التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

مناسبتها لما قبلها :

هناك أوجه تشابه بينها وبين سورة النساء ، لاشتمال كل منهما على عدة عهود وعقود وأحكام ومناقشة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين ، ففي سورة النساء الكلام على عقود الزواج والأمان والحلف والمعاهدة ، والوصايا والودائع والوكالات والإجارات ، وابتدأت سورة المائدة بالأمر بالوفاء بالعقود. ومهدت سورة النساء لتحريم الخمر ، وحرمتها سورة المائدة بنحو قاطع ، وتضمنت السورتان مناقشة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في عقائدهم ومواقفهم من الرسالة المحمدية.

ما اشتملت عليه :

اشتملت سورة المائدة على أحكام تشريعية وثلاث قصص. أما الأحكام : فهي بيان أحكام العقود ونكاح الكتابيات والوصية عند الموت ، والمطعومات من ذبائح وصيود ، وصيد الإحرام وجزائه ، والطهارة من وضوء وغسل وتيمم ، وتحريم الخمر والميسر وجزاء الردة ، وحد السرقة وحد الحرابة (قطع الطريق) وكفارة اليمين ، وشريعة الجاهلية بتحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وحكم تارك العمل بما أنزل الله ، ونحو ذلك في أثناء مناقشة ومجادلة النصارى واليهود والمشركين والمنافقين.

قال العلماء : فيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها ؛ وهي : (الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) ، (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وتمام الطهور : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) ، (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) إلى قوله : (عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) و (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) وقوله تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الآية.

٦١

وذكر القرطبي فريضة تاسعة عشرة وهي قوله عزوجل : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) : ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة ، أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة ، وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات.

وفي الجملة انفردت سورة المائدة ببيان أصول مهمة في الإسلام هي :

١ ـ إكمال الدين ، وأن دين الله واحد ، وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم.

٢ ـ بيان عموم بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره بالتبليغ العام ، وانحصار مهمته بالتبليغ فقط.

٣ ـ أوجب الله على المؤمنين إصلاح نفوسهم ، وأنه لا يضرهم إن استقاموا ضلال غيرهم ، وطريق الإصلاح الوفاء بالعقود ، وتحريم الاعتداء على الآخرين ، والتعاون على البر والتقوى وتحريم التعاون على الإثم والعدوان ، وتحريم موالاة الكفار ، ووجوب الشهادة بالعدل ، والحكم بالقسط والمساواة بين المسلمين وغيرهم.

٤ ـ بيان أحكام المطعومات ، وتحريم الخمر والميسر (القمار) والأنصاب والأزلام.

٥ ـ تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى الله وحده ، وأن النافع في ذلك اليوم الصدق.

وأما القصص الثلاث الواردة للعبرة والعظة فهي : الأولى ـ قصة بني إسرائيل مع موسى عليه‌السلام إذ قالوا له : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ). والثانية ـ قصة ابني آدم ، حيث قتل قابيل هابيل ، وهي أول جريمة في الأرض. والثالثة ـ قصة المائدة التي كانت معجزة خارقة لعيسى عليه‌السلام أمام صحبه الحواريين.

٦٢

فضلها :

أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنهما قال : أنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة المائدة ، وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها.

الوفاء بالعقود ومنع الاعتداء والتعاون على الخير

وتعظيم شعائر الله

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

الإعراب :

(إِلَّا ما يُتْلى ..) ما : إما منصوب على الاستثناء من (بَهِيمَةُ) ؛ أو مرفوع على أنه صفة (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) كما تقول : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير ما يتلى ، فإذا أقيمت إلا وما بعدها مقام (غَيْرَ) رفعت ما بعد إلا. والوجه الأول أوجه. (غَيْرَ مُحِلِّي) غير : منصوب على الحال إما من الكاف واللام في (لَكُمْ) والعامل فيه : أحلت وإما من ضمير (أَوْفُوا) والعامل فيه : (أَوْفُوا).

٦٣

(وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير الفاعل في (مُحِلِّي). (وَلَا الْقَلائِدَ) : أي ذوات القلائد ، وهي جمع قلادة : وهي ما قلّد البعير من لحاء الشجر وغيره (يَبْتَغُونَ) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير : (آمِّينَ) أي لا يحلّوا من قصد البيت الحرام مبتغين فضلا من ربهم. ولا يجوز أن يكون صفة لآمّين لأنه قد نصب البيت ، واسم الفاعل إذا وصف لم يعمل ؛ لأنه يخرج بالوصف عن شبه الفعل ، والفعل لا يوصف.

