التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استيقظ وحضرت الصبح ، فالتمس الماء ، فلم يوجد ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). وكان ذلك في غزوة المريسيع.

فقال أسيد بن حضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر.

وروى الطبراني عن عائشة قالت : لما كان من أمر عقدي ما كان ، وقال أهل الإفك ما قالوا ، أخرجت مع رسول الله في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه ، فقال لي أبو بكر : بنيّة في كل سفر تكونين عناء وبلاء على الناس ، فأنزل الله الرخصة في التيمم ، فقال أبو بكر : إنك لمباركة.

ذكر السيوطي بعد هذا تنبيهين هما بإيجاز :

الأول ـ هل المراد بآية التيمم آية المائدة هذه (٦) أو آية النساء ونصهما واحد : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ، فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ، فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [الآية ٤٣]؟ الذي مال البخاري إليه : أنها آية المائدة ، قال السيوطي : وهو الصواب للتصريح بها في الطريق المذكور في رواية البخاري عن عائشة. علما بأن الواحدي أورد هذا الحديث في أسباب النزول عند ذكر آية النساء أيضا.

الثاني ـ دل حديث البخاري على أن الوضوء كان واجبا عليهم قبل نزول هذه الآية ، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء ، والثابت في السيرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصلّ منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء. قال ابن عبد البر : والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ، ليكون فرضه متلوا بالتنزيل. وقال غيره : يحتمل أن يكون أول الآية نزل مقدما مع فرض الوضوء ، ثم نزلت بقيتها ، وهو ذكر التيمم في هذه القصة. قال السيوطي : الأول أصوب فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة ، والآية مدنية.

١٠١

المناسبة :

هناك عهدان بين العبد وربه : عهد الربوبية ، وعهد الطاعة ، وبعد أن وفي تعالى للعبد بالعهد الأول ، فبين له الحلال والحرام في الطعام والزواج ، طلب من العباد الوفاء بالعهد الثاني ، وهو عهد الطاعة ، وأعظم الطاعة بعد الإيمان الصلاة ، والصلاة لا تصح إلا بالطهارة ، فذكر فرائض الوضوء ، ثم ذكّرنا بوجوب الوفاء بالعهد والميثاق وهو السمع والطاعة لله ولرسوله. روى أبو داود الطيالسي وأحمد والبيهقي عن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفتاح الجنة الصلاة ، ومفتاح الصلاة الطهور».

وبعبارة أخرى : للإنسان شهوات فطرية تنحصر في المطعومات والمناكحات ، له الحق في التمتع بها بنظام ، وعليه واجبات يلزمه أداؤها. وبعد أن بيّن تعالى للإنسان ما أحله له وما حرمه عليه من المطاعم والمناكح ، شرع في بيان ما يجب عليه أداؤه لله تعالى ، شكرا له على ما أنعم به عليه ، فمضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع ، وفيما ذكر من إتمام النعمة ومنها رخصة التيمم.

التفسير والبيان :

يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون ـ وهذا القيد ثبت في السنة النبوية ـ فعليكم بالوضوء ، إذ لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، فإذا كان مريد الصلاة محدثا وجب عليه الوضوء ، وإذا كان متوضئا فهو مندوب ، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه رزين : «الوضوء على الوضوء نور على نور». روى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا : «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري قال : سمعت أنس بن مالك يقول : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قال : قلت : فأنتم كيف تصنعون؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء

١٠٢

واحد ما لم نحدث» وفي مسند أحمد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتوضأ لكل صلاة غالبا ، فلما كان يوم الفتح ـ فتح مكة ـ توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد ، أمام الناس ، لبيان جواز ذلك.

وفرائض الوضوء في الآية أربعة هي غسل الوجه ، واليدين إلى المرفقين ، والمسح بالرأس ، وغسل الرجلين إلى الكعبين. والغسل : إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من الوسخ ونحوه. والمسح : إصابة الشيء الممسوح بالبلل.

الفرض الأول ـ غسل الوجه :

وهو من أعلى منابت شعر الرأس إلى أسفل الذقن ، وما بين الأذنين عرضا. ومن له لحية خفيفة يجب عليه غسل ظاهر الشعر والبشرة التي تحته ، وصاحب اللحية الكثة يخللها ، ولا يجب إيصال الماء إلى العين. أما المضمضة والاستنشاق فثبت حكمهما بالسنة.

