التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

الإعراب :

(إِنَّما جَزاءُ ...) : ما : من إنما كافة. و (جَزاءُ الَّذِينَ) : مبتدأ مرفوع ، وخبره : (أَنْ يُقَتَّلُوا). (فَساداً) منصوب على المصدر في موضع الحال. و (أَوْ) في قوله : (أَوْ يُصَلَّبُوا) وما بعده للتخيير في رأي بعضهم أي أن الحكم فيه للإمام على اجتهاده ، أو للتنويع في رأي آخر.

(إِلَّا الَّذِينَ ... الَّذِينَ) : مستثنى منصوب : لأنه استثناء من موجب ، وهو (الَّذِينَ يُحارِبُونَ) وهم المعاقبون عقاب قطع الطريق خاصة.

البلاغة :

(يُحارِبُونَ اللهَ) مجاز على حذف مضاف أي يحاربون عباد الله ؛ لأن الله لا يحارب ولا يغالب.

المفردات اللغوية :

(يُحارِبُونَ) أي يحاربون المسلمين وغيرهم في دار الإسلام ، من المحاربة ، وهي مأخوذة من الحرب ضد السلم والأمن على النفس والمال. وأصل معنى كلمة الحرب : التعدي وسلب المال. (فَساداً) الفساد : ضد الصلاح ، والمراد بالفساد هنا قطع الطريق بتخويف المارّة والاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض (أَنْ يُقَتَّلُوا) التقتيل : المبالغة في القتل لإرهاب المفسدين (أَوْ يُصَلَّبُوا) التصليب : المبالغة في الصلب ، والصلب في رأي الشافعي وأحمد : يكون بعد القتل ثلاثة أيام ، بأن يربط على خشبة ونحوها منتصب القامة ممدود اليدين.

(أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) أي أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى. (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ومعناه عند المالكية : أن ينقلوا إلى بلد آخر من بلاد الإسلام إذا كانوا مسلمين ، فإن كانوا كفارا جاز نفيهم إلى بلد إسلامي أو بلد من بلاد أهل الحرب. والنفي عند الحنابلة : أن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلد. وعند الحنفية والشافعية معناه : الحبس. وحرف (أَوْ) للتنويع وترتيب الأحوال عند الجمهور ، فالقتل لمن قتل فقط ، والصلب لمن قتل وأخذ المال ، والقطع لمن أخذ المال ولم يقتل ، والنفي لمن أخاف فقط ، كما قال ابن عباس. و (أَوْ) عند المالكية للتخيير ، يتخير الإمام فيهم ما يناسب.

(خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) ذل وفضيحة (عَذابٌ عَظِيمٌ) هو عذاب النار (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) من المحاربين وقطاع الطرق (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أي من قبل التمكن من عقابهم (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم ما أتوه (رَحِيمٌ) بهم. والتعبير بالمغفرة والرحمة للدلالة على أن التوبة لا تسقط

١٦١

إلا حقوق الله وحدوده ، دون حقوق الآدميين ، كما ذكر السيوطي ، فإذا قتل قاطع الطريق أحدا ، وأخذ المال وتاب ، يقتل ويقطع ولا يصلب ، وهو أصح قولي الشافعي ، ولا تفيد توبته بعد القدرة عليه شيئا ، وهو أصح قوليه أيضا.

سبب النزول :

نزلت هذه الآية في قطّاع الطرق ، لا في المشركين ولا في المرتدين ، كما قيل بكل ؛ فإن كلا منهما إذا تاب ، قبلت توبته ، سواء أكانت التوبة قبل القدرة عليهم أم بعدها ، أما قطاع الطريق فيسقط عنهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم ولا يسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم.

روى البخاري ومسلم عن أنس : أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتكلموا بالإسلام ، فاستوخموا المدينة (١) ، فأمر لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزود من الإبل (٢) وراع ، وأمرهم أن يخرجوا إلى الصحراء ، فيشربوا من أبوالها وألبانها ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة ، كفروا بعد إسلام ، وقتلوا الراعي ـ وفي رواية : مثّلوا به ، واستاقوا الزود من الإبل ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعث في طلبهم ، فأتوا فأمر بهم ، فسملوا أعينهم (٣) ، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وتركوا حتى ماتوا ، فنزلت الآية.

