الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-191-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٠

هذا كتشريع مستمر بعده «صلى‌الله‌عليه‌وآله». فكيف إذا ورد عن أهل بيت العصمة «عليهم‌السلام» ما يدل على أنه حالة خاصة ، وليس لها أي صفة شرعية؟!

١٨١
١٨٢

الفصل السادس :

من مكة إلى المدينة

١٨٣
١٨٤

هل كان أبو هريرة مع الهدي؟!

ذكر الواقدي : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جعل ناجية بن جندب الأسلمي على هديه ، ومعه أربعة فتيان من أسلم (١).

ولكننا نجد في مقابل ذلك : أن أبا هريرة الدوسي يدعي ويقول : كنت ممن صاحب البدن أسوقها.

كما أن عبيد بن أبي رهم قال : أنا كنت ممن يسوق الهدي ، وأركب على البدن (٢).

مع أن أبا هريرة لم يكن أسلميا ، ولم نجد لعبيد بن أبي رهم ترجمة تدلنا على قبيلته ، ولم نجد أبا رهم في بني أسلم ..

إلا أن يقال : إن الذين وظفهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على الهدي هم الأسلميون ، فلا يمنع ذلك من مشاركة غيرهم لهم على سبيل

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٣٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٠ ودلائل النبوة ج ٤ ص ٣٢٠ ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٣٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٣١٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٣٥.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٣٣ ، وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٢٤٤.

١٨٥

التبرع ، والمبادرة الشخصية ..

على أننا لا نستبعد أن يكون المقصود : هو التبجح بأمر لم يحصل منه إلا اليسير ، إذ لا مانع من أن يبادر شخص فيسوق الهدي ولو لدقائق ، لكي يقول للناس : لقد سقت الهدي ، وليثبت لنفسه شرفا وكرامة ، مهما كان ذلك ضئيلا ، وغير ذي بال!!

شعر ابن رواحة :

وعن شعر عبد الله بن رواحة «رحمه‌الله» نقول :

إن لنا تحفظا على قوله : «نحن ضربناكم على تأويله» ، لأن قريشا وأهل مكة لم يسلموا بعد ، ولم يقروا بالتنزيل ، ولم يتأولوا القرآن على خلاف ما أنزل الله تعالى ، ولم يقاتلهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على تأويله ..

وإنما حاربهم علي «عليه‌السلام» على تأويله بعد استشهاده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ولأجل ذلك قال ابن هشام : «نحن قتلناكم على تأويله» ، إلى آخر الأبيات ، لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم ، قال السهيلي : يعني يوم صفين (١).

إلا أن يقال : إن عبد الله بن رواحة كان قد سمع من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن عليا «عليه‌السلام» سوف يقاتل هؤلاء القوم على تأويل القرآن ، كما قاتلهم على تنزيله ، فأورده في شعره ، على سبيل تنزيل الأمر الذي لم يحصل بعد منزلة الحاصل ، فأخبر عنه بواسطة الفعل الماضي.

__________________

(١) راجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٢٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٦٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٣١.

١٨٦

ومن الواضح : أن هذا الاحتمال لا يصار إليه إلا بقرينة ودليل ، لأنه خلاف الظاهر.

وزعم الحلبي : أنه لا يمنع أن يكون عمار قد أخذه من ابن رواحة وتمثل به (١).

ونقول :

ذكرنا : أنه لا معنى لأن يقول ذلك ابن رواحة ، وليس الإشكال في إيراد عمّار لهذا الشعر ، خصوصا لقوله :

اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

فما ذكره لا أثر له في دفع هذه المؤاخذة ..

خطأ يقع فيه الترمذي :

وذكر الصالحي الشامي : أن أبا عيسى الترمذي بعد أن ذكر رجز ابن رواحة ، قال :

وفي غير هذا الحديث : أن هذه القصة لكعب بن مالك ، وهو الأصح ، لأن عبد الله بن رواحة قتل بمؤتة ، وكانت عمرة القضاء بعد ذلك.

قال الحافظ : وهو ذهول شديد ، وغلط مردود. وما أدري كيف وقع الترمذي في ذلك ، ومع أن في قصة عمرة القضاء ، اختصام جعفر ، وأخيه علي ، وزيد بن حارثة في بنت حمزة ، وجعفر قتل هو وزيد وابن رواحة في موطن واحد ، فكيف يخفى على الترمذي مثل هذا؟!

ثم وجدت عند بعضهم : أن الذي عند الترمذي من حديث أنس : أن

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٤.

