الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-191-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٠

ونقول :

حديث التل :

ذكر جندب الجهني ما جرى له حين وصل إلى التل ، فقال : «فلما استويت على رأسه ، انبطحت عليه ، لأنظر ، إذ خرج رجل منهم ، فقال لامرأته : إني لأنظر على هذا الجبل سوادا ، ما رأيته قبل. انظري إلى أوعيتك ، لا تكون الكلاب جرت منها شيئا.

فنظرت ، فقالت : والله ، ما فقدت من أوعيتي شيئا.

فقال : ناوليني قوسي ونبلي.

فناولته قوسه وسهمين. فأرسل سهما ، فو الله ، ما أخطأ بين عيني ، فانتزعته وثبتّ مكاني ، فأرسل آخر ، فوضعه في منكبي ، فانتزعته ، وثبتّ مكاني.

فقال لامرأته : لو كان جاسوسا لتحرك ، لقد خالطه سهمان ، لا أبا لك الخ ..» (١).

ونشير هنا إلى ما يلي :

أولا : لم نعرف كيف سمع جندب ما جرى بين ذلك الرجل وزوجته؟! فإن ذلك مما لا يتيسر سماعه عادة من هذه المسافة البعيدة!!

إلا أن يكون : قد التقى أو بزوجته أو بمن سمع كلامهما في وقت لاحق ، فأخبره بهذه التفاصيل .. ولكن ليس بين أيدينا ما يدل على حصول

__________________

(١) الآحاد والمثاني ج ٥ ص ٥٥ و ٥٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٣٧.

٢٦١

مثل هذا اللقاء ..

ثانيا : لو أغمضنا النظر عما تقدم ، فإن من يأتيه سهم في جبهته ، ويثبت فيها ، ويحتاج إلى انتزاعه منها ، لا يتوقع منه البقاء على حالة من الوعي والتوازن ، إذ معنى ذلك : أن السهم قد ثقب عظم الجبهة ، إذ لا يمكن أن يثبت السهم فيها بدون ذلك .. وهذا يؤدي إلى الغياب عن الوعي والتعرض لمضاعفات أصعب ، وأخطر ..

هذا ، إن قلنا باحتمال قدرة السهم الذي يرسل من مسافة بهذا المقدار ، على اختراق العظم.

من هو جندب هذا؟!

إن راوي هذا الحديث هو شخص يدّعي أنه شارك في تلك السرية ، وهو جندب بن مكيث الجهني .. فلماذا لم يروها لنا آخرون ممن شاركوا أو اطلعوا على ما جرى فيها؟!

أما ما ورد في بعض المصادر ، من أن الراوي هو مسلم بن عبد الله الجهني (١) ، فلم نجد لمسلم هذا ترجمة في كتب الصحابة.

غوامض غير مستساغة :

صرحت الرواية : بأنهم قتلوا مقاتلة ذلك الحي ، وسبوا النساء والذرية ، مع أنهم كانوا بضعة عشر رجلا فقط.

لكن الراوي لم يذكر لنا كم كان عدد مقاتلة ذلك الحي؟!

__________________

(١) الإصابة ج ٣ ص ١٨٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٣٩٣.

٢٦٢

وكم كان عدد السبي؟!

وكم كان عدد الشاء التي أخذت ..

وكم يوما غابوا عن المدينة؟!

لا بد من التروي :

١ ـ قد ذكرنا أكثر من مرة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن ليغير على من لم يعلن الحرب عليه ، كما أنه لا يقاتل أحدا إلا بعد الدعوة والاحتجاج ، ولم نجد أي شيء يدل على ذلك!!

٢ ـ إن إرسال أفراد قليلين ـ بضعة عشر رجلا ـ إلى بلاد بعيدة يحتاج الوصول إليها والعود منها إلى أيام عديدة ، في منطقة زاخرة بالأعداء ، يعد نوعا من المخاطرة التي يصعب تفسير مبرراتها ، ودوافعها بسهولة ..

ولأجل ذلك ، نقول : إن تأييد ، أو تفنيد هذه السرايا يحتاج إلى المزيد من التروي ، والتدقيق.

تناقض غير مفهوم :

والغريب في الأمر : أننا تارة نقرأ في روايات هذه الغزوة : أنهم حين صار الوادي بين الفريقين : «أرسل الله سحابا ، فأمطر الوادي ما رأينا مثله ، فسال الوادي ، بحيث لا يستطيع أحد أن يجوزه» (١).

