التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

٦ ـ عرفان الجميل ووجوب تذكر نعمة الله على المؤمنين في رد كيد الأعداء عنهم وعن نبيهم عليه الصلاة والسلام.

٧ ـ وجوب تقوى الله بنحو عام في كل أحوال الإنسان ، ووجوب التوكل على الله بعد اتخاذ الأسباب ، لإحراز السعادة الدنيوية والأخروية.

٨ ـ جزاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات والأفعال الخيرة لأنفسهم وإخوانهم : هو المغفرة لذنوبهم والظفر بالخلود في الجنان. وجزاء الكافرين بالله ورسله المكذبين بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته : هو ملازمة نار الجحيم ، وهي بئس المأوى وبئس المصير.

وكل من الجزاءين مؤكد الحصول ، لافتتاحه بوعد الله ، ووعد الله أقوى ؛ لأن الإله قادر على جميع المقدورات ، عالم بجميع المعلومات ، غني عن كل الحاجات.

٩ ـ آية (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) نص قاطع في أن الخلود ليس إلا للكفار ؛ لأن هذا القول يفيد الحصر ، والمصاحبة تقتضي الملازمة ، كما يقال : أصحاب الصحراء ، أي الملازمون لها.

نقض اليهود والنصارى الميثاق

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً

١٢١

حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))

الإعراب :

(لَئِنْ) لام قسم (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (أصحاب القلوب).

(وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) : (خائِنَةٍ) : إما صفة لموصوف محذوف ، وتقديره : على فرقة خائنة ، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. أو تكون (خائِنَةٍ) بمعنى خيانة ؛ لأن فاعلة تأتي مصدرا ، كالخالصة بمعنى الإخلاص : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) وكالطاغية بمعنى الطغيان : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) والكاذبة بمعنى الكذب: (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي كذب ، والعافية والعاقبة وغير ذلك.

(إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من الهاء والميم في (مِنْهُمْ).

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) : من تتعلق بأخذنا ، كما في قوله: (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) معناه : أخذنا ميثاقا من بني إسرائيل اليهود.

البلاغة :

(وَبَعَثْنا مِنْهُمُ) فيه التفات عن الغيبة : «وبعث» إلى المتكلم ، اعتناء بشأنه.

١٢٢

المفردات اللغوية :

(وَبَعَثْنا) أقمنا (مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) من كل سبط نقيب يكون كفيلا على قومه بالوفاء بالعهد توثقة عليهم ، والنقيب : كبير القوم الذي يعنى بشؤونهم وهو الضامن (إِنِّي مَعَكُمْ) بالعون والنصرة (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتموهم (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بالإنفاق في سبيله ببذل المال فوق الواجب ، والقرض الحسن : ما كان عن طيب نفس (بَعْدَ ذلِكَ) بعد الميثاق (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أخطأ طريق الحق ، والسواء في الأصل : الوسط ، و (سَواءَ السَّبِيلِ) : وسطه. (لَعَنَّاهُمْ) طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا (قاسِيَةً) شديدة جامدة لا تلين لقبول الحق والخير والإيمان (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) التحريف : إمالة الشيء عن موضعه إلى جانب آخر ، فاليهود يحرفون الكلام الذي في التوراة من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره عن مواضعه التي وضعه الله عليها ، أي يبدلونه. (وَنَسُوا) تركوا (حَظًّا) نصيبا (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أمروا به في التوراة من اتباع محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتطلع : تظهر (عَلى خائِنَةٍ) أي خيانة (مِنْهُمْ) بنقض العهد وغيره (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ممن أسلم. (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى) : متعلق بقوله : (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) أي أخذنا الميثاق من النصارى ، كما أخذناه من بني إسرائيل اليهود (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) في الإنجيل من الإيمان وغيره ، ونقضوا الميثاق (فَأَغْرَيْنا) أوقعنا بينهم العداوة والبغضاء بتفرقهم واختلاف أهوائهم ، فكل فرقة تكفّر الأخرى (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ) في الآخرة (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) فيجازيهم عليه.

