الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-191-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٠

الفصل الثاني :

سرايا بين وادي القرى وعمرة القضاء

٤١
٤٢

سرية عمر إلى تربة :

يقول المؤرخون : إنه في شعبان سنة سبع بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عمر بن الخطاب في ثلاثين رجلا إلى بني نصر بن معاوية ، وبني جشم بن بكر. وهم الذين يقال هم : «عجز هوازن» (١) ، أرسله إلى موضع يقال له : تربة ، على أربع ليال من مكة ، على طريق صنعاء ونجران (٢).

لكن هناك من يقول : إنه واد على يومين من مكة ، يصب في بستان ابن عامر (٣).

فخرج بهم عمر ، ودليله رجل من بني هلال ، فكانوا يسيرون بالليل ،

__________________

(١) راجع : القاموس المحيط ج ٢ ص ١٨١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٥ و ١٨٦ وعن الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١١٧ وج ٣ ص ٢٧٢ وتاريخ المدينة ج ٢ ص ٦٦٥ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٣٠٨ وعن البداية ولنهاية ج ٤ ص ٢٥١ وعن عيون الأثر ص ٢ ص ١٥٣ وعن سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٣٠ ولسان العرب ج ٥ ص ٣٧٢ وتاج العروس ج ٤ ص ٥٢.

(٢) الطبقات الكبرى ج ٢ ص ٨٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٦ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٥٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٥١ وتاج العروس ج ١ ص ١٥٩.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٣٠.

٤٣

ويكمنون بالنهار. وأتى الخبر هوازن فهربوا.

وجاء عمر إلى محالهم ، فلم يلق منهم أحدا.

وانصرف راجعا إلى المدينة ، فلما كان بالجدر ـ موضع على ستة أميال من المدينة ـ قال له الهلالي : هل لك في جمع آخر تركته من خثعم ، جاؤوا سائرين قد أجدبت بلادهم؟!

فقال عمر : لم يأمرني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهم ، إنما أمرني أن أصمد لقتال هوازن بتربة. وواصل طريقه إلى المدينة (١).

ونقول :

لنا ملاحظات عديدة ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ إننا نعطي الحق لعمر في امتناعه عن مهاجمة الخثعميين ، الذين لم يأمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشيء في شأنهم ، ونود أن يكون الحفاظ على حرفية أوامره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الداعي له إلى ذلك ، وليس هو الخوف من أن يحيق به مكروه في ساحات الحرب والنزال ، فقد تعودنا منه النكوص والإحجام عن مثل هذه الساحات ..

ولعل ما يعزز هذا الاحتمال الأخير : أننا وجدناه لا يلتزم بحرفية الأوامر في كثير من المواقع والحالات ، بل هو يصر على مخالفتها. ومن ذلك تمرده على أوامر النبي يوم الحديبية وقبلها ومنعه للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٢٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٣٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٠ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٥١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤١٨.

٤٤

من كتابة كتاب لا تضل الأمة بعده أبدا ، وقوله : إن النبي غلبه الوجع ، أو إن النبي ليهجر ، أو نحو ذلك ..

وقد تقدم عن قريب ، كيف أنه يأمر بقتل يهودي ، وجده في نوبة حراسته ، دون أن يراجع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ذلك.

٢ ـ إن مشورة ذلك الدليل على عمر بمهاجمة الخثعميين تشير إلى أن هؤلاء كانوا يظنون أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يرسل هذه السرايا لأجل السلب والنهب ، والقتل ، والأسر .. مع أن الأمر ليس كذلك ، بل الهدف هو دفع العدوان حين يتبين له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنهم يخططون ، ويدبرون لهذا الأمر ، ويجمعون الجموع له ..

٣ ـ إن توصيف الموضع الذي قصده عمر بن الخطاب يدل على أنه بعيد كثيرا عن المدينة ، وأن الوصول إليه يتطلب السير الحثيث لعدة أيام.

فإذا فرض أن هؤلاء القوم كانوا يدبرون ويجمعون لشن الغارات على المدينة ، أو على أطرافها ، أو على جماعات من المسلمين الذين كانوا في مناطق قريبة لهم .. فلا بد أن يكون عددهم كثيرا ، يمكّنهم من القيام بأمثال تلك التحرشات الخطيرة. فما معنى أن يهربوا ، ويخلوا أماكنهم بمجرد سماعهم بأن ثلاثين راكبا يقصدونهم؟!