١٨٧

ذلك كان في فتح مكة. فإن كان كذلك اتجه اعتراض الترمذي.

لكن الموجود بخط الكروخي ، راوي الترمذي ، هو ما تقدم. وكذلك رأيته في عدة نسخ من جامع الترمذي (١).

يا عمر ، إني أسمع :

ويستوقفنا هنا قول عمر بن الخطاب : يابن رواحة.

ثم قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا عمر ، إني أسمع.

فهل هذا الخطاب من عمر ، خطاب توعّد وتهديد لابن رواحة؟!.

أو هو خطاب تحذير له ، من أن يسمعه أهل الشرك ، فتثور ثائرتهم؟!

أو هو خطاب يستبطن الاتهام بعدم رعاية جانب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، باعتبار أنه لم يسبق إذن منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لابن رواحة بهذا الإنشاد؟!

فقد يقال : إن التهديد والوعيد هو الأرجح والأظهر هنا ، بملاحظة ما ورد في الرواية نفسها ، فهي تقول :

«فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا عمر ، إني أسمع. فأسكت عمر».

فلو لا أن عمر كان غاضبا وحانقا ، ومتوعدا لم يكن وجه لقوله : فأسكت عمر. الظاهر في أنه قد كف عن متابعة أقواله قسرا وجبرا ..

ثم إن قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا عمر إني أسمع ، قد أريد به أمران :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٧ وراجع : تحفة الأحوذي ج ٨ ص ١١٢ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٢٨٤.

١٨٨

أحدهما : إعلام عمر بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» راض بقول ابن رواحة ، وبأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد حسب لكل شيء حسابه ، فلا داعي للخوف من ردة فعل المشركين ، التي ربما يجد فيها عمر ما يؤذيه ، أو يؤذي توجهاته ..

الثاني : صد عمر عن مواصلة هجومه وتحدياته لابن رواحة.

وقد قلنا : إن البعض ربما يرى أن احتمال إرادة تطمين عمر غير وارد ؛ لأن أهل الخير من المؤمنين والمسلمين يشعرون أنهم في أمن وأمان ، وهم على يقين من حسن تدبير رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا يخالجهم شك في ذلك.

فيتعين أن يكون المراد : الصد لعمر عن وعيده ، وتهديده ، وهذا هو الأوفق بلحن الكلام وسياقه ..

امشوا بين اليماني والأسود :

وذكر الواقدي : أن جبرئيل «عليه‌السلام» نزل على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : إن المشركين على الجبل ، وهم يرونكم ، امشوا بين اليماني والأسود ، ففعلوا (١).

ونقول :

لم نفهم معنى لإصدار الأمر للمسلمين ، وهم ألفا رجل ، جاؤوا للطواف بالبيت ، بأن يمشوا بين اليماني والأسود!!

فإن ذلك غير ممكن ، بل غير قابل للتصور.

بل الظاهر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمرهم بالطواف بين مقام إبراهيم ،

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٣٦.

١٨٩

وبين الحجر الأسود. وذلك لكي يظهر للمشركين الذين يراقبونهم من فوق الجبل : أنهم كتلة واحدة ، متراصة ، شديدة التلاحم ، توحي بالقوة ، والتناصر .. بدلا من أن يتفرقوا أفرادا وجماعات في أكناف المسجد وأطرافه ، فيظهر لهم ـ للمشركين ـ أحجام أفرادهم ، وتبدو لهم الفرج فيما بينهم ، فتقتحمهم أنظارهم باستخفاف ، وتوحي لهم تلك الفرج الخالية بين الأفراد بالتجزئة المظهرة لصغر الأحجام ، التي تشي بالضعف ، وبالتشتت والتفرق.

أذان بلال فوق ظهر الكعبة :

وقالوا : إنه لما قضى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نسكه دخل البيت ، فلم يزل فيه حتى أذّن بلال بالظهر فوق ظهر الكعبة ، امتثالا لأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقال عكرمة بن أبي جهل : لقد أكرم الله أبي ، حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول.

وكذلك قال صفوان بن أمية.

وقال خالد بن أسيد : الحمد لله الذي أمات أبي ، ولم يشهد هذا اليوم ، حين يقوم بلال ابن أم بلال ينهق فوق الكعبة.

وأما سهيل بن عمرو ، ورجال معه ، فحين سمعوا ذلك غطوا وجوههم.

وفي شرح النهج للمعتزلي : أن خالد بن سعيد بن العاص قال : الحمد لله الذى أكرم أبي فلم يدرك هذا اليوم.