(أَنْ صَدُّوكُمْ) أن مصدرية في موضع نصب ؛ لأنه مفعول لأجله ، وتقديره : لأن ، فحذف اللام فاتصل الفعل به. و (أَنْ تَعْتَدُوا) منصوب بيجرمنكم.

البلاغة :

(شَعائِرَ اللهِ) : استعارة ، استعار الشعيرة وهي العلامة للمتعبدات التي تعبد الله بها العباد من الحلال والحرام.

(وَلَا الْقَلائِدَ) أي ذوات القلائد ، وهي عطف خاص على عام.

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) فيه ما يسمى بالمقابلة في علم البديع.

المفردات اللغوية :

(أَوْفُوا) أتموا الشيء وافيا كاملا لا نقص فيه (بِالْعُقُودِ) أي العهود المؤكدة الموثقة التي بينكم وبين الله والناس ، أي ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره. فهي تشمل عقود الشرع فيما أحل وحرّم وفرض ، وعقود الناس بعضهم مع بعض في البيع والشراء والزواج وغير ذلك (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) البهيمة : هي ما لا عقل لها ، وخصها العرف بذوات الأربع من حيوان البر والبحر. والأنعام : هي الإبل والبقر والغنم ، وما يلحق بها من الجاموس والمعز والظباء. وأحلت لكم بهيمة الأنعام أكلا بعد الذبح (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) تحريمه في آية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ). (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) محرمون بالحج أو العمرة. والحرم : جمع حرام.

(شَعائِرَ) جمع شعيرة ، أي معالم دينه وخصت بمناسك الحج ، وقوله (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) أي بالصيد في الإحرام (الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي بالقتال فيه (وَلَا الْهَدْيَ) ما يهدى إلى الحرم من الأنعام ، بذبحه فيه للفقراء ، وهو من النسك. (الْقَلائِدَ) جمع قلادة وهي ما يعلق في العنق ، والقلادة : هي ما كان يقلد به من شجر الحرم ليأمن ، أي فلا تتعرضوا لها ولا لأصحابها. (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) : ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام ، بأن تقاتلوهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً) رزقا أو

٦٤

ربحا من ربهم بالتجارة (وَرِضْواناً) منه بقصده ، بزعمهم الفاسد أي يقصدون التوصل إلى رضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا ، وهذا منسوخ بآية براءة ، قال الشعبي : لم ينسخ من هذه السورة إلا قوله : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ).

(وَإِذا حَلَلْتُمْ) من الإحرام (فَاصْطادُوا) أمر إباحة لا أمر إيجاب (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) لا يحملنكم ولا يكسبنكم (شَنَآنُ) بغض قوم ، لأجل أن صدوكم عن المسجد الحرام ، أن تعتدوا عليهم بالقتل وغيره.

(الْبِرِّ) هو كلمة جامعة للخير ، تشمل كل ما أمر به الشرع واطمأن إليه القلب (وَالتَّقْوى) هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات (الْإِثْمِ) المعصية والذنب ، وهو كل ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس (الْعُدْوانِ) التعدي في حدود الله (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه بأن تطيعوه (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالفه.

سبب النزول : نزول (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) :

أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة ، قال : قدم الحطم بن هند البكري المدينة في عير له يحمل طعاما فباعه ، ثم دخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبايعه وأسلم ، فلما ولى خارجا ، نظر إليه ، فقال لمن عنده : لقد دخل علي بوجه فاجر ، وولى بقفا غادر ، فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام ، وخرج في عير له يحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة ، فلما سمع به أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ، ليقتعوه (١) في عيره ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) الآية ، فانتهى القوم ، وأخرج عن السدي نحوه.

نزول قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) :

أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نصد هؤلاء ، كما صدوا أصحابنا ، فأنزل الله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) الآية.

__________________

(١) ليقتعوه : أي ليقمعوه ويذلوه.

٦٥

التفسير والبيان :

نادى الله المؤمنين بوصف الإيمان ليحثهم على امتثال ما يكلفهم به ، فإن شأن المؤمنين الانقياد لما يكلفون به من ربهم.