والفرض الثاني ـ غسل اليدين إلى المرفقين :

واليد في الوضوء : من رؤوس الأصابع إلى المرفق : وهو أعلى الذراع وأسفل العضد.

وإلى في قوله تعالى (إِلَى الْمَرافِقِ) و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) تدل على أن ما بعدها غاية لما قبلها فقط. وأما دخول الغاية في الحكم أو خروجها عنه فيعرف بالدليل الخارجي ، ففي قوله تعالى : (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) [الإسراء ١٧ / ١] ما بعد إلى داخل في حكم ما قبلها ، لأنه لا يتحقق معنى الإسراء إلا بدخول الأقصى والتعبد فيه ، كبدء الإسراء من المسجد الحرام.

وفي قوله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة ٢ / ٢٨٠] وقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة ٢ / ١٨٧] ما بعد (إِلَى) غير داخل في حكم ما قبلها ،

١٠٣

لأن الإعسار في الآية الأولى علة الإنظار (التأخير) وبالميسرة تزول العلة ، فيطالب بالدين ، ولا داعي للإنظار معها ، ولأنه في الآية الثانية لو دخل الليل في حكم الصيام للزم الوصال ، وهو غير مشروع في حقنا.

وقوله تعالى : (إِلَى الْمَرافِقِ) و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فقال الجمهور بوجوب غسل المرافق والكعبين ، احتياطا في العبادات ، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

والفرض الثالث ـ المسح بالرأس :

وفي مقدار المسح خلاف ، فقال الشافعي : يكفي أقل ما يطلق عليه اسم المسح ، ولو شعرة في حد الرأس. وقال مالك وأحمد : يجب مسح كل الرأس أخذا بالاحتياط. وقال أبو حنيفة : الواجب مسح ربع الرأس ، لأن المسح إنما يكون باليد ، ومحلها يقدر في الغالب بالربع ، ولأنرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ ومسح على ناصيته. لكن ثبت في السنة ما يؤيد أيضا مذاهب الأئمة الآخرين. والأظهر أن الباء للإلصاق ، وقيل للتبعيض ، والحق أن هذا مجمل يرجع في بيانه إلى السنة.

وقد قال المالكية والحنابلة : الباء هنا زائدة ، لأن التركيب يدل على وجوب مسح كل الرأس ، فيمسح الكل احتياطا. وقال الحنفية والشافعية : الباء هنا للتبعيض ، كما في قولنا : مسحت يدي بالحائط أي مسحت اليد ببعض الحائط ، فيحمل قوله : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) على بعض الرأس عملا بدلالة حرف الباء ، لكن الحنفية قدروا البعض بثلاث أصابع أو بربع الرأس. والشافعية قدروه بأقل ما يطلق عليه اسم المسح.

والجمهور على أن المسحة الواحدة تجزئ. وقال الشافعي : يمسح رأسه ثلاثا ، والأحاديث تدل على تكرار أفعال الوضوء ثلاثا ، أما المسح فلم يذكروا فيه

١٠٤

عددا. والمسح عند الجمهور يبدأ بمقدم الرأس ثم يذهب بيديه إلى مؤخره ، ثم يردهما إلى مقدمه.

والفرض الرابع ـ غسل الرجلين إلى الكعبين :

والكعبان : هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم من الجانبين ، أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين. فالواجب غسل الرجلين بدليل فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته والتابعين ، وعليه انعقد إجماع الأمة.

ثبت في الصحيحين من طريق مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم ، وهو جد عمرو بن يحيى ، وكان من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد : نعم ، فدعا بوضوء ، فأفرغ على يديه مرتين مرتين ، ثم مضمض واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ، ثم مسح رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ، ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، ثم غسل رجليه».

وروي عن علي ومعاوية والمقداد بن معد يكرب في صفة وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله. وروى مسلم من حديث أبي هريرة : أنه توضأ فغسل وجهه ، فأسبغ الوضوء ، ثم غسل يده اليمنى ، حتى أشرع في العضد ، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ.

وروى مسلم عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه ، فقال : «ويل للأعقاب من النار».

١٠٥

وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : تخلّف عنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفرة فأدركنا ، وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا ، قال : فنادى بأعلى صوته : «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا.

وصح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ مرة مرة ، ومرتين مرتين ، وجرى العمل على التثليث.