وأخرى نقرأ فيها قولهم : «القوم ينظرون إلينا ، إذ جاء الله بالوادي من حيث شاء يملأ جنبيه ماء ، والله ما رأينا يومئذ سحابا ولا مطرا ، فجاء بما لا

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٩.

٢٦٣

يستطيع أحد أن يجوزه» (١).

تكرار المكررات :

ثم إنهم يقولون : إن ذلك قد تكرر مرة أخرى ، وذلك لقطبة بن عامر حين توجه إلى بني خثعم بناحية تبال (٢).

فما أكثر التكرار للأحداث في موضوع السرايا ، فهل يمكن أن يشير ذلك إلى أن ثمة من كان يريد توزيع الأوسمة للأتباع والأشياع لفريق بعينه ، فاتخذ من السرايا بابا لتحقيق هذا الغرض ، ولعل سرايا كثيرة قد اخترعت ، وجعلت قيادتها إلى هذا وذاك ، لتكون رشاوى لهم ، أو مكافآت على مواقف اتخذوها ، أو مبادرات لصالح فريق يحبونه ، أو ضد فريق يناوئونه.

ولعل أحدثا حقيقية في سريا بعينها ، أو لعل سرايا كاملة ، قد حذفت أو حرّفت لتخفيف الضغط عن أناس متضررين منها ، أو تشكيكا بإخلاص ، وبمواقف ناس مخلصين ، مجازاة لأصحابها ، وكيدا منهم لهم ، وتجنيا عليهم ، لأغراض ودوافع مختلفة ..

ولذلك ظهر التكرار ، وطغت على السطح التناقضات ، أو الهنات والفجوات ، وكثرت السرايا التشريعية ، والأحداث الوهمية ..

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٩ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٢٥ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٢ وسبل الهدى وارشاد ج ٦ ص ١٣٧.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٩.

٢٦٤

زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ببنت الضحاك :

قالوا : في سنة ثمان تزوج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فاطمة بنت الضحاك الكلابية (١) ، فلما دخلت على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ودنا منها ، قالت : إني أعوذ بالله منك.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : عذت بعظيم ، الحقي بأهلك (٢).

وفي رواية : أن ابنة الجون أدخلت الخ .. (٣).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٧ والبحار ج ٢١ ص ٤٦ ومستدرك سفينة البحار ج ٥ ص ٢٠٩ وتاريخ خليفة بن خياط ص ٥٦ والمنتخب من ذيل المذيل ص ١٠٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٤٣١ وج ٥ ص ٢١٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٧١٠ وج ٤ ص ٥٩٠ والطبقات الكبرى ج ٨ ص ١٤١ و ٢١٨ والجامع لأحكام القرآن ج ١٤ ص ١٦٧ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ٢٢٨.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٤٦ و ٤٧ وسنن النسائي ج ٦ ص ١٥٠ وعن السنن الكبرى للنسائي ج ٣ ص ٣٥٥ والمعجم الأوسط ج ٣ ص ٣٣٧ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ ص ١٤١ والثقات ج ٣ ص ٨٣ وعن الإصابة ج ٨ ص ٢٧٣ والمنتخب من ذيل المذيل ص ١٠٢ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٢٨.

(٣) راجع : سنن الدارقطني ج ٤ ص ١٩ والمجموع ج ١٧ ص ١٠٥ والمحلى ج ١٠ ص ١٨٧ وسبل السلام ص ١٧٨ ونيل أوطار ج ٧ ص ٣٠ وفقه السنة ج ٢ ٢٢٥٤ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٦٦١ والمستدرك للحاكم ج ٤ ص ٣٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٣٩ و ٧٢ و ٣٤٢ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٥٢ والمنتقى من السنن المسندة ص ١٨٤ وصحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٨٣ والمعجم الكبير ج ٢٢ ص ٤٤٧ وكنز العمال ج ١٢ ص ١٤٠ وج ١٣ ص ٧١٠ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ١٨٤ وعن أسد الغابة ج ٥ ص ٣٩٧ وسير أعلام النبلاء ج ٢

٢٦٥

سرية ذات أطلاح :

وفي شهر ربيع الأول سنة ثمان بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا ، فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام ، وراء ذات القرى. وكان كعب يكمن النهار ، ويسير بالليل ، فوجدوا جمعا كثيرا من أهل الشام ، فدعوهم إلى الإسلام ، فلم يستجيبوا لهم ، ورشقوهم بالنبل ، فقاتلهم المسلمون أشد القتال ، حتى قتلوا.