المناسبة :

موضوع الآيات كالتي قبلها تذكير بالمواثيق ، فبعد أن ذكّرنا الله بميثاقه على السمع والطاعة للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمرنا بالوفاء بالعهد ، من إحلال الحلال وتحريم الحرام ، وذكّرنا بنعمه الداعية للوفاء ، بيّن لنا في هذه الآيات أخذ الميثاق على اليهود والنصارى ، وما كان من نقضهم له ، وعقابهم على ذلك في الدنيا والآخرة ، ليتعظ المسلمون بمن تقدمهم من الأمم.

التفسير والبيان :

لقد أخذ الله العهد والميثاق على بني إسرائيل بواسطة نبيهم موسى ليعملن

١٢٣

بالتوراة التي فيها شريعتهم التي اختارها لهم ، وليقبلنها بجد ونشاط : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة ٢ / ٦٣ و ٩٣] ولا يزال هذا العهد في التوراة الحالية ، وأمرناه أن يختار اثني عشر نقيبا منهم ، يتولون أمور الأسباط (كالقبائل في العرب) ويرعونهم ، والنقباء : زعماء أو عرفاء أسباطهم الاثني عشر ، والنقيب : كبير القوم ، القائم بأمورهم الذي ينقّب عنها ، وعن مصالحهم فيها ، وبعثهم : إرسالهم لمقاتلة الجبارين في بيت المقدس.

وتاريخ ذلك كما روى ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس : أنه لما نجا بنو إسرائيل من فرعون وصحبه ، أمرهم الله بالسير إلى بيت المقدس ، التي كان يسكنها الكنعانيون الجبابرة ، وقال لهم : إني جعلتها لكم وطنا ، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها ، وإني ناصركم ، ولما توجه موسى عليه‌السلام لقتال الجبابرة ، أمره الله أن يختار اثني عشر نقيبا منهم ، ويأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بتنفيذ ما أمروا به ففعل ، فلما دنا من الأرض المقدسة بعث النقباء يستطلعون الأخبار ، فرأوا أجساما قوية ، وشوكة وقوة ، فهابوهم ورجعوا وحدثوا قومهم بما رأوا ، وقد كان موسى نهاهم عن ذلك ، فنقضوا العهد إلا نقيبين ، وهما اللذان قال الله تعالى فيهما : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ)(١) [المائدة ٥ / ٢٣].

(وَقالَ اللهُ : إِنِّي مَعَكُمْ) أي وقال الله لموسى الذي بلغ الوحي إلى بني إسرائيل : إني معكم ، أي ناصركم وحافظكم ومعينكم ، ومطلع عليكم ، ومجازيكم على أعمالكم.

وعاهدهم الله بالعهد الإلهي الشامل ومضمونه : لئن أقمتم الصلاة ، وأديتموها على الوجه الأكمل ، وأعطيتم زكاة أموالكم التي تزكو بها نفوسكم وتطهر ، وآمنتم

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي : ١١ / ١٨٤ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٢

١٢٤

برسلي التي سترسل لكم بعد موسى ، أي صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي ، مثل داود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد عليهم‌السلام ، وعزرتموهم : أي نصرتموهم وآزرتموهم على الحق ومنعتموهم من الأعداء ، وأقرضتم الله قرضا حسنا أي أنفقتم في سبيله وابتغاء مرضاته ، زيادة على ما أوجبه الله عليكم بالزكاة ، لئن فعلتم كل هذا ، لأكفرن عنكم سيئاتكم ، أي أستر ذنوبكم وأمحوها ولا أؤاخذكم بها ، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ، أي أدفع عنكم المحذور واحصل لكم المقصود.

فمن جحد منكم شيئا مما أمرته به ، وخالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده ، فقد أخطأ الطريق الواضح المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لكم ، وعدل عن الهدى إلى الضلال.

ثم بيّن تعالى أنهم نقضوا هذا العهد ، فجازاهم على فعلهم فقال : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم ، أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ورحمة الله ، وأنزلنا عليهم المقت والغضب والسخط ، وجعلنا قلوبهم غليظة قاسية شديدة ، لا تقبل الحق ، ولا تتعظ بموعظة : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة ٢ / ٧].

