السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-191-2
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٠
طعن الصحابة في إمارة زيد :
روى البخاري عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، قال : «بعث النبي «صلىاللهعليهوآله» بعثا وأمّر عليهم أسامة بن زيد (١) ، فطعن [بعض] الناس في إمارته ، وقالوا : يستعمل هذا الغلام على المهاجرين؟
فقام رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : «قد بلغني أنكم قلتم في أسامة ، إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ٩٦ وج ٦ ص ١٤٤ وفي هامشه عن البخاري كتاب المغازي (٤٤٦٨) ، والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٩٠ و ٢٥٠. وراجع : صحيح البخاري (ط دار الفكر) ج ٤ ص ٢١٣ وج ٥ ص ١٤٥ وج ٧ ص ٢١٧ وج ٨ ص ١١٧ ونهج السعادة ج ٥ ص ٢٦٠ عن كنز العمال ، وفضائل الصحابة ص ٢٤ وعن مسند أحمد ج ٢ ص ١١٠ وعن صحيح مسلم ج ٧ ص ١٣١ وعن سنن الترمذي ج ٥ ص ٣٤١ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ١٢٨ وج ٨ ص ١٥٤ وج ١٠ ص ٤٤ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٥٣٢ وج ٨ ص ٥٤٩ وعن السنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٥٢ وصحيح ابن حبان ج ١٥ ص ٥١٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ١٨٣ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٦٩ وج ١٠ ص ٥٧٨ وج ١١ ص ٦٥١ والجامع لأحكام القرآن ج ١٤ ص ٢٣٨ والطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٥٠ وج ٤ ص ٦٥ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٤٦ و ٤٩ وج ٨ ص ٦١ وج ١٩ ص ٣٦٣ وتهذيب الكمال ج ١٠ ص ٣٧ ومعجم البلدان ج ١ ص ٥٠ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٢٩ و ٤٦٢ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٩١ وج ٥ ص ٢٤٢ وعن السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٨١ و ٤٨٢ وج ٤ ص ٤٤٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٢٥.
إمارة أبيه من قبل ، وأيم الله ، إن كان لخليقا للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إليّ ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده».
وروى الإمام أحمد ، والنسائي ، وابن حبان في صحيحه ، والبيهقي عن أبي قتادة ، قال : «بعث رسول الله «صلىاللهعليهوآله» جيش الأمراء وقال : «عليكم زيد بن حارثة ، فإن أصيب زيد فجعفر ، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة».
قال : فوثب جعفر رضياللهعنه ، وقال : [بأبي أنت وأمي] يا رسول الله ، ما كنت أرهب أن (أو ما كنت أذهب إن) تستعمل عليّ زيدا».
فقال : «امض ، فإنك لا تدري أي ذلك خير» (١).
وصايا النبي صلىاللهعليهوآله لجيش مؤتة :
وزعم بعضهم أيضا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» نهاهم أن يأتوا مؤتة ، فغشيتهم ضبابة ، فلم يبصروا حتى أصبحوا على مؤتة (٢).
وروى محمد بن عمر ، عن خالد بن يزيد ، قال : خرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مشيعا لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع ، فوقف ووقفوا حوله ، فقال :
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٥ ومسند أحمد ج ٥ ص ٢٩٩ ودلائل النبوة ج ٤ ص ٣٦٧ وحلية الأولياء ج ٩ ص ٢٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٤٦ و ٤٧ وتاريخ الأمم والملوك للطبري ج ٢ ص ٣٢٢ وعن الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٥٨.
(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٨ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٩.
«اغزوا باسم الله ، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام ، وستجدون رجالا في الصوامع معتزلين الناس ، فلا تعرضوا لهم ، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فافلقوها بالسيوف.
لا تقتلن امرأة ، ولا صغيرا ضرعا ، ولا كبيرا فانيا ، ولا تقربن نخلا ، ولا تقطعن شجرا ، ولا تهدمن بيتا (بناء خ ل)» (١).
وروى محمد بن عمر [الواقدي] ، عن زيد بن أرقم [رفعه] : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال : «أوصيكم بتقوى الله ، وبمن معكم من المسلمين خيرا. اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، من كفر بالله. لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى إحدى ثلاث ، فأيتهن ما أجابوكم إليها فاقبلوا منهم ، وكفوا عنهم الأذى.
ثم ادعوهم الى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، فإن فعلوا فأخبروهم : أن لهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين.
فإن أبوا أن يتحولوا منها ، فأخبروهم : أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله [الذي يجري على المؤمنين] ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين.
فإن هم أبوا فسلوهم الجزية ، فإن فعلوا فاقبلوا منهم ، وكفوا عنهم.