يا من اتصفتم بالإيمان ونبذتم كل ما يدعو إليه الشيطان أوفوا بالعقود أي العهود التي عقدتموها بينكم وبين الله أو بينكم وبين الناس ، وهي التكاليف التي ألزمكم الله بها والتزمتموها ، مما أحل الله وحرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض وأحكام الحلال والحرام. ومن هذه التكاليف : ما يعقده الناس بعضهم مع بعض من عقود المعاملات. وهذه العقود ستة هي : عهد الله ، وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد البيع ، وعقد النكاح ، وعقد اليمين. قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المسلمون عند شروطهم» «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (١). فيجب الوفاء بالعقود والعهود بحسب الشروط المتفق عليها إذا لم تصادم الشرع ، فلا يجب الوفاء بالتعاقد على المحرمات ، مثل حلف الجاهلية على الباطل ، كحلفهم على التناصر والميراث ، بأن يقول شخص لآخر إذا حالفه : دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك.

ثم فصّل الله تعالى عقوده على الناس في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه ، ومهد للنهي عن بعض محرمات الإحرام ببيان نعمه التي تحملنا على الوفاء بالعقود ، ومن أعظم النعم إحلال بهيمة الأنعام أكلا من طريق الذبح الشرعي ، والأنعام : هي الإبل والبقر والضأن والمعز وأمثالها كالظباء وبقر الوحش. والبهيمة في الأصل : كل حي لا يميز ، فهي تشمل الأنعام وغيرها ، سواء أكانت من ذوات الأربع أم لا. ثم قيدها بالأنعام ، والإضافة للبيان ، أي بهيمة

__________________

(١) الحديث الأول رواه الحاكم عن أنس وعائشة ، والثاني رواه البزار والطبراني عن ابن عباس. والثالث رواه أحمد ومسلم عن عائشة.

٦٦

هي الأنعام. فلا تشمل غير الأنعام ، سواء أكانت من ذوات الحوافر كالخيل والبغال والحمير ، أم من غيرها كالسباع من أسد ونمر وذئب ونحوها من كل ما له ناب ، أو له مخلب من الطيور كالنسر والعقاب والغراب والصقر.

ولا بد من إضمار فعل يناسب الكلام ؛ لأن الإحلال لا يتعلق إلا بالأفعال ، وهذا الفعل مأخوذ من الانتفاع ، ويكون المراد من قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) : أحل لكم الانتفاع ببهيمة الأنعام ، وهو يشمل الانتفاع بلحمها وجلدها وعظمها وصوفها ، وذلك مثل تقدير فعل في قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [النحل ١٦ / ٥] أي لتنتفعوا بها في الدفء وغيره.

ثم استثنى الله تعالى من الأنعام محرمات عشر ، فقال : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي يستثني من حل بهيمة الأنعام ما يتلى عليكم من المحرمات العشر الآتية ، حالة كونكم غير محلي الصيد في الإحرام ، فيحرم الصيد في أثناء الإحرام بالحج أو العمرة ، وفي الحرم المكي والمدني ولو في غير حالة الإحرام.

والحرم : جمع حرام وهو المحرم بحج أو عمرة. ودلت السنة على تحريم صيد الحرمين. (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من الأحكام ويعلم أنه حكمة ومصلحة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ...) أي يا أيها المؤمنون ، لا تحلوا شعائر الله ، أي مناسك الحج ، وإحلال الشعائر : استباحتها والتهاون بحرمتها والإخلال بأحكامها ، والحيلولة بينها وبين المتنسكين بها ، فلا تتعدوا حدود الله.

ولا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم وهي أربعة : ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب ، فلا تقاتلوا المشركين فيها ، ولا تبدلوها بغيرها كما كان العرب يفعلون في الجاهلية من عملية النسيء ، أي تأخير حرمة شهر حرام إلى غيره ، ولا تحدثوا في أشهر الحج ما تصدون به الناس عن الحج. (وَلَا الْهَدْيَ) أي ولا تعترضوا الهدي

٦٧

المهدي للحرم بالغصب أو الأخذ أو المنع من بلوغ محله حتى لا يصل إلى الكعبة. وسمي الشهر حراما لتحريم القتال فيه. وقد نسخ هذا الحكم بآية براءة كما تقدم بيانه وهي قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [٩ / ٥] ، والهدي : ما يتقرب به المرء من النعم ليذبح في الحرم.

(وَلَا الْقَلائِدَ) من الأنعام ، لا تنتهكوا أيضا حرمتها ، والمراد بها ذوات القلائد وهي جمع قلادة : وهي ما قلد به الهدي مما يعلق في عنق البعير أو غيره من نعل أو عروة مزادة أو جلد أو قشر شجر أو غيره ، ليعلم أنه هدي فلا يتعرض له. وخصت بالبيان مع شمول الهدي لها تشريفا لها واعتناء وزيادة توصية بها ؛ لأنها أشرف الهدي.