بل إنهم حتى لو لم يكونوا قد حشدوا واجتمعوا ، فإن هروب هوازن من ثلاثين راكبا ليس له ما يبرره ، خصوصا وأن أمير السرية هو عمر بن الخطاب ، وليس علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، أسد الله الغالب ، الذي كان يعرف كل أحد أن مواجهته في أي موقع ، وموقف لن تعود عليه بالخير .. وقلعه لباب خيبر ، وقتله لمرحب فارس اليهود ، ولعمرو بن عبد

٤٥

ود ، فضلا عما سوى ذلك ، لا يزال الناس يتداولونه ، ويتناقلونه في مجالس الأسمار والأسحار ..

٤ ـ إن إرسال سرية بهذا العدد القليل والضئيل إلى تلك البلاد البعيدة ، التي يتمكن الأعداء من محاصرتها بكثراتهم ، وقطع المدد عنها ، ومنعها من الاتصال بالمدينة ، التي هي مصدر قوتها ، ثم الإيقاع بها ، والقضاء عليها بسهولة .. إن ذلك أمر غير عقلائي ، ولا يتوقع صدوره من عقل الكل ، ومدبر الكل ، وهو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ولم يكن لدى عمر صيت ذائع في الشجاعة ، لترهبه الأبطال ، وتهرب من وجهه الجموع.

ولا نظن أنه كان لديه من الشجاعة والإقدام ما يدفعه إلى الإقدام على مخاطرة من هذا القبيل .. وقد تعودنا منه الفرار من الزحف ، والنكوص عن منازلة الأقران في أكثر من موقف وموقع .. على الرغم من وجود المسلمين ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معه ، أو بالقرب منه ..

ولأجل ذلك كله نقول :

لو صح أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أرسل سرية بهذه المواصفات ، فلا بد أن تكون سرية استطلاع واستكشاف ، لا سرية قتال ونزال ..

أو يقال : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعلم بأن أحدا سوف لا يجرؤ على التعرض لسراياه ، بعد أن رأى الجميع ما جرى في خيبر ، فأرسل هذه السرايا ليظهر لهم حضوره في المنطقة ، وهيمنته على الموقف ..

٤٦

سرية أبي بكر إلى نجد :

وقالوا : إنه في شعبان سنة سبع ، بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا بكر إلى نجد ، فبيّت ناسا من هوازن ، قال حمزة : فسبينا هوازن ، وقال هشام : فسبى ناسا من المشركين ، فقتلناهم.

قال سلمة بن الأكوع : فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات ، وكان شعارنا : أمت ، أمت (١).

ونقول :

إننا لا نستطيع أن نؤيد صحة هذه القصة ، التي وردت على هذا النحو من الإبهام ، والإيهام ، حيث لم يذكر عدد أفراد تلك السرية ، ولا الموضع الذي أرسلها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليه من نجد ، ولا السبب الذي أرسلت تلك السرية من أجله ، ولا .. ولا .. الخ ..

خصوصا ونحن نرى سلمة بن الأكوع يتحدث عن نفسه ، ويسطّر لها البطولات الخارقة ، التي لم يذكرها له أحد سواه ، ولكنها ليست بطولات في ساحات الحرب والنزال ، بل هي صولات على أسرى مغلولي الأيدي ، لا

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٧٢٢ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٨٥ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ١١٨ وج ٣ ص ١٧٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٩٢ و ١٣١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ١٩٩ وعن مسند أحمد ج ٤ ص ٤٦ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٥٩٤ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٧٩ والمصنف للصنعاني ج ٧ ص ٦٤٧ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٤٨ و ٥٢ و ٥٣ وعن الكامل ج ٥ ص ٢٧٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٢ ص ٩٢ وسير أعلام النبلاء ج ٣ ص ٣٢٧.

٤٧

يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا.

واللافت هنا : أنه حتى هذه الصولات على الأسرى لم يتحدث عنها ، سوى سلمة بنفسه ، فلم يذكر لنا أبو بكر ، ولا أحد من أفراد تلك السرية شيئا عن هؤلاء الذين قتلهم هذا البطل العظيم ، الذي يريد أن يجعل مما ينسبه لنفسه حديث النوادي ، ومجالس السمر ، من أول الليل إلى وقت السحر!!