فإن هم أبوا فاستعينوا بالله عليهم وقاتلوهم.
__________________
(١) السنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٦٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٦ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٨ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٦ والبحار ج ٢١ ص ٦٠ عن المعتزلي ، وشجرة طوبى ج ٢ ص ٢٩٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٥ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٩ و ١٠.
وإن حاصرتم أهل حصن أو مدينة فأرادوكم أن تجعلوا لهم ذمة الله وذمة رسوله ، فلا تجعلوا لهم ذمة الله ، ولا ذمة رسوله. ولكن اجعلوا لهم ذمتكم ، وذمة آبائكم ، إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله». وذكر نحو ما سبق (١).
سبب غزوة مؤتة :
ولنا مع كل هذه النصوص المتقدمة وقفات ، نجملها على النحو التالي :
تقدم قولهم : إن سبب سرية مؤتة هو قتل الحارث بن عمير ، على يد شرحبيل بن عمرو الغساني ..
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٦ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٧ والبحار ج ٢١ ص ٥٩ و ٦٠ عن المعتزلي ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٤ وراجع : نيل الأوطار ج ٨ ص ٥٢ وفقه السنة ج ٢ ص ٦٢٤ والكافي ج ٥ ص ٢٩ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٣٨ و ١٣٩ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٥ ص ٥٩ والبحار ج ١٩ ص ١٧٩ وعن مسند أحمد ج ٥ ص ٣٥٨ وعن صحيح مسلم ج ٥ ص ١٣٩ و ١٤٠ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ٩٥٣ و ٩٥٤ وسنن الترمذي ج ٣ ص ٨٥ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٤٩ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٢٥٦ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٢١٨ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٦٤٥ وعن السنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٧٢ و ٢٠٧ و ٢٣٣ و ٢٤١ و ٢٤٢ ومسند أبي يعلى ج ٣ ص ٦ و ٧ والمنتقى من السنن المسندة ص ٢٦١ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٤٢ ومعرفة علوم الحديث ص ٢٤٠ ومسند أبي حنيفة ص ١٤٧ ونصب الراية ج ٤ ص ٢٢٦ وكنز العمال ج ٤ ص ٣٨٠ و ٤٨٠ وتهذيب الكمال ج ٢٧ ص ٥٤٨ و ٥٤٩.
وقيل في مقابل ذلك :
إنه «صلىاللهعليهوآله» بعث الحارث بن عمير إلى هرقل عظيم الروم بالشام (١).
غير أننا نقول :
١ ـ إن هذا القول لا ينافي القول السابق ، إذ لعل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أرسل الكتاب إلى ملك بصرى ليوصله إلى ملك الروم.
٢ ـ إننا نلمح في النص المتقدم قدرا من التهافت ، فإنه يقول : «وندب الناس ، فأخبرهم بمقتل الحارث ، ومن قتله ، فأسرع الناس ، وخرجوا ، فعسكر بالجرف.
ثم يقول مباشرة : «ولم يبين رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الأمر».
فإنه إذا كان «صلىاللهعليهوآله» لم يبين الأمر ، فما معنى إخباره الناس بما جرى ، حتى أسرعوا ، وخرجوا فعسكروا؟!
ألا يعد هذا بيانا للأمر؟!. فإن كل إنسان لو سأل عن السبب في هذا الإسراع بالخروج ، فسوف يجيب : بأنه هو قتل الحارث بن عمير ، وأن القصد هو المسير لمعاقبة من فعل ذلك ..
إلا أن يقال : إن المقصود هو : أنه «صلىاللهعليهوآله» أبقى وجهة سيره مخفية عن اليهود والمشركين ، ولم يخبر بها إلا الذين انتدبهم للخروج.
ولكن قوله : «لم يبين رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الأمر» يفيد أمرا
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٦ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٠ عن الإستيعاب ، وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٣٥٠ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٥.
عاديا ، وهو : أنه أبقى الأمر مخفيا حتى عن أصحابه ..
أو يقال : إنه إنما أخبرهم بمقتل الحارث ، ولم يطلب منهم التجهز للحرب ، لكنهم هم الذين أسرعوا إلى المعسكر بالجرف ..
أو أنه ندبهم على الحرب ، بعد أن أخبرهم بما جرى للحارث ، ولكنه لم يصرح لهم بأنه يريدهم لمحاربة قاتلي الحارث ، أو لغيرهم من أعدائه. بل ترك الأمر غامضا ، وعرضه لكل احتمال ..
ولعل هذا الاحتمال الأخير هو الأقرب ، والأصوب.
