التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

التفسير والبيان :

موضوع هذه الآيات التنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من أهل الكتاب والمشركين الذين يهزؤون بشرائع الإسلام المطهرة ، ويتخذونها نوعا من اللعب.

يا أيها المؤمنون لا تتخذوا الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين الذين يهزؤون بدينكم ، ويتخذون شعائره وشرائعه لونا من اللعب ، لا تتخذوهم أولياء أي حلفاء وأنصارا ، فإن الهازئ بالشيء معاند له وساخر به وغير مؤمن به وعدوّ له ولأهله ، وإن تظاهروا بالمودة ، كما قال تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا : آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة ٢ / ١٤].

واتقوا الله وخافوا عذابه ووعيده أيها المؤمنون إن كنتم صادقي الإيمان تحترمون أحكامه وتلتزمون حدوده ، أو كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوا ولعبا.

وكذلك إذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان ، اتخذوها أيضا هزوا ولعبا ؛ لأنهم لا يعقلون معاني عبادة الله وشرائعه ، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي إذا سمع الأذان أدبر حتى لا يسمع التأذين.

ثم ناقشهم الحق تعالى فقال : قل يا محمد لهؤلاء أهل الكتاب الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا : هل تنكرون أو تعيبون علينا إلا إيماننا الثابت الراسخ بالله ورسله ، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من الكتب قبل على الرسل ، وما هذا بعيب ولا مذمة؟ فيكون الاستثناء منقطعا ، كما في قوله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج ٨٥ / ٨] وقوله : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) [التوبة ٩ / ٧٤].

٢٤١

ولأن أكثركم فاسقون ، أي متمردون خارجون عن حقيقة الدين ، وليس لكم من الدين إلا التعصب والمظاهر والتقاليد الجوفاء.

وقوله : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) معطوف على (آمَنَّا) بمعنى : وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين الحكم عليكم بتمردكم وخروجكم عن الإيمان ، كأنه قيل : وما تنكرون منا إلا مخالفتكم ، حيث دخلنا في دين الإسلام ، وأنتم خارجون منه.

ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف ، أي واعتقاد أنكم فاسقون.

ويمكن عطفه على المجرور ، أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وبأن أكثركم فاسقون.

وعبر بالأكثر ؛ لأن بعض أهل الكتاب ما يزالون متمسكين بأصول الدين من توحيد الإله وعبادته ، والتزام الحق والعدل ، وحب الخير.

ثم أجابهم تعالى عن استهزائهم بقوله : قل لهم يا محمد ، هل أنبئكم أي أخبركم أيها المستهزئون بديننا الذين تقولون : «لا نعلم شرا من دينكم» وأعلمكم بما هو شر من أهل ذلك ، أو من دين من لعنه الله ، بتقدير مضاف محذوف قبل كلمة (ذلِكَ). واستدعى ذلك سؤالا آخر منهم عن الذي هو شر : ما هو؟

فأجاب تعالى : والذي هو شر من ذلك : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي هل أخبركم بشر مما تقولون وتظنونه بنا هو جزاء من لعنه الله. كقوله تعالى : (قُلْ : أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ : النَّارُ) [الحج ٢٢ / ٧٧٢]. وفي هذا انتقال من تبكيت لهم بإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم ، وهو التذكير بسوء حال أسلافهم مع أنبيائهم ، وما كان من جزاء الله لهم على فسقهم.

٢٤٢

ومن لعنه الله ، أي أبعده وطرده من رحمته ، واللعنة تلزم الغضب الإلهي ، وهو يستلزم اللعنة ؛ إذ هي منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه.

وغضب عليه ، أي غضبا لا يرضى عنه أبدا.