(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي ولا تعترضوا ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام ، يطلبون من الله الفضل (الرزق والثواب) والرضوان (الرضا ، أي أن يرضى عنهم) أي لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم ، تعظيما لهم ، واستنكارا أن يتعرض لمثلهم ؛ لأن من دخل البيت الحرام كان آمنا ، وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه.

والمقصود من الحفاظ على حرمة الأمور المتقدمة أن يكون الناس في زمان الحج ومكانه في أمان واطمئنان ، فلا يتعرض الحاج للخوف والقلق ، حتى يأمن على نفسه وماله.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه ، وأنتم في غير أرض الحرم ، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد ، فاصطادوا كما تشاؤون ، ولا إثم عليكم في الصيد وأكله. وهذا أمر بعد الحظر ، والصحيح أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي ، فإن كان واجبا رده واجبا ، وإن كان مستحبا فمستحب ، أو مباحا فمباح.

٦٨

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ..) أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد ، وذلك عام الحديبية ، على أن تتعدوا حكم الله ، فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد (١).

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ) : وهو كل خير أمر به الشرع أو نهى عنه من المنكرات ، أو اطمأن إليه القلب ، ولا تتعاونوا على الإثم وهو الذنب والمعصية : وهي كل ما منعه الشرع ، أو حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس. ولا تتعاونوا على التعدي على حقوق الغير. والإثم والعدوان يشمل كل الجرائم التي يأثم فاعلها ، ومجاوزة حدود الله بالاعتداء على القوم. واتقوا الله بفعل ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه. (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصى وخالف. وإظهار اسم الجلالة هنا في موضع الإضمار لإدخال الروعة والخوف وتربية المهابة في القلوب.

وهذا من جوامع الكلم الشامل لكل خير وشر ومعروف ومنكر مع رقابة الله في السر والعلن.

فقه الحياة أو الأحكام :

هاتان الآيتان تضمنت أصول الإسلام في المعاملات والعلاقات الاجتماعية ، وفيهما من الفصاحة وكثرة المعاني مع قلة الألفاظ ما لا يخفى على أحد.

والآية الأولى تضمنت خمسة أحكام :

١ ـ الأمر بالوفاء بالعقود التي يتعاقد بها الناس ، ووجوب الوفاء بالتكاليف

__________________

(١) وورد تعبير مماثل في آية أخرى هي : وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة ٥ / ٨] أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل ، فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال ، والعدل : به قامت السموات والأرض ، والعدل أقرب للتقوى.

٦٩

الإسلامية ، فيلزم دفع أثمان المبيعات ومهور النساء ونفقاتهن ، والمحافظة على الوديعة والعارية والعين المرهونة وردها إلى أصحابها سالمة ، وحفظ مال المستأمن ونفسه ، وصون حرمة المعاهد وأسرته وماله.

وقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يدل على لزوم العقد وثبوته ، ويقتضي نفي خيار المجلس ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، وأثبت الشافعي وأحمد هذا الخيار للمتعاقدين ما داما في مجلس العقد ، فلهما الإمضاء والفسخ ، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال : «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا» وفي لفظ آخر للبخاري : «إذا تبايع الرجلان ، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» وهذا صريح في إثبات خيار المجلس عقب عقد البيع ، ما دام المتعاقدان في المجلس ، وليس هذا منافيا للزوم العقد ، بل هو من مقتضياته شرعا ، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود.

أما النذر الواجب الوفاء به فهو نذر الطاعات كالحج والصيام والاعتكاف والقيام ونحوها ، وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع الأمة.

٢ ـ تحليل بهيمة الأنعام بالأكل من طريق الذبح الشرعي.

٣ ـ استثناء المحرمات الآتية بعد في الآية (٣) ونحوها ، وكذا الثابت في السنة مثل نهيه عليه الصلاة والسلام عن «كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير» رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي عن ابن عباس.

٤ ـ استثناء حالة الإحرام فيما يصاد. ومثله صيد الحرمين.

٥ ـ إباحة الصيد لمن ليس بمحرم في غير الحرمين.

ثم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب ، فالله يحكم على وفق مشيئته وحسبما يرى من الحكمة

٧٠

والمصلحة : (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) يشرّع ما يشاء كما يشاء.