ذات أطلاح هي السبب :
زعم بعضهم : أن سبب سرية مؤتة ليس هو قتل الحارث بن أبي عمير ، بل سببها هو قتل أربعة عشر رجلا من المسلمين ، على يد العرب المتنصرة ، في سرية ذات أطلاح جنوب الشام ، في منطقة البلقاء بالأردن. وكان يحكمها الحارث بن أبي شمر الغساني باسم ملك الروم.
وبعد قتلهم أطلق الحارث هذا تهديدات بغزو النبي «صلىاللهعليهوآله» (١) ، فبادر «صلىاللهعليهوآله» إلى تجهيز هذا الجيش ردا على هذه التهديدات ..
ونقول :
١ ـ إن الذين قتلوا الأربعة عشر رجلا هم من قضاعة ، لا من الغساسنة. ورئيسهم رجل يقال له : سدوس (٢) ، وليس هو الحارث بن أبي شمر الغساني.
__________________
(١) الكتاب السابع من معارك الإسلام الفاصلة : غزوة مؤتة ص ٢٥٣.
(٢) راجع : الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٥٥ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣١٣ عن الواقدي.
٢ ـ وأما التهديدات المشار إليها ، فلا تصلح مبررا لإرسال الجيش ، إلا إذا أريد به تسديد ضربة استباقية ، يؤخذ العدو فيها على حين غرة.
ومن الواضح : أن الأمور لم تجر على هذا النحو.
مناقشة مردودة :
وربما يقال : إن ثمة مجالا واسعا للتشكيك في قصة قتل الحارث بن عمير الأزدي ، على اعتبار أن راويها هو الواقدي ، ثم أخذه عنه كاتبه ابن سعد وغيره.
كما أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد كتب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني كتابا مع شجاع بن وهب. فلما بلغه ذلك ، قال : من ينزع ملكي ، فأنا سائر إليه ، وبدأ بالتجهيز للمسير إلى المدينة.
فبلغ ذلك النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فقال : باد ملكه.
وكتب الحارث إلى قيصر يخبره بالأمر ، فكتب إليه قيصر : أن لا تسر إليه ، واله عنه ، (أي لا تذكره) ، واشتغل بإيلياء (أي ببيت الله) وهو بيت المقدس ، لأن قيصرا كان قد نذر : إن انتصر على الفرس أن يمشي إلى بيت المقدس. وكان يريد من الحارث أن يهيء لإنزاله (١).
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٥٥ وراجع : مكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٦٢ عن المصادر التالية : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٦٥٢ والتنبيه والإشراف ص ٢٢٦ وشرح الزرقاني للمواهب اللدنية ج ٤ ص ٣٥٦ وعن السيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٨٠ والبداية النهاية ج ٤ ص ٢٦٨ وتأريخ الخميس ج ٢ ص ٣٨ والبحار ج ٢٠ ص ٣٩٣ والكامل ج ٢ ص ٢١٣ والطبقات الكبرى ج ١ ص ٢٦١ ـ
وزعم بعضهم : أن الحارث الغساني قد أسلم أيضا (١).
وذلك كله يدل : على أن السبب ليس هو قتل الحارث بن عمير ، بل هو هذا الموقف من ابن أبي شمر الغساني.
ويرد على هذه المناقشة : أن الرسالة التي حملها شجاع بن وهب إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر ، إنما حملها إليه سنة ست أو سبع ، وذلك حين كتب «صلىاللهعليهوآله» إلى الملوك (٢) ، وحينئذ نهاه قيصر عن غزو المدينة ، وأمره بالاشتغال ببيت المقدس.
ولكن هذا لا يمنع أن تكون هناك رسالة أخرى أرسلها النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى قيصر بواسطة الحارث ، أو إلى الحارث بن أبي شمر نفسه مع الحارث بن عمير ، فأخذه شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله ..
جموع الروم وقرار الحرب :
إن ما يدعو إلى التأمل : هو أن يكون الجيش الذي واجهه المسلمون في مؤتة بهذه الأعداد الضخمة ، حيث يعد بعشرات ، بل بمئات الألوف .. مائتا
__________________
وفي (ط أولى) ق ٢ ص ١٧ وج ٣ ص ١٩٤ وفي (ط ثالثة) ق ١ ص ٦٦ والمنتظم ج ٣ ص ٢٨٩ والمصباح المضيء ج ٢ ص ٣١٤ ـ ٣١٦ وراجع : نصب الراية ج ٦ ص ٥٦٦ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٦٩ وميزان الحكمة ج ٤ ص ٣٢١١.
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٥٥.
(٢) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٨ و ٢٩٣ و ٢٩٤ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٦١ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٥١ و ٦٦٧ عن الواقدي ، وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٥٧ ص ٣٦٧ وعن الإصابة ج ٦ ص ٢٢٦.
