الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-191-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٠

الزبير ، أو بقيمة تحقيره ، وتصغير شأنه بين أقرانه؟!

على أن من يلاحظ السرايا وأمراءها ، لا يجد للزبير ذلك النصيب الذي يتوقع من مثله!! ولا سيما فيما يتعلق بإمارة تلك السرايا ، وكذلك الحال بالنسبة لعدد من أقرانه. فما هو السبب يا ترى؟!

الزبير .. وبشير بن سعد :

فهل المقصود من ذلك كله : هو تخصيص بشير بن سعد بالفضائل والكرامات ، لأنه كان أول من بايع أبا بكر ، وكسر شوكة ابن عمه سعد بن عبادة في يوم السقيفة؟!

أما الزبير ، فكان معارضا لهم ، ومؤيدا لمن أبغضوه ، وناوأوه ، واغتصبوا حقه!! وإن كان قد انقلب بعد ذلك على عقبيه ، فقاتل إمامه في حرب الجمل ، بعد بيعته له ، فقتل هو في تلك الحرب التي أثارها.

حرب إبادة :

وأغرب من ذلك كله ، أن نجده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يصدر أمرا لقائد سريته ، بإبادة بني مرة إن ظفر بهم.

فقد زعموا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال له : «فإن ظفرك الله بهم لا تبقي فيهم ..» (١).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٢٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٠ ص ٢٩٠ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٣ وعن الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٢٦ وعن سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٠.

٦١

أو قالوا : أمره بأن «يستأصلهم».

فهل يمكن أن يصدر أمر كهذا من نبي الرحمة ، الذي يقول بعد استشهاد عمه حمزة وعشرات من أصحابه في حرب أحد : «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»؟!

ولماذا هذه القسوة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على قوم قد جاءهم من انتهب منهم النعم والشاء ، فهبّوا لتخليصها واسترجاعها ، ودفع المهاجمين عن أنفسهم؟!

ثم لماذا أصر المهاجمون والمغيرون على مواصلة الحرب مع بني مرة حتى قتلوا عن آخرهم؟! مع قصور الرواية التاريخية عن التصريح بشيء يدل على أن بني مرة

قد جمعوا لحرب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو تآمروا عليه ، أو نقضوا عهده ، أو ما إلى ذلك!!

الغنائم والأسرى :

وبعد .. فإنه إذا كان نصيب كل واحد من المقاتلين من الغنيمة عشرة أبعرة ، فسيكون مجموع ما غنموه من بني مرة حوالي ألفي بعير ، أو عدلها من الغنم ، على أن يكون مقابل كل جزور عشرة من الغنم.

فأين كانت تلك المواشي ترعى؟! وكيف كانت تؤوى؟!

ومن الذي كان يحمي تلك الأبعرة والأغنام الكثيرة في ذلك المحيط الذي كان يمارس أهله الغارة والسلب في كل اتجاه؟ وكيف غفل عنها أصحاب الغارات ، وطلاب اللبانات؟! وكانوا يجوبون المنطقة طولا وعرضا ، خصوصا

٦٢

إذا كانت حاميتها ضعيفة إلى هذا الحد؟!

وكم ينبغي أن يكون هناك من الرجال ، ليحموها من سباع وفرسان القبائل ، برماحهم وسيوفهم؟! إذ لا بد أن يكون عدد حماتها متناسبا مع حجم التحدي الذي يتهددها في تلك المنطقة.

وهل قتلهم جميعا غالب ومن معه؟! أم أنه قد أسر أحدا منهم؟! مع العلم بأن الوصية له من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هي كما زعموا : «فإن ظفرك الله بهم لا تبقي فيهم ..».

ومع العلم بأن النص لم يشر إلى أسر أحد منهم ، بل قال : «فوضعنا السيوف حيث شئنا منهم ، ونحن نصيح بشعارنا : أمت أمت ..».

إلى أن قال : «وحوينا على الحاضر ، وقتلنا من قتلنا ، ومعنا النساء والماشية» (١).

وإذا كانوا قد سبوا النساء ، فلا بد أن يكون عدد السبايا بلغ المئات.

ومن المتوقع أن يكون لها ذكر يتناسب مع كثرتها.

وأن يكون لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعض الصّفى منهن.

وأن يقع التنازع ، أو التنافس في الحصول على الجميلات منهن.