قال أبو عمر : قتلوهم بقضاعة (١).

فأفلت منهم رجل جريح في القتلى.

قال مغلطاي : قيل : هو الأمير.

فلما كان الليل تحامل حتى أتى رسول الله ، فأخبره الخبر ، فشق ذلك عليه ، وهمّ بالبعث إليهم ، فبلغه أنهم قد ساروا إلى موضع آخر ، فتركهم (٢).

__________________

هامش ص ٢٥٥ وعن الإصابة ج ٨ ص ٩ وعن البداية والنهاية ج ٥ ص ٣١٧ و ٣١٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٨٧ و ٥٨٩ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٢١ وج ١١ ص ٢٢٢ وتفسير السمرقندي ج ٣ ص ٦٣ وعن صحيح البخاري (دار إحياء التراث) ج ١٠ ص ٤٤٧ وجامع الأحاديث والمراسيل ج ٦ ص ٦٦ وج ١٨ ص ٢٥٣ ومنتقى ابن الجارود ج ١ ص ٣٠١ وعن بلوغ المرام ج ١ ص ٢١٤ وسبل السلام ج ٣ ص ١٤٢٩ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ٤٤٧ وعمدة القاري ج ٢٠ ص ٢٢٩ وعن زاد المعاد ج ١ ص ٢١٢١.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٣.

(٢) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٢ و ٧٥٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٣ والبحار ج ٢١ ص ٥٠ وكنز العمال ج ١٠ ص ٦٠٠ ـ

٢٦٦

ونقول :

إننا نلاحظ هنا ما يلي :

١ ـ لم يتضح لنا بالتحديد ذلك الموضع الذي بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليه هذه السرية ، إلا أنها أرسلت إلى موضع وراء ذات القرى ، كما أننا لم نعرف الهدف من إرسالها إلى تلك المناطق البعيدة ، فإنها ليست سرايا قتالية بلا شك ، إذ لا قدرة لخمسة عشر رجلا على الدخول في حرب حقيقية ، في محيط الكفر الطاغي والباغي هذا.

ولنا أن نحتمل أن تكون سرية استطلاعية ، هدفها تنسّم الأخبار عن تحركات الجيوش في مناطق الشام .. أو هي سرية دعوة إلى الإسلام ..

وربما يكون هذا الإجراء الاستطلاعي قد اتّخذ انتظارا لنتائج الرسائل التي بعثها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى ملوك الأرض ، وتحسّبا ، واحتياطا لأي أمر ربما يفكر فيه أولئك العتاة ، والجبابرة المستكبرون.

٢ ـ وفي ضوء ما تقدم نستطيع أن نضع علامة استفهام كبيرة حول صوابية مبادرة قائد السرية إلى مواجهة تلك الجموع بطلب التخلي عن دينهم ، والدخول في الإسلام ، ما دام أن هذه الطريقة في الدعوة سوف تفهم على أنها نوع من الاستخفاف والتحدي.

٣ ـ ولو أغمضنا النظر عن ذلك ، فإن خيار الحرب والقتال ربما لا

__________________

والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٢٧ و ١٢٨ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٥ وج ٥٠ ص ١٤٩ و ١٥٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٥٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٤ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٤ وعمدة القاري ج ١٤ ص ٣٠٨ وحياة الصحابة ، باب الدعوة إلى الله.

٢٦٧

يكون هو الخيار الصحيح حتى لو رفض أولئك قبول هذه الدعوة .. بل قد يكون اللجوء إلى تهدئة الأمور ، والخروج من المأزق بلباقة هو الأولى ، ما دام أنه لا تترتب على قتل هؤلاء النفر من المسلمين أية فائدة ، أو عائدة.

٤ ـ إننا لا نظن أن سبب ترك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إرسال سرية لمعاقبة أولئك القتلة ، هو انتقالهم إلى موضع آخر ، إذ كان بالإمكان تحديد موقعهم ، ثم إرسال الجيوش إليهم لتأديبهم.

٥ ـ إن هذا النوع من سرد الأحداث المتوافقة في عناصر تكوينها ، قد تكرر في عدة سرايا ، وهو أمر غير مألوف ، وبعيد عن الاحتمال ، فراجع على سبيل المثال :

سرية ابن أبي العوجاء ، إلى بني سليم.