ودلت الآية الثانية على تحريم التعرض لمناسك الحج ، وتجاوز حدود الله فيما شرع ، فلا يجوز التعدي على معالم دينه.

وتلك المعالم هي شعائر الله أي البدن التي تهدى للحرم ، وإشعارها : أن يجزّ شيء من سنامها حتى يسيل منه الدم ، فيعلم أنها هدي. وقال عطاء : شعائر الله : جميع ما أمر الله به ونهى عنه. وقال الحسن البصري : دين الله كله ، كقوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج ٢٢ / ٣٢] أي دين الله.

وقد أجاز الجمهور الإشعار ، ويكون ـ في رأي الشافعي وأحمد وأبي ثور ـ في الجانب الأيمن لما ثبت عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن. وقال مالك : يكون في الجانب الأيسر. وقال مجاهد : من أي الجانبين شاء.

ومنعه أبو حنيفة ، وقال : إنه تعذيب للحيوان أي أنه مكروه كما صرح الحنفية ، والحديث يؤوّل بأن الإشعار يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك. وقال الصاحبان : ليس بمكروه ولا سنة ، بل هو مباح.

ومن المعالم : حرمة الشهر الحرام وهي أربعة : واحد فرد وثلاثة سرد ، وهي «ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب» فلا تستحل للقتال ولا للغارة ولا تبدّل ، فإن استبدالها استحلال ، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء. ثم نسخ تحريم القتال فيها بقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) والمراد بها الأشهر التي حرم الله قتالهم فيها وضربها أجلا لهم يسيحون فيها في الأرض ، ويفكرون في أمر الإسلام ، وليس المراد بها أشهر الحج أو الأشهر الحرم بالمعنى السابق.

٧١

ومن المعالم : الهدي والقلائد ، فلا تحلوا النعم التي يتقرب بها إلى الله تعالى لتذبح في الحرم. وإحلالها : هو التعرض لها وسلبها أو الانتفاع بها في غير ما سيقت له من التقرب إليه تعالى. والهدي : ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة. وهو في رأي الجمهور عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات. وأخذ العلماء من ذلك عدم جواز الأكل من الهدايا التي تقدم للذبح في الحرم ، إلا هدي التطوع والقران والتمتع ، فإنه يجوز الأكل منها لصاحبها وللأغنياء ؛ لأنه دم نسك يقدم شكرا لله تعالى على ما أنعم به من التوفيق للعبادة ، فيجوز الأكل منه ، ولأنه قد صح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكل من هدي القران والتمتع ، وحسا من المرقة ، فيبقى غيرها على عدم الجواز ؛ لأنها دم مخالفات وعقوبات وكفارات ، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها.

والقلائد : المراد بها الهدايا التي تقلد ، وهي التي كانت للتطوع أو النذر أو القران أو التمتع. أما الهدايا التي تجب بسبب الجنايات فلا تقلد. وهي على حذف مضاف ، أي لا تحلوا ذوات القلائد : وهي كل ما علّق على أسنمة الهدايا وأعناقها ، علامة أنها لله سبحانه.

والتقليد أي وضع القلادة سنة إبراهيمية أقرها الإسلام ، وهي عند الشافعي وأحمد سنة في البقر والغنم ، قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : أهدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة إلى البيت غنما فقلّدها (١). وأنكره مالك والحنفية ، وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم ، أو بلغ لكنهم ردوه لتفرد الأسود به عن عائشة.

واتفقوا فيمن قلّد بدنة على نية الإحرام ، وساقها : أنه يصير محرما ، قال الله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) إلى أن قال : (فَاصْطادُوا) ولم يذكر الإحرام ، لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام.

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم.

٧٢

فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه ، لم يكن محرما ، وهو مذهب الجمهور ؛ لحديث البخاري عن عائشة قالت : «أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيديّ : ثم قلدها بيديه ، ثم بعث بها مع أبي ، فلم يحرم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء أحلّه الله له حتى نحر الهدي».

وقال الحنفية : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي ، وهو ـ فيما رواه البخاري ـ رأي ابن عباس.

ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلّد أو أشعر ؛ لأنه قد وجب. وإن مات موجبه لم يورث عنه ويذبح في الحرم ، بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول ؛ فإن أوجبها بالقول قبل الذبح ، فقال :«جعلت هذه الشاة أضحية» تعينت. وعليه إن تلفت ثم وجدها أن يذبحها. وقال الشافعي : لا بدل عليه إذا ضلّت أو سرقت ، إنما الإبدال في الواجب.