أو يكون ذكر لمن في نصيبه من تذكر منهن بجمال ، كما رأينا في مناسبات أخرى.

ولكننا لم نعثر على شيء من ذلك في كتب السير ، ولم نقف له على أي أثر.

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٢٤.

٦٣

قصة أسامة بنحو آخر :

وعن قصة أسامة نقول :

إنها رويت بنحو آخر ، وهو : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسله في خيل إلى بعض قرى اليهود ليدعوهم إلى الإسلام ، وكان رجل من اليهود يقال له : مرداس بن سليم ، لما أحس بهم جمع إبله وماله في ناحية الجبل ، وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فمر به أسامة ، فقتله.

ثم تذكر الرواية : ما جرى لأسامة مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال له : «لا ما قال بلسانه قبلت ، ولا ما كان في قلبه علمت».

وفيه أنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (١).

وربما تكون هذه الرواية هي الأقرب إلى الصحة ، مع ملاحظة : أنها مختصرة إلى درجة الإخلال باللوم الشديد ، الذي وجهه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأسامة ، وهي أوضح من الرواية الأولى التي تحاول التخفيف من قبح وبشاعة ما صدر عن أسامة ، وأن تعطي أسامة منزلة خاصة من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولكننا رغم ذلك لا بد أن نتوقف قليلا مع بعض ما ورد فيها ، فنقول :

ألا شققت قلبه؟! :

إن أسامة بن زيد يقتل من شهد أن لا إله إلا الله ، ثم يزعم لرسول الله

__________________

(١) الآية ٩٤ من سورة النساء.

٦٤

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن ذلك المقتول لم يشهد الشهادتين عن قناعة ، وإنما قال ذلك بلسانه لينجو من القتل ، مع أنه عاجز عن التحقق من ذلك ، وعن إثباته ..

وحتى لو كان يعلم بذلك ، فالمفروض هو : قبول ذلك منه .. تأسيا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي يعلم الناس كلهم : أنه كان يعرف بنفاق كثير من أصحابه ، وقد أعلم حذيفة بعدد منهم. ولكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعاملهم وفق ما يظهرونه ، وليس على حسب ما يعلمه منهم ..

بل إن الكثيرين منهم كانوا يقدّمون الدليل تلو الدليل على عدم صحة إيمانهم ، ولكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يرتب أثرا على ذلك في مقام التعامل معهم .. وقد انخذل عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عبد الله بن أبي ـ في ثلث الجيش ـ في واقعة أحد .. كما أن جماعة من الصحابة قد نفّروا به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ناقته ، لكي يقتلوه ، وكان يعرفهم بأسمائهم ، وأشخاصهم ، ولكنه لم يعلن بذلك للناس.

وقد ندد القرآن الكريم في كثير من آياته بهم ، وأدان تصرفاتهم ، وفضحهم ، وشنع عليهم في كثير من المناسبات ..

ولم يعاقبهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على ما صدر منهم تجاهه ، ولا حاسبهم ، ولا طالبهم بغير ما كانوا يظهرونه.

وتلك هي سماحة الإسلام ، وبالغ حكمته ، ودقة تعاليمه ، فإنه يريد أن ينتزع السلاح من يد هؤلاء ، فلا يشهرونه في وجهه ، ويريد لهم أن يعيشوا هم وكل من يلوذ بهم من أقرباء ، وعشائر ، وأصدقاء ، أجواء الإسلام من دون أي تكلف أو حرج ، فعسى ولعل ، ولعل وعسى أن يقبل الله بقلوبهم

٦٥

ولو بعد حين.

بل إن القاعدة التي أرساها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في التعامل مع الأغيار ، هي : أن من قال : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، حقن بها ماله ، ودمه. فما معنى التعدي عن هذه القاعدة ، وتمحل الأعذار لذلك؟!

تهافت .. لا علاج له :

يدّعي أسامة : أن ذلك الرجل تشهد الشهادتين بعد ما ضربه أسامة بالسيف.

فقد روي أنه قال لأميره : «خرجت في أثر رجل منهم ، فجعل يتهكم بي ، حتى إذا دنوت منه وضربته بالسيف ، قال : لا إله إلا الله.

فقال له الأمير : بئس ما فعلت وما جئت به ، تقتل رجلا يقول : لا إله إلا الله؟! فندم أسامة الخ ..».