وقيل : نزلت في قوم هلال بن عويمر الأسلمي ، وكان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد على أنه لا يعينه ولا يعين عليه ، وأنه إن مرّ به أحد من المسلمين ، أو مرّ عليه من يقصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتعرض له بسوء ، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم من بني هلال ، وكان هلال غائبا ، فقطعوا عليهم الطريق ، وقتلوا منهم ، وأخذوا أموالهم.

__________________

(١) وجدوها رديئة المناخ.

(٢) الزود : من ثلاثة إلى تسعة.

(٣) كحلوها بمسامير الحديد المحماة.

١٦٢

وقيل : نزلت في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ، فنقضوا العهد ، وقطعوا الطريق على المسلمين.

ولا مانع من تعدد سبب النزول ، وهي تتناول كل من اتصف بصفة المحاربة ، سواء أكان كافرا أم مسلما ، فإن كانت الآية قد نزلت في الكفار ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى خطورة جريمة القتل وأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا ، وما رتب عليه من تشريع القصاص ، ذكر هنا عقاب المحاربين الذين يفسدون في الأرض ويرتكبون القتل غالبا ، حتى لا يجرأ أحد على المحاربة.

التفسير والبيان :

هذه آية المحاربة وهي المضادة والمخالفة الشاملة لجريمة الكفر وقطع الطريق وإخافة السبيل والإفساد في الأرض ، وبما أن هذه الجريمة تمس أمن المجتمع كله وتهز كيانه وتنشر الرعب والقلق والخوف في أوساط الناس الآمنين ، شدد الله تعالى في عقوبة المحاربين : وهم الذين لهم قوة ومنعة وشوكة ، ويتعرضون للمارة من المسلمين أو أهل الذمة ، ويعتدون على الأرواح والأموال والأعراض.

وعقابهم أو جزاؤهم على سبيل الترتيب والتوزيع على حسب جناياتهم ، وتكون (أَوْ) للتنويع ، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن أخذ المال فقط قطعت يده ورجله من خلاف ، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا ، نفي من الأرض. وهذا رأي أكثر العلماء وأئمة المذاهب.

وقال المالكية : الآية تدل على التخيير بين الجزاءات ، عملا بما تقتضيه (أَوْ) فيخير الإمام بين تطبيق إحدى هذه العقوبات حسبما يرى من المصلحة ،

١٦٣

وإن لم يأخذ المحاربون مالا ولم يقتلوا نفسا ، أي أن الإمام مخير في الحكم على المحاربين ، يحكم عليهم إما بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي ، عملا بظاهر الآية.

وقصر الإمام أبو حنيفة التخيير على محارب خاص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال ، فيخير الإمام بين هذه العقوبات الأربع : إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله ، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه ، وإن شاء صلبه فقط ، وإن شاء قتله فقط ، ولا يفرد القطع في هذه الحالة ، بل لا بد من انضمام القتل أو الصلب إليه ؛ لأن الجناية قتل وأخذ مال ، وقال الصاحبان في هذه الحالة : يصلب ويقتل ولا يقطع. واتفق الإمام مع صاحبيه على أن المحاربين إذا قتلوا فقط يقتلون ، وإذا أخذوا المال فقط تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإن أخافوا الطريق فقط ينفون من الأرض.

دليل المالكية : أن كلمة (أَوْ) موضوعة للتخيير ، كما في كفارة اليمين ، وكفارة جزاء الصيد ، فيعمل بحقيقة هذا الحرف ، ما لم يقم دليل على خلافه ، ولم يوجد ، فيبقى التخيير.

ودليل الجمهور : ١ ـ أن العقل يقضي أن يكون الجزاء مناسبا للجناية ، زيادة ونقصا ، بدليل إجماع الأمة على أن قطاع الطريق إذا أخذوا المال وقتلوا ، لا يكون جزاؤهم النفي فقط.

٢ ـ أن التخيير يعمل به إذا كان سبب الوجوب واحدا كما في كفارة اليمين وكفارة جزاء الصيد ، أما إذا اختلف السبب ، فإنه لا يعمل بظاهر التخيير ، ويكون الغرض بيان الحكم لكل واحد في نفسه.

وذلك مثل قوله تعالى : (قُلْنا : يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) [الكهف ١٨ / ٨٦] والمعنى : إما أن تعذب من جحد وظلم ، وإما

١٦٤

أن تحسن إلى من آمن وعمل صالحا ، فليس المراد التخيير ؛ لأن اختلاف السبب يؤدي إلى اختلاف الحكم لكل نوع.