ولا تحلوا قوما قاصدين إلى البيت الحرام ، أي لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة. وهذا كله منسوخ بآية السيف : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ٩ / ٥] وقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة ٩ / ٢٨] فلا يمكّن المشرك من الحج ، ولا يؤمّن في الأشهر الحرم ، وإن أهدى وقلّد وحج.

ودل قوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) على جواز ابتغاء الفضل أي الأرباح في التجارة.

ودل قوله عزوجل : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) على إباحة صيد غير الحرم بعد الانتهاء من أعمال الحج ، فهو أمر إباحة بإجماع الناس ، لرفع ما كان محظورا بالإحرام. وقال المالكية : الأمر على أصله من الوجوب ، وإنما فهمت الإباحة

٧٣

من النظر إلى المعنى ، والإجماع ، لا من صيغة الأمر. وخص الصيد بالذكر ؛ لأنهم كانوا يرغبون فيه كثيرا كبيرهم وصغيرهم.

وأرشد قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) إلى حرمة الاعتداء بالباطل ؛ لأن المعنى : لا يحملنكم بغض قوم أن تتعدوا الحق إلى الباطل ، والعدل إلى الظلم ، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك». ودل قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ...) على وجوب التعاون بين الناس على البر والتقوى ، والانتهاء عما نهى الله عنه ، وحرمة التعاون على المعاصي والذنوب ، ويؤكده حديث «الدال على الخير كفاعله» رواه الطبراني عن سهل بن سعد وعن ابن مسعود ، وهو صحيح.

المطعومات المحرمات وإكمال الدين والضرورة

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

الإعراب :

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا ..) أن المصدرية مع صلتها : في موضع رفع بالعطف على قوله تعالى : (الْمَيْتَةُ) وتقديره : حرم عليكم الميتة والاستقسام بالأزلام : وهو قسمهم الجزور في الجاهلية عشرة أقسام.

٧٤

(فَمَنِ اضْطُرَّ) في موضع رفع بالابتداء ، وهي شرطية ، والجواب : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ ..) وهو خبر المبتدأ ، ومعه ضمير محذوف ، وتقديره : فإن الله غفور رحيم.

المفردات اللغوية :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي أكلها (وَالدَّمُ) أي المسفوح (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) بأن ذبح على اسم غيره (وَالْمُنْخَنِقَةُ) الميتة خنقا (وَالْمَوْقُوذَةُ) المقتولة ضربا (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الساقطة من علو إلى أسفل فماتت (وَالنَّطِيحَةُ) المقتولة بنطح أخرى لها (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) أي على اسم النصب وهي الأصنام (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا) تطلبوا القسم والحكم بالأزلام ، جمع زلم (بفتح الزاي وضمها مع فتح اللام) : قدح (بكسر القاف) صغير لا ريش فيه ولا نصل ، وكانت سبعة عند سادن الكعبة ، عليها أعلام ، وكانوا يحكمونها ، فإن أمرتهم ائتمروا وإن نهتهم انتهوا (ذلِكُمْ فِسْقٌ) خروج عن الطاعة.

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أن ترتدوا عنه بعد طمعهم في ذلك لما رأوا من قوته (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أحكامه وفرائضه ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بإكماله ، وقيل : بدخول مكة آمنين (وَرَضِيتُ) اخترت (فِي مَخْمَصَةٍ) مجاعة فاضطر إلى أكل شيء مما حرم عليه ، فأكله (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) مائل (لِإِثْمٍ) معصية (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) له ما أكل (رَحِيمٌ) به في إباحته له ، بخلاف المائل لإثم ، أي الملتبس كقاطع الطريق والباغي مثلا فلا يحل له الأكل.

سبب النزول

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أخرج ابن منده في كتاب الصحابة من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده : حبان قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة ، فأنزل تحريم الميتة ، فأكفأت القدر.

التفسير والبيان :

يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات ، التي أشير إلى شيء منها بقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [الحج ٢٢ / ٣٠]. والمحرم إجمالا أربعة

٧٥

أنواع ذكرت في سورتي البقرة والنحل : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [النحل ١٦ / ١١٥] ، وهي عشرة أنواع ذكرت تفصيلا هنا :

١ ـ الميتة :

وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير فعل فاعل ، من ذكاة أو اصطياد ، ويراد بها شرعا : ما مات دون تذكية (ذبح شرعي). وقد حرمت لخبثها ولما فيها من الضرر ببقاء بعض المواد الضارة في جسمها إما بسبب المرض أو بسبب احتباس الدم فيها ، فإن ذكيت ذهب الدم الضار منها ، على أن الطباع السليمة تعافها وتنفر منها وتأنف من أكلها ، فهي ضارة للدين وللبدن ، لذا حرمها الله عزوجل.