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي فسدت أفهامهم وساء تصرفهم في آيات الله ، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله ، وحملوه على غير مراده ، وبدلوه وغيروه أي أن التحريف نوعان :

تحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والزيادة والنقص.

وتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له.

١٢٥

وقد أخبر الله عن تحريفهم وتأويلاتهم في مواضع كثيرة منها : (وَيَقُولُونَ : سَمِعْنا وَعَصَيْنا ، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ، وَراعِنا ، لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) [النساء ٤ / ٤٦].

ومن المعروف تاريخيا وباعتراف اليهود والنصارى أنفسهم : أن التوراة التي أنزلت على موسى عليه‌السلام وكتبها وأمر بحفظها وكانت نسخة واحدة ، قد فقدت باتفاق المؤرخين من اليهود والنصارى عند سبي البابليين لهم وإغارتهم عليهم ، ولم يكن عندهم غيرها ، ولم يحفظوها ، بسبب إحراق البابليين هيكلهم وتخريب عاصمتهم وسبي أحيائهم.

أما الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى التي فيها أخبار عن موته وحياته ، وأنه لم يقم بعده أحد مثله ، فإنها كتبت بعده بزمن طويل ، وبعد بضعة قرون ، كتبها عزرا الكاهن بما بقي عند شيوخهم الذين بقوا بعد الأسر والقتل ، وبعد أن أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى بلادهم. وكذلك الإنجيل كتب باعتراف النصارى بعد عيسى بحوالي قرن فأكثر.

(وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي وتركوا العمل به ، رغبة عنه ، ونسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن عباس : نسوا الكتاب أي طائفة من أصل الكتاب ، وتركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الحسن البصري : تركوا عرا دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها ، وقال غيره : تركوا العمل ، فصاروا إلى حال رديئة ، فلا قلوب سليمة ، ولا فطر مستقيمة ، ولا أعمال قويمة.

وهذا كله لتظل معجزة القرآن الدالة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم باقية دائمة ، فقد أخبر عن ذلك بعد عدة قرون من موت موسى عليه‌السلام.

(وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) يعني مكرهم وغدرهم وخيانتهم لك

١٢٦

ولأصحابك ، قال مجاهد وغيره : يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. والخائنة : الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة والخاطئة بمعنى الخطيئة. وقال بعضهم : معنى ذلك : ولا تزال تطلع على خائن منهم ، والعرب تزيد الهاء في آخر المذكر ، كقولهم : هو راوية للشعر ، ورجل علامة (١).

قال الطبري : والصواب من القول أن الله عنى بهذه الآية يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إذ أتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستعينهم في دية العامريين ، فأطلعه الله على ما قد هموا به (٢).

(إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي ما تزال تطلع على خياناتهم المتكررة الصادرة منهم إلا قليلا منهم وهو من آمن وحسن إيمانه ، كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلموا ، فلا تخف منهم خيانة.

فاعف عما بدر منهم ، واصفح عمن أساء منهم ، وعاملهم بالإحسان ، إن الله يحب المحسنين الذين أحسنوا العفو والصفح عن المسيء ، ويثيبهم على إحسانهم ، وهذا هو عين النصر والظفر ، كما قال بعض السلف : «ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه» وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق ، ولعل الله أن يهديهم (٣).

وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامل طوائف اليهود الثلاث حول المدينة (وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة) أحسن معاملة في بدء الأمر وأثنائه ونهايته ، ففي البداية بعد الهجرة إلى المدينة عقد معهم صلحا معروفا هو وثيقة المدينة ، ووادعهم وعاهدهم على المسالمة وألا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوا له ، وأنهم آمنون

__________________

(١) تفسير الطبري : ٦ / ١٠١

(٢) المرجع والمكان السابق.

(٣) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٣

١٢٧

على أنفسهم وأموالهم ، ويتمتعون بالحرية الكاملة. وفي أثناء الحياة القائمة على التعايش السلمي نقضوا العهد وخانوا النبي وانضموا إلى معسكر قريش واشتركوا مع العرب في حرب المسلمين ، فاكتفى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطردهم من جواره. وفي نهاية الأمر لم يعاقب النبي اليهود على خيانتهم وغدرهم ، ولكنه أوصى بإجلائهم من جزيرة العرب ومنها الحجاز.