ثم إنه إذا كان سلمة قد قتل وحده سبعة أهل أبيات ، فكم قتل غيره من أفراد تلك السرية يا ترى؟!

ولماذا لم يتحدث التاريخ لنا بالتفصيل عن هذا الحدث الكبير؟!

وهل جاؤوا بغنائم؟! وما هو مقدارها؟!

ولماذا أجمل حمزة الكلام ، فأشار إلى السبي بصورة مطلقة؟!

بل إن كلمة حمزة ظاهرة في أنهم قد سبوا معظم هوازن ، حيث قال : فسبينا هوازن ، وهذا حدث عظيم ، فلماذا لم يذكره غير حمزة؟!

بطولات سلمة بن الأكوع :

وذكر سلمة هنا أيضا : أنه لقي جماعة منهم يهربون إلى الجبل ، فرمى بسهم بينهم وبين الجبل ، فوقفوا ، فأتى بهم إلى أبي بكر يسوقهم ، وفيهم امرأة من بني فزارة مع ابنة لها من أحسن العرب ، فأخذ أبو بكر ابنتها ، وقدموا المدينة ، وما كشف لها ثوبا.

فلقيه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في السوق مرتين في يومين ، فطلبها منه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : هي لك يا رسول الله.

٤٨

فبعث بها إلى مكة ، ففدى بها ناسا من أسرى المسلمين (١).

ونقول :

إن هذه القصة بعينها ـ تقريبا ـ قد تقدمت في غزوة أم قرفة ، التي يقال : إنها كانت في شهر رمضان من سنة ست ، وقد ذكرنا هناك ما يشير إلى عدم إمكان الاطمينان إلى صحتها ، فراجع ..

قتل سبعة أهل أبيات :

ربما يقال : إن قول بعضهم : فسبى ناسا من المشركين فقتلناهم ، فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات من المشركين يدل على أنهم قتلوا أولئك الذين وقعوا في السبي ، فيأتي السؤال أولا عن سبب قتلهم بعد سبيهم.

ثانيا : هل قتل سبعة أهل أبيات بما في ذلك النساء والرجال والشيوخ والأطفال؟ أم اقتصر القتل على المقاتلين منهم؟!

وقد يجاب ، بأنه :

ربما لم يقتلهم بعد سبيهم ، إذ يمكن أن يكون الضمير وهو كلمة «هم»

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٠ وعن السنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٢٢ وعن الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١١٨ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٥٤ وعن سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٩٢ ونيل الأوطار ج ٥ ص ٢٦٢ وعن مسند أحمد ج ٤ ص ٤٦ و ٥١ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٢٩ وتحفة الأحوذي ج ٤ ص ٤٢٢ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٢٠٠ والمعجم الكبير ج ٧ ص ١٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٢ ص ٩٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٥١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤١٧ وعن سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٩٢.

٤٩

في قوله : «فقتلناهم» عائدا على المشركين الذين أرسلوا للإغارة عليهم.

وهو جواب ضعيف يخالف ظاهر الكلام ، كما هو واضح.

أو يقال : إنها تطلق على خصوص سبي النساء ، لكن يصح إطلاقها أيضا على كل من يؤخذ حيا من الأعداء بما في ذلك الرجال والنساء.

ويشهد له قول علي «عليه‌السلام» لما اعترض البعض عليه لعدم إقدامه على أخذ سلب عمرو بن عبد ود ، وهو أنفس سلب : كرهت أن أبزّ السبي ثيابه.

فعبر عن الذي قد استولى عليه وقهره ، ثم قتله بأنه سبيّ.

فقوله : سبى ناسا من المشركين معناه : أنه أسر ناسا منهم .. وربما يكون في جملتهم نساء وشيوخ ، وأطفال أيضا.

وبعد ما تقدم نقول :

يحتمل أن يكون سلمة قد قتل سبعة أهل أبيات بما في ذلك النساء ، والرجال ، والشيوخ ، والأطفال ، وإن لم يقاتله إلا رجالهم ، ويحتمل أن يكونوا قاتلوه نساء ورجالا وأطفالا ، فقتلهم من أجل ذلك.