فيحرم أكلها اتفاقا ، وأما شعرها وعظمها فقال الحنفية : طاهران يجوز استعمالهما ، وقال الشافعي : نجسان لا يجوز استعمالهما.

ويستثني من الميتة نوعان : السمك والجراد ، لما رواه أحمد والدارقطني والبيهقي وابن ماجه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ابن عمر : «أحلت لنا ميتتان ودمان ، فالميتتان : السمك والجراد ، والدمان : الكبد والطحال»ولما رواه مالك في موطئه والشافعي وأحمد في مسنديهما ، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ماء البحر فقال : «هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته».

٢ ـ الدم :

أي الدم المسفوح ، أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان لا المتجمد كالكبد والطحال وما يبقى في اللحم بعد الذبح عادة ، بدليل قوله تعالى في آية

٧٦

أخرى : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [الأنعام ٦ / ١٤٥]. وسئل ابن عباس عن الطحال فقال : كلوه ، فقالوا : إنه دم ، فقال : «إنما حرم عليكم الدم المسفوح» أي السائل من الحيوان عند التذكية ، قليلا كان أو كثيرا.

وسبب تحريم الدم المسفوح : أنه مباءة الجراثيم والسموم ، وأنه مستقذر طبعا ، ويعسر هضمه ، ومن فضلات الجسم الضارة كالبراز ، وأن فصائل الدم مختلفة ، ولا تناسب فصيلة غيرها ، فهو قذر يضر الأجسام. ولا عبرة بما كان العرب في الجاهلية يفعلونه من أكل الدم المختلط بالشعر وهو المسمى بالعلهز ، وحشو الأمعاء بالدم ثم شيّه وأكله.

٣ ـ لحم الخنزير :

وهو يشمل جميع أجزائه حتى الشحم والجلد ، وإنما خص اللحم بالذكر ؛ لأنه المقصود الأهم ، وقد نفر الشرع من الانتفاع بجميع أجزاء الخنزير في قوله تعالى : (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [الأنعام ٦ / ١٤٥] وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه مسلم في صحيحة عن بريدة بن الخصيب الأسلمي ـ : «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه» فإنه تنفير من مجرد اللمس ، فيكون التهديد على أكله والتغذي به أشد. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنها تطلي بها السفن ، وتدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس؟ فقال : «لا ، هو حرام».

وقد أجاز قوم استعمال شعر الخنزير في الخرز للضرورة ، والضرورة تقدر بقدرها ، ولا حاجة اليوم إليه لتقدم الصناعة.

وسبب تحريم لحم الخنزير : ما فيه من الضرر والقذر لملازمته القاذورات ، واحتوائه غالبا على الديدان كالدودة الوحيدة والشعرة الحلزونية ، ولعسر هضمه

٧٧

لكثرة شحم أليافه العضلية ومواده الدهنية ، كما أن له طباعا سيئة مثل فقدان الغيرة على أنثاه ، والطباع تنتقل مع اللحم والأكل. وإذا كانت الحظائر الحديثة ترعى صحيا تربية الخنازير ، ويشرف الأطباء على فحص اللحم ، فإن هذا لا يتيسر لكل الناس ، كما أن الأضرار المعنوية لا يمكن تجنبها ، وعلى كل حال يلتزم المسلم بالتحريم مطلقا ، سواء توافرت علة المنع في الوقت الحاضر أو لا ؛ لأن المعوّل عليه شرعا رعاية مصالح الناس قاطبة لا أفراد معينين.

٤ ـ ما أهلّ به لغير الله :

أي ما ذبح وذكر عليه اسم غير الله ، ومعنى أهل : رفع الصوت لغير الله عند ذبحه ، سواء اقتصر على ذكر غير الله ، كالقول عند الذبح : باسم المسيح أو باسم فلان ، أو جمع بين ذكر الله وذكر غيره بالعطف ، كالقول : باسم الله واسم فلان ، فإن ذكر كلام بغير العطف مثل باسم الله ، المسيح نبي الله ، أو باسم الله ، محمد رسول الله ، فقال الحنفية : تحل الذبيحة ، ويعتبر ذكر غير الله كلاما مبتدءا ، ولكن يكره الوصل صورة.