ألف ، أو مائتان وخمسون ألفا وهذه الأعداد تحتاج إلى وقت طويل ، وإلى جهد كبير لجمعها ، وإعدادها.
كما أن جيشا بهذا المستوى لا يعدّه هرقل لمحاربة جماعة صغيرة لم تستطع أن تجهز لأكبر حرب خاضتها أكثر من ألف وخمسمائة مقاتل ..
بل هو يعده لمحاربة جيوش ضخمة ومن هو مثل كسرى في سعة الملك ، وكثرة الرجال ، والتوفر على الأموال التي تمكنه من التجهيزات المتميزة.
وهذا يعطينا : أن هذا الجيش لم يجهزه قيصر لمجرد دفع غائلة سرية مؤتة .. بل لعله أراد به الانقضاض على منطقة الحجاز بأسرها ، للقضاء على دعوة الإسلام واحتلال جزيرة العرب كلها ، في وقت كان يرى فيه انشغال المسلمين بحرب المشركين ، ويهود المنطقة.
ويكون بذلك قد تمكن من توسعة نفوذه ، في منطقة محيطة بملك الأكاسرة ، الذين استطاع أن يسجل نصرا عليهم ، ويريد استثمار هذا النصر في وقت بدا له فيه أنهم غير قادرين على لمّ الشعث ، وجمع الجموع لمواجهته في منطقة حساسة ، وفي قلب الصحراء ، وفي منأى عن أي نفوذ لكلا الدولتين.
ولو كان يرتبط جمع الجموع بدفع سرية مؤتة ، بسبب ما فعله شرحبيل بن عمرو الغساني ، فلماذا يكون العنوان المطروح بين المسلمين هو أنهم : يسيرون لمحاربة ملك الروم؟!
وإذا كنا نعلم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان يرصد كل تحركات أعدائه ، وكان يستطيع من خلال ذلك أن يعرف حتى نوايا الأشخاص ، وما يحدثون أنفسهم به ، فهل يغفل عن تحركات كسرى وقيصر ، وهو قد بعث بالأمس القريب إليهما يدعوهما لاتباعه والدخول في دينه.
فذلك كله يدعونا إلى القول : بأنه كان على علم تام بهذه الجموع المحتشدة ، وبمقاصدها .. وبأن قتل الحارث بن عمير الأزدي كان هو الإشارة للمسلمين ، التي جعلتهم قادرين على تلمس خطورة الأمر ، وشحذت هممهم للنفير لمواجهة الخطر المحدق ، بطريقة توجب تشويش الأمور على قيصر ، وتمنعه من متابعة مسيرته ، وتحجب عنه فرصة اتخاذ القرار النهائي بالتوغل إلى عمق منطقة الحجاز ، وتعيد الأمور بالنسبة إليه إلى نقطة الصفر ، ولو بأن تثور عاصفة من الشكوك حول حاجة هذا الجيش الذي هيأه إلى إعادة تجهيز ، وإلى تهيئة روحية ، وإلى شحن نفسي جديد ..
فإنه إذا كان ثلاثة آلاف مقاتل ، بإمكانياتهم المتواضعة قد واجهوا جيشا مؤلفا من مائتي ألف ، كانوا بأحسن عدة ، وأتم تجهيز ..
وإذا كان قادة هذا الجيش هم أكثر الناس حرصا على التضحية والفداء حتى الاستشهاد ، وقد ظهرت منهم هذه البسالة النادرة ، رغم أنهم في بلد عدوهم ، وإذا كانوا لم ترهبهم عدة ولا عدد عدوهم .. فكيف يكون حال القتال معهم إذا دهمهم الخطر في بلدهم ، وأصبح دينهم ونبيهم في معرض الخطر الحقيقي؟!
وإذا كان هذا هو فعل الطليعة ، والسرية ، فكيف يكون فعل الجيش الذي وراءها ، ولا بد أن يكون فيه الشجعان والأبطال ، والأشدّاء من الرجال ..
ولا سيما قالع باب خيبر ، والبطل المظفر ، علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه .. الذي لا بد أن يكون صدى ضرباته الماحقة وهجماته الساحقة ، واقتلاعه لباب خيبر قد بلغ مسامع قيصر ، وكل بطل وشجاع!!
فهذه السرية رغم أنها لم تسر وفق ما يريده الله ورسوله باعتبار أن
خالدا قد انهزم بالجيش بعد قتل قادته الثلاثة. إلا أنها حققت ـ ولا شك ـ الحد الأدنى من أهدافها ..
ولولا الهزيمة التي جرّها خالد عليهم. فلربما يكون إنجازها هائلا وعظيما. ليس بإمكاننا التكهن بحدود عظمته ، وبمدى أهميته.