سرية بشير بن سعد إلى فدك :

ويذكرون أيضا : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث في شعبان سنة سبع بشير بن سعد في ثلاثين رجلا إلى بني مرة بفدك ، فلقي رعاتهم فسألهم عنهم ، فقالوا : هم في بواديهم (أو نواديهم ، أو واديهم). والناس يومئذ شاتون ، لا يحضرون الماء.

فاستاق النعم والشاء ، وعاد بها إلى المدينة ، فخرج الصريخ ، فأدركوه عند

٥٠

الليل ، فباتوا يرامونهم بالنبل ، حتى فنيت نبل أصحاب بشير ، وأصبحوا ، وحمل بنو مرة عليهم ، فقتل من أصحاب بشير من قتل ، وهرب من هرب ، (وقتل كثير من الصحابة).

وقاتل بشير قتالا شديدا حتى ارتث ، وضرب كعبه ، ووقع في القتلى ، وقيل : قد مات.

ورجع بنو مرة بنعمهم ، وشائهم إلى بلدهم ..

ووصل خبر ما جرى إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أوصله إليه علبة بن زيد الحارثي.

وأمهل بشير بن سعد ، وهو في القتلى ، فلما أمسى تحامل حتى أتى فدكا ، فأقام عند يهودي بفدك أياما حتى ارتفع من الجراح ، ثم رجع إلى المدينة (١).

فلما علم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما جرى ، قرر اتخاذ موقف حاسم ، فكانت :

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٢٣ و ٧٢٤ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٠ و ٦١ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٣٢ والبحار ج ٢١ ص ٤٨ عن الكامل لابن الأثير ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٦ وعن الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١١٩ وج ٣ ص ٥٣١ وعن الثقات ج ٢ ص ٢٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٠ ص ٢٨٩ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٠٨ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٥٥ وراجع : تاريخ خليفة بن خياط ص ٤٦ والتنبيه والإشراف ص ٢٢٧ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٥٤.

٥١

سرية غالب الليثي إلى فدك :

فقد ذكروا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هيأ الزبير بن العوام ، فقال له : سر حتى تنتهي إلى مصاب أصحاب بشير ، فإن ظفرك الله بهم فلا تبق فيهم (وأمره أن يستأصلهم).

وهيأ معه مائتي رجل ، وعقد له اللواء ، فبينما هو على ذلك إذ قدم غالب بن عبد الله من الكديد ، بعد أن ظفره الله ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للزبير : اجلس.

وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل ، كان فيهم أسامة بن زيد ، وكعب بن عجرة ، وعلبة بن زيد ، وغيرهم.

فلما دنا غالب من بني مرة بعث الطلائع ، فبعث علبة بن زيد في عشرة ينظر إلى جماعة منهم في محالّهم ، فرجعوا إليه ، فأخبروه. فأقبل غالب يسير ، حتى إذا كان منهم بمنظر العين ليلا ، وقد احتلبوا ، وعطنوا (١) ، وهدأوا ، خطب أصحابه. ثم ألف بين كل رجلين ، وشرط أن لا يفارق كل رجل زميله.

ثم كبر وكبروا ، وأخرجوا السيوف ، فخرج إليهم الرجال ، فقاتلوا ساعة ، فوضعوا السيوف فيهم حيث شاؤوا.

وفي نص آخر : أغاروا عليهم مع الصبح ، وقاتلوا قتالا شديدا ، وقتل كثير من المشركين ، وأخذ المسلمون كثيرا من الأسارى ، والإبل والغنم ، فكانت سهام كل رجل عشرة أبعرة ، أو عدلها من الغنم ، (كل جزور بعشرة من الغنم).

__________________

(١) أي : سقوا الإبل ، ثم أناخوها وحبسوها عند الماء (لسان العرب ج ١٧ ص ١٥٨).

٥٢

وخرج أسامة بن زيد في أثر رجل منهم ، يقال له : نهيك بن مرداس فأبعد.

ثم أخذوا النعم ، والنساء ، فقال غالب : أين أسامة؟!

فجاء بعد ساعة من الليل ، فذكر لهم : أنه لحق برجل ، حتى إذا رهقه بالسيف قال : لا إله إلا الله .. ولكن أسامة قتله رغم ذلك.

قال أسامة : فأتيت إلى المدينة ، فاعتنقني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقبّلني ، واعتنقته.

ثم ذكر أنه أخبره بما جرى ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : قتلته يا أسامة ، وقد قال : لا إله إلا الله؟.