وقال الحارث بن هشام : وا ثكلاه! ليتنى مت قبل هذا اليوم ، قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة!

١٩٠

وقال الحكم بن أبى العاص : هذا والله الحدث العظيم ، أن يصيح عبد بنى جمح ، يصيح بما يصيح به على بيت أبى طلحه (١).

وقالوا : إن بلالا قد أذن فوق الكعبة يومئذ مرة واحدة ، ولم يعد بعد ، وهو الثبت (٢).

وقالوا أيضا : إن المشهور هو أن بلالا أذن فوق الكعبة في يوم الفتح ، لا في عمرة القضاء (٣).

ثم قالوا : لم يدخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الكعبة في عمرة القضاء ، وقد طلب ذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من المشركين ، فأبوا ، وقالوا : لم يكن في شرطك (٤).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٨٤ والدرجات الرفيعة ص ٣٦٥ وراجع : الوفا بتعريف فضائل المصطفى.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٣٧ و ٧٣٨ والبحار ج ٢١ ص ٤٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٣ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٣٢٨ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٥ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٦٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٣٨ و ٤٣٩.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٥ ، وحول أذان بلال يوم الفتح راجع : المصنف لابن أبي شيبة ج ١ ص ٢٥٣ وج ٨ ص ٥٣٩ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥١٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٨ والمصنف للصنعاني ج ١٠ ص ٣٩٣ وعن تاريخ مدينية دمشق ج ١٠ ص ٤٦٦ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٣٥٦ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣٤٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٧٥ وجامع الأحاديث والمراسيل ج ١٩ ص ١٤٧.

(٤) المغازي ج ٢ ص ٧٣٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٥.

١٩١

ونقول :

الراجح من الاحتمالات والأقوال :

إننا بالنسبة للاختلاف في دخول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى داخل الكعبة ، وأنهم منعوه من ذلك ، أو عدم حصول شيء من ذلك نقول :

نحن نرجح : أنهم قد منعوه من دخولها في عمرة القضاء ؛ وقالوا له : إن ذلك لم يكن في شرطك ، وهو إنما دخلها في فتح مكة (١) ، وفي حجة الوداع (٢).

وبالنسبة إلى أذان بلال فوق الكعبة في عمرة القضاء ، أو فيها وفي حجة الوداع معا ، نقول :

كلاهما محتمل ، وسيأتي أيضا : أنه أذن فوق الكعبة يوم الفتح ، ولكننا نرفض احتمال أن يكون أذان بلال مختصا بحجة الوداع دون سواها ؛ لأن الأقوال المنقولة عن زعماء قريش وإهاناتهم له ، تؤيد وتناسب أن يكون قد أذن على ظهر الكعبة في عمرة القضاء وفي فتح مكة أيضا.

__________________

(١) مستند الشيعة ج ١٣ ص ٨٤ ومستدرك الوسائل ج ٩ ص ٣٦٠ والبحار ج ٩٣ ص ٣٥٧ ونيل الأوطار ج ٢ ص ١٤٧ والمعجم الصغير ج ١ ص ٧٧ و ٧٨ وعن تفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٧٥ وسير أعلام النبلاء ج ٢٣ ص ١٥٥ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣٤٧ وعن السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٧٥ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٧١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٧١ وشرح مسلم للنووي ج ٩ ص ٨٤ والديباج على مسلم ج ٣ ص ٧٣.

(٢) تلخيص الحبير ج ٣ ص ٢٢٢ وشرح مسند أبي حنيفة ص ٧٨.

١٩٢

لماذا بلال؟!

لقد كان العرب يأنفون من إعطاء أي دور للموالي ، وكانوا يحتقرونهم ، ويسيئون معاملتهم ، ويحرمونهم من أبسط حقوقهم ، ولعلهم أخذوا ذلك من اليهود ..

وقد جاء الإسلام ليساوي بين المولى والعبد ، على قاعدة : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (١) ، وأنه لا فضل لعربي على أعجمي ، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى (٢).

فأثارت هذه التشريعات حفيظة الكثيرين منهم ، حتى بعض أولئك الذين تظاهروا بالإسلام ، فإنهم سرعان ما نقضوا هذه الأحكام بعد وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعادوا إلى مفاهيمهم الجاهلية ، فميزوا العربي على الأعجمي ، والسيد على العبد ، والأبيض على الأسود ، في الإرث والزواج ، والصلاة ، وفي كثير من الأمور ..

