهم الله في رحمته ، ويعمهم بفضله في الدنيا والآخرة ، أي يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ورفعا بالقرآن ، قال ابن عباس : الرحمة : الجنة ، والفضل : ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (١).

ويهديهم طريقا قويما يوصلهم إلى إحراز السعادة في الدنيا بالعزة والكرامة واتباع طريق السلامة في الاعتقاد والعمل ، وفي الآخرة بالجنة والرضوان ، أي يوفقهم إلى ذلك ، ولا توفيق ولا هداية خاصة بغير الاعتصام بالقرآن المجيد واتباع سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

روى الترمذي عن علي بن أبي طالب مرفوعا : «القرآن : صراط الله المستقيم ، وحبل الله المتين».

فقه الحياة أو الأحكام :

البرهان العظيم من الله لعباده هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسمي برهانا ؛ لأن معه البرهان وهو المعجزة أو الحجة ، فإن المعجزات حجته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والنور المبين : هو القرآن الكريم ، وسمي نورا ؛ لأن به تتبين الأحكام ، ويهتدى به من الضلالة ، فهو نور مبين أي واضح بيّن.

فمن آمن بالله واعتصم بالقرآن عن معاصيه ، والعصمة : الامتناع ، فاز بالجنة

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي : ١١ / ١٢٠

٥٢

والرضوان ، وحظي بالفضل الإلهي العظيم في الدنيا والآخرة.

ودل قوله تعالى : (وَفَضْلٍ) على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه من غير مقابل ؛ إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا.

قال الرازي : الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم ، وأما الهداية فالمراد منها السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية ، وهذا هو السعادة الروحانية. وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيها على أن البهجة الروحانية أشرف من اللذات الجسمانية (١).

والهداية في القرآن نوعان : هداية عامة وهداية خاصة.

أما الهداية العامة : فهي كما في قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ٩٠ / ١٠] أي طريقي السعادة والشقاوة ، والخير والشر ، وهذه تشمل هداية الحواس الظاهرة والباطنة ، وهداية العقل ، وهداية الدين.

وأما الهداية الخاصة : فهي مثل : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام ٦ / ٩٠] ومثل (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة ١ / ٦]. هذه الهداية ليست الدلالة العامة كما سبق ، وإنما هي الإعانة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة. ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين وفي استعمال الحواس والعقل ، كان محتاجا إلى المعونة الخاصة ، فأمرنا الله بطلبها منه في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١١ / ١٢٠

٥٣

ميراث الكلالة أو ميراث الإخوة والأخوات لأب وأم أو لأب

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

الإعراب :

(لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) محله الرفع على الصفة ؛ أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد. (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) : إنما قال : (اثْنَتَيْنِ) ولم يقتصر على قوله : (كانَتَا) لأنها تفيد التثنية العددية لوجهين :

أحدهما ـ أنه لو اقتصر على قوله : كانتا ولم يقل اثنتين لاحتمل أن يريد بهما الصغيرتين أو الكبيرتين ، فلما قال : اثنتين أفاد العدد مجردا عن الصغر والكبر ، فكأنه قال : فإن كانتا صغيرتين أو كبيرتين ، فقام (اثْنَتَيْنِ) مقام هذين الوصفين.

والثاني ـ أن يكون محمولا على المعنى ، وتقديره : فإن كان ممّن يرث اثنتين ، فبنى الضمير على معنى (من) وهذا قول الأخفش ، والوجه الأول أوجه.

(أَنْ تَضِلُّوا) تقديره : كراهة أن تضلوا ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وهو مفعول لأجله. وقيل : تقديره : لئلا تضلوا ، فحذف (اللام ولا) من الكلام ؛ لأن فيما أبقى دليلا على ما ألقى. والوجه الأول أوجه.

المفردات اللغوية :

(الْكَلالَةِ) : من لا والد له ولا ولد ، والآية في ميراث الإخوة والأخوات من الميت الكلالة (هَلَكَ) : مات (أَنْ تَضِلُّوا) ألا تضلوا.