قال فجعلت أقول : يا رسول الله ، إنما قالها تعوذا من القتل.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ألا شققت قلبه ، فتعلم أصادق هو أم كاذب؟!

فقال أسامة : لا أقتل أحدا يقول لا إله إلا الله. قال أسامة : وتمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ (١).

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٢٣ و ٧٢٥ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٧ و ٦٨ عن معالم التنزيل ، وعن روضة الأحباب ، والبحار ج ٢١ ص ٦٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٦ و ١٨٧ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ٨٨ وج ٣٦٨ وعن صحيح مسلم ج ١٠ ص ٦٨ وشرح مسلم للنووي ج ٢ ص ١٠٠ والديباج على مسلم ج ١ ص ١١٢ ورياض الصالحين للنووي ص ٢٣١ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٥٣ و ٣١٦ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٥٦ والمحلى لابن حزم ج ٧ ص ٣١٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٢٣ وعن النص والإجتهاد ـ

٥٣

ومن جهة أخرى : فقد روي عن المقداد بن عمرو ، قال : قلت يا رسول الله : أرأيت رجلا من الكفار يقاتلني ، وضرب إحدى يديّ بالسيف فقطعها ، ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله ، أقتله بعد أن قالها؟!

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا تقتله.

قال : فإني قتلته ، فماذا؟!

قال : فإنه بمنزلتك التي كنت بها قبل أن تقتله ، وأنت بمنزلة قبل أن يقول كلمته التي قال (١).

__________________

ص ١١٢ وعن مسند أحمد ج ٥ ص ٢٠٠ أسباب نزول الآيات ص ١١٧ وعن فتح الباري ج ١٢ ص ١٧٢ وعن سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٢ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٥٧ وراجع : روضة الطالبين ج ٧ ص ٢٨٨ ومسند أبي داود الطيالسي ص ٨٧ والمعجم الكبير ج ١٩ ص ١٦٥ وعن تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٢ ص ٣٢٢.

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٢٥ و ٧٢٦ وكتاب الأم ج ١ ص ٢٩٦ وج ٦ ص ٤ و ١٧٠ والمغني ج ١٠ ص ١٠٢ والشرح الكبير ج ١٠ ص ٩٤ ونيل الأوطار ج ٧ ص ١٩٨ وعن كتاب المسند ص ١٩٧ وعن مسند أحمد ج ٦ ص ٤ و ٦ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ١٩ وج ٨ ص ٣٥ وعن صحيح مسلم ج ١ ص ٦٧ وشرح مسلم للنووي ج ٢ ص ٩٨ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٥٩٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٩ و ١٩٥ والديباج على مسلم ج ١ ص ١٠٩ وعن السنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٧٥ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٥٥ والمعجم الكبير ج ٢٠ ص ٢٤٨ و ٢٤٩ و ٢٥١ ورياض الصالحين ص ٢٣٠ وكنز العمال ج ١ ص ٩٧ وإرواء الغليل ج ٨ ص ١٣٦ وأحكام القرآن ج ٢ ص ٣٠٩ وتهذيب الكمال ج ١٩ ص ١١٦ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٣٨٦ وعن سبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ٣٠١.

٥٤

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم وقفات عديدة ، نكتفي منها بما يلي :

أين تقع فدك؟!

ذكر بعضهم : أن المقصود بفدك هنا : قرية بينها وبين المدينة ستة أميال (١).

وهو كلام غير دقيق ، فإن فدكا تقع على بعد يومين أو ثلاثة من المدينة.

بل في بعض النصوص : أنها على ستة ليال من المدينة (٢).

لماذا ثلاثون رجلا؟! :

ويعود السؤال ليطرح نفسه من جديد ، ولكنه مزود هذه المرة بالشاهد القوي ، والقاطع للعذر ، فيقول : إذا كان التغلب على بني مرة في فدك يحتاج إلى مائتي مقاتل ، كما ظهر من تجهيز هذا العدد بقيادة غالب بن عبد الله ، فلماذا يرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم بشير بن سعد في ثلاثين رجلا فقط؟!

وإذا كان بنو مرة قد واجهوا المائتين ، وقاتلوهم ، فهل سوف يتركون ثلاثين رجلا يستاقون نعمهم ، دون أن يلاحقوهم ، وينزلوا بهم ضرباتهم

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٦ وعن سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٦٩ و ٤١١.