وسرية محمد بن مسلمة إلى بني ثعلبة في ذي القصة.

وسرية بشير بن سعد إلى فدك.

سرية إلى السّيّ :

روى الواقدي ، عن ابن أبي سبرة ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن عمر بن الحكم : أنه في شهر ربيع الأول من سنة ثمان بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن بالسّيّ ، من أرض بني عامر ، من ناحية ركبة ، على خمس ليال من المدينة ، وأمره أن يغير عليهم ..

فخرج يسير بالليل ، ويمكن النهار ، حتى صبّحهم وهم غارون. وكان قد أوعز إلى أصحابه ، أن لا يمنعوا في الطلب ، فأصابوا نعما كثيرا وشاء ،

٢٦٨

فاستاقوا ذلك كله حتى قدموا المدينة.

واقتسموا الغنيمة ، فكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا لكل رجل. وغابت السرية خمس عشرة ليلة (١).

وقالوا أيضا : إنهم كانوا قد أصابوا نسوة هناك ، فاستاقوهن. وكانت فيهن جارية وضيئة ، فقدموا بها المدينة ..

ثم جاء وفد أولئك القوم مسلمين ، فكلموا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في السبي ، فكلم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شجاعا وأصحابه في ردهن ، فسلموهن ، وردّوهن إلى أصحابهن.

وكانت الجارية الوضيئة عند شجاع بن وهب ، أخذها بثمن ، فأصابها. فلما قدم الوفد خيرّها ، فاختارت المقام عند شجاع ، فلقد قتل يوم اليمامة وهي عنده ، ولم يكن له منها ولد (٢).

ونقول :

١ ـ إن ثمة شكوكا تحوم حول هذه السرية ، فقد قال الواقدي :

«فقلت لابن أبي سبرة : ما سمعت أحدا قط يذكر هذه السرية.

فقال ابن أبي سبرة : ليس كل العلم سمعته.

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٣ و ٧٥٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٢ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٠ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٢٧ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٤ وراجع : السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٩٨ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٣ و ٢٧٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٥٣.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٣ و ٧٥٤ وراجع : ما عن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٥٣.

٢٦٩

قال : أجل والله» (١).

فرواية هذه السرية منحصرة بابن أبي زيد. الأمر الذي أثار استهجان الواقدي ، فاندفع ليعترض على الراوي الذي جاء بعد حوالي مائتي سنة من شهادة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فوجد الجواب الحاسم ، الذي ينضح بروح القمع ، ويرشح بالغيظ والتحدي.

٢ ـ إذا كانت المسافة بين المدينة وبين السّيّ هي خمس ليال كما ذكروه (٢) ، وكان المطلوب هو مهاجمة جمع من هوازن كانوا هناك ، فهل يكفي أربعة وعشرون رجلا لإنجاز هذه المهمة؟!

٣ ـ لماذا يريد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مهاجمة هذا الجمع من هوازن ، فهل كان بينه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبينهم عهد فنقضوه؟!

أو هل اعتدوا على أحد من المسلمين ، أو أغاروا على أطراف المدينة ، فيريد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يؤدبهم؟!

أو هل كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يمارس شن الغارات على الآخرين بهدف سلب أموالهم ، على عادة العرب في زمانه؟!

أو هل كلف هذه السرية بمهمة إرشاد ودعوة هؤلاء القوم إلى الإسلام ، ولكن بهذه الطريقة التي لا يرضاها الله سبحانه ، ولا يقرها شرع ودين؟!

إن رواية ابن أبي زيد لم تستطع أن توضح لنا شيئا من ذلك.

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٤.

(٢) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٤٠ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٢٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٢ والتنبيه والإشراف ص ٢٣٠ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٤ وراجع معجم البلدان أيضا.

٢٧٠

الباب الحادي عشر

مؤتة .. إلى الفتح

الفصل الأول : من المدينة .. إلى مؤنة

الفصل الثاني : معركة مؤتة

الفصل الثالث : خالد يضيع النصر الأعظم

الفصل الرابع : نهايات ونتائج

الفصل الخامس : صورة موهومة لسرية ذات السلاسل

الفصل السادس : الصورة الحقيقية لغزوة ذات السلاسل

الفصل السابع : رواية القمي توضح .. بل تصرح

الفصل الثامن : سرايا حدثت .. إلى فتح مكة

الفصل التاسع : حنين الجذع .. ومنبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

٢٧١
٢٧٢

الفصل الأول :

من المدينة .. إلى مؤتة

٢٧٣
٢٧٤

أول بعث إلى خارج الجزيرة :

ذكر بعضهم : أن بعث مؤتة كان أول بعث يرسله النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى خارج الجزيرة العربية ، وداخل الأراضي الشامية ، التابعة للروم (١).