مهمات الجيش خطيرة .. وقد ضاعت :
تقدمت الإشارة إلى : أن ثمة ما يشير إلى معرفة المسلمين أو خصوص القادة منهم بأن لهذا البعث مهمات خاصة ، على درجة عالية جدا من الخطورة ، ويبدو لنا : أنه «صلىاللهعليهوآله» أعلم الناس بأن القادة يقتلون ، ثم يكون نصر عظيم ، لو واصل الجيش القيام بواجبه ..
فقد ذكروا ما يلي :
١ ـ إنه حين عيّن «صلىاللهعليهوآله» قادة الجيش ، واعترض جعفر ، وأمره «صلىاللهعليهوآله» بالمضي .. «بكى الناس ، وقالوا : هلّا متعتنا بهم يا رسول الله ، فأمسك» (١).
٢ ـ إن عبد الله بن رواحة لم يزل يظهر ما يدل على : أنه متوقع للشهادة منذ أمّره رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وقد ظهرت منه العديد من الإشارات إلى ذلك في شعره ، وفي كلماته ، وفي ممارساته ، كما تظهره النصوص التي أوردنا قسما وافرا منها.
٣ ـ إن أهل المدينة قد واجهوا الجيش المهزوم بحنق شديد ، وعاملوهم
__________________
(١) الكامل في التاريخ ج ٢ ذكر غزوة مؤتة.
بقسوة ظاهرة ، ولم يشفع لهم عندهم أنهم كانوا ثلاثة آلاف فقط في مقابل مائتي ألف ، أو مائتين وخمسين ألفا.
الأمر الذي يعني : أن الناس كانوا يتوقعون نصرا هائلا وعظيما ، وقد ساءهم تضييعه ..
خالد يضيع نتائج المعركة :
ومن المعلوم : أن قائد الهزيمة ، هو خالد بن الوليد ، الذي كان لحركته في ذلك الجيش أثر بالغ في تهيئة ظروف فرضت تلك الهزيمة ، وبذلك يكون قد أبطل التدبير النبوي ، وضيّع نتائج عظيمة وخطيرة ، كان «صلىاللهعليهوآله» قد خطط لتحقيقها.
ولأجل ذلك وجدنا من المسلمين موقفا حادا وصارما جدا من ذلك الجيش العائد بقيادة مدير الهزيمة وصانعها خالد بن الوليد.
ويكفي أن نذكر : أنهم كانوا يحثون التراب في وجوه العائدين ، وقد قاطعوهم ، وهجروهم ، ولم يعد الواحد منهم يجرؤ على الظهور بين الناس ، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، كما سنرى.
ولم نجدهم اعتذروا ولا اعتذر أحد عنهم ، بأنهم قد واجهوا جيشا مؤلفا من مائتي ألف مقاتل ، كان في أتم عدة ، وأحسن تجهيز.
وهذا يدل : على أن الناس كانوا يعرفون أن إمكانات الصمود كانت متوفرة ، وأن هناك مهمات لم تنجز ، بسبب هذا الفرار المبكر وغير المبرر من ساحة المعركة.
الوصايا تشي وتنم :
ولذلك نقول :
إن الخيارات التي تحدث عنها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حين جهز جيش مؤتة ، تشي بأن المطلوب هو : أن ينتهي الأمر ـ بعد استشهاد القادة ـ إلى نتائج عظيمة وهائلة ، وهي أن يصبح بإمكان جيش المسلمين وضع جيش العدو أمام خيارات تنتهي كلها بتسجيل النصر عليه ، وحسم الأمر .. وذلك حين يواجهه بعروضه التي وضعها ضمن مخطط متكامل في خطوات تتبع اللاحقة منها السابقة ، فقد أمره «صلىاللهعليهوآله» أن يعرض عليهم :
١ ـ الدخول في الإسلام.
فإن فعلوا دعاهم إلى :
ألف : التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ..
ب : فإن فعلوا يخبرهم : أن لهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما عليهم.
ج : وإن اختاروا دارهم ، فلا يكون لهم في الفيء ولا في القسمة شيء إلا إذا جاهدوا مع المسلمين.
٢ ـ فإن أبوا الإسلام ، يعرض عليهم إعطاء الجزية.
فإن قبلوا يكف عنهم.
٣ ـ وإن أبوا إعطاء الجزية ، فليستعن بالله ، وليقاتلهم ..
ورسم له في حال القتال : أنه :
ألف : إذا حاصر مدينة ، أو حصنا ، فأرادوه أن يستنزلهم على حكم الله تعالى ، فلا ينزلهم عليه ، بل ينزلهم على حكمه.