ودليل أبي حنيفة : أن الآية لا يمكن صرفها إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب ، فإما أن تحمل على ترتيب الأحكام ويضمر في كل حكم ما يناسبه من الجنايات ، وفيه إلغاء حرف التخيير ، وإما أن يعمل بظاهر التخيير بين الجزاءات الثلاثة ، وذلك في محارب خاص لا في مطلق المحارب ، والمحارب الخاص : هو الذي قتل وأخذ المال ، وهذا هو الأقرب والأولى ؛ لأن فيه عملا بحقيقة حرف التخيير وبما هو المعقول.

وسمي فعل المحاربين محاربة لله ورسوله للتهويل والتشنيع ، وبيان خطورة هذه الجريمة على الحق والعدل الذي أنزله الله على رسوله ، كما قال تعالى في أكلة الربا : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة ٢ / ٢٧٩] فليست محاربة الله على سبيل الحقيقة ؛ لأن الله منزه عن الكون في جهة ومكان ، والمحاربة تستلزم أن يكون كل من المتحاربين متواجهين ، وإنما هذا مجاز عن المخالفة وإغضاب الله ، أو المعنى يحاربون أولياء الله ورسوله ، فيكون نظير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب ٣٣ / ٥٧].

ويشترط في المحاربين ثلاثة شروط :

١ ـ أن يكون لهم قوة وشوكة ومنعة ، ليمتازوا عن السرّاق ، وأن يعتدوا على المارة بسلاح أو غيره من العصا والحجر والخشب ونحوها ، سواء أكانوا جماعة أم واحدا ، وسواء أخذوا المال من مسلم أم من ذمي.

٢ ـ أن يكون قطع الطريق في دار الإسلام ، وأن يكون في رأي أبي حنيفة خارج المصر بين حدود البلاد أو في الصحراء ؛ لأنه يمكن للمعتدى عليه في داخل المصر الاستغاثة بالآخرين. ولم يفرق الجمهور بين داخل المصر وخارجه ، فيمكن

١٦٥

حدوث جريمة المحاربة فيهما على حد سواء ، وقد أثبت الواقع صحة هذا الرأي ؛ لأن عصابات المجرمين يتعرضون للناس بعد منتصف الليل في الشوارع العامة ، وفي الأحياء السكنية.

٣ ـ أن يأخذوا المال مجاهرة ، فإن أخذوه خفية فهم سرّاق ، يعاقبون بحد السرقة وهو قطع اليد فقط. وإن اختطفوا شخصا وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم ، وإن استلبوا شيئا من قافلة أو اغتصبوه لا يحدون حد السرقة ولا حد الحرابة.

والسعي في الأرض بالفساد : هو إخافة الطريق بحمل السلاح وإزعاج الناس ، سواء صحبه قتل وأخذ مال أو لا.

أما عقوبات المحاربين فهي في الآية دنيوية وأخروية.

والعقوبات الدنيوية أربعة :

١ ـ التقتيل حدا من غير صلب إن قتلوا فقط ، ولا يسقط القتل بعفو الأولياء ، والتعبير بصيغة التفعيل ؛ لما في القتل هنا من الزيادة باعتبار أنه محتوم لا يسقط ، ولو عفا الأولياء. فيجب على الحاكم إنزال هذه العقوبة بالمحاربين ، ولا يملك العفو عنها أو إسقاطها ، وعلى المسلمين التعاون معه على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين.

٢ ـ القتل مع الصلب : إن قتلوا وأخذوا المال.

٣ ـ قطع اليد والرجل من خلاف أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى إن أخذوا المال ، لا غير.

٤ ـ النفي من الأرض إن أخافوا الطريق فقط ، ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا.

١٦٦

والصلب : يكون على خشبة تغرز في الأرض ، بأن يربط جميع الشخص بها ، بعد وضع قدميه على خشبة عريضة من الأسفل ، وتربط يداه على خشبة عريضة من الأعلى. ويحدث في الأصح من مذهب الحنفية والراجح لدى المالكية في حال الحياة لمدة ثلاثة أيام ، ثم يطعن بحربة ويقتل ؛ لأن الصلب عقوبة مشروعة تغليظا ، وإنما يعاقب الحي ، أما الميت فليس من أهل العقوبة ، وليس صلبه من قبيل المثلة المنهي عنها ؛ لأن المثلة قطع بعض الأعضاء.