هذا كله على قراءة النصب : (وَأَرْجُلَكُمْ). وأما قراءة الجر :(وَأَرْجُلَكُمْ) فمحمولة على الجوار ، كما في قوله تعالى في سورة هود : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [هود ١١ / ٢٦] بجر ميم (أَلِيمٍ) لمجاورة (يَوْمٍ) المجرور إذ كان حقه أن يقال: «أليما». وفائدة الجر للجوار هنا في قوله : (وَأَرْجُلَكُمْ) : التنبيه على أنه ينبغي الاقتصاد في صب الماء على الأرجل ، وخص الأرجل بذلك ؛ لأنها مظنة الإسراف لما يعلق بها من الأدران.

ويجوز المسح على الخفين بدلا عن غسل الرجلين بعد لبسهما على طهارة بدءا من الحديث الطارئ ، للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ، وقد ثبتت مشروعيته بالسنة المتواترة ، قال الحسن البصري : حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمسح على الخفين. وقال الحافظ ابن حجر : قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر ، وأقوى الأحاديث حجة فيه حديث جرير ، فقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي : أنه ـ أي جرير ـ بال ثم توضأ ومسح على خفيه ، فقيل له : تفعل هكذا؟ قال : نعم ، رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه.

وأضاف الجمهور غير الحنفية لفرائض الوضوء فرض النية ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشيخين عن عمر : «إنما الأعمال بالنيات». وأضاف الشافعية والحنابلة وجوب الترتيب ؛ لأنه يبدأ بغسل الوجه عند القيام إلى الصلاة ؛ لأنه مأمور به

١٠٦

بفاء التعقيب المقتضية للترتيب ، ويرتب ما بعده بحسب الآية وإن كانت الواو لا تقتضي الترتيب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الدارقطني عن جابر : «ابدؤوا بما بدأ الله به». وتوسط مسح الرأس بين غسل اليدين والرجلين يدل على الترتيب.

وأضاف المالكية والحنابلة وجوب الموالاة ؛ لمواظبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الولاء في أفعال الوضوء ، فإنه لم يتوضأ إلا متواليا ، وأمر تارك الموالاة بإعادة الوضوء.

وأوجب المالكية أيضا الدلك بباطن الكف ، لا بظاهر اليد ؛ لأن الغسل المأمور به في آية الوضوء (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) لا يتحقق معناه إلا بالدلك ، فإن مجرد إصابة الماء للعضو لا يعتبر غسلا ، إلا إذا صاحبه الإمرار بشيء آخر على الجسم ، وهو معنى الدلك.

وأوجب الحنابلة المضمضة والاستنشاق ؛ لما روى أبو داود وغيره : «إذا توضأت فمضمض» وروى الترمذي من حديث سلمة بن قيس : «إذا توضأت فانتثر» وروى الشيخان عن أبي هريرة : «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ، ثم لينتثر».

وأوجب الحنابلة كذلك التسمية في بدء الوضوء ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة : «لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه».

وللوضوء سنن كثيرة معروفة في كتب الحديث والفقه.

وينتقض الوضوء بأسباب منها : خروج شيء من أحد السبيلين ، والنوم على هيئة لا تتمكن مقعدته من الأرض ، ولمس بشرة الرجل المرأة وبالعكس لدى الشافعية ، وفي حال الشهوة فقط لدى المالكية والحنابلة ، ولا ينقض التلامس عند الحنفية ، ومسّ فرج الآدمي بباطن الكف في رأي الجمهور غير الحنفية ؛ لحديث رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) : «من مس ذكره ، فلا يصلي حتى يتوضأ». أما الحنفية فاستدلوا بحديث آخر رواه الخمسة أيضا والدارقطني

١٠٧

مرفوعا : «الرجل يمس ذكره ، أعليه وضوء؟» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما هو بضعة منك ، أو مضغة منك».

فرضية الغسل : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) : أي فاغسلوا بالماء أبدانكم جميعا ؛ لأن الأمر بالتطهير لما لم يتعلق بعضو مخصوص ، كان أمرا بتحصيل الطهارة في كل البدن. وإنما حملت الطهارة على التطهر بالماء ؛ لأن الماء هو الأصل فيها ، كما يدل قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال ٨ / ١١].

والجنب : لفظ يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. والجنابة : معنى شرعي يستلزم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يغتسل الجنب. وسبب الجنابة اثنان :

الأول ـ نزول المني : لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم : «إنما الماء من الماء» أي إنما يجب استعمال الماء للغسل من أجل الماء الحادث باحتلام أو جماع أي المني.