ب : وإن أرادوه أن يجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله ، فلا يقبل منهم ، بل يجعل لهم ذمته ، وذمة أبيه ، وذمة أصحابه ..
فهذا المخطط التام إنما يناسب جيشا واثقا بالنصر ، مطمئنا إلى أنه يذهب إلى فتح المدن والحصون ، وتكون يده العليا في حروبه مع أعدائه ..
مع أن ظاهر الأمر : أنه يرسله إلى حرب مائتي ألف ، أو إلى مائتين وخمسين ألف مقاتل ، مجهزين بأتم عدة ، في جيش لا يزيد على ثلاثة آلاف ، مع ضعف ظاهر في تجهيزاتهم ، وعدّتهم.
وهذه الوصايا تدل على عدم صحة ما ذكره البعض : من أن المطلوب من جيش مؤتة كله هو الاستشهاد ، بل المطلوب هو إنجاز أمر عظيم وهائل ، وهو النصر على جيوش الروم رغم كثرة عددها ، وحسن عدتها ، حتى لو كانت قيمة هذا النصر هو استشهاد القادة.
ولكن ما صنعه خالد : قد أفسد ما كان دبره رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فثارت ثائرة المسلمين ، حيث واجهوا الجيش العائد مع خالد بالطرد ، والنبذ ، والمقاطعة كما سنرى.
سرية دعوة ، أم سرية حرب؟
وذكرت الروايات المتقدمة : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أوصى القادة بأن يأتوا مقتل الحارث بن عمير ، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام ، فإن أجابوا ، وإلا فاستعينوا عليهم بالله تبارك وتعالى ، وقاتلوهم.
ونقول :
إن هذه الوصية لا بد أن تكون جارية وفق المسار العام للأحداث ،
وهي من الأمور التي ربما يكون المراد منها ترتيب الأوضاع فيما يرتبط بالأساليب العامة ، التي يراد لها أن تهيمن على حركة الواقع ، وفق الضوابط الدينية والإيمان ..
وقد دلت هذه الوصية : على أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يكن يتصرف بصورة انفعالية ومتشنجة ، فلم يطلب من أصحابه أن يغيروا على الناس هناك ، ويوقعوا بهم ، ولا أن يقتلوا ، ويأسروا ، ويغنموا. بل هو قد أمرهم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ، وفق المقررات التي تقدمت ، مع ملاحظة ما يلي :
أولا : إنه «صلىاللهعليهوآله» طلب من أصحابه أن يبدأوا حركتهم من ذلك الموضع الذي تعرض فيه أحد المؤمنين لأفحش الظلم ، حيث قتل صبرا بحد السيف. وهذا من شأنه أن يزيد أصحابه «صلىاللهعليهوآله» بصيرة في أمرهم ، ويفرض عليهم أن يتعاملوا مع الأمور بروح المسؤولية ، والإنصاف ، والانضباط ، ضمن الحدود ، والأحكام الشرعية. إذ لا مجال للانفعال ، والعبثية ، ولا مكان للظلم والتعدي في حركة الإنسان المسلم ..
ثانيا : إنه «صلىاللهعليهوآله» إنما طلب منهم أن يدعوا من يجدونه في ذلك الموضع إلى الإسلام ، ولم يحدد لهم فئة ولا أشخاصا بأعينهم ، ولم يذكر لهم اسم شرحبيل بن عمرو الغساني ، ربما لعلمه «صلىاللهعليهوآله» أنهم لن يصادفوه هناك ، حيث سيكون في ضمن جيش الروم ، كما أنه يريد أن يبعد القضية عن أجواء الانتقام من الأشخاص ، وعن حدود النظرة الضيقة ، لتصبح قضية قيم ومبادئ ، يراد لها أن تكون هي المهيمنة على سلوك الناس ، وعلى قراراتهم ، ومواقفهم ، وكل حياتهم ..