وقال الشافعية والحنابلة : الصلب يكون بعد القتل ؛ لأن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا ، وفي صلبه حيا تعذيب له وتمثيل به ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المثلة وعن تعذيب الحيوان (أي ما له روح) فقال فيما رواه الجماعة عن شداد بن أوس : «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة» والغرض من صلبه بعد قتله هو التنكيل به ، وزجر غيره ليشتهر أمره.

وأما النفي : فمعناه عند الحنفية الحبس ؛ لأن فيه نفيا عن وجه الأرض التي يحيا فيها الناس عادة بحرية وطمأنينة. وأما التغريب ففيه إضرار ببلد آخر ، وتعريض للكفر ، وتمكين له من الهرب إلى دار الحرب.

ورأى المالكية أن النفي هو إخراجه من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر بينهما مسافة القصر (٨٩ كم) ويسجن فيه ، إلى أن تظهر توبته. فيكون رأي الجمهور بالنفي هو الحبس.

وذهب الحنابلة إلى أن النفي : أن يشردوا ، فلا يتركون يأوون إلى بلد ، عملا بما روي عن الحسن والزهري.

وأما عقوبة المحاربين الأخروية : فهي المذكورة في قوله تعالى : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ذلك العقاب المذكور هو ذل لهم وفضيحة في الدنيا ، لشناعة المحاربة وعظم ضررها ، وليكونوا عبرة لغيرهم ، ولهم

١٦٧

في الآخرة عذاب عظيم جدا بسبب ما ارتكبوا من جريمة هزت أركان المجتمع ، وأدت إلى تعطيل التجارة.

ثم استثنى الله تعالى من العقاب التائبين فقال :

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أي أن من تاب قبل أن يقع في قبضة السلطة ، أو قبل أن يتمكن الحاكم من القبض عليه ، فيسقط عنه العقاب ، إذا كانت التوبة صادقة خالصة لله عزوجل ، لا تحايلا وتهربا من العقوبة ؛ لأن الهدف قد تحقق وهو ترك الإفساد ومحاربة أولياء الله ورسوله ، بدليل قوله تعالى :

(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أن الله غفور لذنوبهم ، رحيم بهم بإسقاط العقوبة عنهم ؛ لأنه لا تهمة حينئذ ، وتكون التوبة نافعة.

وهذه التوبة تسقط ما هو من حقوق الله تعالى فقط وهو الحد ، أما حقوق العباد من القصاص وضمان الأموال فتبقى ، ويكون للأولياء الحق في المطالبة بالقصاص من القاتل ، واسترداد المال المأخوذ ، وولي القتيل مخير بين القصاص والدية والعفو ، ولا تصح التوبة إلا برد الأموال المسلوبة إلى أصحابها ، وإذا أعفاه الحاكم من حق مالي وجب ضمانه من بيت المال (خزانة الدولة). ومن تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع ، وتقام الحدود عليه ؛ لأنه متهم بالكذب في توبته والتصنع فيها إذا نالته يد الإمام.

أما الشرّاب والزناة والسرّاق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم ، وإن رفعوا إليه فقالوا : تبنا لم يتركوا ، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا.

١٦٨

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت آية المحاربة حكمين : حكم عقاب المحاربين ، وحكم التائبين.

أما عقوبتهم في الدنيا : فهي القتل ، والصلب ، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ، والنفي من الأرض أي الحبس أو الإبعاد من بلده إلى بلد آخر بينهما على الأقل مسافة قصر الصلاة المقدرة بحوالي ٨٩ كم.

ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل ، وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل.

ونصت الآية على عقوبة أخروية : وهي استحقاق العذاب في نار جهنم ، لعظم الجريمة ، واقتصر على وصف عقوبة الدنيا بالخزي أي الذل والفضيحة مع أن لهم فيها عذابا أيضا ، وعلى وصف عقوبة الآخرة بالعذاب العظيم مع أن لهم فيها خزيا أيضا ؛ لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها ، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها.

ويؤخذ من الجمع بين العقوبتين المذكورتين للمحاربين : أن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة ، فالحدود زواجر لا جوابر كما هو صريح الآية ، وهذا مذهب الحنفية. وقال الجمهور : الحدود جوابر أيضا ، أي أنها تجبر الذنوب وتكفرها ، لما رواه مسلم في صحيحة عن عبادة بن الصامت : «من أصاب من هذه المعاصي شيئا فعوقب به فهو كفارة له ، ومن أصاب شيئا من ذلك ، فستره الله ، فأمره إلى الله : إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عذبه».