ونقول :

لا نشك في عدم صحة هذه الرواية ، إذ يرد عليها ـ بالإضافة إلى أنها لا تنسجم مع الرواية التي ذكرت ـ ما يلي :

أولا : لقد ذكرت : أن ذلك الرجل كان يتهكم بأسامة ، وأنه : قد شهد الشهادتين بعد أن ضربه أسامة بالسيف.

فلماذا يلام أسامة إذن؟!

ولماذا يتهم بأنه قد قتل رجلا مسلما؟!.

ثانيا : إن هذا النص لا يبقي مجالا لقول أسامة : إنما قالها متعوذا ؛ لأن التعوذ إنما يكون قبل إصابة السيف له لا بعده. كما أنه لا يبقي مجال لأن يلومه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويقول له : هلا شققت عن قلبه؟ وغير ذلك ..

٦٦

والظاهر هو : أن المقصود بهذه الصيغة ؛ التخفيف من حدة النقد الذي ربما يوجه إلى أسامة على فعلته هذه ..

لا أقتل أحدا يقول : لا إله إلا الله :

قال الحلبي : «ومن ثم لم يشهد أسامة رضي‌الله‌عنه مع علي كرم الله وجهه قتالا ، وقال له : لو أدخلت يدك في فم تنين لأدخلت يدي معها.

أو قال : لو كنت في فم الأسد لدخلت فيه معك. ولكنك قد سمعت ما قال لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين قتلت ذلك الرجل ، الذي شهد أن لا إله إلا الله. وقلت له : أعطي الله عهدا : أن لا أقتل رجلا يقول : لا إله إلا الله».

وإذا كان أسامة بن زيد قد تعهد بأن لا يقتل أحدا يقول : لا إله إلا الله (١) ، فذلك لا يبرر تخلّفه عن نصرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والإمام علي «عليه‌السلام» ، حين يقاتل البغاة عليه ، ولا يبرر مخالفته لأمره ، إذا أمره بالخروج لحربهم.

وليس له الاعتذار : بأنه قد تعهد بأن لا يقتل مسلما ، إذ إنما يصح له أن يتعهد بما يرجع أمره إليه ، ويكون باقتراح ومبادرة منه. أما إذا كان الله تعالى هو الآمر له ـ باعتبار أنه أمره بطاعة نبيه وإمامه ـ فإنه يصبح أمام أحد خيارين : إما الطاعة الموجبة للمثوبة الإلهية ، وإما المعصية المؤدية إلى الهلاك والعقوبة في نار جهنم.

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٢٥ والجمل ص ٤٥. وراجع : الأمالي للطوسي ص ٧١٦ والبحار ج ٢٨ ص ١٥٣ وج ٣٢ ص ٧٠ وراجع الغارات ج ٢ ص ٥٧٧.

٦٧

فلا يصح لأحد الاعتذار بذلك لأسامة في تخلفه عن حروب أمير المؤمنين «عليه‌السلام» للبغاة ، كما صرحت به بعض الروايات (١).

وقد أغضب ذلك إمامه «عليه‌السلام» ، حتى حرمه من العطاء ، وقال له : هذا المال لمن جاهد عليه (٢). ولو أنه «عليه‌السلام» وجد أن ذلك يبرر موقف أسامة ؛ لعذره ، ولم يحرمه من العطاء ..

وأما ما روي من أنه : انحرف عن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ثم رجع إليه (٣) ، فسنده ضعيف ، فإن كان ذلك قد حصل بالفعل ، فهو الفلاح والنجاح ، والسداد والرشاد.

__________________

(١) تفسير القمي ج ١ ص ١٤٨ وراجع : البحار ج ٢١ ص ١١ وج ٢٥ ص ٩٣ وج ٦٢ ص ٢٣٥ والتفسير الصافي ج ١ ص ٤٨٥ والتفسير الأصفى ج ١ ص ٢٣١ وكنز الدقائق ج ٢ ص ٥٨٠.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ١٠٢ والغارات (ط الأولى) ج ٢ ص ٥٧٧ والبحار ج ٢٨ ص ١٥٣ وج ٩٤ ص ٥٨ وج ١٠٠ ص ٥٨ وج ٢١ ص ٦٥ ونهج السعادة ج ٤ ص ١٢٧ وعن ميزان الحكمة ج ٤ ص ٢٩٩٦ والدرجات الرفيعة ص ٤٤٥ وتاريخ المدينة ج ٣ ص ١١٣٩ ، ومستدرك الوسائل ج ١١ ص ٩٧ وتكملة الرجال ج ١ ص ١٧٤ والغارات للثقفي ج ٢ ص ٥٧٧.