وصايا في نطاق الأهداف الإلهية :
وبعد .. فإن للمحارب أن يتوسل بمختلف الأساليب المشروعة ، التي تمكنه من تسجيل النصر على عدوه. فحتى الخدعة ، التي أشير إليها في قول النبي «صلىاللهعليهوآله» : الحرب خدعة (١) ، لا بد أن لا تخرج عن دائرة ما
__________________
(١) المغني لابن قدامة ج ١٠ ص ٣٩٦ وكشف القناع ج ٣ ص ٧٩ وسبل السلام ج ٤ ص ٤٨ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٥٦ ، فقه السنة ج ٢ ص ٦٥٤ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٦٢ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١١ ص ١٠٢ ومستدرك الوسائل ج ١١ ص ١٠٣ وشرح الأخبار ج ١ ص ٢٩٧ وكنز الفوائد ص ٢٦٦ وأمالي الطوسي ص ٢٦١ والخرائج والجرائح ج ١ ص ١٨١ ومسند أحمد ج ١ ص ١٢٦ و ١٣١ وج ٢ ص ٣١٢ وج ٣ ص ٢٢٤ و ٣٠٨ وعن صحيح البخاري ج ٤ ص ٢٤ وعن صحيح مسلم ج ٥ ص ١٤٣ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ٩٤٥ وسنن أبي داود ج ١ ص ٥٩٣ وسنن الترمذي ج ٣ ص ١١٢ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٤٠ وج ٩ ص ١٥٠ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٢٠ وعن فتح الباري ج ٦ ص ١١١ وصحيفة همام بن منبه ص ٢٦ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٩٨ ومسند الحميدي ج ٢ ص ٥١٩ والمصنف لابن شيبة ج ٧ ص ٧٢٩ و ٧٣٠ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٩٣ ومسند أبي يعلى ج ٣ ص ٣٥٩ و ٤٦٤ وج ٤ ص ٩١ و ٣٨٤ وج ٨ ص ٤٤ وج ١٢ ص ١٣٠ والمنتقى من السنن المسندة لابن الجارود النيسابوري ، وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٧٩ والمعجم الصغير ج ١ ص ١٧ والمعجم الأوسط ج ٢ ص ٣٥٦ وج ٤ ص ٢٥٢ والمعجم الكبير ج ٣ ص ٨٢ وج ٥ ص ١٣٦ وج ١١ ص ٢٩٣ وج ١٨ ص ٥٣ وج ١٩ ص ٤٢ ومسند الشاميين ج ١ ص ١٧٦ وج ٢ ص ٢٠ و ١٠٨ ومسند الشهاب ج ١ ص ٤٠ و ٤١ و ٤٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٧٩ وج ١٥ ص ٣٢.
هو مشروع ، وأن لا يتجاوز الإنسان حدود إنسانيته ، وأن لا يسقط أية قيمة من القيم التي يؤمن بها.
فلا يجوز أن تؤدي الخدعة إلى سفك دم بريء ، كدم الشيخ الفاني ، والطفل والمرأة مثلا ، ولا أن تسوق إلى الغدر بمن أعطيته شرف العهد والوعد ، والخيانة في مال الله ، أو في مال المسلمين. وهو ما سمي بالغلول.
بل لا بد أن يكون الغزو ، ملابسا لاسم الله تعالى ، متمازجا معه ، وأن يكون خطوة تضع المجاهد على طريق الوصول إليه.
وهذا بالذات هو ما ترمي إليه وصيته «صلىاللهعليهوآله» لجيش مؤتة ، حيث قال : «اغزو ، باسم الله في سبيل الله ، فقاتلوا من كفر بالله ، لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تقتلوا وليدا» (١).
من وصاياه صلىاللهعليهوآله لجيشه أيضا :
تقدم : أن من وصايا النبي «صلىاللهعليهوآله» لذلك الجيش هو : أن لا يقطعوا شجرا ، ولا يقربوا نخلا ، ولا يهدموا بيتا ، أو بناء ..
وهذا الحرص على الشجر ، سواء في ذلك المثمر منه وغيره ، وعلى النخل الذي يمثل مصدر العيش والارتزاق للناس ، وعلى البناء والعمران ـ إن ذلك كله ـ يشير إلى طبيعة اهتمامات الإسلام ، وأنه لا يحارب الناس انطلاقا من حب البطش ، ولا استجابة لشهوة القتل أو التلذذ بأذى الآخرين ، وحب التنكيل بهم ، بل هو يريد أن يدفع ظلمهم ، وعتوهم عن نفسه ، وعن غيره ،
__________________
(١) المغازي ج ٢ ص ٧٥٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٤ والبحار ج ٢١ ص ٥٩ و ٦٠ عن الواقدي ، والمعتزلي.
وأن يبطل كيدهم ، ومؤامراتهم ، وأن يحصل على حريته بممارسة قناعاته ، بعيدا عن أجواء القهر ، وفي منأى عن الحدود التي يفرضونها عليه ، والقيود التي يقيدونه بها ..
إنه يريد أن يحفظ للبيئة صحتها وسلامتها ، وللمناظر الخلابة رونقها وروعتها ، ولمصادر الرزق عطاءها ونضارتها ، وللبلاد العامرة عمرانها وشموخها وبهجتها ..
وهذا بالذات هو ما يفسر وصاياه «صلىاللهعليهوآله» لجيش مؤتة ، ولغيره من البعوث القتالية ، التي كان يضطر لإرسالها.