الثاني ـ التقاء الختانين : لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجه عن عائشة وابن عمرو : «إذا التقى الختانان وجب الغسل».

ويجب الاغتسال أيضا بعد انقطاع دم الحيض والنفاس ؛ لقوله تعالى في الحيض : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة ٢ / ٢٢٢] وللإجماع على أن النفاس كالحيض.

وحكمة الوضوء والغسل : النظافة وبعث النشاط ليقف العبد بين يدي ربه حاضر القلب صافي الروح ، والغسل من الجنابة لإزالة ما يعتري الجسم من استرخاء وفتور.

وبعد أن بيّن الله تعالى وجوب استعمال الماء في الوضوء والغسل عند إرادة

١٠٨

الصلاة ، والوضوء مرة أو أكثر في اليوم ، والغسل مرة أو أكثر في الأسبوع ، بيّن أن وجوب استعمال الماء مقيد بأمرين : الأول ـ وجود الماء ، والثاني ـ القدرة على استعماله من غير ضرر. فإن كان مريد الصلاة مريضا أو مسافرا لم يجد الماء ، فرخص الشرع له في التيمم من الحدث الأصغر والأكبر. وهذا ما أوضحته الآية : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ...).

أي إن كنتم مرضى بمرض يشق معه استعمال الماء أو يضر كالحمّى ونحوها ، والمرض الجلدي كالجدريّ والجرب ونحوهما من القروح والجروح ، أو كنتم في سفر طويل أو قصير ، ولم تجدوا ماء ، فتيمموا ، والمراد بالسفر : السير خارج العمران ، وهو غير سفر القصر. وعبر بالسفر عن عدم الماء ؛ لأن السفر يغلب فيه عدم وجود الماء. وكذا إن أحدثتم الحدث الأصغر المعبر عنه بالمجيء إلى الغائط ، والغائط في الأصل : المكان المنخفض من الأرض ، وهو كناية عن قضاء الحاجة من بول وغائط. وكل ما يخرج من السبيلين ملحق بقضاء الحاجة. وأو هذه بمعنى الواو.

وكذلك إن حدثت ملامسة أي مباشرة مشتركة بين الرجال والنساء ، وهذا هو الحدث الأكبر ، أي الجماع ، كما تأول الآية علي وابن عباس وغيرهما ، وكانوا لا يوجبون الوضوء على من مسّ امرأة باليد.

وتأول عمر وابن مسعود الآية بالمس باليد ، وكانا يوجبان الوضوء على من مس امرأة باليد ، والراجح هو القول الأول.

والخلاصة : إذا كنتم على حال من الأحوال الأربعة المتقدمة (المرض والسفر والحدث الأصغر والأكبر) ولم تجدوا ماء ، أي فقدتم الماء ، أو كنتم محتاجين له ، فاقصدوا (تيمموا) ترابا أو مكانا من وجه الأرض طاهرا لا نجاسة فيه ، فاضربوا بأيديكم عليه وامسحوا وجوهكم وأيديكم ، ومسح اليد يكون إلى المرفق في رأي

١٠٩

الحنفية والشافعية ، كما في الوضوء ، والتيمم بدل عن الوضوء ، ولما روى الدارقطني عن ابن عمر ، وهو موقوف أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين». ولا بد من استيعاب الوجه واليدين بالتيمم لفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأن التيمم يدل عن الوضوء ، والاستيعاب في الأصل واجب ، فيكون البدل كذلك ، ما لم يقم دليل على خلافه.

وفقد الماء المانع من التيمم يتصور في رأي المالكية : بعدم وجود الماء وجودا حكميا ، بمعنى أن الشخص لا يتمكن شرعا من استعماله من غير ضرر. ويتصور في رأي الحنفية بعدم الوجود الحسي ، بمعنى أنه لا يتمكن تمكنا حسيا من استعماله من غير ضرر.

وينبني على هذا الخلاف : أن من وجد الماء وهو في الصلاة يكملها ولا يقطعها عند المالكية ؛ لأنه لا يتمكن شرعا من استعماله من غير إبطال الصلاة ، وهو لا يجوز له إبطالها ، وأما عند الحنفية فيبطل تيممه فتبطل الصلاة ، ويجب استعمال الماء.