(٢) راجع : وفاء الوفاء ج ٣ ص ١٢٨٠ وعن الطبقات الكبرى ج ٢ ص ٩٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٣٠٠ والتنبيه والإشراف ص ٢١٩ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٥٧٣ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٠٧ وعن سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٩٧.

٥٥

القوية والمهلكة؟!

ويزداد هذا الأمر وضوحا إذا لوحظ : أن المقصود بالهجوم هو أناس يبعدون عن المدينة مسافات طويلة ، تحتاج إلى مسير ثلاثة أيام!!

فكيف إذا كانوا في محيط اليهود المعروفين بغدرهم وخياناتهم ، وبحقدهم على أهل الإسلام؟! وبالأخص إذا كان ذلك قد حصل بعد أن أوقع المسلمون بهم ، وهزموهم شر هزيمة؟!

أهداف تلك السرية :

قلنا أكثر من مرة : إننا لا نتعقل أن يكون هدف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من إرسال تلك السرايا هو مجرد الإيقاع بالناس ، وقتل رجالهم ، وسبي نسائهم وأطفالهم ، واستياق مواشيهم ، واستلاب أموالهم من دون دعوة مسبقة لهم إلى الله تعالى ، كما هي عادته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

حتى إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في آخر غزواته ليهود وادي القرى ، كان يعاود الدعوة لهم عند كل صلاة ، وبعد قتل كل رجل منهم (١) ، فما معنى أن يرسل بالسرايا لتغير على الآمنين ، وتأخذ الناس على حين غرة ، وتقتلهم ، وتسبي نساءهم وأطفالهم ، وتأخذ أموالهم ، وتستاق مواشيهم؟!

إننا من خلال كل ما قدمناه وسواه نرى : أن هذه السرايا هي سرايا دعوة إلى الله ، وبعضها كانت مهمته الرصد والرقابة .. حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة.

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧١٠.

٥٦

إمكان نجاة السرية من القتل :

ذكر النص المتقدم : أن بني مرة لحقوا المسلمين في أول الليل ، فباتوا يرامونهم بالنبل ، حتى فنيت نبال أصحاب بشير ..

والسؤال هو : لماذا لم يغتنم أصحاب بشير الفرصة ، ويتخذوا الليل جملا للنجاة بأنفسهم ، إذا كانوا يعلمون أنهم لا يقدرون على المواجهة؟! وأن مصيرهم سيكون هو البوار والدمار؟!

إذ إنهم بعد أن فني نبلهم ليلا لا بد أن يعرفوا : أنهم في خطر أكيد ، وضيق شديد ، فإما أن يستعملوا خطة أخرى ، أو أن يتحيزوا إلى فئتهم ، لكي يأتوا بقوة قادرة على حسم الأمور لصالحهم.

من هم القتلى؟! :

وقد تعودنا من المؤرخين ، ومن رواة المسلمين أن يذكروا أسماء قتلاهم في الحروب المختلفة ، فراجع حرب بدر ، وأحد ، وخيبر ، وغير ذلك ، بل هم يذكرون أسماء القتلى من المشركين وغيرهم من أعدائهم أيضا ، فما بالهم لم يذكروا أسماء ولا عدد من قتل في سرية بشير بن سعد هذا؟!

ولا بد أن تتنامى توقعاتنا لذلك ، ونحن نرى مدى اهتمام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالانتقام لهم ، حتى إنه يبادر إلى تجهيز جيش ، وإرساله لهذا الغرض.

بشير بن سعد الجريح الناجي!! :

ونلاحظ هنا أيضا : أن هذا الذي ذكروه عن بشير بن سعد ، من أنه

٥٧

ضرب كعبه ، فظنوا موته ، ثم نجا بنفسه ؛ قد ذكر ما يشبهه في سرية أخرى ، هي سرية محمد بن مسلمة إلى بني ثعلبة في ذي القصة .. وجاء فيها :

أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث محمد بن مسلمة في عشرة إلى بني ثعلبة ، فورد عليهم ليلا ، فكمن القوم حتى نام ، ونام أصحابه ، فأحدقوا بهم ، وهم مائة رجل ، فما شعروا إلا بالنبل وقد خالطتهم ، فوثب ابن مسلمة ، وعليه القوس ، ووثب من معه ، فتراموا بالنبل ساعة من الليل ، ثم حملت الأعراب عليهم ، فقتلت ثلاثة منهم ، ثم قتلوا الباقين ، ووقع ابن مسلمة جريحا ، فضرب كعبه فلم يتحرك .. فتركوهم ..