وأما حكم التائبين قبل القدرة عليهم : فهو حكم سائر المجرمين العاديين ، فمن قتل يقتل أي يقتص منه ، ومن جرح يجرح ، أو يغرم الأرش (التعويض المالي المقدر شرعا) ومن سرق تقطع يده ، ومن سلب مالا رده ، ويجوز العفو حينئذ لأولياء الدم عنهم.

١٦٩

التقوى والجهاد أساس الفلاح في الآخرة

والدنيا كلها لا تصلح فداء للكفار

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧))

البلاغة :

(لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) أي ليجعلوه فدية لأنفسهم ، قال الزمخشري : ١ / ٤٥٨ : وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقال للكافر يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم ، فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك».

المفردات اللغوية :

(اتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه بأن تطيعوا أوامره وتجتنبوا نواهيه (وَابْتَغُوا) اطلبوا (إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) ما يتوسل به إلى رضوان الله أو يقربكم إليه من طاعته ، فالوسيلة : القربة التي ينبغي أن يطلب بها ، وتطلق أيضا على أعلى منزلة أو درجة في الجنة.

(وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) لإعلاء دينه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تفوزون (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) لو ثبت (يُرِيدُونَ) يتمنون (عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم.

١٧٠

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى حسد اليهود ومكرهم وهمّهم الفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتلهم الأنبياء ، وفند ادعاءهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه ، أمر المؤمنين بالتقوى والتقرب إليه بصالح الأعمال ، ولا يتكلوا على مثل مزاعم أهل الكتاب ، وهو المقصود الأصلي من مهام القرآن.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بتقواه ، وهي إذا قرنت بطاعته ، كان المراد بها الكف عن المحارم وترك المنهيات.

فيا أيها المؤمنون اتقوا سخط الله وعقابه بامتثال أمره واجتناب نهيه ، واطلبوا إليه القربة التي ينبغي أن يطلب بها ، وهي التي توصلكم إلى مرضاته والقرب منه والظفر بمثوبته في الجنة.

والوسيلة درجة في الجنة ، روى أحمد ومسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة ، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون هو ، فمن سأل لي الوسيلة ، حلت له الشفاعة» فالوسيلة أعلى منزلة في الجنة : وهي منزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وداره في الجنة ، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش.

ولما أمر تعالى المؤمنين بترك المحارم وفعل الطاعات ، أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم ، والتاركين للدين القويم ، فقال : (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) والجهاد من الجهد : وهو المشقة والتعب ، وسبيل الله : هي طريق الحق والخير والفضيلة والحرية للأمة ، والجهاد في سبيل الله

١٧١

يشمل جهاد النفس بكفها عن أهوائها ، وحملها على العدل في جميع الأحوال ، وجهاد الأعداء الذين يقاومون دعوة الإسلام.

ورغبهم الله تعالى بما أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة ، فقال : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي إن جاهدتم وتقربتم إلى الله بطاعته ، حققتم الفوز والفلاح وسعادة الدنيا والآخرة ، والمسلم مطالب دائما بالجهاد بمختلف أنواعه ؛ لأن فعل الحسنات وترك السيئات شاق على النفس.

وبعد أن أمر الله المؤمنين بالتقوى وتزكية النفس ، أخبر بما أعده لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) أي إن الذين جحدوا ربوبية ربهم وجحدوا آياته الدالة على وجوده ووحدانيته ، وكذبوا رسله ، وعبدوا غيره من صنم أو وثن أو عجل أو بشر ، وماتوا على هذه الحال من غير توبة ، لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهبا ، بل ومثله أو ضعفه معه ، ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به ، وتيقن وصوله إليه ، ما تقبّل ذلك منه ، بل لا مندوحة عنه ، ولا محيص له ولا مناص ، ولهذا قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع مؤلم لهم ، بسبب ما جنته نفوسهم ، كما أن الفلاح والسعادة بسبب الطاعة والاستقامة النابعة من النفس الإنسانية : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس ٩١ / ٩ ـ ١٠].

ثم وصف الله تعالى العذاب بأنه دائم وأن أهل النار مقيمون فيها على الدوام : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ ..) أي يتمنون الخروج مما هم فيه من شدة العذاب ، وما هم بخارجين منها ، ولهم عذاب دائم مستمر لا خروج لهم منها ، ولا محيد لهم عنها ، كما قال تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحج ٢٢ / ٢٢] فمعنى قوله : (مُقِيمٌ) أنه دائم ثابت لا يزول ولا يحول.