والمراد : لم تجدوا ماء كافيا للوضوء أو الغسل ، فلو وجد الشخص ماء كافيا لبعض الوضوء أو الغسل ، يتيمم عند الحنفية والمالكية ، ولا يستعمل الماء في شيء من أعضائه ، وعند الشافعية والحنابلة : يستعمل الماء في بعض الأعضاء ، ثم يتيمم ؛ لأنه لا يعد فاقدا للماء مع وجود هذا القدر.

والمراد بالصعيد : هو التراب ، على القول الظاهر المختار.

واختلف الفقهاء في لزوم إيصال التراب إلى الوجه واليدين وعدمه ، فقال الحنفية والمالكية : لا يلزم ، وقال الشافعية : يلزم. وسبب الاختلاف الاشتراك في معنى الباء ، فإنها ترد للتبعيض ، وترد للابتداء وتمييز الجنس ، فرجح الشافعية

١١٠

حملها على التبعيض قياسا للتيمم على الوضوء ، ويجب في الوضوء استعمال بعض الماء ، فيجب استعمال بعض التراب في التيمم.

ورجح الحنفية والمالكية حملها على الابتداء وتمييز الجنس ؛ لأن المتيمم ينفض يديه ليتناثر التراب ، فيمسح وجهه ويديه من غير تلويث ، ولما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام تيمم على حائط بضربتين : للوجه واليدين ، والظاهر أنه لا يعلق على يديه شيء من التراب.

ثم ذكر تعالى حكمة مشروعية التيمم وهي التيسير على الناس ودفع الحرج عنهم ، فأبان أنه تعالى ما يريد ليجعل عليكم فيما شرعه من أحكام الوضوء والغسل والتيمم في هذه الآية وغيرها حرجا أي أدنى ضيق وأقل مشقة ؛ لأنه تعالى غني عنكم ، رحيم بكم ، فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم ، ولكن يريد ليطهركم من الدنس والرجس المادي بإزالة الأقذار ، والرجس المعنوي بطرد الكسل والفتور الحاصل عقب الجنابة ، وبعث النشاط ، لتكون النفس صافية مرتاحة في مناجاة ربها ، ويريد أيضا أن يتم نعمته عليكم بالجمع بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح ، وتبيان طريق العبادة الأفضل ، لتؤدوا الشكر الواجب عليكم ، ولتداوموا شكر النعم التي أنعمها الله عليكم.

ثم ذكّر تعالى بالمناسبة بالنعم الكثيرة التي أنعم بها علينا ، فاذكروا أيها المؤمنون نعمة الله بتوفيقكم للإسلام وتشريع هذا الدين العظيم ، وإرساله إليكم هذا الرسول الكريم ، وما أخذ عليكم من العهد والميثاق الذي عاهدكم به حين بايعتموه عند إسلامكم على السمع والطاعة في المنشط والمكره (المحبة والكره) والعسر واليسر ، وعلى متابعته ومؤازرته ، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه ، وتلك هي بيعة العقبة وبيعة الرضوان وغيرهما.

واذكروا أيضا ميثاقه الذي أخذه عليكم وأنتم في عالم الذر على الإيمان بالله

١١١

والرسول ، (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي سمعنا النداء للإيمان وأطعنا الداعي وقبلنا دعوته والتزمنا بالعمل بها ، كما قال تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الحديد ٥٧ / ٨].

(وَاتَّقُوا اللهَ) في كل شيء وفي كل حال ، ولا تنقضوا العهد والميثاق ؛ (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بخفيات الأمور الكامنة في الصدور المستقرة فيها استقرارا ، ويعلم أيضا جليات الأمور ، فلا يخفى على الله شيء أظهره الإنسان أو أضمره من الوفاء بالميثاق أو عدم الوفاء ، وما تنطوي عليه نفسه من الإخلاص أو الرياء.

فقه الحياة أو الأحكام :

يؤخذ من آية الوضوء والتيمم ما يأتي :

١ ـ الطهارة شرط لصحة الصلاة ؛ لأنه تعالى أوجب الطهارة بالماء عند إرادة الصلاة ، وأوجب التيمم عند فقدان الماء ، فدل على أن المأمور به أداء الصلاة مع الطهارة ، وأن أداء الصلاة بدون الطهارة لا يحقق المطلوب أو أداء المأمور به.

والأذنان من الرأس عند الجمهور غير الشافعي ، لكن يمسحان مع الرأس بماء واحد في رأي الثوري وأبي حنيفة ، ويجدد لهما الماء في رأي مالك والشافعي وأحمد.