ثم ذكر الله تعالى ميثاقه مع النصارى ، فقال : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى ..) أي وكذلك أخذنا العهد والميثاق على النصارى على متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره ، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى الناس ، ففعلوا كما فعل اليهود ، بدلوا دينهم ، وخالفوا المواثيق ، ونقضوا العهود ، لهذا قال تعالى :

(فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ، فَأَغْرَيْنا ..) أي تركوا العمل بأصول دينهم رغبة عنه ، فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا ، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة ، فإن طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم ، لا يزالون متباغضين متعادين ، يكفّر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا. وسينبئهم الله يوم القيامة بما صنعوا في الدنيا ، وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله ، وعلى ما نسبوه إلى الرب عزوجل من اتخاذ الصاحبة والولد والشريك ، ويجازيهم على ذلك بقدر ما يستحقون حتما في الآخرة.

والمعروف تاريخيا حتى عند النصارى أنفسهم كما أوضحت أن المسيح لم يكتب مواعظه وتعاليمه ، ثم توفي ، ولم يكن هناك إنجيل مكتوب ، وقد اضطهد اليهود أتباعه وشردوهم وقتلوا أكثرهم ، وعلى التخصيص الحواريين الذين كانوا صيادين. وعند ما دخل قسطنطين الملك في الديانة المسيحية ، وهدأت الحملة ضد النصارى ، أخذوا يكتبون الأناجيل ، وهي كثيرة ومختلفة ومتباينة ، ولم تظهر

١٢٨

الأناجيل الأربعة المتداولة إلى الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح عند ما صار للنصارى دولة بتنصر الملك قسطنطين الروماني ، والذي من عهده دخلت النصرانية في عهد جديد من الوثنية والفلسفة الإغريقية.

هذه الأناجيل المسماة (العهد الجديد) مع كونها مجهولة الأصل والتاريخ وكونها متناقضة متعارضة ، أقيم فيها الدين المسيحي على أساس كتب اليهود التي تسمى (العهد العتيق أو القديم) التي لا أصل ثابتا لها كما عرف.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ الإخبار عن نقض اليهود المواثيق ، وأن جزاء النقض اللعنة والطرد من رحمة الله تعالى.

٢ ـ الاعلام بأن اليهود يحرفون كلام الله المنزل في التوراة ، إما تحريف ألفاظ وإما تحريف معان ، كما أوضحت.

٣ ـ إيثار العفو والصفح على العقاب والمحاربة والقتل والإيذاء.

٤ ـ اتخاذ النقباء دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء ، ويحتاج إلى معرفته من حاجاته الدينية والدنيوية. وتأيد ذلك بالسنة النبوية في الإسلام ؛ قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لهوازن : «ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم».

٥ ـ ودل اتخاذ النقباء أيضا على جواز اتخاذ الجاسوس.

٦ ـ إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالله والرسل والإنفاق في سبيل الله سبب لتكفير السيئات ومغفرة الذنوب ودخول الجنة. فمن انحرف عن ذلك

١٢٩

فقد أخطأ طريق الحق والخير ، وعدل عن الهدى إلى الضلال.

٧ ـ الإخبار عن النصارى أيضا أنهم نقضوا العهد والميثاق ، وأهملوا ما أمرهم به كتابهم ودينهم من أوامر ، وما نهاهم عنه من نواه ، ولم يؤمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بشر به الإنجيل والتوراة من قبله ، وقد هددهم الله وأوعدهم بالجزاء السيء على ما صنعوا. والخلاصة : إن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض المواثيق من عند الله.

ويحسن في النهاية إيراد التساؤلات الثلاثة التي أوردها الرازي في الآية وهي (١) :

السؤال الأول ـ لم أخّر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليه؟

الجواب ـ أن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بد في حصول النجاة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل ، فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بد من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود ، وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل.