روى البخاري ومسلم والنسائي من حديث أنس بن مالك قال : قال

١٧٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالرجل من أهل النار ، فيقال له : يا ابن آدم ، كيف وجدت مضجعك؟ فيقول : شر مضجع ، فيقال : هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ قال : فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تعالى : كذبت ، قد سألتك أقل من ذلك ، فلم تفعل ، فيؤمر به إلى النار».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى أن الناس صنفان : صنف المؤمنين الطائعين ، وهؤلاء هم المفلحون الناجون في الدنيا والآخرة ، وصنف الكافرين الجاحدين ألوهية الله وربوبيته ووحدانيته ، والمكذبين رسله ، وهؤلاء هم الخاسرون في الحقيقة في الدنيا والآخرة ، وإقامتهم دائمة في نار جهنم.

وهذا هو الفارق بين الإسلام وغيره من الأديان ، فاليهود يعتمدون على أمنيات كاذبة ومزاعم باطلة أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وشعب الله المختار ، والنصارى يعتقدون أن المسيح فداء لهم بنفسه من الخطيئة والمعصية. أما المسلمون فيعتمدون على أن أساس الفلاح والنجاة في الآخرة : هو تزكية النفس بالفضائل ، والعمل الصالح.

والخلود ثابت للفريقين ، فالمؤمنون مخلدون في الجنة ، والكافرون مخلدون في النار. قال يزيد الفقير : قيل لجابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنهما ، إنكم يا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقولون : إن قوما يخرجون من النار ، والله تعالى يقول : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) فقال جابر : إنكم تجعلون العامّ خاصا ، والخاص عامّا ، إنما هذا في الكفار خاصة ؛ فقرأت الآية كلها من أولها إلى آخرها ، فإذا هي في الكفار خاصة (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ١٥٩

١٧٣

قال الرازي عن آية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) : هذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية ، ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها ، وهو أن من يعبد الله تعالى فريقان : منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله ، ومنهم من يعبده لغرض آخر.

والمقام الأول : هو المقام الشريف العالي ، وإليه الإشارة بقوله :(وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) أي في سبيل عبوديته وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته.

والمقام الثاني : دون الأول ، وإليه الإشارة بقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) والفلاح : اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمحبوب (١).

أما قوله تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) فقد استدل به بعض الناس على مشروعية الاستغاثة أو التوسل بالصالحين ، وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد.

وتحقيق القول في التوسل ما يأتي معتمدا على تفسير الألوسي (٢) :

أولا ـ التوسل بمعنى التقرب إلى الله بطاعته وفعل ما يرضيه ، وهو المراد بالآية : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) : هو أساس الدين وفرض الإسلام.

وعلى هذا يحمل توسل أهل الصخرة الثلاثة ، فإنهم توسلوا إلى الله عزوجل بصالح الأعمال ، أي طلبوا الفرج بصلاح أعمالهم ، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا ، ولم يتوسلوا بذوات الأشخاص.

ثانيا ـ التوسل بالمخلوق والاستغاثة به بمعنى طلب الدعاء منه ، لا شك في

__________________

(١) تفسير الرازي : ١١ / ٢٢٠ ، طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

(٢) تفسير الألوسي : ٦ / ١٢٤ ـ ١٢٨

١٧٤

جوازه إن كان المطلوب منه حيا ، فقد صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر رضي‌الله‌عنه لما استأذنه في العمرة : «لا تنسانا يا أخي من دعائك» وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني رحمه‌الله أن يستغفر له ، وأمر أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلب الوسيلة له كما تقدم : «فمن سأل لي الوسيلة ، حلت له الشفاعة».

وثبت أن عمر رضي‌الله‌عنه قال في الاستسقاء : «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا ، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» أي بدعائه وشفاعته ، لا بذاته وشخصه.

وأما إذا كان المطلوب منه الدعاء ميتا أو غائبا فغير جائز ، قال الألوسي : فلا يستريب عالم أنه غير جائز ، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف ، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة ، فقد صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم».

ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي‌الله‌عنهم ـ وهم أحرص الخلق على خير ـ أنه طلب من ميت شيئا.

ثالثا ـ القسم على الله تعالى بأحد من خلقه ، مثل أن يقال : اللهم إني أقسم عليك ، أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي.