ومذهب الجمهور على أن الفرض في الرّجلين الغسل دون المسح ، وهو الثابت من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واللازم من قوله في غير حديث.

ودلت الآية (وَأَرْجُلَكُمْ) على قراءة الجر أو الخفض على مشروعية المسح على الرّجلين إذا كان عليهما خفان. وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من

١١٢

الصحابة وغيرهم ، وقد قال الحسن البصري : حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يمسح على الخفين.

٢ ـ التيمم بدل عن الوضوء في الحدث الأصغر باتفاق. وأما كونه بدلا عن الغسل في الحدث الأكبر فهو محل خلاف بين السلف ، فقال علي وابن عباس وأكثر الفقهاء : إنه بدل عنه أيضا ، فيجوز التيمم لرفع الحدث الأكبر. وقال عمر وابن مسعود : إنه ليس بدلا عن الغسل ، فلا يجوز له التيمم لرفع الحدث الأكبر.

وإذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت ، لم يتيمم عند أكثر العلماء ، لقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) وهذا واجد ، فقد عدم شرط صحة التيمم ، فلا يتيمم.

وأجاز مالك التيمم في مثل ذلك ؛ لأن التيمم إنما جاء في الأصل لحفظ وقت الصلاة ، ولو لا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء.

٣ ـ الطهارة لا تجب إلا عند الحدث ؛ لأنها تضمنت أن التيمم بدل عن الوضوء والغسل ، وقد أوجبه الله على مريد الصلاة متى جاء من الغائط أو لامس النساء ، ولم يجد الماء.

ودلت الأحاديث على أن الريح والمذي والودي ينقض الوضوء كالبول والغائط.

٤ ـ استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة ؛ لأنه قال: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ولم يذكر الاستنجاء ، وذكر الوضوء ، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أول مبدوء به ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة ، ومالك في رواية أشهب عنه. وقال ابن وهب عن مالك : تجب إزالتها في التذكر والنسيان. وهو قول الشافعي ، والصحيح رواية ابن وهب ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين أخبر في صاحبي القبرين : أن عذاب أحدهما «لأنه لا يستبرئ من

١١٣

بوله» ولا يعذب إلا على ترك واجب. وقال أبو حنيفة : تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي (١) ـ يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال ـ قياسا على فم المخرج المعتاد الذي عفي عنه.

ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلّدين وهو أحد قولي مالك. وأجاز جماعة من الصحابة (علي وأبو مسعود والبراء وأنس وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث) المسح على الجوربين.

ويؤخذ من آية (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ما يأتي :

١ ـ وجوب تذكر نعم الله التي يتمتع بها الإنسان.

٢ ـ وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق التي يؤدي تنفيذها إلى خير الجماعة.

٣ ـ وجوب تقوى الله فيما أمر به ونهى عنه.

والمراد من الآية : هو العهد والميثاق الذي جرى للصحابة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، إذ قالوا : سمعنا وأطعنا ، كما جرى في ليلة العقبة وتحت الشجرة.

٤ ـ الإسلام دين اليسر والسماحة ؛ لأنه قائم بنص القرآن على مبدأ رفع الحرج.

__________________

(١) ذكر الدميري ضربا من النقود يقال لها البغلية.

١١٤

الشهادة بالقسط والحكم بالعدل ووعد المؤمنين

ووعيد الكافرين والتذكير بنعمة الله

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

الإعراب :

(اعْدِلُوا هُوَ ..) هو : كناية عن العدل وهو المصدر ، لدلالة (اعْدِلُوا) عليه ، كقول الشاعر : إذا نهي السفيه جرى عليه ، أي إلى السفيه ، وقوله تعالى : (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) [النور ٢٤ / ٢٨].

والتقوى : مؤنثة ، والألف فيها للتأنيث كالألف في سكرى وعطشى.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ..) وعد : يتعدى إلى مفعولين ، يجوز الاقتصار على أحدهما. وهاهنا لم يذكر إلا مفعولا واحدا وهو (الَّذِينَ) وحذف المفعول الآخر ، ثم فسّره بقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

١١٥

البلاغة :

(أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) : بسط الأيدي كناية عن البطش والفتك ، وكف الأيدي كناية عن المنع والحبس.