ونقول :

تقدم : أن سرية أخرى كانت قد قصدت ذات أطلاح ، وهي من أرض الشام ، وهي في البلقاء من الأردن. وهذه المناطق كانت تحت سيطرة الروم.

وتقدم أيضا : أن غزوة دومة الجندل قد حصلت قبل سرية مؤتة بزمان ، وتقع دومة الجندل على خمس ليال من دمشق ، وعلى خمس عشرة ليلة من المدينة ، أو ست عشرة ، فهي من أعمال الشام (٢). وقد ذكرنا هذه الغزوة في الجزء العاشر صفحة ١٠٤ (٣) من هذا الكتاب ، فراجع.

فلا يصح قوله : إن غزوة مؤتة هي أول بعث يرسله «صلى الله عليه

__________________

(١) الكتاب السابع من معارك الإسلام الفاصلة : غزوة مؤتة ص ٥.

(٢) راجع : وفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢ و ١٣ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٦٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٩٣ والتنبيه والإشراف ص ٢١٤ و ٢١٥ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ٣٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٨١.

(٣) الجزء الثامن ص ٣٨٧ (الطبعة الرابعة) والجزء ١٤ ص ٣٣٦ (الطبعة الخامسة).

٢٧٥

وآله» إلى خارج الجزيرة العربية ، وداخل الأراضي الشامية التابعة للروم.

وربما تكون هذه الغزوات تهدف إلى إعداد المسلمين للحروب التي تنتظرهم خارج الجزيرة العربية ، ولا سيما مع الدولتين الأقوى في المنطقة ، وهما الروم وفارس.

تاريخ غزوة مؤتة :

قال بعضهم : المعروف بين أهل المغازي : أن سرية مؤتة كانت سنة ثمان ، لا يختلفون في ذلك ، إلا ما ذكره خليفة بن خياط في تاريخه : أنها سنة سبع (١).

ولكن خليفة بن خياط قد ذكرها في أحداث سنة ثمان (٢) ، وليس فيه.

وعند الترمذي : أن سرية مؤتة كانت قبل عمرة القضاء (٣).

قال في النور : وهذا غلط لا شك فيه (٤).

وقال الذهبي : قلت : كلا ، بل مؤتة بعدها بستة أشهر جزما (٥).

وقال الحافظ بعدما نقل كلام الترمذي : هو ذهول شديد ، وغلط مردود ، وما أدري كيف وقع الترمذي في ذلك مع وفور معرفته (٦).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٧.

(٢) تاريخ خليفة بن خياط ص ٥٢.

(٣) سير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٣٥ و ٢٣٦ وسنن الترمذي ج ٤ ص ٢١٧ وتحفة الأحوذي ج ٨ ص ١١٣ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢٨ ص ١٠٣.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٧.

(٥) سير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٣٦.

(٦) تحفة الأحوذي ج ٨ ص ١١٣.

٢٧٦

نصوص حول سبب غزوة مؤتة :

قالوا : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتاب ، فلما نزل مؤتة (١) عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني ، وهو من أمراء قيصر على الشام ، فقال : أين تريد؟

قال : الشام.

قال : لعلك من رسل محمد؟

قال : نعم ، أنا رسول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فأمر به ، فأوثق رباطا ، ثم قدمه ، فضرب عنقه صبرا.

ولم يقتل لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رسول غيره.

فبلغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الخبر ، فاشتد عليه. وندب الناس ، وأخبرهم بمقتل الحارث ، ومن قتله. فأسرع الناس وخرجوا فعسكر بالجرف ، ولم يبين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الأمر (٢).

إلى أن يقول النص : وعسكر الجيش قبل خروجه في الجرف ، وهو

__________________

(١) مؤتة : موضع معروف عند الكرك بالأردن.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٥ و ٧٥٦ والطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار صادر) ج ٢ ص ١٢٨ و (ط ليدن) ج ٤ ص ٢٤ و ٦٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٠ والبحار ج ٢١ ص ٥٨ و ٥٩ عن شرح النهج للمعتزلي ، والإصابة ج ١ ص ٢٨٦ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ١ ص ٣٠٤ و ٣٠٥ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٤٢ وتهذيب تاريخ دمشق ج ١ ص ٩٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦١ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٧ وج ١١ ص ٤٦٤ وج ١٩ ص ٦٨٣ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٢٠٤.