وقد أجاز العز بن عبد السلام ذلك في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه سيد ولد آدم ، ولم يجز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء ، والملائكة ، والأولياء ؛ لأنهم ليسوا في درجته ، ودليله ما رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه : أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ادع الله

١٧٥

تعالى أن يعافيني ، فقال : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير لك ، قال : فادعه ، فأمره أن يتوضأ ، فيحسن الوضوء ، ويدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي الرحمة ، يا رسول الله ، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه ، لتقضى لي ، اللهم فشفّعه فيّ» ونقل عن أحمد مثل ذلك.

والحق ألا دلالة في الحديث على التوسل بذات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشخصه ، وإنما توسل بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشفاعته.

ومنع أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما‌الله تعالى التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه ، وهو رأي ابن تيمية رحمه‌الله. والحديث المذكور على حذف مضاف أي بدعاء وشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد جعل الدعاء وسيلة ، وهو جائز ، بل مندوب ، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث : «اللهم فشفعه في» بل في أوله أيضا ما يدل على ذلك.

وليس في الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ، ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف ، أو نحوه.

قال أبو يزيد البسطامي رحمه‌الله : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.

وكره العلماء الدعاء بحق خلقك ؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق.

والخلاصة : إن الدعاء لله تعالى يكون مباشرة ، وبلا واسطة ؛ إذ لا يحتاج الله إلى الوسطاء بالنص القرآني القطعي الدلالة وهو قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر ٤٠ / ٦٠] وقوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي ، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة ٢ / ١٨٦]. وقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة ١ / ٥].

١٧٦

وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله» وهذا الحديث بعد الآيات نص واضح يعيّن أو يوجب الاستعانة بالله تعالى وحده ، دون سواه.

وأما الآيتان (٣٦ ـ ٣٧) فذكرتا نوعين من الوعيد :

الأول ـ استحالة قبول الفداء من الكفار يوم القيامة ، وثبوت استحقاقهم العذاب الأليم.

والثاني ـ تمنيهم الخروج من عذاب النار ، وإلزامهم بالعذاب المقيم أي الدائم الثابت الذي لا يزول ولا يحول. فكلما رفعهم لهب النار إلى أعلى جهنم ، ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد ، فيردوهم إلى أسفلها.

واستدل بعضهم بهذه الآية على أنه تعالى يخرج من النار من قال : «لا إله إلا الله» على سبيل الإخلاص ؛ لأنه تعالى جعل الإقامة الدائمة في النار من تهديدات الكفار وأنواع ما خوفهم به من الوعيد الشديد ، ولولا أن هذا المعنى مختص بالكفار ، وإلا لم يكن لتخصيص الكفار به معنى (١).

حد السرقة

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ

__________________

(١) تفسير الرازي : ١١ / ٢٢٢

١٧٧

وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

الإعراب :

(وَالسَّارِقُ) مبتدأ ، وفي خبره وجهان : أحدهما ـ أن يكون خبره مقدرا ، وتقديره: فيما يتلى عليكم السارق والسارقة ، هذا مذهب سيبويه. والثاني ـ مذهب الأخفش والمبرد والكوفيين : أن الخبر : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ودخلت الفاء في الخبر لأنه لم يرد سارقا بعينه ، وإنما أراد : كل من سرق فاقطعوا : وهو يتضمن معنى الشرط والجزاء ، فتدخل الفاء في خبر المبتدأ.

وإنما قال : (أَيْدِيَهُما) بالجمع ؛ لأنه يريد أيمانهما ، وهي قراءة شاذة. وكل ما في البدن منه عضو واحد يثنى بلفظ الجمع ، وليس للإنسان إلا يمين واحدة ، فنزل منزلة ما ليس في البدن منه إلا عضو واحد ، مثل قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم ٦٦ / ٤]. ويجوز تثنيته بلفظ المثنى مثل : رأيت وجهيهما ، ويجوز أيضا بلفظ المفرد مثل : رأيت وجههما.

(جَزاءً بِما كَسَبا) : جزاء : إما منصوب نصب المصادر والعامل فيه معنى الكلام المتقدم ، فكأنه قال : جازوهما جزاء ، وإما منصوب لأنه مفعول لأجله ، والتقدير : فاقطعوا أيديهما لأجل الجزاء. (نَكالاً) بدل من قوله : جزاء.