المفردات اللغوية :

(قَوَّامِينَ) قائمين به حق القيام (لِلَّهِ) بحقوقه (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) بالعدل (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) ولا يحملنكم ويكسبنكم (شَنَآنُ) بغض وعداوة (قَوْمٍ) أي الكفار (اعْدِلُوا) في العدو والولي (هُوَ) أي العدل (خَبِيرٌ) عالم بالأشياء علما دقيقا مضبوطا مؤيدا بالاختبار (بِما تَعْمَلُونَ) أي فيجازيكم به (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) هو الجنة (الْجَحِيمِ) النار العظيمة وهي دار العذاب (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) قريش (أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) يمدوها إليكم بالبطش والفتك بكم (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) حجبهم وعصمكم مما أرادوا بكم (وَاتَّقُوا اللهَ) تجنبوا عقابه وسخطه بترك معاصيه.

سبب النزول :

نزول الآية (٨) :

قيل : نزلت هذه الآية في يهود بني النضير حين ائتمروا على الفتك برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأوحى الله إليه بذلك ، ونجا من كيدهم ، فأرسل عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالرحيل من جوار المدينة ، فامتنعوا وتحصنوا بحصونهم ، فخرج عليه الصلاة والسلام إليهم بجمع من أصحابه ، وحاصرهم ست ليال ، اشتد الأمر فيها عليهم ، فسألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكتفي منهم بالجلاء ، وأن يكف عن دمائهم ، وأن يكون لهم ما حملت الإبل ، وكان البعض من المؤمنين يرى لو يمثل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم ، ويكثر من الفتك فيهم ، فنزلت الآية لنهيهم عن الإفراط في المعاملة بالتمثيل والتشويه ، فقبل النبي عليه الصلاة والسلام من اليهود ما اقترحوه.

وقيل : نزلت في المشركين الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام عام الحديبية ، كأنه تعالى أعاد النهي هنا ليخفف من حدة المسلمين ورغبتهم في الفتك

١١٦

بالمشركين بأي نوع من أنواع الفتك.

نزول الآية (١١) :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) : أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة ويزيد بن أبي زياد ، واللفظ له : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج ومعه أبو بكر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير يستعينهم في عقل (دية) أصابه ، فقالوا : نعم ، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا ، فجلس فقال حيي بن أخطب لأصحابه : لا ترونه أقرب منه الآن ، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه ، ولا ترون شرا أبدا ، فجاءوا إلى رحى عظيمة ، ليطرحوها عليه ، فأمسك الله عنها أيديهم ، حتى جاءه جبريل ، فأقامه من ثمة ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) الآية. وأخرج نحوه عن عبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمير بن قتادة ومجاهد وعبد الله بن كثير وأبي مالك.

وأخرج عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ببطن نخل ، في الغزوة السابعة (غزوة ذات الرقاع) ، فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسلوا إليه الأعرابي ـ يعني الذي جاءه وهو نائم ـ في بعض المنازل ، فأخذ سلاحه وقال : من يحول بيني وبينك؟ فقال له : الله ، فشام السيف (أغمده) ولم يعاقبه.

وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه : أقتل لكم محمدا ، فأقبل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو جالس وسيفه في حجره ، فقال : يا محمد ، أأنظر إلى سيفك هذا؟ قال : نعم ، فأخذه فاستله ، وجعل يهزه ويهم به ، فيكبته الله تعالى ، فقال : يا محمد ، أما تخافني؟ قال : لا ، قال : أما تخافني والسيف في

١١٧

يدي؟ قال : لا ، يمنعني الله منك ، ثم أغمد السيف ورده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله الآية. قال القشيري : وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادّكار ما سبق.

المناسبة :

لما ذكّر الله تعالى المؤمنين في الآية السابقة بما يوجب عليهم الانقياد لأوامره ونواهيه ، طالبهم هنا بالانقياد لتكاليفه المتعلقة به أو بعباده.

التفسير والبيان :

يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالحق لله عزوجل ، لا لأجل الناس والسمعة ، أي بالإخلاص لله في كل ما تعملون من أمر دينكم ودنياكم.

شهداء بالحق والعدل بلا محاباة ولا جور ، سواء للمشهود له أو عليه ، أي أدوا الشهادة بالعدل ؛ لأن العدل هو ميزان الحقوق ، إذ متى وقع الجور في أمة انتشرت المفاسد فيما بينها ، كما قال تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النساء ٤ / ١٣٥] والشهادة : الإخبار بالواقعة وإظهار الحق أمام الحاكم ليحكم به.