ثم لما أراد علي «عليه‌السلام» أن يعيد الناس إلى سيرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» واجهوه بالحرب التي راح ضحيتها الألوف من المسلمين ، فراجع

__________________

(١) الآية ١٣ من سورة الحجرات.

(٢) راجع : مسند أحمد ج ٥ ص ٤١١ وكنز العمال ج ٣ ص ٦٩٩ وفتح الباري ج ٦ ص ٣٨٢ ومسند ابن المبارك ص ١٤٧ والمعجم الأوسط ج ٥ ص ٨٦ والعهود المحمدية ص ٨٧٣ ووضوء النبي ج ١ ص ٢٢٢ والمبسوط للسرخسي ج ٥ ص ٢٣ ونيل الأوطار ج ٥ ص ١٦٤ والغدير ج ٦ ص ١٨٨ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤١٢ وتفسير الميزان ج ١٤ ص ٣٣٤ وأحكام القرآن للجصاص ج ١ ص ٣٨٢ وج ٣ ص ٥٤٣ والجامع لأحكام القرآن ج ١٦ ص ٣٤٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٨٢.

١٩٣

أسباب حرب الجمل.

وقد ذكرنا نبذة مما يتعلق بهذا الأمر في كتابنا : «سلمان الفارسي في مواجهة التحدي» فيمكن الرجوع إليه.

وإن ما صدر عن قريش تجاه بلال ، حين شرع في الأذان ؛ إن دل على شيء ، فهو يدل على مدى الألم الذي كان يشعر به القرشيون ، وهم يرون بلالا الأسود ، والمولى ، والفقير ، والحبشي الغريب!! يرونه فوق الكعبة ، وهي أعظم ما يعتزّون به ..

نعم ، لقد هالهم أن يسمعوا بلالا يعلن بتلك الكلمات التي طالما حاربوها ، وسعوا في إبطالها ، وقتل من آبائهم وإخوانهم ، وأبنائهم العشرات ، وخسروا الكثير من تحالفاتهم ، ومن مكانتهم ، ومن هيبتهم ، ومن أموالهم ، في سبيل إسقاطها ، والقضاء عليها.

إن صوت بلال الذي ارتقى فوق الكعبة ، التي يزعمون للناس أنهم هم حفظتها وسدنتها سوف يمزقهم ، وسيحرق قلوبهم ، في وقت يجدون أنفسهم فيه عاجزين عن القيام بأي شيء ، وهذا العجز ، وتلك الحرقة سوف ينتجان لديهم شعورا بالصّغار ، وبالخزي ، والذل ، والاندحار.

وقد ظهر ذلك بصورة واضحة في تعابيرهم ، حيث وصف عكرمة وغيره بلالا بالعبد. ووصف خالد بن أسيد صوته بالنهيق ، وأنه ينهق فوق الكعبة ، وسهيل بن عمرو وجماعة معه راحوا يغطون وجوههم ، حين سمعوا أذانه ..

واللافت هنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اختار الأذان لصلاة الظهر ، وهو الوقت الذي تكون فيه أشعة الشمس ساطعة ، ويتمكن جميع الناس من سماع الصوت ، ومن رؤية صاحبه في موقعه ـ وهو ظهر الكعبة ـ ويرون

١٩٤

لونه ، وتقاسيم وجهه ، ويعرفون شخصه.

وكان بلال معروفا لديهم ، لأنه عاش بينهم ، وتداولته أيدي بعض زعمائهم ، وقد عذبوه من أجل دينه ، وإسلامه.

ولعل هذه الخصوصية أيضا ، هي التي رجحت اختيار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له لهذه المهمة. فلم يأمر رجلا من أهل المدينة أو من غيرهم بالقيام بهذا الأمر .. وذلك لكي يزيد هذا الاختيار من حسرة المشركين ، وتتضاعف لأجله آلامهم ، ويعظم به ذلهم وخزيهم.

بين سهيل وسعد بن عبادة :

ومن الأمور الجديرة بالتأمل هنا : طريقة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في معالجة الأمر بين سعد بن عبادة ، وسهيل بن عمرو ، ومن معه ..

وملخص ما جرى : حسب نقلهم هو : أن قريشا كانت قد فوضت حويطب بن عبد العزى بإخراج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من مكة (١) ، فجاء سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو في مجلس من مجالس الأنصار ، يتحدث مع سعد بن عبادة ، فقالا : قد انقضى أجلك ، فاخرج عنا.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : وما عليكم لو تركتموني ، فأعرست بين

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٤ وراجع : البحار ج ٢٠ هامش ص ٣٧٢ وج ٢١ ص ٤٦ عن ابن هشام ج ٣ ص ٢٤٦ والمعجم الكبير ج ١١ ص ١٣٩ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢١٠ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٢٨ و ٨٢٩ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ٢٧٠.