المفردات اللغوية :

(وَالسَّارِقُ) من يأخذ المال خفية من حرز مثله (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) محل القطع من الرسغ ، والذي يقطع به هو ربع دينار فصاعدا عند الجمهور غير الحنفية (نَكالاً مِنَ اللهِ) عقوبة لهما تمنع الناس من ارتكاب السرقة (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب على أمره (حَكِيمٌ) في خلقه.

(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) رجع عن السرقة (وَأَصْلَحَ) عمله (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أن التوبة تسقط حق الله ، ولا تسقط حق الآدمي العبد بالقطع ورد المال. لكن بينت السنة أنه إن عفا عنه المسروق منه قبل الرفع إلى الإمام ، سقط القطع ، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي يوسف ، وكذا يسقط الحد بهبة المسروق إلى السارق بعد الرفع إلى الإمام في رأي أبي حنيفة ومحمد.

سبب النزول :

نزلت هذه الآية في طعمة بن أبيرق حين سرق درع جار له يدعى قتادة بن

١٧٨

النعمان في جراب دقيق به خرق ، وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي ، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد ، فلما تنبه قتادة للسرقة ، التمسها عند طعمة ، فلم توجد ، وحلف ما أخذها ، وما له بها علم ، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر ، فتبعوه ، حتى وصل إلى بيت زيد فأخذوها منه ، فقال : دفعها إلي طعمة ، وشهد ناس من اليهود بذلك ، وهمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجادل عن طعمة ؛ لأن الدرع وجد عند غيره ، فنزل قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) الآية المتقدمة ، ثم نزلت هذه الآية لبيان حكم السرقة (١).

وأخرج أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله ، فقطعت يدها اليمنى ، فقالت : هل لي من توبة يا رسول الله؟ فأنزل الله في سورة المائدة : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ، فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢).

المناسبة :

هناك تناسب واضح بين حكم السرقة وحكم الحرابة ، فالحرابة كما يقول الحنفية : سرقة كبري ، والأخرى : سرقة صغرى ، فبعد أن بيّن الله تعالى عقوبة المحاربين الذين يفسدون في الأرض ، وأمر الناس بتقوى الله حتى يبتعدوا عن الحرام والمعاصي ، ذكر عقوبة اللصوص الذين يأخذون المال خفية ، ومن أنواع عقاب المحاربين في آية الحرابة : قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، وعقاب السرقة : قطع اليد.

التفسير والبيان :

يأمر تعالى ولاة الأمور ويحكم بقطع يد السارق والسارقة ، فمن سرق من

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١١١

(٢) أسباب النزول للسيوطي.

١٧٩

رجل أو امرأة ، تقطع يده من الرسغ ، ويبدأ بقطع اليد اليمنى ، فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم ، ثم اليد اليسرى ، ثم الرجل اليمنى ، ثم يعزر ويحبس ؛ لما رواه الدارقطني من أنه عليه الصلاة والسلام قال : «إذا سرق السارق فاقطعوا يده ، ثم إذا عاد فاقطعوا رجله اليسرى» وهذا رأي المالكية والشافعية. وقال الحنفية والحنابلة : لا يقطع أصلا بعد اليد اليمنى والرجل اليسرى.

وصرح القرآن بحكم السارقة ؛ لحدوث السرقة كثيرا من النساء كالرجال ، مما يقتضي الزجر ، وإن كان الغالب في تشريع الأحكام إدراج النساء في حكم الرجال.

والسرقة : أخذ المال خفية من حرز المثل ، والحرز نوعان : حرز بنفسه : وهو المكان كالدار والصندوق ، وحرز بغيره وهو الحافظ : كالأماكن العامة المحروسة بحارس ، والمتاع الذي يوجد صاحبه عنده. والحرز : هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس.

ولا تقطع يد السارق إلا إذا كان بالغا عاقلا ، كما هو الشأن في المطالبة بجميع التكاليف الشرعية ومنها عقوبات الحدود ، لا فرق فيها بين الجماعة والفرد ، وألا تكون هناك شبهة كالسرقة من المحارم والضيف من المضيف ، لحديث رواه ابن عدي عن ابن عباس: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» وأن يؤخذ المال من الحرز إما بنفسه أو بالحافظ ، لما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الثمر المعلّق فقال : «.. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين ، فبلغ ثمن المجن ، فعليه القطع».

وأن يكون المسروق بالغا مقدار النصاب الشرعي.

وللفقهاء رأيان أو ثلاثة في تقدير نصاب السرقة ، فقال الحسن البصري

١٨٠