(٣) قاموس الرجال (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١ ص ٧١٦ و ٧١٧ ورجال الكشي ص ٣٩ وراجع : كتاب سليم بن قيس ج ٢ ص ٧٩٧ ورجال ابن داود ص ٥٠ وإتقان المقال ص ٢٥٩ والتحرير الطاووسي ص ٥٠ و ٥١.

٦٨

ماذا عن سؤال المقداد رحمه‌الله؟!

وأما بالنسبة لقصة المقداد بن عمرو ..

فربما يقال : إن قصد هؤلاء القوم منها هو إيجاد شريك لأسامة ، في هذا الأمر القبيح الذي صدر منه ، وإيهام : أن المقداد كأسامة قد قتل امرءا مسلما أيضا.

مع أن المقداد كان من خيرة أصحاب علي «عليه‌السلام» ، وكان معروفا بالطاعة المطلقة له «عليه‌السلام» ، وبالتسليم التام لما يريده الله سبحانه ، ولما يأمر به رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». على أن التأمل في القصة التي يرويها هؤلاء يعطي أنها لا تفيدهم فيما قصدوه ، لأن ظاهرها : أن المقداد قد طرح على الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سؤالا افتراضيا ، ولم يكن يتحدث عن نفسه أبدا.

والذي يظهر لنا :

أن الأقرب إلى الاعتبار : هو أن بعض الناس ربما لم يبلغهم تغيّظ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على أسامة ، فظنوا أو خدعتهم ادعاءات صحة ما أقدم عليه أسامة ، فأراد المقداد أن يعرّفهم هذه الحقيقة من لسان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مباشرة فطرح السؤال على سبيل الافتراض ، مضمنا إياه خصوصية تزيد في وضوحه ، فقد ذكر في سؤاله الأول : أن ذلك الكافر المقاتل قطع يد مهاجمه (الذي هو السائل) بسيفه ، ثم أعلن إسلامه.

وجاء الجواب : بتحريم قتل ذلك الرجل.

وهذا سؤال افتراضي جزما ، لأن المقداد لم تقطع يده أصلا ..

ثم رتب على هذا السؤال وجوابه سؤالا افتراضيا آخر يقول : لنفترض

٦٩

أنني قتلته بعد إعلانه الإسلام ، فما هو الحكم في ذلك؟

فجاء الجواب في هذه الحالة أيضا : بأن الحكم هو كذا وكذا ..

هل هذا هو النص الصحيح للقضية؟!

تقدم أننا نحتمل : أن يكون ثمة سعي للتخفيف من وقع جريمة أسامة بادّعاء : أن ذلك المقتول قد أظهر الإسلام حين رهقه أسامة بالسيف ..

مع أن ثمة ما هو صريح في : أن إسلام ذلك الرجل كان متقدما على ذلك ، كان معروفا ومشهورا.

وتقدم أيضا : النص الذي ذكره القمي ، وهو لا ينسجم مع هذه الادعاءات .. كما أنهم قد رووا ما يؤيده عن ابن عباس ، وهو : أن نهيك بن مرداس كان من أهل فدك ، وكان مسلما ، ولم يسلم من قومه غيره ، فسمعوا بأن سرية لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تريدهم ، وكان على السرية غالب بن فضالة الليثي ، فهربوا ، وأقام الرجل ، لأنه كان على دين الإسلام.

فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فألجأ غنمه إلى عال من الجبل ، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون ، فعرف أنهم من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فكبر ونزل ، وهو يقول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله. السلام عليكم.

فقتله أسامة ، واستاق الغنم.

ثم رجعوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأخبروه ، فوجد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وجدا شديدا ، وكان قبل ذلك قد سبق الخبر ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أقتلتموه إرادة ما معه؟!

٧٠

ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) (١) ، فقال : يا رسول الله استغفر لي.

فقال : فكيف بلا إله إلا الله؟!

قالها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثلاث مرات.