ثم نجا محمد بن مسلمة بواسطة رجل مسلم مر على القتلى ، فحمله حتى ورد به المدينة.

ثم إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث أبا عبيدة في أربعين رجلا إلى مصارعهم ، فلم يجد أحدا ، فاستاق نعما ورجع (١).

وستأتي قضية أخرى تشبه هذه القضية أيضا ، وهي سرية ابن أبي العوجاء إلى بني سليم في سنة سبع.

ومثلها سرية ذات أطلاح أيضا.

وهذا التشابه يلقي ظلالا من الشك على صحة أكثر هذه النصوص.

قاتل حتى ضرب كعبه!! :

وورد في النص المتقدم كلام غير مفهوم ، فقد قال : قاتل قتالا شديدا

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٥١ وعن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٣ والبحار ج ٢٠ ص ٢٩١ و ٣٠٨ وعن إعلام الورى ج ١ ص ٢٠٠.

٥٨

حتى ضرب كعبه.

وقيل : قد مات ..

فما هو ربط القتال الشديد بضرب الكعب؟!

وكيف أصبح ضرب الكعب هو أقصى شيء في القتال؟!

إلا أن يقال : إنه حين جرح ، ضربوا كعبه ، ليعرفوا موته من حياته ، فلم يتحرك.

وقيل : قد مات .. ولذلك زاد الحلبي عبارة : «اختبارا لحياته» (١) فراجع.

ولكن لماذا تم اختيار الكعب لمعرفة موته من حياته؟!

بل لماذا يضربون كعبه ، ولا يضربونه بموضع قتّال ، فيحصل لهم اليقين بموته؟!

إلا إن كان لهم غرض بأسره ومفاداته ، أو نحو ذلك ..

لماذا عدل عن الزبير؟! :

لقد ذكر النص المتقدم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جهز الزبير أولا ، وعقد له اللواء ، وأمره بالمسير إلى بني مرة ، ولكنه عاد وأمره بالجلوس ، واستبدله بغالب بن عبد الله من دون أن يفصح عن الداعي إلى ذلك ..

رغم أن غالبا كان قد قدم لتوه من سرية أخرى ، ولم يسترح من عناء السفر .. مع ملاحظة : أنهم لم يفصحوا لنا ـ أيضا ـ عن أيّ شيء يرتبط بتلك السرية التي عاد منها غالب!!

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩٢.

٥٩

والسؤال هنا هو :

هل اعرض النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن ارسال الزبير ، لأن الزبير امتنع من القيام بهذه جبنا وخورا ، أو اعتذر عنها بمشاغل رأى أنها أهم من تنفيذ أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! فإن كان الأمر كذلك فلماذا لم يذكر لنا المؤرخون ..

وإن كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي انصرف عنه فالسؤال هو : هل وجد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الزبير أي هناة تمنع من إرساله في مهمة كهذه؟!

أو أنه لم يكن أهلا لقيادة سرية بهذه الحجم ، ولها مهمة كهذه؟!

فإن كان الأمر من هذا القبيل أو ذاك ، فلماذا قدمه أولا؟

ألم يكن عالما بعدم كفاءته ، أو بالهنات التي صدرت منه؟!

وإن كان الأمر كذلك ، فكيف يقدم على أمر لم يتثبت فيه ، ولم يستكشف حقيقته؟! ويقف على ما ينبغي له أن يقف عليه؟!

وإن كان الزبير بريئا من كل عيب ، وكان كفؤا للمهمة التي رشّح لها ، فلماذا نحاه عنها؟!

ألا يعتبر ذلك بمثابة تشكيك في أهليته ، أو الطعن في إخلاصه؟! فلماذا لم يقل أي شيء من شأنه أن يبعد الشبهة عنه؟!

أم أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد أن يتفاءل بالنصر الذي حصل للسرية السابقة ، كما يوحي به قول الراوي : «فقدم غالب بن عبد الله من سرية قد ظفره الله عليهم»؟!

ولكن هل يصح أن يكون هذا التفاؤل بقيمة إثارة الشبهات حول

٦٠