التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

وداود الظاهري : يجب القطع بسرقة القليل والكثير ؛ لظاهر الآية ، وللحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة : «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الجمل فتقطع يده».

وقال الجمهور : تقطع يد السارق في ربع دينار أو ثلاثة دراهم فصاعدا ؛ لما رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن (الجماعة) من حديث عائشة رضي‌الله‌عنها : «كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» ولما في الصحيحين عن ابن عمر : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطع في مجنّ ـ ترس ـ ثمنه ثلاثة دارهم» وهذا قول الخلفاء الراشدين الأربعة.

ورأى الحنفية : أن نصاب السرقة دينار أو عشرة دراهم ، فلا قطع فيما دون عشرة دراهم ، لما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا قطع فيما دون عشرة دراهم». ولولا أن هذا الحديث ضعيف لأمكن ترجيح مذهب الحنفية من قبيل الاحتياط ، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات ، ولأن ثمن المجنّ الذي قطع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسرقته مختلف في تقديره ، فقدر بثلاثة دراهم أو بأربعة أو بخمسة أو بعشرة دراهم ، والأخذ بالأكثر في باب الحدود أولى ، درءا للشبهة.

وتثبت السرقة إما بالإقرار أو بالبينة (شاهدين) ويسقط الحد بالعفو عن السارق أو التوبة قبل رفع الأمر إلى الإمام الحاكم ، وبملك المسروق بالهبة وغيرها ، ولو بعد رفع الأمر إلى الحاكم في مذهب أبي حنيفة ومحمد. وبشرط كون الملك قبل رفع الأمر إلى القضاء في مذهب الجمهور ، لما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس : أن لصا سرق رداء صفوان بن أمية من تحت رأسه ، حينما كان متوسدا عليه حين نام في المسجد ، فاستيقظ صفوان واستاق اللص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر بقطع يده ، فقال صفوان : إني لم أرد هذا ، هو عليه صدقة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فهلا قبل أن تأتيني به».

١٨١

ويجب رد المسروق بعينه إن كان قائما ، وبقيمته إن كان مستهلكا عند الشافعية والحنفية لما رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن سمرة : «على اليد ما أخذت حتى تؤديه». ولا يجب ردّ القيمة حال الاستهلاك عند الحنفية ؛ إذ لا يجتمع حد وضمان ، لما أخرجه النسائي عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد» لكنه حديث مرسل. وتوسط المالكية فقالوا : إن كان السارق موسرا عند الحد ، وجب عليه القطع والغرم ، تغليظا عليه ، وإن كان معسرا لم يتبع بقيمته ، ويجب القطع فقط ، ويسقط الغرم ، تخفيفا عنه ، بسبب عذره بالفاقة والحاجة.

ثم علل سبحانه وتعالى حكم حد السرقة ، فقال : (جَزاءً بِما كَسَبا ، نَكالاً مِنَ اللهِ) أي أن قطع يد السارق والسارقة جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيء ، نكالا أي إهانة وتحقيرا ومنعا من العودة للسرقة ، وعبرة لغيرهما. وهذه العقوبة وإن نفر منها بعض الناس ، لكنها العقوبة المناسبة التي هي الأشد تأثيرا ومنعا للسرقة ، وتوفيرا لأمن الناس على أموالهم وأنفسهم ، ولا يدرك أحد ما للسرقة من مخاطر نفسية وعصبية ، وما لها من أثر في إحداث القلق والرعب في النفوس ، لا سيما في الليالي الظلماء ، إلا من تعرض للسرقة ، فهي فضلا عن كونها خسارة ماحقة ، تجعل الشخص معدوما يائسا بائسا يحتاج إلى الاقتراض ليؤمن قوته وقوت أسرته ، ويتمنى أن يعثر على السارق ليقضي عليه ، هي مثيرة للقلق والهلع ، فيصبح الحي الذي تعرض لسرقة فأكثر مهددا كله بالأخطار ، فلا يكاد ينام إنسان وهو مطمئن ، وإذا اقتحم اللص منزلا في الليل أو في النهار ، أوقع السكان في الذعر ، وربما حدث القتل وإطلاق النار ، وفي ذلك ضرر وأذى لا يمكن حصر حدوده أو التنبؤ بنتائجه ، فكم من إنسان شاب شعره ، وكم من امرأة وطفل فقدا أعصابهما ، وكم من مخاوف أقضت مضاجع الناس في بيوتهم ، حتى إن القتل لا يكاد في رأيي يعادل السرقة أحيانا ؛ لأنه حادث فردي ينتهي أثره

١٨٢

فورا بالنسبة لغير أسرة القتيل ، وهو ينحصر بما يكون من علاقة خاصة بين القاتل والمقتول ، أما السرقة فإن تأثيرها جماعي ودائم ، تبعد بنحو دائم أصحاب الأموال والمتاجر والمزارع والمصانع من الطمأنينة والثقة ، وتهدد ثرواتهم بالضياع والخسارة.