قال أسامة : فما زال رسول الله يكررها ويعيدها ، حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.

ثم إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» استغفر لي بعد ثلاث مرات ، وقال : اعتق رقبة.

وروى عكرمة ، عن ابن عباس : أنه مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومعه غنم له ، فسلم عليهم ، فقالوا : ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم ، فقاموا ، وقتلوه ، وأخذوا غنمه ، وأتوا بها إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا)» (٢).

وفي رواية أبو ظبيان قال : بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أسامة بن زيد مع جماعة إلى الحرقات من جهينة ، فصبحوهم ، فهزموهم ، وقتل أسامة رجلا ظنه متعوذا بقول لا إله إلا الله ، فكرر رسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) الآية ٩٤ من سورة النساء.

(٢) راجع : مسند أحمد ج ١ ص ٢٧٢ وسنن الترمذي ج ٤ ص ٣٠٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ١١٥ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٦ ص ٥٧٧ وج ٧ ص ٦٥٢ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٥٩ وموارد الظمآن ص ٣٣ وجامع البيان للطبري ج ٥ ص ٣٠٢ وأسباب نزول الآيات للنيسابوري ص ١١٥.

٧١

وآله» قوله له : أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله ، حتى قال : تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (١).

ونقول :

١ ـ إن التأمل في هذا النص يجعلنا نشك في أن يكون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استغفر لأسامة ، وذلك لأنه طلب منه أن يستغفر له ، فقال له ثلاث مرات : فكيف بلا إله إلا الله؟!

ثم لم يزل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يكررها ، ويعيدها ، حتى تمنى أنه لم يسلم إلا يومئذ.

وهو جواب ينضح بالألم ، ويشي بالاستياء الشديد ، من فعل أسامة .. فكيف يمكن الركون إلى زعمهم : أنه استغفر له؟!

٢ ـ وإذا كان جشع أسامة ، وحبه للمال يدفعه لارتكاب جريمة القتل حتى للمسلم .. فلست أدري إن كان قد وفّق بعد ذلك للتخلص من شرهه وجشعه هذا؟! أم أنه بقي على حاله؟! أو ربما يكون قد تنامى وتعاظم. وتعمق وترسخ حب الدنيا في نفسه؟!

وربما يشير إلى ذلك : أن عليا «عليه‌السلام» قد عاقبه بحرمانه من بعض هذا المال الذي يحبه ، حيث قطع عطاءه ، وقال : إن هذا المال لمن جاهد

__________________

(١) راجع : المحلى لابن حزم ج ٧ ص ٣١٦ وج ١٠ ص ٣٦٨ والبحار ج ٢١ ص ٦٥ والديباج على مسلم ج ١ ص ١١١ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٦ ص ٥٧٥ وج ٧ ص ٦٥٠ وج ٨ ص ٤٦٢ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٧٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣١٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٢٣ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٥٦ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ٨٨ وعن صحيح مسلم ج ١ ص ٦٧.

٧٢

عليه. حسبما تقدم.

٣ ـ إن هذا النص يصرح بأن الرجل المقتول جاء إلى جيش المسلمين ، وسلم عليهم ، وذلك يجعلنا نرتاب فيما زعموه من أن أسامة قد قتله في ساحة الحرب ، وأنه لما رهقه بالسيف نطق بالشهادتين ، وربما يكون الدافع إلى ادعاء ذلك هو التخفيف من حدة النقد لهذا القاتل ، ومن قبح الذنب الذي صدر منه.

٤ ـ إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بادر إلى الإعلان القاطع عن دوافع أسامة لقتل ذلك الرجل. وقد ساق كلامه بصورة الإخبار عن أمر يقيني.

واليقين بذلك لا يتأتى إلا لمن يكون نبيا ، قد علم ذلك عن طريق الوحي ، أو من خلال اطلاعه على الغيب ، ولو عن طريق إشرافه على اللوح الذي تكتب فيه الغيوب ، التي أذن الله تعالى له بالاطلاع عليها ، ويسّر له ذلك ، بما آتاه إياه من قدرات ..

٥ ـ إن رواية أبي ظبيان تحاول أن تنسب القتل إلى قوم آخرين يحكي أسامة لنا : أن هذا القتل قد صدر منه ، بعد أن اعتبروا تسليم ذلك الرجل عليهم كان من أجل التعوذ به منهم.