والسؤال الثاني ـ ما معنى التعزير؟

الجواب ـ قال الزجاج : العزر في اللغة : الرد ، وتأويل عزرت فلانا ، أي فعلت به ما يرده عن القبيح ويزجره عنه ، ولهذا قال الأكثرون : معنى قوله (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي نصرتموهم ؛ وذلك لأن من نصر إنسانا فقد ردّ عنه أعداءه.

__________________

(١) التفسير الكبير : ١١ / ١٨٥ وما بعدها.

١٣٠

ولو كان التعزير هو التوقير ، لكان قوله : (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح ٤٨ / ٩] تكرارا.

والسؤال الثالث ـ قوله : (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) دخل تحت إيتاء الزكاة ، فما الفائدة في الإعادة؟

الجواب ـ المراد : بإيتاء الزكاة الواجبات ، وبهذا الإقراض : الصدقات المندوبة ، وخصها بالذكر تنبيها على شرفها وعلو مرتبتها.

مقاصد القرآن

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦))

الإعراب :

(يُبَيِّنُ لَكُمْ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (رَسُولُنا). وتقديره : قد جاءكم رسولنا مبينا لكم.

(يَهْدِي بِهِ اللهُ) جملة فعلية في موضع رفع ؛ لأنها صفة لكتاب ، ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من (الْكِتابِ) لأنه قد وصف بمبين.

البلاغة :

(وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فيه استعارة ، استعار الظلمات للكفر والنور للإيمان.

١٣١

المفردات اللغوية :

(تُخْفُونَ) تكتمون (مِنَ الْكِتابِ) التوراة والإنجيل ، كإخفاء آية الرجم وصفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) من ذلك ، فلا يبينه إذا لم يكن فيه مصلحة إلا افتضاحكم.

(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكِتابٌ مُبِينٌ) قرآن بيّن ظاهر (يَهْدِي بِهِ) أي بالكتاب (سُبُلَ السَّلامِ) طرق السلامة (الظُّلُماتِ) الكفر (النُّورِ) الإيمان (بِإِذْنِهِ) بإرادته (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : دين الإسلام.

سبب النزول :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ ..) : أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال : إن نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم ، فقال : أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا ، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى ، والذي رفع الطور ، والمواثيق التي أخذت عليهم ، حتى أخذه أفكل : رعدة من الخوف ، فقال : لما كثر فينا جلدنا مائة ، وحلقنا الرؤوس ، فحكم عليهم بالرجم ، فأنزل الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) إلى قوله (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١).

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى عن اليهود والنصارى نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به ، دعاهم عقيب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا من دلائل نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو من معجزات القرآن المتعددة في نواحيه.

التفسير والبيان :

يا أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ، ووحد الكتاب ؛ لأنه خرج مخرج الجنس ، قد جاءكم رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض ، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل ووصف الرسول هنا بصفتين :

__________________

(١) تفسير الطبري : ٦ / ١٠٣ ـ ١٠٤

١٣٢

الأولى ـ أنه يبين لهم كثيرا مما يخفون ، قال ابن عباس : «أخفوا صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخفوا أمر الرجم ، وعفا عن كثير مما أخفوه ، فلم يفضحهم ببيانه». ثم إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيّن ذلك لهم ، وهذا معجز ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما من أحد ، فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم ، كان ذلك إخبارا عن الغيب ، فيكون معجزا.

الصفة الثانية ـ ويعفو عن كثير ، أي لا يظهر كثيرا مما تكتمونه أنتم ، وإنما لم. يظهره ؛ لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين. وهذا يدعوهم إلى ترك الإخفاء لئلا يفتضحوا ، ولقد كان بيان القرآن لما كتموه سببا في إسلام كثير من أحبارهم.

فالصفة الأولى : أنه يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على الله فيه ، والصفة الثانية : أنه يسكت عن كثير مما غيروه ، ولا فائدة في بيانه. روى الحاكم عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ، قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) فكان الرجم مما أخفوه. ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه أي الشيخان : البخاري ومسلم.

ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم بأنه كتاب واضح ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نور ، أو الإسلام نور ، فالمراد بالنور محمد ، وبالكتاب القرآن ، وقيل : إن المراد بالنور الإسلام ، وبالكتاب القرآن. والقرآن بيّن في نفسه ، مبيّن لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم.