ثم أكد الله تعالى ضرورة حد السارق فقال : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي غالب في تنفيذ أوامره ، يمضيها كيف يشاء ، قوي في انتقامه من السّراق ، حكيم في صنعه وتشريعه ، لا يشرع إلا ما فيه المصلحة والحكمة ، ويضع الحدود والعقوبات بما يراه الأنسب والأقطع لدابر الجريمة ، واستئصال شأفة المجرمين ، وزجر أمثالهم من التفكير في مثل جريمتهم ، وكأنه يقول : لا تتساهلوا في شأن السراق واشتدوا في تطبيق حدهم ، ففي ذلك الخير كله وعينه ، وإن كره الحاقدون وانتقد الجاهلون.

ثم بيّن الله تعالى حكم التائبين الذين ندموا على ما فعلوا وأصلحوا أحوالهم فقال : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ..) أي فمن تاب من بعد سرقته ، وأناب إلى الله ، ورجع عن السرقة ، ورد أموال الناس أو بدلها إليهم ، وأصلح نفسه وزكاها بأعمال التقوى والبر ، وكانت توبته بنية صادقة مع العزم على ترك العود ، فإن الله يقبل توبته ، فلا يعذبه في الآخرة.

وأما القطع فلا تسقطه التوبة عند جمهور الفقهاء ، وتسقطه في رأي الحنابلة ، وهو الأولى ؛ لأن ذكر الغفور الرحيم يدل على سقوط العقوبة وهي القطع.

وأكد الله تعالى عدالة حد السرقة وأنه جاء على وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ ..) أي ألم تعلم أيها الرسول وكل مبلّغ حكم الله أن الله هو المالك لجميع من في السموات والأرض ، وهو المدبر له ، والحاكم فيه الذي

١٨٣

لا معقب لحكمه ، وهو الفعال لما يريد ، ولا يفعل إلا ما فيه الحكمة والعدل والرحمة ، حتى يتوافر الأمن للفرد والجماعة ، وتطمئن النفوس على أموالها ، لتنصرف إلى أعمالها وهي آمنة على البيت والأهل وأماكن العمل ، ومن حكمته : أنه وضع العقاب للمحاربين المفسدين في الأرض واللصوص المهددين حرمة المال وحرية الإنسان ، وأنه يغفر للتائبين من الفريقين ، إذا صدقوا في التوبة وأصلحوا أعمالهم ؛ لأن الهدف ليس هو العقاب لذاته ، وإنما تحقيق الصلاح ونشر الأمن وإشاعة الطمأنينة ، ومن حكمته وعدله أنه يعذب العصاة تربية وزجرا لهم ولأمثالهم وتأمينا لمصالح العباد ، ومن رحمته : أنه يرحم التائبين ويسقط عنهم العقاب ، وهو القادر على كل شيء من التعذيب والرحمة ، والله أرحم بعباده من أنفسهم ، وأشد من رحمة الأم بولدها ، فهذا العقاب للحرابة والسرقة لمصلحتهم ومصلحة إخوانهم في المجتمع ، فليس لأحد أن يتباكى على يد أثيم أو يشفق على يد عضو في المجتمع ؛ لأن هذا العضو فاسد ضار يهدم ويخرب وليس فيه أمل بخير إذا لم يصلح حاله.

فقه الحياة أو الأحكام :

العقاب دواء المنحرف الذي لا علاج له بغير التأديب ، وليس من العدل ولا من الرحمة والحكمة والمصلحة أن تسود الجريمة في المجتمع ، ويعيش الناس في فوضى واضطراب ، وقلق واشمئزاز.

وتشريع الإله في كل الخير لمن أراد السعادة لنفسه ولأمته ، وليس أدل على فشل التشريعات الجزائية الوضعية من أن الجريمة في بلادها تزداد وتكثر ، ويتفنن المجرمون في أنواع الجريمة ، لعدم توافر العقاب الزاجر الفعال الذي يستأصل الجريمة أو يقلل من وجودها.