مع أن الرواية المتقدمة تصرح بأن أسامة انفرد به ، وقتله.

٦ ـ إن هذه الرواية التي رواها أسامة تثير أكثر من سؤال.

فإنه إن كان يريد أن يبرئ نفسه من هذه الجريمة ، وينحي باللائمة على غيره ؛ فالروايات كلها تكذبه في ذلك.

وإن كان يتحدث عن أن غيره فعل ذلك ، وكان هو معهم ..

فإن كان ما فعلوه قد حدث قبل أن يرتكب هو جريمته بحق ذلك

٧٣

الرجل ، فالسؤال هو : أن آية «فَتَبَيَّنُوا» إن كانت نزلت لتحكي ما فعلته تلك الجماعة في هذه المناسبة ، فكيف يقدم هو بعد نزول الآية فيهم على قتل ذلك المتعوذ ـ بزعمه ـ بلا إله إلا الله ، محمد رسول الله؟! ..

ولماذا لم يتبين أمره ، ولم يتحقق مما صدر منه ، وفقا لما أمر الله تعالى به؟!

وإن كان ذلك قد حصل بعد أن فعل أسامة فعلته ، وبعد استنكار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فعله ذاك .. فكيف لم يعتبر أولئك القوم الذين هم من الصحابة بما جرى لأسامة؟!

وكيف يقدمون على أمر من هذا القبيل ، بعد البيان النبوي الواضح والصريح؟

وكيف يصح من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يغفر لهم ذلك ، ولا يعاقبهم عليه؟!

هذا ، وسيأتي بعض الكلام عما جرى لمحلم بن جثامة في سرية أبي قتادة إلى بطن إضم ، وفي أواخر حرب حنين ، والطائف ، فانتظر .. فإنها تشبه قضية أسامة إلى حد بعيد.

سرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة :

وفي شهر رمضان سنة سبع ، وبعد أن رجع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من غزوة الكدر ، أقام مدة ، ثم قال له يسار (مولاه) : يا رسول الله ، إني علمت غرّة من بني عبد بن ثعلبة ، فأرسل معي إليهم (وإلى بني عوال).

فأرسل معه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غالب بن عبد الله في مائة وثلاثين رجلا إلى الميفعة ، بناحية نجد ، على ثمانية برد من المدينة.

٧٤

وقد خرج بهم يسار ، فسار بهم في غير الطريق ، حتى فنيت أزوادهم ، وجهدوا ، واقتسموا التمر عددا.

وساء ظنهم بيسار ، وفي صحة إسلامه. ثم وصلوا إلى واد قد حفره السيل ، فساروا فيه حتى انتهوا إلى أكمة. كان الذين يقصدونهم خلفها ، فأغاروا عليهم ، واستاقوا نعما وشاء ، وقتلوا من أشرف لهم منهم ..

واستاقوا النعم إلى المدينة ، ولم يسمع أنهم جاؤوا بأسرى ..

وفي نص آخر : ولم يأسروا أحدا (١).

ونقول :

أولا : لقد ذكروا : أن قصة أسامة بن زيد ، وقتله لذلك الرجل الذي أسلم ، ثم قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأسامة : ألا شققت عن قلبه ـ ذكروا ـ أن ذلك قد حصل في هذه الغزوة (٢).

وتقدم وسيأتي قولهم : إنها كانت في سرايا أخرى أيضا ..

ثانيا : إننا نقول هنا نفس ما قلناه في سائر المواضع ، وهو : إن النبي

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٢٦ و ٧٢٧ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٦١ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٣ والبحار ج ٢١ ص ٤٨ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٦ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٠٨ وعن الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١١٩ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٥٦.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٦١ عن المواهب اللدنية ، وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٣٣ عن ابن سعد ، والطبقات الكبرى (ط دار صادر) ج ٢ ص ١١٩ ومسند أحمد ج ٥ ص ٢٠٧ وجامع البيان ج ٥ ص ١٢٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٦ و ١٨٧ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٨ والتنبيه والإشراف ص ٢٢٧.