١٩٥

أظهركم ، فصنعت لكم طعاما؟!

فقالا : لا حاجة لنا في طعامك ، اخرج عنا. ننشدك الله ، يا محمد ، والعهد الذي بيننا وبينك إلا خرجت من أرضنا ، فهذه الثلاث قد مضت.

وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يدخل تحت سقف بيت من بيوت مكة ، بل ضربت له قبة من أدم بالأبطح ، بقي فيها إلى أن خرج من مكة.

فغضب سعد بن عبادة ، لما رأى من غلظة كلامهم للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال لسهيل : كذبت ، لا أم لك ، ليست بأرضك ، ولا أرض أبيك. والله ، لا يبرح منها إلا طائعا راضيا.

فتبسم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم قال : يا سعد ، لا تؤذ قوما زارونا في رحالنا.

قال : وأسكت الرجلان عن سعد ، ثم أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالرحيل ، وقال : لا يمسين بها أحد من المسلمين ، وركب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى نزل سرف ، وتتامّ الناس.

وجاءه أبو رافع بزوجته ميمونة بعد أن حل المساء ، ثم جاءت الخيل ، وجاؤوا بالسلاح الذي كان ببطن يأجج ، ولحقوا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استبدلهم بفوج كان قبلهم ، ليتمكن هؤلاء وأولئك من أداء نسكهم والطواف بالبيت.

ثم أدلج «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من سرف حتى قدم المدينة (١).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٣٩ ـ ٧٤١ بتلخيص ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٤ وراجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٣٣٠ وانظر

١٩٦

قال الصالحي الشامي : وفي الصحيح عن البراء بن عازب : أن الأجل لما مضى أتى المشركون عليا ، فقالوا : قل لصاحبك : اخرج عنا فقد مضى الأجل.

فذكر ذلك علي لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا رافع بالرحيل ، وقال : لا يمسين بها أحد من المسلمين الخ .. (١).

أخرج من أرضنا :

إن أغرب شيء يواجه الإنسان العاقل ، هو أن يقدم الذين يدّعون أنهم قادة ، وأنهم عقلاء على أمر لا يقره عقل ، ولا يرضاه وجدان ، كالذي فعلته قريش مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في عمرة القضاء ، وقولهم : «نناشدك الله ، والعقد ، إلا ما خرجت من أرضنا».

والذي نلاحظه هنا هو :

أولا : إنهم قد نسبوا تلك الأرض إلى أنفسهم ، مع ادّعائهم أن الكعبة بيت الله تعالى ، ولكل البشر الحق في زيارته ، والبقاء عنده ما شاؤوا.

ثانيا : إن الأرض لله سبحانه وتعالى ، ولا يحق لأحد ان يمنع أحدا من الإقامة في أي موقع ، إلا إذا كان ملكها بالإحياء ، أو بغيره من أسباب

__________________

السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٢١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٣ و ٦٤ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٣ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٢٢ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٦١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٣٣.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٤ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٣ و ٦٤ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٢٢ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٦١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٣٣ والبحار ج ٢١ ص ٤٦.

١٩٧

الملك ، إما لرقبة الأرض أو لمنفعتها ..

ثالثا : إن هؤلاء أنفسهم كانوا من أقارب وأرحام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد عاش بينهم دهرا طويلا ، فما معنى الادّعاء : بأن الأرض لهم دونه؟!

رابعا : إن هؤلاء أنفسهم سوف ينقضون عن قريب نفس هذا العقد الذي يطالبونه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اليوم بالوفاء به ، وسوف يلاقون جزاء نقضهم هذا نصرا مؤزرا له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليهم.

خامسا : إن نفس اشتراطهم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عدم الإقامة في بلده ، وعند بيت ربه سوى ثلاثة أيام ، هو أحد مفردات الظلم والبغي منهم ، الذي يريدون تكريسه ضده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تحت شعار الوفاء بالعهد!!

وها هم يمعنون في بغيهم ، ويسعون للحفاظ عليه باسم العدل ، ويعتبرون ذلك من حقهم ، وبذلك يصبح ظلمهم وبغيهم مشروعا!! يلزمون به من فرضوه عليه ، ويطالبونه برعايته ، وبالوفاء به!!