والبلاد التي يطبق فيها التشريع الجنائي الإسلامي مثل واضح بارز في العالم

١٨٤

لانتشار الأمن والطمأنينة على الأنفس والأموال ، ولا يظنن أحد أن هذه البلاد ملأى بالمشوهين ومقطوعي الأيدي والأرجل ، وإنما تطبيق الحدود نادر تقريبا ، لأنه لا يطبق حد إلا إذا توافرت شروط كثيرة ، تتجاوز العشرة ، مما أدى إلى تضييق الحد بسبب الشبهة وانتفاء شرط من الشروط أو الضوابط ، ولا تقطع أكثر من يد أو يدين في بلاد سكانها نحو عشرة ملايين. ففي السرقة مثلا لا يجب القطع إلا بجمع أوصاف في السارق ، وفي الشيء المسروق ، وفي الموضع المسروق منه ، وفي صفته.

أما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف : وهي البلوغ والعقل ، وأن يكون غير مالك للمسروق منه ، وألا يكون له عليه ولاية ، فلا قطع بين السيد والعبد بأخذ أحدهما مال الآخر.

والسرقة من السارق توجب القطع عند المالكية ، كالسرقة من الغاصب ؛ لأنّ حرمة المالك باقية عليه لم تنقطع عنه. وقال الشافعي : لا يقطع ؛ لأنه سرق من غير مالك ومن غير حرز.

وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فأربعة أوصاف : وهي النصاب كما تقدم بيانه ، وأن يكون مما يتموّل ويتملك ويحل بيعه. أما ما لا يتمول ولا يحل بيعه كالخمر والخنزير فلا يقطع أحد بسرقته باتفاق حاشا الحر الصغير عند الإمام مالك وابن القاسم. وقيل : لا قطع بسرقته ، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ؛ لأنه ليس بمال. ورد المالكية : هو من أعظم المال ؛ ولم يقطع السارق في المال لعينه ، وإنما قطع لتعلق النفوس به ، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد.

وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا ، فقال أشهب : يقطع سارق المأذون في اتخاذه ، وكذا سارق لحم

١٨٥

الأضحية أو جلدها إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم ، وقال ابن القاسم : لا يقطع سارق الكلب ، وهو مذهب المالكية ، فلا يقطع من سرق كلبا ولو معلّما أو للحراسة ؛ لأنه نهىصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيعه.

وأما آلات الملاهي فيقطع إن كان يبقى منها بعد إفساد صورتها وإذهاب منفعتها المقصودة ربع دينار فأكثر.

وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها ، يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة ، وكذلك الصليب من الذهب أو الفضة.

والوصف الثالث : ألا يكون للسارق فيه ملك ، كمن سرق ما رهنه أو ما استأجره ، ولا شبهة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال ؛ لأن للسارق فيه نصيبا ، وتقطع يد السارق من بيت المال في رأي الإمام مالك ؛ لعموم لفظ السرقة.

والوصف الرابع : أن يكون مما تصح سرقته كالمال والعبد الصغير ؛ لأن ما لا تصح سرقته كالعبد الكبير فلا قطع فيه.

وأما ما يعتبر في المسروق منه : فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق ، وجملة القول فيه : أن كل شيء له مكان معروف ، فمكانه حرزه ، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه ، فالدور والمنازل حرز لما فيها ، غاب عنها أهلها أو حضروا ، وكذلك بيت المال حرز لجماعة المسلمين ، والسارق لا يستحق فيه شيئا ، في رأي المالكية.

ومن سرق من المغانم بعد تعين الحقوق بالقسمة فعليه القطع ، ومن أخذ منها شيئا قبل القسمة فوق حقه قطع ، وإلا لم يقطع.

والقبر والمسجد حرز ، فيقطع النباش عند الأكثر ، وقال أبو حنيفة :

١٨٦

لا قطع عليه ؛ لأنه سرق من غير حرز مالا معرضا للتلف لا مالك له ؛ لأن الميت لا يملك.

وظهور الدواب حرز لما حملت ، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع ، سواء كان معه أهله ، أم سرقت بليل أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة ، والدواب على مرابطها والسيارات في الشوارع حرز لها ، سواء كان معها أهلها أم لا. والسفينة حرز لما فيها ، سواء كانت سائبة أو مربوطة ، فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة ، وإن كانت مربوطة فهي محرزة. وإن كان معها أحد فهي محرزة بالحافظ ، كالدابة بباب المسجد أو في السوق ليست محرزة إلا أن يكون معها حافظ. ومن ربطها بفناء المسجد أو اتخذ موضعا مربطا لدوابه ، فإنه حرز لها.