٧٥

الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يغير على قوم لمجرد استلاب أموالهم ، ولا يقتل أحدا قبل دعوته إلى الله تعالى ، فإن لم يكن «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دعا هؤلاء القوم إلى الإسلام ، ولم يكونوا نقضوا عهدا ، أو ارتكبوا جرما ، أو جمعوا جمعا للإغارة على أهل الإسلام ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يستحل الإغارة عليهم بهذه الطريقة. وحيث لم نجد فيما بين أيدينا من نصوص ما يثبت شيئا من ذلك ، فلا نستطيع تأكيد صحة ما زعموه ..

هذا مع غض النظر عن أننا لا بد أن نسأل عن هذا التفاوت في التعبير عن موضوع الأسرى ، فتارة يقال : لم يسمع عن أسرى أتي بهم منهم.

وأخرى يصرحون : بأنه لم يؤسر منهم أحد!!

سرية بشير بن سعد إلى الجناب :

وقالوا أيضا : إنه في سنة سبع قدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رجل من أشجع ، يقال له : حسيل بن نويرة. وكان دليل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى خيبر ، فقال له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : من أين يا حسيل؟

قال : قدمت من الجناب.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ما وراءك؟

قال : تركت جمعا من غطفان بالجناب ، (وقيل : فزارة وعذرة) ، قد بعث إليهم عيينة يقول لهم : إما تسيروا إلينا ، وإما نسير إليكم.

فأرسلوا إليه : أن سر إلينا ، حتى نزحف إلى محمد جميعا. وهم يريدونك ، أو بعض أطرافك.

قال : فدعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا بكر وعمر ، فذكر لهما

٧٦

ذلك ، فقالا جميعا : ابعث بشير بن سعد.

فبعثه في ثلاث مائة رجل ، وبعث معهم حسيل بن نويرة دليلا ، فساروا حتى أتوا يمن وجبار ، فنزلوا بسلاح (موضع أسفل من خيبر) أو سلاج (١) ثم دنوا من القوم ، فأغاروا على النّعم ، فأصابوا نعما كثيرا ، ملأوا منه أيديهم ، ونفر الرعاء ، وحذروا قومهم ، فتركوا محالهم ، فلما هجم عليها المسلمون لم يجدوا بها أحدا.

ثم رجعوا ، فأخذوا في الطريق عينا لعيينة ، فقتلوه.

ثم لقوا جمع عيينة ، وعيينة لا يشعر بهم ، فناوشوهم.

ثم انكشف جمع عيينة ، وتبعهم المسلمون ، فأسروا منهم رجلا أو رجلين ـ على اختلاف الروايات ـ فقدموا بهما على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأسلما ، فأطلق سراحهما (٢).

وأما عيينة فانهزم على فرس له ، فاستوقفه حليفه الحارث بن عوف المري. فلم يقف له ، وقال : لا ، ما أقدر ، الطلب خلفي ، أصحاب محمد. وهو يركض.

فقال له الحارث : أما لك أن تبصر ما أنت عليه؟ إن محمدا قد وطئ البلاد ، وأنت توضع في غير شيء. ثم تنحى الحارث عن الموضع الذي

__________________

(١) راجع : معجم البلدان ج ٥ ص ١٠١ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٣٢٣ وعن الثقات ج ٢ ص ٢٥ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٠٨ وعن سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٣٤.

(٢) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٢٧ و ٧٢٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٣٤ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٦١ وعن الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٢٠ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٥٧ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٠٨.

٧٧

يتوقع أن تمر فيه الخيل لكي يراهم ، ولا يراه أحد منهم.

فأقام من حين زوال الشمس ظهرا إلى الليل ، فلم يمر به أحد. ولا طلبه أحد منهم ، ولكن الرعب الذي دخله صوّر له ذلك ..

ثم إن الحارث ذكر ذلك لعيينة ، فأقر له به ، وأنه خاف أن يؤسر.

فقال له الحارث : أيها الرجل قد رأيت ورأينا معك أمرا بيّنا في بني النضير ، ويوم الخندق ، وقريظة ، وقبل ذلك قينقاع ، وفي خيبر ، إنهم كانوا أعز يهود الحجاز كله ، يقرون لهم بالشجاعة والسخاء ، وهم أهل حصون منيعة ، وأهل نخل.

والله ، إن كانت العرب لتلجأ إليهم فيمتنعون بهم ، لقد سارت حارثة بن الأوس حيث كان بينهم وبين قومهم ما كان ، فامتنعوا بهم من الناس. ثم قد رأيت حيث نزل بهم كيف ذهبت تلك النجدة! وكيف أديل عليهم!!