وجعل منهم القردة والخنازير غضبا منه عليهم وسخطا ، فعجل لهم الخزي والنكال في الدنيا ، وذلك مثل قوله تعالى المتقدم : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ، فَقُلْنا لَهُمْ : كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة ٢ / ٦٥] وقوله فيما يأتي : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ : كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [الأعراف ٧ / ١٦٦] والجمهور على أنهم مسخوا حقيقة ، فكانوا قردة وخنازير وانقرضوا ، والقردة : أصحاب السبت ، والخنازير : كفار مائدة عيسى ، وروي أيضا أن المسخين كانا في أصحاب السبت ؛ لأن شبابهم مسخوا قردة ، ومشايخهم مسخوا خنازير. والدليل على انقراضهم ما رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القردة والخنازير ، أهي مما مسخ الله؟ فقال : «إن الله لم يهلك قوما ـ أو قال : لم يمسخ قوما ـ فيجعل لهم نسلا ولا عقبا ، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك».

ونقل الطبري عن مجاهد وغيره في قوله : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي أذلة صاغرين(١).

وعبد الطاغوت ، أي جعل منهم من صير الطاغوت معبودا من دون الله ، والطاغوت : كل ما عبد من دون الله ، كالأصنام والشيطان والعجل ، فكانت عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان ، فصارت عبادتهم له عبادة للشيطان.

أولئك المتصفون بما ذكر من المخازي والمعايب شر مكانا مما تظنون بنا ؛ إذ لا مكان لهم في الآخرة إلا النار ، وهم أضل عن قصد الطريق الوسط المعتدل وهو

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ٢٦٤

٢٤٣

الحق الذي لا يعلوه شيء. والتعبير بكلمتي (بِشَرٍّ ... وأَضَلُ) ليس للمفاضلة ؛ لأن هذا الدين خير محض وإنما هذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر ، من قبيل المشاكلة للفظهم والمجاراة لهم في اعتقادهم ، كقوله عزوجل : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٢٤].

ثم بيّن الله تعالى حال المنافقين ، فقال : (وَإِذا جاؤُكُمْ ..) أي إذا جاء منافقو اليهود قالوا : آمنا بالرسول وبما أنزل عليه ، والحال أنهم مستصحبون للكفر مقيمون عليه في قلوبهم ، فإذا دخلوا عندك يا محمد أو عليكم أو خرجوا من عندكم فحالهم سواء ، لم يتحولوا عن كفرهم ، وهذه صفة معروفة للمنافقين منهم : أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر ، وقلوبهم منطوية على الكفر ، ودأبهم الخداع والمكر ، كما قال تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا : آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا : أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ؟) [البقرة ٢ / ٧٦].

وهم جميعا أغبياء ؛ لأن الله أعلم بما كانوا يكتمون ، أي عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم ، وإن تظاهروا للناس بخلاف الحقيقة ، فإن الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء ، ولم يختلف وضعهم من الكيد والمكر والخبث والكذب والخيانة حين دخولهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين وحين خروجهم : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) [المائدة ٥ / ٤١].

فهم بهذا شذاذ ؛ لأن من كان يجالس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوعي وأدب ، سرعان ما يقذف الله في قلبه نور الإيمان ، ولربما كان يقصد قتله إذا رآه وسمع كلامه.

ثم أضاف القرآن من أوصافهم شرا مما ذكر ، فقال تعالى : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ ...) أي وترى أيها النبي كثيرا من هؤلاء اليهود المستهزئين بدينك يبادرون إلى ارتكاب الإثم والظلم والمعاصي والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل ،

٢٤٤

لبئس العمل كان عملهم ، وبئس الاعتداء اعتداؤهم ، فما أقبح أعمالهم وأسوأ أفعالهم!

ثم حض الله تعالى علماءهم على النهي عن قول الإثم وأكل السحت فقال : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ ..) قال البيضاوي : هذا للحض ، فإن (لَوْ لا) إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ ، وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض ، أي هلا كان ينهاهم الربانيون (وهم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم) والأحبار (هم العلماء فقط) (١) عن تعاطي ذلك؟ لبئس ما كانوا يصنعون من تركهم ذلك ورضاهم بالمنكر ، كأنهم جعلوا أكثر إثما من مرتكبي المنكرات ؛ لأن كل عامل لا يسمى صانعا ، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه ، كما قال الزمخشري (٢). وقال القرطبي : والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة (٣).

روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : هي أشد آية في القرآن ، أي ليس في القرآن ما هو أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية. وقال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها ، أي أنها حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والإرشاد ، وتركوا النهي عن الشرور والآثام التي تفسد نظام الحياة للفرد والمجتمع.

فقه الحياة أو الأحكام :

الآية تأكيد صريح لما سبق من قطع الموالاة مع الكفار عامة ؛ لأنهم يستهزءون بشرائع الإسلام وأحكامه ، وبخاصة وقت النداء أي الأذان للصلاة.

قال الكلبي : كان إذا أذن المؤذن ، وقام المسلمون إلى الصلاة ، قالت اليهود :

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٧٤ ، البيضاوي : ص ١٥٦

(٢) الكشاف : ١ / ٤٧١

(٣) تفسير القرطبي : ٦ / ٢٣٧

٢٤٥

قد قاموا لا قاموا ، وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا ، وقالوا في حق الأذان : لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم ، فمن أين لك صياح مثل صياح العير؟ فما أقبحه من صوت ، وما أسمجه من أمر.

وعن مشروعية الأذان قال العلماء : ولم يكن الأذان بمكة قبل الهجرة ، وإنما كانوا ينادون : «الصلاة جامعة» فلما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان ، وبقي «الصلاة جامعة» للأمر يعرض كصلاة الجنازة وصلاة العيد وصلاة الكسوفين. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أهمه أمر الأذان حتى أريه عبد الله بن زيد ، وعمر بن الخطاب ، وأبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنهم. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع الأذان ليلة الإسراء في السماء.

ثم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا فأذّن بالصلاة أذان الناس اليوم. وزاد بلال في الصبح : «الصلاة خير من النوم» فأقرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والأذان من شعائر الإسلام ، وهو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث سرية قال لهم : «إذا سمعتم الأذان فأمسكوا وكفّوا ، وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا ـ أو قال : فشنوا الغارة».

لذا قال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود : الأذان فرض ، ولم يقولوا على الكفاية. وقال مالك : إنما يجب الأذان في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس ، ثم اختلف أصحابه على قولين : أحدهما ـ سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر ونحوه من القرى. والثاني ـ هو فرض على الكفاية. وحكى الطبري عن مالك قال : إن ترك أهل مصر الأذان عامدين ، أعادوا الصلاة.

واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري على أن المسافر إذا ترك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته ، وكذلك لو ترك الإقامة عندهم ، وهم أشد كراهة لتركه الإقامة ، أي فهما سنة مؤكدة.

٢٤٦

واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن الأذان مثنى مثنى ، والإقامة مرة مرة ، إلا أن الشافعي يربع التكبير الأول ، عملا بحديث أبي محذورة.

وكذلك اتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان ، وذلك رجوع المؤذن إذا قال : «أشهد أن لا إله إلا الله مرتين ، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين» رجّع فمدّ من صوته جهده.

وقال الحنفية : الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى ، والتكبير عندهم في أول الأذان وأول الإقامة : «الله أكبر» أربع مرات ، ولا ترجيع عندهم في الأذان ، عملا بما رآه في المنام عبد الله بن زيد وفي حديثه : «فأذن مثنى وأقام مثنى».

ورأى الإمام أحمد أنه يجوز تربيع التكبير أو تثنيته في أول الأذان ، ويجوز الترجيع وعدمه ، ويجوز تثنية الإقامة وإفرادها ، إلا قوله : «قد قامت الصلاة» فإن ذلك مرتان على كل حال ، كل ذلك جائز ؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع ذلك ، وعمل به أصحابه.

واختلفوا في التثويب لصلاة الصبح : وهو قول المؤذن : الصلاة خير من النوم ، فقال المالكية والشافعية : يسن ذلك مرتين في أذان صلاة الفجر ، لحديث أبي محذورة فيما رواه الخمسة (أحمد وأهل السنن) ، ولا يسن ذلك عند الحنفية والحنابلة.

وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر ، فإنه يؤذن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد ، لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان عن ابن عمر وعائشة : «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» وقال الحنفية : لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه فيما

٢٤٧

أخرجه الجماعة السبعة عن مالك : «إذا حضرت الصلاة فأذّنا ، ثم أقيما ، وليؤمكما أكبركما» وقياسا على سائر الصلوات.

وأجاز مالك وأبو حنيفة وأصحابهما أن يؤذن المؤذن ويقيم غيره ؛ لأن بلالا أذن وأقام عبد الله بن زيد.

وقال الشافعي : من أذن فهو يقيم ، لحديث زياد بن الحارث الصّدائي : «إن أخا صداء أذّن ومن أذّن فهو يقيم».

ويترسّل المؤذن في أذانه ، ولا يطرّب به كما يفعله كثير من الجهال.

ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين ، وإن أتمه جاز ، وهذا مذهب المالكية ؛ لحديث الجماعة عن أبي سعيد الخدري : «إذا سمعتم النداء ، فقولوا مثل ما يقول المؤذن». ويستحب عند الجمهور أن يقول السامع مثلما يقول المؤذن إلا في الحيعلتين فيقول : «لا حول ولا قوة إلا بالله» لحديث عمر في صحيح مسلم.

ودل قوله تعالى : (قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) على توبيخ أهل الكتاب على تعيير المسلمين بشيء لا محل لإنكاره أو ذمه أو تعييبه.

وأرشد قوله تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ ..) إلى النعي على العلماء توانيهم في القيام بواجبهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقد وبخ الله علماء اليهود في تركهم النهي عن المنكر. ودلت الآية أيضا على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر ، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجاء في صحيح الترمذي : «إن الناس إذا رأوا الظالم ، ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده».

٢٤٨

من أقبح أقوال اليهود وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم

وجزاء إيمان أهل الكتاب

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦))

الإعراب :

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ ..) ما أنزل : في موضع رفع فاعل : (وَلَيَزِيدَنَ) وتقديره : وليزيدن الذي أنزل إليك كثيرا منهم.

البلاغة :

(يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) : غل اليد : كناية عن البخل ، وبسطها كناية عن الجود. وبين (مَغْلُولَةٌ ... ومَبْسُوطَتانِ) طباق من حيث اللفظ.

(أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ) استعارة ؛ لأن الحرب لا نار لها ، وإنما شبهت بالنار ؛ لأنها تأكل أهلها ، كما تأكل النار حطبها.

٢٤٩

(لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) استعارة أيضا ، استعار ذلك لتوسعة الرزق عليهم ، كما يقال : عمّه الرزق من فوقه إلى قدمه.

المفردات اللغوية :

(يَدُ اللهِ) اليد : هي في الحقيقة العضو المعروف من الأصابع حتى الكتف ، أو إلى الرسغ ، وتطلق مجازا على النعمة ، تقول : لفلان عندي يد أي معروف ونعمة ، وعلى العطاء والنفقة ، كما يقال : ما أبسط يده بالنوال ، أي العطاء الجزيل ، وعلى القدرة مثل قوله تعالى : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) [ص ٣٨ / ٤٥] أي ذوي القوة والعقول. والمقصود بقولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي ممسكة عن العطاء والإنفاق وإدرار الرزق علينا ، كنّوا به عن البخل ، تعالى الله عن ذلك. (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أمسكت وانقبضت عن فعل الخير ، وهو دعاء عليهم بالبخل (يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) أي كثير العطاء ، مبالغة بالوصف بالجود ، وثنّى اليد لإفادة الكثرة ؛ إذ غاية ما يبذله السخي من ماله : أن يعطي بيديه ونحن نؤمن باليد من غير تشبيه ولا تجسيم. وإن كان قصدهم أثر اليد وهو الإنعام بقرينة الإنفاق. (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) من توسيع وتضييق ، لا اعتراض عليه. ما أنزل إليك من بالأمن والسلم ، والسلب ولو بغير قتل ، وإثارة الفتنة (أَطْفَأَهَا اللهُ) أي كلما أرادوه ردهم (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي مفسدين بالمعاصي (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي يعاقبهم.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاتَّقَوْا) الكفر (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) بالعمل بما فيهما على أتم وجه ، سواء الإيمان الصحيح ، ومنه الإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعمل الصالح. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من الكتب (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي لوسع عليهم الرزق وفاض من كل جهة (مِنْهُمْ أُمَّةٌ) جماعة (مُقْتَصِدَةٌ) معتدلة في أمر الدين ، وهم من آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي بئس ما يعمله الكثيرون منهم.