ولا خلاف في أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة ، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ ، وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار ، وإن لم يدخل بها بيته ، ولا خرج بها من الدار.

ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما ، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجه عن جابر : «أنت ومالك لأبيك» ويقطع الولد في رأي جمهور المالكية في سرقة مال الأبوين ؛ لأنه لا شبهة له فيه. وقال الحنفية وابن وهب وأشهب من المالكية : لا يقطع ؛ لأن الابن ينبسط في مال أبيه في العادة. وقال مالك : لا يقطع الجد ؛ لأنه أب.

وقال أبو حنيفة وأبو ثور : لا قطع على أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة والأخت وغيرهم.

وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق : يقطع من سرق من هؤلاء.

١٨٧

وأما سارق المصحف فيقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد ، وهو رأي الشافعي وأبي يوسف وأبي ثور وابن القاسم. وقال أبو حنيفة : لا يقطع من سرق مصحفا.

وأما الطرار (النشال) فقال مالك والأوزاعي والشافعي : يقطع. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وإسحاق : إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمّه فطرّها فسرقها لم يقطع ، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكمّ ، فأدخل يده فسرقها قطع.

وأما إقامة الحدود في السفر وفي دار الحرب : فقال مالك والليث بن سعد : تقام الحدود في أرض الحرب ، ولا فرق بين دار الحرب والإسلام ؛ لعموم القرآن وهو الصحيح.

وقال أبو حنيفة : إذا غزا الجند أرض الحرب ، وعليهم أمير ، فإنه لا يقيم الحدود في عسكره ، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبهه ، فيقيم الحدود في عسكره ، لحديث جنادة بن أبي أمية عند الترمذي قال : «كنا مع بسر بن أرطاة في البحر ، فأتي بسارق يقال له : مصدر قد سرق بختية (١) ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تقطع الأيدي في الغزو» ولو لا ذلك لقطعته.

واتفق العلماء على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة ، فحصل لكل واحد منهم نصاب ، فيقطع الكل. أما إذا كان المسروق كله نصابا ، فلا يقطع أحد في رأي أبي حنيفة والشافعي ؛ لأن كل واحد منهم لم يسرق نصابا. وقال المالكية : إن كان لكل واحد قدرة على حمله بانفراده ، لا يقطع أحد ، وإن احتاجوا في إخراجه إلى تعاون بعضهم ، فيقطعون جميعا.

__________________

(١) البختية : الأنثى من الجمال البخت ، وهي جمال طوال الأعناق.

١٨٨

وقال الحنابلة : يقطعون جميعا ، لضرورة حفظ المال.

وإن اشترك اثنان في نقب وتعاونا فيه ، قطعا عند المالكية والحنابلة ، وإن انفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة ، وقال أبو حنيفة : إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع وإلا فلا قطع. وقال الشافعي : لا قطع على من نقب ولم يسرق ، وأما من سرق من نقب غيره ، فإنه سرق من حرز مهتوك الحرمة. ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز ، فأدخل الآخر يده فأخذه ، فعليه القطع عند الجمهور ، ولا قطع عليه عند أبي حنيفة.

وإن أخطأ الحاكم فقطع يد السارق اليسرى بدل اليمنى ، لا يزاد عليه ، استحسانا ، في قول أكثر العلماء.

وإذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا ، فقال مالك يقتل ويدخل القطع فيه. وقال الشافعي : يقطع ويقتل ؛ لأنهما حقان لمستحقين ، فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه ، وهذا هو الصحيح ، كما اختار ابن العربي والقرطبي.

والحكمة في البدء بالسارق قبل السارقة في هذه الآية ، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني : هو أن حب المال على الرجال أغلب ، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب ، فبدأ بما تكون الدواعي منه أكثر على ارتكاب الجرم.

والمستفاد من قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : هو أنه لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول قائل : نحن أبناء الله وأحباؤه ، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد أي يرتكب الجرم. وقد سبق مثل هذه الجملة في الرد على مزاعم اليهود والنصارى.