٥٤

سبب النزول :

روى النسائي عن جابر قال : اشتكيت ، فدخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، أوصي لأخواتي بالثلث؟ قال : أحسن ، قلت : بالشطر؟ قال : أحسن ، ثم خرج ، ثم دخل علي ، قال : لا أراك تموت في وجعك هذا ، إن الله أنزل وبيّن ما لأخواتك وهو الثلثان ، فكان جابر يقول : نزلت هذه الآية فيّ : (يَسْتَفْتُونَكَ ، قُلِ : اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). قال الحافظ ابن حجر : هذه قصة أخرى لجابر غير التي تقدمت في أول السورة ، أي في الآية (١١).

وفي رواية : اشتكيت فدخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندي سبع أخوات.

وأخرج ابن مردويه عن عمر أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كيف يورث الكلالة؟ فأنزل الله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).

وروى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله قال : «دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا مريض لا أعقل ، فتوضأ ، ثم صبّ علي فعقلت ، فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة ، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الميراث ، يريد هذه الآية».

وروى الشيخان عن البراء : أنها آخر آية نزلت ، أي من الفرائض. قال الخطابي : أنزل الله في الكلالة آيتين : إحداهما ـ في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء ، وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين المعنى من ظاهرها ، ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف ، وهي التي في آخرها ، وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء ، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها. والآية الأولى تسمى آية الشتاء ، والآية الثانية تسمى آية الصيف.

٥٥

المناسبة :

قال الرازي : اعلم أنه تعالى تكلم في أول السورة في أحكام الأموال ، وختم آخرها بذلك ، ليكون الآخر مشاكلا للأول ، ووسط السورة مشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفين للدين (١).

التفسير والبيان :

أجمع العلماء على أن هذه الآية في ميراث الإخوة من الأب والأم (الأشقاء) أو من الأب. وأما الإخوة والأخوات لأم ففيهم نزلت الآية السابقة في صدر السورة وهي : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) [١٢].

روي أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه قال في خطبة له : ألا إن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض ، فأولها ـ في الولد والوالد ، وثانيها ـ في الزوج والزوجة والإخوة من الأم ، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، أو من الأب. والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام (٢).

يطلب منك أيها النبي الفتيا فيمن يورث كلالة ، كجابر بن عبد الله ، ليس له والد ولا ولد ، وله أخوات من العصبة ، لم يفرض لهم شيء من التركة قبل ، وإنما فرض للإخوة لأم : السدس للواحد ، والثلث لاثنين فأكثر.

والكلالة : مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه. وهي اسم يقع على الوارث وعلى الموروث ، فإن وقع على الوارث : فهو من سوى الوالد

__________________

(١) التفسير الكبير : ١١ / ١٢٠

(٢) المرجع السابق : ١١ / ١٢١

٥٦

والولد ، قال أبو بكر : الكلالة : ما عدا الوالد والولد. وإن وقع على المورث : فهو الذي مات ولا يرثه أحد الوالدين ولا أحد من الأولاد.

إن هلك امرؤ غير ذي ولد ، وله أخت شقيقة أو لأب ، فلها نصف التركة. وقد أشكل حكم الكلالة على عمر فقال فيما ثبت في الصحيحين : «ثلاث وددت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد والكلالة وباب من أبواب الربا» أي ما أنزل أواخر سورة البقرة من آيات الربا. وأخرج ابن ماجه في سننه بلفظ : «الكلالة والربا والخلافة».

والمراد بالولد هنا : ما يشمل الذكر والأنثى ؛ لأن الكلام في الكلالة : وهو من ليس له ولد أصلا ، لا ذكر ولا أنثى ، وليس له والد أيضا. واقتصر على ذكر الولد لظهور الأمر.

والمقصود بالأخت هنا : الأخت الشقيقة أو لأب ، أما الأخت لأم فقد بين الله حكمها في أول السورة بالإجماع كما تقدم.

وتستحق الأخت النصف إن كان للميت بنت ، فإن كان له ابن فلا شيء لها ، أما ظاهر الآية وهو أن الأخت تأخذ النصف عند عدم الولد (ذكرا أو أنثى) فليس مرادا. ويشترط أيضا لاستحقاقها النصف ألا يكون للميت والد ، وظاهر الآية أنها تستحق النصف إذا لم يكن للميت ولد غير مراد أيضا ؛ لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع (١).