ثم قال تعالى فيما معناه : يهدي بالكتاب من أراد اتباع الدين الذي يرضي الله تعالى ، يهديهم طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة ، وينجيهم من المهالك بإذنه ، أي بتوفيقه ، فيخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ويرشدهم إلى أوضح الطرق ، وهو الدين الحق ؛ لأن الحق واحد لذاته ، وطريقه

١٣٣

مستقيم واحد ، أما الباطل فله شعاب كثيرة وكلها معوجة.

أي أنه تعالى ذكر للقرآن ثلاث فوائد أو مقاصد :

١ ـ إن المتبع لما يرضي الله يهديه إلى الطريق المؤدي إلى النجاة والسلامة من الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة باتباع الإسلام ؛ لأنه دين الحق والعدل والإخلاص والمساواة.

٢ ـ إنه يخرج المؤمنين به من ظلمات الكفر والشرك والوثنية والوهم والخرافة إلى نور التوحيد الخالص.

٣ ـ إنه يهدي إلى الطريق الموصل إلى الهدف الصحيح من الدين ، وإلى خيري الدنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نور كشف زيف أهل الأديان الأخرى ، فهو يبين لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ما يخفونه من كتبهم ، من الإيمان به ، ومن آية الرجم ، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة ، فإنهم كانوا يخفونها. وهو يعفو عن كثير أي يتركه ولا يبينه ، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوته ، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته ، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه. فهو مترفع عما لا فائدة فيه.

والقرآن الكريم يبين الأحكام وما رضيه الله من طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة ، والمؤمّنة من كل مخافة ، وهي الجنة ، ويخرج المؤمنين به من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الإسلام والهدايات بتوفيقه وإرادته ، ويرشد إلى الدين الحق.

١٣٤

الرد على معتقدات اليهود والنصارى

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))

الإعراب :

(أَنْ تَقُولُوا) : أن وصلتها في تأويل المصدر في موضع نصب على أنه مفعول لأجله.

البلاغة :

(يَغْفِرُ .. وَيُعَذِّبُ) فيه طباق.

المفردات اللغوية :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) حيث جعلوه إلها ، وهم اليعقوبية : فرقة من النصارى ، وساد مذهبهم بعدئذ بين جميع المسيحيين (فَمَنْ يَمْلِكُ) أي يدفع ويمنع (مِنَ اللهِ) من عذاب الله (شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي

١٣٥

لا أحد يملك ذلك ، ولو كان المسيح إلها لقدر عليه. ويهلك : يميت ويعدم (فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) سكون وهدوء من الرسل ، أي انقطاع الوحي وعدم ظهور الرسل مدة من الزمن.

سبب نزول

الآية (١٨) :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى ..) : روى ابن إسحاق وابن جرير الطبري وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أبيّ ، ونعمان بن قصي ، وبحريّ بن عمرو ، وشاس بن عدي من اليهود ، فكلموه وكلمهم ، ودعاهم إلى الله ، وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوّفنا يا محمد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى ، فأنزل الله عزوجل فيهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى : نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) إلى آخر الآية(١).

سبب نزول الآية (١٩) :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ) : روى ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود إلى الإسلام ، فرغّبهم فيه وحذّرهم ، فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر يهود ، اتقوا الله ، فو الله لتعلمن أنه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته ، فقال رافع بن حريمة ووهب بن يهودا : إنا ما قلنا لكم هذا ، وما أنزل من كتاب من بعد موسى ، ولا أرسل الله بشيرا ولا نذيرا بعده ، فأنزل الله الآية (٢).

المناسبة :

بعد أن أقام الله الحجة على أهل الكتاب عامة ، وأوضح أنهم مقصرون

__________________

(١) تفسير الطبري : ٦ / ١٠٥ ، تفسير القرطبي : ٦ / ١٢٠

(٢) الطبري ، المرجع السابق : ٦ / ١٠٧

١٣٦

معرضون عن الحق بعدم إيمانهم برسالة الإسلام ، بيّن ما كفر به النصارى بنحو خاص.