ولا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على ترك العدل فيهم ، بل استعملوا العدل في معاملتكم مع كل أحد ، صديقا كان أو عدوا.

وعدلكم أقرب للتقوى من تركه ، أي العدل في معاملة الأعداء أقرب إلى اتقاء المعاصي على الوجه العام. وقوله : (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء ، أي ليس للمفاضلة بين شيئين ، فهو ليس على بابه ، كما في قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٢٤].

١١٨

واتقوا الله ، أي اتخذوا وقاية من عذابه ، في جميع أعمالكم ، فإن الله خبير بما تعملون ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

ثم أوضح جزاء الفريقين : الفريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات التي يصلح بها أمر الناس في أنفسهم ومع غيرهم ، ومن أهمها العدل ، وجزاؤهم مغفرة لذنوبهم أي ستر لها ، وأجر عظيم وهو الجنة ومضاعفة الثواب على الإيمان والعمل الصالح ، فضلا من الله ورحمة.

والفريق المقابل الآخر وهو الذين كفروا بالله ورسله ، سواء كفروا بالجميع أو بالبعض ، وكذبوا بآيات الله الكونية التي أقامها الله في الأنفس والأكوان للدلالة على وحدانيته وكماله وقدرته ، وآياته المنزلة على رسله فيما يبلغون عنه ، وجزاؤهم أنهم أصحاب النار العظيمة الملازمون لها ، لفساد أنفسهم وسوء أعمالهم ، وهذا من عدل الله تعالى وحكمته وحكمه الذي لا جور فيه.

ثم ذكّر الله تعالى المؤمنين بنعمة الله عليهم ، بدفع الشر والمكروه عن نبيهم ، ورد كيد الأعداء عنهم ، على كثرتهم وقوتهم ، وضعف المسلمين وقلتهم ، بعد أن هموا وعزموا على البطش بكم ، ولكن الله أيد رسوله ونصر دينه وأتم نوره ولو كره الكافرون.

وحادثة المحاربي (من قبيلة محارب) المتقدمة مثيرة للانتباه والاهتمام ، وقد رويت بروايات كثيرة عدا ما ذكر في سبب النزول. وهناك رواية أخرى يحسن ذكرها ، روى الحاكم عن جابر قال : «قام على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : من يمنعك؟ قال : الله ، فوقع السيف من يده ، فأخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : من يمنعك؟ قال : كن خير آخذ ، قال : تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، قال : أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك ، فخلّى سبيله ، فجاء إلى

١١٩

قومه ، وقال : جئتكم من عند خير الناس». وقد حدثت حادثة الأعرابي هذا في غزوة ذات الرقاع ، واسم الرجل : غورث بن الحارث.

والتذكير بنعم الله التي لا تعد ولا تحصى يستتبع التزام التقوى ، لذا أمر تعالى بالتقوى وبالتوكل على الله ، فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي اتخذوا من تقوى الله عدة تنفعكم وتحميكم من عذاب الله ، وتوكلوا على الله حق التوكل ، فمن توكل على الله ـ بعد اتخاذ الأسباب ـ كفاه الله ما أهمه وحفظه من شر الناس وعصمه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ وجوب القيام لله تعالى بإخلاص بكل التكاليف التي كلفنا بها.

٢ ـ نفاذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى ، ونفاذ شهادته عليه ؛ لأنه تعالى أمر بقوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) بالعدل وإن أبغضه ، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له ، لما كان لأمره بالعدل فيه وجه.

٣ ـ إن كفر الكافر لا يمنع من العدل في معاملته ، وفي الآية الآمرة بالعدل والتقوى دلالة أيضا على أن يقتصر في المحاربة على المستحق للقتال ، وأن المثلة بالأعداء غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وآذونا بذلك ، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدا لإيقاع الغم والحزن بهم.

٤ ـ وجوب أداء الشهادات على وجهها من غير محاباة ولا ظلم. فهذه الآية وآية النساء المتقدمة [٤ / ١٣٥] تعالج داء خطيرا من أكبر الكبائر وهو كتمان الشهادة وشهادة الزور.

٥ ـ وجوب العدل في معاملة الناس قاطبة ، سواء كانوا أعداء أو أصدقاء ؛ لقوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ..) الآية.

١٢٠