١٨٩

مسارعة المنافقين واليهود إلى الكفر

وموقف اليهود من أحكام التوراة

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣))

الإعراب :

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) إما مبتدأ وخبره : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أو صفة لموصوف محذوف تقديره : فريق سماعون ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم سماعون للكذب. وقد تزاد اللام في المفعول ، كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف ٧ / ١٥٤]. وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف ١٢ / ٤٣].

١٩٠

(لَمْ يَأْتُوكَ) : جملة فعلية في موضع جر صفة لقوم. و (يُحَرِّفُونَ) : جملة فعلية حال من ضمير (سَمَّاعُونَ). والتقدير : يسمعون مقدّرين للتحريف. ويجوز أن تكون الجملة في موضع رفع ؛ لأنه صفة لموصوف محذوف في موضع رفع بالابتداء وتقديره : وفريق يحرفون ، وهو عطف على (سَمَّاعُونَ) وخبره : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا). (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) الواو للحال من التحكيم ، والعامل ما في الاستفهام من التعجب (فِيها حُكْمُ اللهِ فِيها) : إما متعلق بخبر مقدم ، وإما ألا يكون له محل ، وتكون الجملة مبينة ؛ لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم ، وإما أنه حال من التوراة.

البلاغة :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) خوطب بلفظ الرسالة للتشريف والتكريم.

(يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) آثر (فِي) على كلمة «إلى» للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر.

(سَمَّاعُونَ ..) صيغة مبالغة ، أي مبالغون مكثرون في سماع الكذب.

(خِزْيٌ) تنكيره لتفخيم الأمر. وكرر قوله : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) لزيادة التقرير والتأكيد.

(فِي الدُّنْيا .. والْآخِرَةِ) بينهما طباق.

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) تعجب من تحكيمهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم لا يؤمنون به ولا بكتابه.

(وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) الإشارة بالبعيد لبعد درجتهم في العتو والمكابرة.

المفردات اللغوية :

(لا يَحْزُنْكَ) لا يؤلمك فعل هؤلاء (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يقعون فيه بسرعة ، أي يظهرونه إذا وجدوا فرصة (مِنَ الَّذِينَ) للبيان (بِأَفْواهِهِمْ) قالوا بألسنتهم (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) وهم المنافقون (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) الذي أقرته أحبارهم ، سماع قبول (لِقَوْمٍ) لأجل قوم (آخَرِينَ) من اليهود (لَمْ يَأْتُوكَ) وهم أهل خيبر (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) الذي في التوراة كآية الرجم (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) التي وضعه الله عليها أي يبدلونه (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) الحكم المحرف أي الجلد أي أفتاكم به محمد فاقبلوه (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) أفتاكم بخلافه (فِتْنَتَهُ) اختباره وإضلاله.

(خِزْيٌ) ذل بالفضيحة والصغار (لِلسُّحْتِ) للكسب الحرام كالرشوة وثمن الكلب والخمر والخنزير ، وسمي المال الحرام سحتا ؛ لأنه يسحت الطاعات والبركات أي يذهبها (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة ٥ / ٤٩]

١٩١

فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا مع مسلم ، وهو أصح قولي الشافعي ، فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب القضاء بينهم (بِالْقِسْطِ) بالعدل (الْمُقْسِطِينَ) العادلين في الحكم ، أي يثيبهم.

(فِيها حُكْمُ اللهِ) بالرجم ، والمراد من قوله : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) استفهام تعجيب أي لم يقصدوا بذلك معرفة الحق ، بل ما هو أهون عليهم (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ) يعرضون عن حكمك بالرجم الموافق لكتابهم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) التحكيم.

سبب النزول : نزول الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ ..) :

روى أحمد وأبو داود عن ابن عباس قال : أنزلها الله في طائفتين من اليهود ، قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا فاصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة ، فديته خمسون وسقا (١) ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة ، فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك ، حتى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان ذلك في حيين قط؟ دينهما واحد ، ونسبتهما واحدة ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ، إنا أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وخوفا وفرقا ، فأما إذ قدم محمد ، فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ، فأرسلوا إليه ناسا من المنافقين ليختبروا رأيه ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) الآية.

أي أن الآية نزلت في بني قريظة والنضير ، فتحاكموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحكم بالتسوية بين القرظي والنضيري.

وقيل : إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني قريظة ، فخانه ، حين أشار إليهم أنه الذّبح (٢).

__________________

(١) الوسق : ستون صاعا ، والصاع : ٢٧٥١ غم.