التفسير والبيان :

كانت فرقة اليعقوبية من النصارى هي القائلة بألوهية المسيح عليه‌السلام ، ثم ساد مذهبهم بين طوائف المسيحيين الثلاث المشهورة وهي الكاثوليك والأرثوذكس ، والبروتستانت الذين نشأ مذهبهم منذ أربعة قرون على يد الراهب المصلح (مارتن لوثر) الذي خلص المسيحيين من كثير من التقاليد والخرافات ، وانتشر مذهبه في أمريكا وإنجلترا وألمانيا ، ولكنه ظل قائلا بالتثليث ويعد الموحد غير مسيحي ، ولكن يؤول الأمر في النهاية إلى وصف المسيح بأنه الرب والإله ، كما هو مكتوب على أول صفحة في الإنجيل : (كتاب العهد الجديد لربنا ومخلصنا يسوع المسيح).

فجميع فرق النصارى اليوم يقولون : إن الله هو المسيح ابن مريم وإن المسيح هو الله ، وعمدتهم عبارة في إنجيل يوحنا وهي : (في البدء كانت الكلمة ، والكلمة كانت عند الله ، والله هو الكلمة) والكلمة في تفسيرهم هي المسيح.

وهذا ما وصفهم به القرآن بأنهم يؤلهون المسيح ، لذا فقد كفر القائلون بأن الله هو المسيح ، ورد الله هذا الزعم الباطل ، فقال : يا أيها النبي قل لهؤلاء النصارى : من يقدر على رفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه ، بل عن سائر الخلق جميعا ، إن أراد أن يهلكهم؟ لا أحد يقدر على هذا ، فالله قادر على إهلاك الناس قاطبة ، لا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه ، ولا سلطان لأحد فوق مشيئته وإرادته. وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه الهلاك ، فكيف يكون هو الله؟!

الله في الحقيقة هو صاحب الملك المطلق والتصرف الشامل في السموات

١٣٧

والأرض وما بينهما من عالمي الإنس والجن ، وجميع الموجودات ملكه وخلقه.

والله هو الذي يخلق الأشياء من العدم حسبما يشاء ، وعلى وفق حكمته وإرادته ، فقد يخلق من تراب من غير أب ولا أم مثل خلق أبينا آدم عليه‌السلام وخلق أصول أنواع الحيوان ، وقد يخلق من أب فقط دون أم كخلق حواء ، وقد يخلق من أم بلا أب مثل خلق عيسى عليه‌السلام. وهذا رد على شبهة النصارى الذين زعموا أن المسيح بشر وإله ، له طبيعة بشرية وطبيعة ناسوتية إلهية وهي الغالبة ، لكونه خلق على نحو غير معتاد من أم فقط ، ولأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ، وصدرت عنه أعمال عجيبة لا تصدر من بشر. وهي في الحقيقة معجزات خارقة للعادة يجريها الله على يد الأنبياء قاطبة ، وهي تحدث بإذن الله ومحض إرادته ، لتكون دليلا مؤيدا على صدق النبوات ، وصدور تلك المزايا من عيسى وغيره لا تجعل المخلوق خالقا ؛ لأنها بمشيئة الخالق.

فقد أيد الله موسى عليه‌السلام بالعصا واليد البيضاء ؛ لأن السحر كان سائدا في عصره ، وأيد الله عيسى عليه‌السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ؛ لأن الطب كان متقدما في زمنه ، وأيد الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعجزات كثيرة كانشقاق القمر ، وكانت معجزته الخالدة القرآن في أرقى مستوى من البلاغة والفصاحة ؛ لأنه بعث بين العرب الذين امتازوا بفصاحة القول نثرا وخطابة وشعرا ، فليس إحياء عيسى للموتى ـ وكان ذلك في حوادث فردية معدودة ـ سببا للتأليه ، فقد أقر بأنه عبد الله ورسوله ، وأنه يحيي الموتى بإذن الله ، أي بتوفيقه وإرادته وحكمته.