سبب النزول :

أخرج الطبراني وابن إسحاق عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود يقال له : النباش بن قيس للنبي : إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ : يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ). وأخرج أبو الشيخ ابن حيان من وجه آخر عن ابن عباس قال : نزلت : (وَقالَتِ الْيَهُودُ : يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) في فنحاص رأس يهود بني قينقاع وهذا ما قاله عكرمة.

٢٥٠

المناسبة :

بعد أن ذكر تعالى بعض قبائح اليهود ومخازيهم من مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكل السحت ونحو ذلك من جمع المال من حلال أو حرام ، ذكر هنا أقبح مخازيهم وصفاتهم وسيئاتهم ، بجرأتهم على ربهم ، ووصفه بالبخل ، مما لا يقول به عاقل ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

التفسير والبيان :

وصفوا الله تعالى بأنه فقير وهم أغنياء ، ووصفوه بالبخل بقولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي قال بعض اليهود ـ لما أصيب بأزمة مالية بسبب تكذيبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، ونسب إلى الأمة لتكافلها فيما بينها ـ : إن الله بخيل. وغل اليد : مجاز عن البخل ، ويد الله مغلولة : بخيلة وبسطها : كناية عن الجود والكرم.

فهم لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة ، ولكن يقولون : بخيل يعني أمسك ما عنده من موارد الرزق بخلا ، قال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء ١٧ / ٢٩] يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير وهو زيادة الإنفاق في غير محله.

ورد الله عزوجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه ، ودعا عليهم بالبخل والطرد من رحمته ، فقال : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) وهو دعاء عليهم بالبخل والنكد والإمساك عن الخير ، فكانوا أبخل خلق الله وأنكدهم. ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة ، يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم.

وأثبت الله تعالى في رده عكس ما يقولون فقال : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ)(١)(يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) أي بل هو الجواد الواسع الفضل ، الجزيل العطاء الذي ما من

__________________

(١) نؤمن باليد من غير تشبيه ولا تجسيم ، والظاهر هنا إرادة الإنعام على الجملة (تفسير ابن عطية ٤ / ٥٠٩ ، ٥١٢).

٢٥١

شيء إلا عنده خزائنه ، وما من نعمة بخلقه فمنه وحده ، لا شريك له ، كما قال تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم ١٤ / ٣٤].

وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحّاء ، الليل والنهار (١) ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه ـ قال : وعرشه على الماء ، وفي يده الأخرى الفيض ـ أو القبض ـ يرفع ويخفض. وقال : يقول الله تعالى : أنفق أنفق عليك».

وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين ، لأن الجواد يعطي بكلتا يديه. والعقيدة في هذا المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى ، وأنه ليس بجسم ولا جارحة ، كما قال ابن عطية.

أما تقتير الرزق على بعض الناس فلا ينافي سعة الجود ، فإن له حكمة وإرادة ومشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق كما قال سبحانه : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى ٤٢ / ٢٧](اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد ١٣ / ٢٦].

ثم بيّن الله تعالى مدى تأثير القرآن فيهم فقال : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً ..) أي تالله ليزيدن ما أنزل إليك من الآيات البينات طغيانا وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء ، وكفرا أي تكذيبا ، أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم ، فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا ، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغيانا وكفرا ، كما قال تعالى : (قُلْ : هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ،

__________________

(١) قال النووي : هو بنصب الليل والنهار ورفعهما ؛ النصب على الظرف ، والرفع على الفاعل ، أي فاعل يغيضها. والسح : الصب الكثير ، ويغيض : ينقص.