التحول إلى دار المهاجرين :
ومن جملة الخيارات التي طرحها «صلىاللهعليهوآله» على جيشه ، لتعرض على الناس في مسيرهم ذاك ، هو التحول إلى دار المهاجرين ، ليكون لهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما عليهم.
وهو خيار لافت للنظر ، باعتبار أنه جعل للإنسان الذي يريد أن ينسلخ عن محيطه ، ليندمج في محيط آخر لا عهد له به ، خصوصية ميزه بها ، حيث جعل لعمله هذا قيمة ، وللمصاعب التي يتحملها عوضا ، ففرض له حقوقا تناسب هذا الواقع الذي استجد له ، وتعينه على المصاعب التي سوف يواجهها.
الرسل لا تقتل :
وإن من الأمور التي توافق عليها البشر كلهم ، لإدراك حاجتهم إليها لاستمرار حياتهم ، وسلامة علاقاتهم ، هو الحصانة التي يعطونها للرسل ،
وللموفدين ، فإن جميع الأمم على اختلاف أديانها ، وعاداتها ، وحالاتها تمنع من قتل الرسل ، وتلتزم بحمايتهم من كل مكروه .. وترى التعدي عليهم عيبا ، بل إن التعدي على حامل الرسالة يعطي الحق لدى البشر جميعا بمعاقبة فاعل ذلك ، ولا يعتبرون هذه العقوبة من مفردات التعدي والظلم للآخرين ..
ولعل بعض ما ذكرناه يفسر لنا حقيقة : أنه لم يقتل لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» رسول غيره ، رغم كثرة رسله ومبعوثيه إلى مختلف الفئات ، وفي جميع الاتجاهات.
على أن ما فعله شرحبيل قد جاء أشد قباحة ، وأظهر وقاحة ، باعتبار أنه لم يتثبت من مضمون الرسالة ، فلعلها رسالة سلام ووئام ، تحقن بها الدماء ، وتصان بها الحقوق ..
علما بأن هذه الرسالة لم تكن تعني شرحبيل في شيء ، وإنما هي مرسلة إلى غيره ، فلماذا يتدخل في شيء لا يعنيه؟! ولماذا يفوّت على غيره فرصا ، أو يحرمه من منافع يسعى للحصول عليها؟!.
وأخيرا نقول :
ونحن وإن كنا نعتقد : أن تجهيز الجيش إلى مؤتة ، قد كانت له أهداف جليلة ، لعل أهونها منع ذلك الجيش العظيم جدا من الزحف نحو المدينة ، ومن السعي لامتلاك الحجاز كله .. حيث ستصبح الأمور بالغة التعقيد ..
لكن مما لا شك فيه : أن قتل شرحبيل بن عمرو الغساني ، لمبعوث النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى بصرى ، قد أطلق الشرارة الأولى باتجاه الحرب ، ومثّل حافزا للمسلمين لينفروا لمواجهة الخطر ، وليكونوا طليعة جيش الإسلام ،
وليقدموا الأمثولة الكبرى لجيش الروم في الجهاد ، وفي الاستبسال والتضحية ، لكي تعود حالة التوازن إلى ذلك الجيش المغرور بعدّته وبعدده ولتدفعه هذه الصدمة القوية إلى مراجعة حساباته بأناة وروية ، وهكذا كان ..
اليهودي .. وقتل القادة :
ورغم أن معجزات رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، الدالة على نبوته كانت تتوالى. وكانت معجزته الكبرى الخالدة ، وهي هذا القرآن الكريم حاضرة لدى جميع الناس ، وماثلة أمام أعينهم.
وقد صرح القرآن نفسه : بأن اليهود كانوا يعرفون النبي العظيم ، كما يعرفون أبناءهم.
نعم ، رغم ذلك ، فقد رأينا : أن هذا اليهودي يبادر إلى الإعلان على الملأ بأن القادة الذين عيّنهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، صائرون إلى القتل ، ثم إنه علّق صحة نبوته «صلىاللهعليهوآله» على قتل هؤلاء القادة ..
ومن شأن هذا الإعلان : أن يفت في عضد الناس ، وأن يرهبهم ، ويحبط عزائمهم ، خصوصا إذا كان القتل سينال هؤلاء الصفوة حتى جعفر بن أبي طالب «رضوان الله عليه».
واللافت : أن هذا اليهودي يختار خصوص زيد بن حارثة ، ليقول له : «اعهد ، فإنك لا ترجع إلى محمد إن كان نبيا».
فلماذا يخاطب زيدا بهذا الخطاب المرّ ، المقرون بالتشكيك بنبوة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، مع أن ذلك اليهودي كان عارفا بنبوته «صلىاللهعليهوآله» تماما كما كان يعرف أقرب الناس إليه ، من أبنائه وغيرهم ، كما