وسبب التحريم : تعظيم غير الله ، ومشاركة الكفار في عبادة غير الله ، والتقرب لآلهتهم بالذبائح ، وقد كان أهل الجاهلية يرفعون أصواتهم عند الذبح أمام الأصنام قائلين : باسم اللات والعزى ، أو باسم هبل.

لذا حرم الإسلام ذلك ؛ لأن الله تعالى أوجب أن تذبح الحيوانات على اسمه العظيم ، فمتى عدل بها عن المقرر شرعا ، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية عمدا أو نسيانا كما سيأتي في سورة الأنعام.

٧٨

٥ ـ المنخنقة :

وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما صدفة بأن انخنقت بوثاقها أو بشبكة أو بغيرها. فهي ميتة لم تذك ذكاة شرعية ، وضررها ضرر الميتة ، وخصها القرآن بالذكر بالرغم من دخولها تحت تعبير : الميتة ، لئلا يظن أنها ماتت بسبب أو بفعل فاعل يشبه التذكية ، ولم تمت حتف أنفها ، والمهم هو التذكية الشرعية ولم تحدث.

٦ ـ الموقوذة :

هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد كالخشب أو الحجر أو الحصاة حتى تموت بلا ذكاة شرعية سواء رميت باليد أو بالمقلاع ونحوهما ، فهي ميتة ، وكانوا يأكلونها في الجاهلية.

والوقذ حرام في الإسلام ؛ لأنه تعذيب للحيوان وليس معه ذكاة ، روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي يعلى : شداد بن أوس رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته».

أما المقتول بالمحدد كالنار والرصاص المستعمل الآن في البنادق فيؤكل شرعا ، لما رواه أحمد والشيخان أن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب قال : «إذا رميت بالمعراض (١) فخزق (٢) فكله ، وإن أصاب بعرضه ـ أي بغير طرفه المحدد ـ فإنما هو وقيذ فلا تأكله» ففرق بين ما أصابه بالسهم ، أو بالمزراق (الرمح) ونحوه بحده ، فأحله ، وما أصاب بعرضه (بغير طرفه المحدد) فجعله وقيذا ، لم يحله ، وهذا مجمع عليه بين الفقهاء.

واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه على قولين هما

__________________

(١) المعراض : سهم يرمى به بلا ريش ، وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حدّه.

(٢) خزق السهم : نفذ في الرمية ، والمعنى : نفذ وأسال الدم ؛ لأنه ربما قتل بعرضه ولا يجوز.

٧٩

قولان للشافعي رحمه‌الله : «أحدهما» ـ لا يحل كما في السهم ؛ لأن كلا منهما ميت بغير جرح ، فهو وقيذ «والثاني» ـ أنه يحل ؛ لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ، ولم يستفصل ، فدل على إباحة ما ذكر.

٧ ـ المتردية :

هي التي تقع من شاهق أو مكان عال كجبل أو سطح ، أو تهوي في بئر ، فتموت بذلك ، فلا تحل كالميتة لا يحل أكلها بدون تذكية ، فإن عقرت في البئر في أي مكان حلت للضرورة.

٨ ـ النطيحة :

أي المنطوحة ، وهي التي نطحتها غيرها فماتت ، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم. وحكمها كالميتة حرام لا تؤكل شرعا.

٩ ـ ما أكل السبع :

وهي التي تقتل بسبب اعتداء حيوان مفترس كالأسد والذئب والنمر والفهد ونحوها ، فتموت بسبب أكله بعضها أو جرحه لها ، فلا يحل أكلها بالإجماع وإن كان قد سال منها الدم ولو من مذبحها ، وكان بعض عرب الجاهلية يأكلون ما بقي من السباع ، ولكن الطباع السليمة تأنف ذلك. ويلاحظ أن في الكلام إضمارا ، أي وما أكل منه السبع ؛ لأن ما أكله السبع قد فني.

ثم استثنى تعالى المذبوح شرعا من جميع ما تقدم من المحرمات غير الميتة والدم والخنزير أي ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته ، فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة ، فقال : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي إلا ما أدركتموه حيا فذكيتموه على النحو الشرعي ، وذلك يعود على قوله تعالى : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) وكذا ما أهل لغير الله به ، فما أدرك حيا منها فذبح

٨٠