فقال عيينة : هو ـ والله ـ ذاك! ولكن نفسي لا تقرّني.

فقال الحارث : فادخل مع محمد!

قال : أصير تابعا؟! قد سبق قوم إليهم ، فهم يزرون بمن جاء بعدهم ، يقولون : شهدنا بدرا وغيرها.

قال الحارث : وإنما هو على ما ترى ، فلو تقدمنا إليه لكنا من علية أصحابه ، قد بقي قومه بعدهم منه في موادعة ، وهو موقع بهم وقعة ما وطئ له الأمر.

قال عيينة : أرى والله.

فاتّعدا يريدان الهجرة ، فمر بهم فروة بن هبيرة القشيري يريد العمرة ، وهما يتقاولان ، فأخبراه بأمرهما. فطلب منهما الانتظار إلى أن ينظرا ما يصنع أهل مكة ، فأخرا القدوم.

٧٨

ومضى فروة إلى مكة ، فإذا هم على عداوتهم لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبرهم بما جرى لأهل خيبر ، وبأن رؤساء الضاحية على عداوتهم أيضا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فسألوه عن رأيه ، فأشار عليهم أن يتموا مدة العهد الذي بينهم وبين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم يجمعون العرب لغزوه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في عقر داره.

وسمع نوفل بن معاوية الديلي بوجود فروة بن هبيرة في مكة ، فنزل إليه من باديته ، فأخبره فروة بما قال لقريش.

فطلب منه نوفل أن يستنصر له قريشا على خزاعة ، التي كانت عيبة نصح لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا يغيبون عنه حرفا من أمورهم.

فكلم فروة رؤساء قريش في ذلك : صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، وعبد الله بن أبي ربيعة ، فاعتذروا وقالوا : إذن يغزونا محمد فيما لا قبل لنا به ؛ فيوطئنا غلبة ، وننزل على حكمه ، ونحن الآن في مدة ، وعلى ديننا.

فأخبر فروة نوفلا بما جرى. ثم رجع إلى عيينة والحارث ، فأخبرهم ، وقال : رأيت قومه قد أيقنوا عليه ، فقاربوا الرجل ، وتدبروا الأمر.

فقدّموا رجلا ، وأخروا أخرى (١).

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم عدة وقفات ، هي التالية :

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٢٧ و ٧٣١.

٧٩

التآمر .. والاستعداد :

صرحت النصوص المتقدمة : بأن سبب إرسال هذه السرية هو : أن الغطفانيين قد جمعوا ، وتآمروا ، واجتمعوا مع جماعات أخرى ، ليزحفوا إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو إلى بعض أطرافه ، فكان لا بد من تسديد ضربة استباقية لهم ، تفل جمعهم ، وتبطل كيدهم.

ولا يصح الانتظار إلى أن يأتوا هم لغزو البلد ، وهتك حرمته ، وكسر هيبته ، ولا يجوز في منطق الحرب أن تعطى للعدو الفرصة لاختيار الزمان ، والمكان ، والخطة الحربية ، وطريقة القتال ، وأساليبه ووسائله.

بل لابد من استلاب الفرصة من يده ، وإرباكه ، وإشعاره بأنه لن يكون آمنا ، لا في الزمان ، ولا في المكان ، ولن يكون قادرا على اختيار الإقدام أو الإحجام ، ولا بد من زعزة ثقته بالوسائل التي يملكها ، وبالخطط التي يضعها ، وبالتحالفات التي يعقدها ، ويعتمد عليها.

وهذا ما حصل للغطفانيين بالفعل ، فإنّ شن الغارة عليهم ، وبعثرة جمعهم ، قد حقق النتائج الباهرة ، سواء بالنسبة إليهم ، أم بالنسبة لعيينة بن حصن ، الذي أراد الاعتضاد بهم في مواجهة أهل الإسلام ..

مشورة العمرين :

وأما ما ذكرته الرواية المتقدمة : من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعا أبا بكر وعمر ، وذكر لهما ذلك ، فقالا جميعا : ابعث بشير بن سعد ..

فلا نستطيع أن نؤيده بصورة حاسمة ، إذ لم يكن هناك داع للاستشارة في أصل إرسال السرية ، لأن المصلحة كانت ظاهرة في هذا الأمر ، وهي

٨٠