والله هو القادر على كل شيء ، وهو خالق كل شيء ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

ثم رد الله تعالى على ادعاء اليهود والنصارى القائلين : نحن أبناء الله وأحباؤه أي نحن منتسبون إلى أنبيائه ، وهم بنوه ، وله بهم عناية ، وهو يحبنا ، ونقلوا عن

١٣٨

كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل : (أنت ابني بكري) وقال عيسى في الإنجيل للنصارى : (إني ذاهب إلى أبي وأبيكم) يعني ربي وربكم ، وجاء في إنجيل متّى في وعظ المسيح على الجبل واصفا الملائكة والمؤمنين الصالحين : (طوبى لصانعي السلام ؛ لأنهم أبناء الله يدعون) وقال بولس في رسالته إلى أهل رومية : (لأن كل الذين ينقادون بروح الله ، فأولئك هم أبناء الله) فابن الله في كتبهم بمعنى حبيب الله ، وحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه ، ورد عليهم عقلاؤهم الذين أسلموا بأن هذا يطلق على التشريف والإكرام.

ومن المعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما أدعوها في عيسى عليه‌السلام ، وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لدى الله ، وحظوتهم عنده ، فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه.

فرد الله عليهم عن طريق نبيه : قل لهم : إذا كان الأمر كما زعمتم ، فلم يعذبكم الله بذنوبكم في الدنيا ، كتخريب الوثنيين مسجدكم الأكبر وبلدكم بيت المقدس ، وإزالة ملككم من الأرض ، وفي الآخرة التي أعد لكم فيها نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ والأب لا يعذب ابنه ، والحبيب لا يعذب حبيبه ، فلستم إذن أبناء الله ولا أحباؤه ، بل أنتم بشر من جملة ما خلق ، ولا يحابي أحدا من عباده ، وإنما يغفر لمن يشاء ممن يستحق المغفرة وهم أهل الطاعة ، ويعذب من يشاء ممن يستحق العذاب ، وهم العصاة ، وهو فعال لما يريد ، لا معقّب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم ، فهذا لا ينفعكم ، وإنما الذي ينفعكم الإيمان الصحيح ، ومنه الإيمان برسالة الإسلام ، وصالح الأعمال.

والله المالك المطلق والمتصرف المطلق في السموات والأرض وما بينهما ، وجميع المخلوقات عبيد له ، وهم ملكه وتحت قهره وسلطانه : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ

١٣٩

وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم ١٩ / ٩٣] وإنما قال : (وَما بَيْنَهُما) بعد ذكر السموات والأرض ، ولم يقل : بينهن ، إشارة إلى الصنفين والنوعين. وإليه المصير أي إلى الله تعالى المرجع والمآب ، فيحكم في عباده بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يجور ، وهذا إنذار لهم بأنه سيعذبهم في الآخرة على كفرهم ودعاويهم الباطلة.

وقد كرر تعالى جملة : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) للرد على كل من النصارى الذين ادعوا ألوهية المسيح ، والله مالكه وقادر على إهلاكه ، وعلى اليهود والنصارى أيضا ، لبيان قدرته على المغفرة لمن يشاء وتعذيب من يشاء وإبطال دعاويهم الزلفى والحظوة عند الله ، فإن ميزان القربى من الله هو الإيمان والعمل الصالح ، لا الوراثة ولا الامتياز العنصري أو الجنسي ، فليس صحيحا أن اليهود شعب الله المختار ، وليس لشعب مزية على آخر.

ثم خاطب الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول ، بل هو المصدق لما معهم والمعقب لجميعهم ، وهو الذي بشّرتم به في كتبكم ، وأخبركم به أنبياؤكم ، جاءكم يبين لكم على فترة من الرسل ، أي على انقطاع منهم وطول عهد بالوحي ، وبعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم ، يبين لكم ما أنتم بحاجة إليه من أحكام دينكم ودنياكم من عقائد أفسدتها الوثنية ، وأخلاق أفسدها الإفراط في المادية ، وعبادات أفرغتم محتواها وصارت مجرد طقوس لا معنى لها ولا روح فيها ، ويبين لكم أيضا ما أشكل عليكم من أمر دينكم. ومن المعلوم أن بين آدم ونوح عشرة قرون ، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون ، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون ، والقرن مائة سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة ، وبين ميلاد عيسى والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسمائة وتسع وستون سنة.

١٤٠