٢٥٢

وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤٤] وقال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء ١٧ / ٨٢].

روى الطبري عن قتادة قال في آية : (وَلَيَزِيدَنَّ ..) : حملهم حسد محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم والعرب على أن كفروا به ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم (١). وكان من جزاء الله لهم على نكدهم ما قاله : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ ..) أي وألقينا بين فئات اليهود والنصارى العداوة والبغضاء ، فكل فرقة منهم تخالف الأخرى كما قال تعالى : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الحشر ٥٩ / ١٤] والتاريخ القديم والحديث يثبت ذلك بوقائع الحروب العنصرية والدينية والاستعمارية الكثيرة الوقوع. ولا يغترن أحد بتوافق اليهود في فلسطين ، فذلك أمر وقتي.

وكلما هموا بالكيد للرسول والمؤمنين الصادقين وإثارة الفتن والحروب بين الأمم في الداخل والخارج ، خذلهم الله ، ورد كيدهم عليهم ، فإما أن يخيب مسعاهم ، أو ينصر المؤمنين عليهم.

وهم في مساعيهم يسعون في الأرض فسادا ، أي من سجيتهم أنهم دائما يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، والله لا يحب من كانت هذه صفته ، بل يبغضه ويعاقبه ويسخط عليه.

ثم فتح الله تعالى باب الأمل والتوبة أمامهم فقال : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا ..) أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله ، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم ، لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها ، ولأدخلناهم جنات النعيم التي ينعمون بها ، أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٦ / ١٩٥

٢٥٣

ولو أنهم عملوا من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير بما في التوراة والإنجيل المنزّلين من عند الله بأصل التوحيد ، المبشّرين بالنبي من ولد إسماعيل ، وعملوا بما أنزل على النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القرآن ، لوسّع الله عليهم رزقهم ، وأنزل عليهم من خيرات السماء ، وأخرج لهم من بركات الأرض ، كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف ٧ / ٩٦] قال ابن عباس : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) يعني لأرسل السماء عليهم مدرارا (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) يعني يخرج من الأرض بركاتها.

ثم ذكر تعالى أن أهل الكتاب ليسوا سواء في اعتقادهم وأفعالهم فقال : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي جماعة معتدلة في أمر الدين كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود ، والنجاشي وأمثاله من النصارى ، وكثير غالب منهم فاسقون خارجون عن أصول الدين ، وبئس العمل عملهم.

وهناك نظائر لهذه الآية التي تشهد لبعض أهل الكتاب بالاعتدال مثل قوله تعالى عن بعض اليهود : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٥٩] وقوله تعالى عن أتباع عيسى : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد ٥٧ / ٢٧].

فقه الحياة أو الأحكام :

غريب أمر اليهود وطبعهم ، فإنهم ما تركوا فعل فاحشة أو منكر إلا اقترفوه ، ولم يسلم منهم الأنبياء فقتلوهم ، بل امتد أذاهم وخزيهم إلى الله عزوجل ، فقال بعضهم : إن الله بخيل ، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء.

لكن غلت أيديهم في الآخرة ، وحجبهم الله عن الخير والبر ولعنهم وطردهم من رحمته في الدنيا بدعائه عليهم بقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا).

٢٥٤

تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا فهو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، على وفق الإرادة والحكمة كما يشاء ، ونعم الله تعالى أكثر من أن تحصى.

ووالله ليزيدن اليهود بسبب فظائعهم ومخازيهم طغيانا وكفرا ، أي تجاوزا للحد في بغض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعداوته ، وكفرا بما جاء به ، وإذا نزل شيء من القرآن فكفروا ، ازداد كفرهم.

وألقى الله بين طوائف اليهود العداوة والبغضاء ، كما قال : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) فهم متباغضون غير متفقين ؛ فهم أبغض خلق الله إلى الناس.