ثم قال تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) يعني أن الأخ يرث تركة أخته جميعها بالتعصيب إذا لم يكن للأخت ولد ولا والد يحجبه عن الإرث. والمقصود بالأخ هنا : الأخ الشقيق أو لأب ، أما الأخ لأم فلا يستغرق الميراث ، وإنما فرضه السدس.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١١ / ١٢١

٥٧

فإن كان الوارث أختين فأكثر ، والمراد بالأخت : الشقيقة أو لأب ، وليس المراد بها الأخت لأم ، فلهما ثلثا ما ترك أخوهما الكلالة. والاثنتان فأكثر سواء ؛ لأن أخوات جابر كن سبعا.

وإن كان من يرث إخوة ذكورا وإناثا ، فللذكر مثل حظ الأنثيين. أما الإخوة لأم فهم شركاء في الثلث.

(يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) أمور دينكم وجميع الأحكام من حلال وحرام كراهة أن تضلوا ، أو عند الكوفيين لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان في قسمة التركات وغيرها ، وعلى التأويل الأول حذف المضاف عند البصريين وهو : كراهة (أَنْ تَضِلُّوا) كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف ١٢ / ٨٢] والتأويل الثاني كحديث ابن عمر الثابت : «لا يدعونّ أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة» (١) والمعنى : لئلا يوافق من الله إجابة.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي أن ما شرعه لكم من الأحكام فيه الخير والمصلحة لكم ، وهو صادر عن علم واسع لله ، فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا.

فقه الحياة أو الأحكام :

اشتملت الآية في ميراث الإخوة والأخوات من الميت الكلالة أربع حالات :

الأولى ـ أن يموت امرؤ وترثه أخت واحدة : فلها النصف فرضا ، والباقي للعصبة إن كانوا ، وإلا فيعود الباقي لها بالرد. وكذلك ترث الأخت من أختها النصف.

الثانية ـ العكس وهو أن تموت امرأة ويرثها أخ واحد ، فله جميع التركة. وكذلك يرث الأخ جميع تركة أخيه.

__________________

(١) ورواه أيضا أبو داود عن جابر بن عبد الله.

٥٨

الثالثة ـ أن يكون الوارث للأخ أو الأخت أختان فأكثر ، فلهما الثلثان ، وقد أجمع العلماء على أن الأكثر من أختين كالأختين ؛ لأن الأكثر من بنتين لا يزدن عن الثلثين ، فبالأولى لا يزيد الأكثر من أختين عن الثلثين ، كما تقدم.

الرابعة ـ أن يكون ورثة الأخ أو الأخت عددا من الإخوة والأخوات ، فللذكر مثل حظ الأنثيين. لكن إن اجتمع إخوة أشقاء وإخوة لأب ، قدم الأشقاء ؛ لأن الإخوة لأب يحجبون بالإخوة الأشقاء.

أما إذا كان إخوة الميت الكلالة عددا من الإخوة الذكور فإنهم يرثون جميع التركة.

وجمهور الصحابة والتابعين غير ابن عباس وداود الظاهري يجعلون الأخوات عصبة مع البنات ، وإن لم يكن معهن أخ. أما ابن عباس وداود فلا يجعلون الأخوات عصبة مع البنات ، لظاهر قول الله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ، وَلَهُ أُخْتٌ ، فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) ولم يورثوا الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد ، قالوا : ومعلوم أن الابنة من الولد ، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها.

٥٩

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المائدة

مدنية وهي مائة وعشرون آية ، وهي السورة الخامسة من القرآن الكريم.

تسميتها :

تسمى هذه السورة سورة المائدة ؛ لاشتمالها على قصة نزول المائدة من السماء بعد أن طلبها الحواريون من عيسى عليه‌السلام ، لتدل على صدق نبوته ، وتكون لهم عيدا. وتسمى أيضا سورة العقود ، وسورة المنقذة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سورة المائدة تدعى في ملكوت الله : المنقذة ، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب».

تاريخ نزولها :

هي سورة مدنية نزلت بعد الهجرة ولو في مكة بعد الانصراف من الحديبية ، وثبت في الصحيحين عن عمر : «أن قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) نزلت عشية عرفة ، يوم الجمعة ، عام حجة الوداع».

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال : «يا أيها الناس ، إن سورة المائدة آخر ما نزل ، فأحلوا حلالها ، وحرموا حرامها» وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر قال : «آخر سورة نزلت : المائدة والفتح» وروى أحمد والنسائي والحاكم وصححه ، والبيهقي عن عائشة قالت : المائدة آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه».

٦٠