إنتفاضة سعد :

وبعد ، فإن من هوان الدنيا على الله تعالى أن يصبح أعداؤه تعالى ، والمحاربون لرسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والرافضون لدينه ، والساعون في إطفاء نوره ، هم الذين يفرضون أنفسهم حماة لبيت الله تعالى ، وسدنة له ، وسادة لحرمه ، ثم يطالبون صفي الله وحبيبه ، وخليله ونجيبه ، بأن يخلي لهم بيت ربه ، الذي هو أولى به منهم ، ومن كل أحد على وجه الأرض ، بل لا

١٩٨

ولاية عليه لأحد سواه ..

إنهم يطالبونه بذلك ، بفظاظة ظاهرة ، وبعنجهية وافرة ، ويريدون بذلك حفظ ثمرات ظلمهم ، وبغيهم على الحق وأهله ، مع مزيد من الرغبة في الإمعان في الكيد ، والتنفيس عن مراجل الحقد ، الذي يغلي في أعماق نفوسهم ..

وهذا بالذات هو ما أغاض سعد بن عبادة ، فانبرى لهم ، يفند مزاعمهم ، بحمية ، وأنفة وكبرياء ، بعد أن طفح الكيل ، وبلغ السيل الزبى ..

لا تؤذ قوما زارونا في رحالنا :

ويبادر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى معالجة الموقف بمنطق يدينهم ، ويلحق بهم المزيد من الخزي والعار ، ويرسخ المرارة ، ويعمق الألم في نفوسهم ، من حيث إنه منطق يخضعون له ، ويلزمون أنفسهم به .. وإنما على نفسها جنت براقش ..

ويطلق «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كلمته التي قد تبدو عابرة بحسب الظاهر ، ولكنها أمضى من السيف ، وأنفذ من السهم في قلوب أهل الطغيان ، حيث قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا سعد ، لا تؤذ قوما زارونا في رحالنا.

وأسكت الرجلان عن سعد!!

وكيف لا يسكتان عنه ، وقد ألقمهما النبي الكريم والحليم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حجرا؟! وألزمهما عارا لا يزول ، وشنارا لا يمحى؟! حيث تعامل معهم بالخلق الرفيع ، وبمنطق الشمم ، والإباء ، والترفع عن مقابلة الإساءة بما يوجبه منطق المقابلة بالمثل ، فهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولمجرد مجيئهما إلى رحله ليس فقط يتجاوز عن إساءتهما ، بل هو يعطيهما بذلك

١٩٩

حصانة من التعرض للعقوبة التي يستحقانها ، نتيجة سوء ما أتياه تجاه شخصه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وبطريقة تظهر قبح فعلهم ، وما جاءا يطالبانه به ..

فإذا كانت زيارتهما للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في رحله جعلته يمنحهما هذه الحصانة ، فلماذا لا يتعاملان معه بنفس هذا الخلق؟! ويعتبران زيارته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لبيت ربه ـ وليس لبيوتهم ورحالهم ـ من موجبات كف أذاهم عنه ، وعمن معه؟!

وإذا كان مشركو مكة يعتبرون ـ ظلما وعتوا ـ أن هذه الأرض أرضهم ، فلماذا لا يعاملونه كزائر لهم في أرضهم ، فيمتنعون عن أذاه ، ويكفون عن مواجهته بهذا المستوى من الغلظة ، والمناكرة؟!

ولماذا لا يمهلونه ـ ولو للحظات ـ بعد انقضاء الثلاثة أيام ، وهو إنما وعد بالمغادرة في اليوم الرابع ، ولم ينقض ذلك الموعد بعد .. ليروا إن كان سيفي لهم بوعده ، الذي ابتزوه منه ، ولا حق لهم به ، أو أنه سوف لا يفي؟!

فإن الوقت لم يفت بعد ، لأن باستطاعته البقاء حتى المساء ، ولم تظهر منه أية بادرة تشير إلى أنه سيبقى في مكة بعد انقضاء الوقت المحدد!!

ولذلك قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا يمسين في مكة أحد من المسلمين.

ولم يعترض عليه سهيل بن عمرو ، ولا غيره ، ولو كان بوسع أحد منهم الادّعاء : بأن ذلك يخالف العقد والعهد ، ولو بساعة واحدة لبادر إليه ، بهدف الطعن والانتقاص والتجريح به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وإن عدم دخول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تحت سقف أي بيت من بيوت مكة ، رغم أن فيها بيوت أهله ، وإخوانه ، وعشيرته ، وآبائه ، وفي تلك

٢٠٠