وكلما أوقعوا الفتنة وجمّعوا وأعدّوا ، شتت الله جمعهم وبدد شملهم. وأما تجمعهم في فلسطين فذلك أمر موقوت ، وتنبيه لنا أن نعود إلى ديننا ، ونوحد صفوفنا ، وليتم تدبير الله في هزيمتهم هزيمة منكرة لا تقوم لهم بعدها قائمة ، فهم إن عاجلا أو آجلا إلى زوال. قيل : إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله : التوراة ، أرسل الله عليهم بختنصّر ، ثم أفسدوا فأرسل عليهم بطرس الرومي ، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين ؛ فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله ، وكلما أوقدوا نارا ، أي أهاجوا شرا ، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطفأها الله ، وقهرهم ووهّن أمرهم ، ويسعون في الأرض فسادا ، أي في إبطال الإسلام ، وذلك من أعظم الفساد.

ومع كل هذه المخازي والمعايب فتح الله أمام أهل الكتاب باب التوبة ، ليصلحوا ما أفسدوا ، كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ). وهذا دليل على عظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم.

ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ، ونفذوا ما فيهما من تعليمات وأحكام ودعوة إلى الإيمان برسالة الإسلام ، لوسع الله عليهم الرزق وزادهم من النعم ، وأفاض

٢٥٥

عليهم من أنواع الخيرات ، ونظير هذه الآية. (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق ٦٥ / ٢ ـ ٣]. (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [الجن ٧٢ / ١٦]. (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف ٧ / ٩٦] فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق ، كما في هذه الآيات ، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم ١٤ / ٧].

وفي هذا دلالة واضحة على أن ما أصابهم من ضنك وضيق إنما هو بسبب جناياتهم ، لا من قصور في فيض الله تعالى.

وأخبر تعالى أن منهم أمة مقتصدة معتدلة مؤمنة بكل ما أنزل الله إليهم وإلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبد الله بن سلام ، اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما. والاقتصاد : الاعتدال في العمل.

فالعبرة في الأديان : هو العمل بها والاهتداء بهديها ، لا التعصب الجنسي لها أو ضدها ، وإحداث صراع حاد بين أهلها ، فمن آمن بحق بدين آمن تلقائيا ومباشرة بكل دين أنزله الله ورضيه لعباده ، والدين دين الله ، وليس حكرا على أحد ، ولا دين بشر أحدثه للناس.

لذا كان واقع الناس غريبا عن حقيقة الدين ، وأصبح الكثير منهم خارجا عن حدود الدين : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي بئس شيء عملوه ، كذبوا الرسل ، وحرّفوا الكتب ، وأكلوا السحت.

وهكذا لا تخلو أمة أو زمن من المعتدلين ، ولا يخفت صوت الحق مهما حاول الفسقة كبته وخنقه ، وإذا كثر أهل السوء ، وقل الصالحون هلكت الأمم.

٢٥٦

أمر الرسول بتبليغ الوحي وعصمته من الناس

ودعوة أهل الكتاب للإيمان برسالته

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩))

الإعراب :

(وَالصَّابِئُونَ) : مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك والنية به التأخير عما في حيّز : إن ومعمولها ، كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا ، والصابئون كذلك (الكشاف : ١ / ٤٧٤) أو أنه مبتدأ وخبره : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (ابن الأنباري : ١ / ٣٠٠). وقيل : إنه معطوف على الضمير المرفوع في (هادُوا) وهو ضعيف ؛ لأن العطف على المضمر المرفوع المتصل لا يجوز من غير فصل ولا تأكيد.

البلاغة :

(لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) تعبير فيه غاية التحقير والتصغير.

(وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أضاف كلمة الرب إليهم تلطفا معهم في الدعوة.

(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وضع الظاهر (الْكافِرِينَ) موضع الضمير «عليهم» لإظهار مدى رسوخهم في الكفر.

المفردات اللغوية :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) أي بلّغ جميع ما أنزل إليك ، غير مراقب في تبليغه أحدا ، ولا خائف

٢٥٧

أن ينالك مكروه. والتبليغ : إعلان الدعوة الإسلامية ، وإعلام جميع ما تضمنته من أحكام وأخبار للناس. (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أن يحفظك ويكلؤك ويضمن لك العصمة والصون من أعدائك أي من قتلك ، فلا تأبه لهم ولا عذر لك في مراقبتهم. وهذا عدة من الله بالحفظ والكلاءة ، ووعد الله منجز (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك.

(لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي من الدين الحقيقي معتد به ، أو على دين يعتدّ به (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) بأن تعملوا بما فيه ، ومنه الإيمان بالله تعالى وبرسوله خاتم النبيين (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من القرآن (طُغْياناً وَكُفْراً) لكفرهم بالقرآن (فَلا تَأْسَ) تحزن (عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) إن لم يؤمنوا بك ، أي لا تهتم بهم.

(وَالَّذِينَ هادُوا) هم اليهود (وَالصَّابِئُونَ) الخارجون عن الأديان كلها كما قال الزمخشري ، وقال مجاهد : الصابئون : طائفة من النصارى والمجوس ليس لهم دين ، وروي عن مجاهد والحسن البصري : هم طائفة من المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح.

وقال قتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى الشمس كل يوم خمسصلوات(١).

سبب النزول : نزول الآية (٦٧) :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) : أخرج أبو الشيخ ابن حيان عن الحسن البصري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله بعثني برسالة ، فضقت بها ذرعا ، وعرفت أن الناس مكذبي ، فوعدني لأبلغنّ أو ليعذبني ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لما نزلت : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) قال : يا ربّ ، كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون علي ، فنزلت : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ).

وأخرج الحاكم والترمذي عن عائشة قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس ، حتى نزلت هذه الآية : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فأخرج رأسه من القبة ، فقال :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣ / ١٠٥ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٨٠

٢٥٨

«يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله. قال السيوطي : في هذا الحديث دليل على أن الآية ليلية ، نزلت ليلا ، فراشية ، والرسول في فراشه.

وأخرج ابن حبان في صحيحة عن أبي هريرة قال : كنا إذا أصبحنا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ، تركنا له أعظم شجرة وأظلها ، فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه ، وقال : يا محمد ، من يمنعك مني؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله يمنعني منك ، ضع السيف ، فوضعه ، فنزلت : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال : كنت بمنى أيام موسم ، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس (أي لا يعلم ممن هم) فنزل علي جبريل فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية ، فقمت عند العقبة فقلت : أيها الناس ، من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ، ولكم الجنة؟.

أيها الناس ، قولوا : لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، تفلحوا ، ولكم الجنة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما بقي رجل ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ، ويقول : كذاب صابئ ، فعرض علي عارض ، فقال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه.

قال السيوطي : وهذا يقتضي أن الآية مكية ، والظاهر خلافه.

وقال الرازي : واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت ، إلا أن الأولى حملها على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى ، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ٥٠

٢٥٩

نزول الآية (٦٨) :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) : روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رافع بن حارثة ، وسلام بن مسكين ، ومالك بن الصيف ، ورافع بن حرملة ، فقالوا : يا محمد ، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ، وتؤمن بما عندنا من التوراة ، وتشهد أنها من الله حق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلى ، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها ، مما أخذ عليكم من الميثاق ، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس ، وأنا بريء من أحداثكم ، قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا ، فإنا على الحق والهدى ، ولا نؤمن بك ، ولا نتبعك ، فأنزل الله : (قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى قوله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(١).

وقال ابن عباس : جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ألست تقرّ أن التوراة حق من عند الله؟ قال : بلى ، فقالوا : فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها ، فنزلت الآية ، أي لستم على شيء من الدين حتى تعملوا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ، والعمل بما يوجبه ذلك منهما (٢).

المناسبة :

أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين المعتدلين وكثرة الفاسقين من أهل الكتاب ، ولا يخشى مكروههم ، فقال : (بَلِّغْ) أي واصبر على تبليغ ما أنزلته إليك من كشف أسرارهم وفضائح أفعالهم ، فإن الله يعصمك من كيدهم ، ويصونك من مكرهم.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٦ / ٢٠٠ ، أسباب النزول للسيوطي.

(٢) تفسير القرطبي : ٦ / ٢٤٥

٢٦٠