(٢) كان ذلك يوم حصارهم ، فسألوه ما الأمر؟ وعلام ننزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح.

١٩٢

وقيل : إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم ؛ قال القرطبي : وهذا أصح الأقوال(١). والقصة ما يأتي :

روى الأئمة : مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن البراء بن عازب قال : مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيهودي محمّما (٢) مجلودا ، فدعاهم فقال : أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال : اللهم لا ، ولو لا أنك أنشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ، وأمر به فرجم ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) إلى قوله : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ).

وأخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عمر قال : «إن اليهود أتوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا ، فقال : ما تجدون في كتابكم؟ قالوا : نسخّم وجوههما ويخزيان ، قال : كذبتم إن فيها الرجم : (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فجاءوا بالتوراة ، وجاؤوا بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا ، فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه ، فقيل له : ارفع يدك فرفع يده ، فإذا هي تلوح (أي آية الرجم) فقالوا : يا محمد ، إن فيها الرجم ، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا ، فأمر بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرجما ، فلقد يجأ عليها (ينحني) يقيها الحجارة بنفسه».

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٦ / ١٧٦

(٢) التحميم : وضع الحمة أي الفحمة في الوجه ، وهو التسخيم الوارد في الرواية الأخرى من السخام : وهو سواد القدر.

١٩٣

نزول الآية (٤٢) :

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) : نزلت هذه الآية في اليهود ، كان الحاكم منهم إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة ، سمع كلامه ، وعول عليه ، ولا يلتفت لخصمه ، فكان يأكل السحت ، ويسمع الكذب ، وكان الفقراء منهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية ، ويسمعون منهم الأكاذيب لترويج اليهودية والطعن على الإسلام ، فالفقراء كانوا يأكلون السحت الذي يأخذونه منهم ، ويسمعون الكذب ، فهذا هو المشار إليه بقوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ). وقيل : سماعون للكذب الذي كانوا ينسبونه إلى التوراة أكالون للربا ، كما قال تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) [النساء ٤ / ١٦١].

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى بعض التكاليف والشرائع ، وأعرض عنها بعض الناس متسارعين إلى الكفر ، صبّر الله رسوله على تحمل ذلك ، وأمره بأن لا يحزن لأجل ذلك ، فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ ..).

وقد خاطب تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) في مواضع كثيرة ، وما خاطبه بقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) إلا في موضعين : أحدهما ـ هاهنا ، والثاني ـ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة ٥ / ٦٧] وهذا خطاب تشريف وتعظيم.

التفسير والبيان :

نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر ، الخارجين عن طاعة الله ورسوله ، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عزوجل : وهم المنافقون واليهود.

١٩٤

فقال : يا أيها الرسول : وهو خطاب تشريف وتعظيم وتعليم للمؤمنين أن يخاطبوه بوصفه ، كما قال تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور ٢٤ / ٦٣] فأصبحوا ينادونه بقولهم : «يا رسول الله» بعد أن كانوا ينادونه «يا محمد».

لا يحزنك أي لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في إظهار الكفر ، والانحياز إلى جانب الأعداء ، كلما سنحت لهم الفرصة ، فإني ناصرك عليهم ، وكافيك شرهم.

وليس المراد النهي عن الحزن ذاته ؛ لأنه أمر طبعي جبلّي لا اختيار للإنسان فيه ولا تكليف به ، وإنما المراد النهي عن لوازمه من مقدمات ونتائج من تعظيم شأن الحزن ، وتعاطي أسبابه.

ثم بين من هؤلاء ، وهم الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم ، ولم تؤمن قلوبهم ، وهم المنافقون ، واليهود أعداء الإسلام وأهله الذين يصغون لسماع الكذب من أحبارهم ، سواء فيما يتعلق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بأحكام دينهم ، والكل سماعون لأقوام آخرين من اليهود الذين لا يأتون مجلسك يا محمد ، فهم جواسيس ليبلغوهم ما سمعوا منه ، ومعنى قوله : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ..) أي لأجل قوم.

وأولئك اليهود يحرفون كلام التوراة من بعد أن وضعه الله مواضعه ، أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرم حرامه ، أي يحرفونه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة أو بالزيادة فيه والنقص منه ، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير معناه الحقيقي ، وتأويله بمعنى آخر ، وتبديله عن إصرار وعلم بالحقائق.

وهم يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسألوه عن حكم الزانيين المحصنين : إن أفتاكم بالتسخيم (أو التحميم) والجلد ، فاقبلوا منه وارضوا به ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبوله ولا ترضوا به.

١٩٥

والحال أنه من يرد الله اختباره في دينه ، فيظهر الاختبار كفره وضلالته ، فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه ، ولن تملك له أيها الرسول من الله شيئا يمنع ذلك ، ولن تستطيع هدايته وإرشاده إلى الحق.

فهؤلاء المنافقون واليهود قد أظهر الاختبار مقدار فسادهم ؛ لأنهم يقبلون الكذب ، ويحرفون أحكام دينهم ، اتباعا لأهوائهم ، فلا تحزن عليهم ، ولا تطمع بعد هذا بإيمانهم.

أولئك الذين اختبرهم الله هذا الاختبار لم يرد الله بعدئذ تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق ؛ لأن من دأب على الباطل ، وأمعن في السوء والشر ، لم يبق فيه أمل للخير ، ولم يعد له سبيل للنور ورؤية الحق.

وجزاء الفريقين من اليهود والمنافقين الخزي في الدنيا ، والعذاب العظيم الهول الشديد الوقع في الآخرة ، أما خزي المنافقين في الدنيا فهو افتضاح أمرهم وظهور كذبهم للنبي وخوفهم من القتل ، وأما خزي اليهود فهو أيضا فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نص كتابهم في إيجاب الرجم على الزناة المحصنين.

ثم كرر تعالى وصفهم للتأكيد وتقرير المعنى ، وهو كثرة سماعهم للكذب ، وكثرة أكلهم للسحت ، أي المال الحرام من أخذ الرشوة ، واستباحة أجر البغي (الزانية) وعسب الفحل (أجرة ضرابه) وثمن الخمر والميتة وحلوان الكاهن ، والاستئجار في المعاصي ، كما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد. ويرجع أصل ذلك إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ، ويعيّر به الإنسان (١).

ثم خيّر الله تعالى رسوله بالحكم بين اليهود والإعراض عن الحكم ، فقال فيما معناه : فإن جاؤوك متحاكمين إليك ، فأنت بالخيار بين الحكم أو القضاء بينهم ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ١١ / ٢٣٥

١٩٦

والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم وعلمائهم. وهذا التخيير خاص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم دون أهل الذمة ، فأهل الذمة يجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا ؛ لأن من عقد معهم عقد الذمة التزموا أحكام الإسلام في الجرائم والمعاملات ، إلا في بيع الخمر والخنزير ، فإنهم يقرون عليه ، ولا يرجم الزناة المحصنون في رأي أبي حنيفة ومالك ؛ لأن الإسلام من شروط الرجم ، ويرجمون في رأي الشافعي وأحمد عملا بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم اليهوديين اللذين زنيا ، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان.

وبهذا يوفق بين هذه الآية وآية (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (الآية ٤٩ الآتية) وهو رأي الشافعية. وقيل : نسخت الآية الأولى بالثانية ، وهو قول ابن عباس والحسن البصري ومجاهد وعكرمة.

وإن تعرض عن الحكم بينهم فلن يلحقك شيء من ضررهم وعداوتهم ، فالله حافظك وعاصمك من الناس. والغرض من هذه الجملة بيان حال الأمرين اللذين خير فيهما عليه الصلاة والسلام ، وكانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد بدل الرجم ، فإذا أعرض عنهم اغتاظوا وربما حاولوا أذاه ، فبين تعالى أنه لا تضره عداوتهم له.

وإن حكمت بينهم ، فاحكم بالعدل الذي أمرت به ، إن الله يحب العادلين ، والعدل شرعة القرآن والإسلام ، سواء بين المسلمين ، أو مع الأعداء.

وكيف يحكّمونك في قضية مثل الزانيين؟ وعندهم التوراة فيها شريعتهم وحكم الله ، ثم يتولون ويعرضون عن حكمك بعد ذلك ، وما أولئك بالمؤمنين أبدا ، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون.

هذه الآية تعجب من تحكيمهم ، لعدولهم عن حكم كتابهم ، ورجوعهم إلى حكم من يعتقدونه مبطلا ، وإعراضهم عن حكمه بعد تحكيمه.

١٩٧

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أن اليهود حكّمت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة ، واستند في ذلك إلى قول ابن صوريا ، وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها ، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان.

فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام : فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب ونحوها من مسائل الجنايات ، حكم بينهم ، ومنعهم منه بلا خلاف. وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي ؛ لقوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) وهو نص في التخيير. غير أن مالكا رأى أن الإعراض عنهم أولى ، فإن حكم حكم بينهم بحكم الإسلام. وقال الشافعي : لا يحكم بينهم في الحدود. وقال أبو حنيفة : يحكم بينهم على كل حال ؛ لقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة ٥ / ٤٩].

ودلت الآية على أن التحكيم جائز ، قال مالك : إذا حكّم رجل رجلا فحكمه ماض ، وإن رفع إلى قاض أمضاه ، إلا أن يكون جورا. وقال سحنون : يمضيه إن رآه صوابا. قال ابن العربي : وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب ، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان. والضابط أن كل حق اختصم الخصمان به جاز التحكيم فيه ، ونفذ تحكيم المحكم به (١).

وقال الشافعي : التحكيم جائز ، وهو غير لازم ، وإنما هو فتوى ؛ لأنه لا يقدم آحاد الناس على الولاة والحكام ، ولا يأخذ آحاد الناس الولاية من أيديهم.

وظاهر الآية دل على أن المحكّم ينفذ حكمه فيما حكم فيه ، فإن اليهود حكموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفذ حكمه فيهم.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٦١٩

١٩٨

وعقاب المحرّفين : خزي في الدنيا بفضيحتهم حين أنكروا الرجم ، وإذلالهم وعذاب عظيم جدا في الآخرة.

ودلت الآية : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) على كثرة سماع اليهود الكذب وكثرة أكلهم المال الحرام ، كالرشوة في الحكم وحلوان الكاهن (أي ما يعطى على الكهانة) ومهر البغي وغير ذلك مما ذكر.

والرشوة حرام في كل شيء ، وهي قد تكون في الحكم أو التقاضي ، وهي محرمة على الراشي والمرتشي ، قال عليه الصلاة والسلام : «لعن الله الراشي والمرتشي ، والرائش الذي يمشي بينهما» (١) لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه ، كان فاسقا ؛ لقبوله الرشوة على أن يحكم له بما يريده ، وإن حكم بالباطل ، كان فاسقا ؛ لأخذه الرشوة وحكمه بالباطل.

وقد تكون الرشوة في غير الحكم أو القضاء ، مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه ، فهذه الرشوة محرمة على آخذها ، غير محرمة على معطيها ، كما قال الحسن : «لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه». وحينما كان ابن مسعود بالحبشة رشا دينارين وقال : «إنما الإثم على القابض ، دون الدافع».

وأرشدت الآية : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ...) إلى التخيير في الحكم بين المعاهدين أهل الموادعة ، لا أهل الذمة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود ، ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة ، بل يجوز الحكم إن أردنا. فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟.

قال المهدوي : أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي ، واختلفوا في الذميين.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده عن ثوبان ، وهو حديث صحيح.

١٩٩

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم بينهم بشريعة موسى عليه‌السلام ، ولكن كان ذلك قبل أن تنزل عليه الحدود. أما الآن وقد أكمل الله الدين وتقررت الشريعة ، فلا يجوز لأي محكّم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية.

ويلاحظ أن أقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالإجماع ، لكن فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به.

والجمهور على رد شهادة الذمي ؛ لأنه ليس من أهلها ، فلا تقبل على مسلم ولا كافر ، وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذا لم يوجد مسلم.

فإن قيل : فقد حكم عليه الصلاة والسلام بشهادتهم ورجم الزانيين ، فالجواب : أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به ، على نحو ما عملت به بنو إسرائيل ، إلزاما للحجة عليهم ، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم ، فكان منفذا لا حاكما.

وأوضحت الآية مثلما ذكر في آيات أخرى أن بعض اليهود لا كلهم يحرفون كلام التوراة على غير حقيقته ، أي يتأولونه على غير تأويله ، بعد أن فهموه وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عزوجل ، وبيّن أحكامه ، مثل جعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين ، تغييرا لحكم الله عزوجل.

ودلت آية : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة ، على أن الضلال بمشيئة الله تعالى ، وأن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر ، وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ، ولو فعل ذلك لآمن ، وأنه لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم ، كما طهرت قلوب المؤمنين ثوابا لهم (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١١ / ٢٣٣ ، تفسير القرطبي : ٦ / ١٨٢

٢٠٠