٢٧٧

موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام (١).

وخرج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في إثرهم ، وصلى الظهر بالمسلمين في ذلك الموضع ، ثم عين أمراء الجيش (٢).

قال محمد بن عمر : حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري ، قال : إن بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى مؤتة قد كان في جمادى الأولى سنة ثمان ، إلى آخر ما سيأتي (٣).

وقال محمد بن عمر أيضا ، عن عمر بن الحكم ، عن أبيه : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما صلى الظهر جلس ، وجلس أصحابه حوله ، وجاء النعمان بن مهض (فنحص) اليهودي ، فوقف على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

__________________

(١) معجم البلدان ج ٢ ص ١٢٨ وراجع : تنوير الحوالك ص ٦٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٧٣ و ٤٨٦ وج ٦ ص ٩٥ و ١٥٩ و ٢٥١ وتاج العروس ج ٦ ص ٥٦.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٦.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٤ عن البخاري ج ٧ ص ٥٨٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٠ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٢١٥ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٣ والمعجم الكبير ج ٥ ص ٨٤ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٢٨ وج ٣ ص ٥٣٠ وتاريخ خليفة بن خياط ص ٥٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٦ وج ١٩ ص ٣٦٨ و ٣٧٣ وعن أسد الغابة ج ١ ص ٢٨٨ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٢٩ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣١٨ و ٣١٩ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٥ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٢٩ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٥٥.

٢٧٨

«زيد بن حارثة أمير الناس ، فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب ، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة ، فإن أصيب عبد الله بن رواحة ، فليرتض المسلمون رجلا منهم فليجعلوه عليهم».

فقال النعمان بن مهض (أو فنحص) : «يا أبا القاسم ، إن كنت نبيا فسميت من سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا ، لأن أنبياء بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم ، ثم قالوا : إن أصيب فلان ، ففلان ، فلو سمى مائة أصيبوا جميعا.

ثم إن اليهودي جعل يقول لزيد بن حارثة : «اعهد ، فإنك لا ترجع الى محمد إن كان نبيا.

قال زيد : «فأشهد أنه رسول صادق بار».

وقالوا أيضا : وعقد لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لواء أبيض ، ودفعه إلى زيد بن حارثة. وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير ، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام ، فإن أجابوا ، وإلا استعينوا عليهم بالله تبارك وتعالى وقاتلوهم (١).

ونقول :

إن لنا مع هذه النصوص وقفات عديدة ؛ هي التالية :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٤ و ١٤٥ عن الواقدي ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٤١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٠ وراجع : البحار ج ٢١ ص ٥٨ و ٥٩ عن الخرايج والجرايح وج ٢١ ص ٥٩ عن المعتزلي. وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦١ و ٦٢ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٨.

٢٧٩

ليرتض المسلمون رجلا!!

ذكر النص : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : فإن أصيب عبد الله بن رواحسة فليرتض المسلمون رجلا منهم ، فليجعلوه عليهم ..

ونقول :

إن ذلك موضع شك وريب ، فقد روي : أن عبد الله بن عباس ، أو عبد الله بن جعفر قال لمعاوية :

«يا معاوية ، أما علمت : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين بعث إلى مؤتة أمّر عليهم جعفر بن أبي طالب ، ثم قال : إن هلك جعفر بن أبي طالب ، فزيد بن حارثة ، فإن هلك فعبد الله بن رواحة!

ولم يرض لهم أن يختاروا لأنفسهم» (١).

ولعل هذا هو الأقرب إلى الاعتبار : إذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعلم بأنهم بعد قتل ابن رواحة سوف ينهزمون أسوأ هزيمة ، إذ لا معنى لجعل أمير للهزيمة ، وللمنهزمين ، لأن الحاجة إلى الأمير إنما تكون في حالة الثبات والتصدي ، ليقود العمليات الحربية ، ويحدد وظائف المحاربين ..

وأما إذا كانت الهزيمة ، فأية قيادة يمارسها ، وأية وظائف يحددها؟!

وهل تبقى الحاجة إلى أن يقرر لهم : أن يرتضوا لأنفسهم رجلا ، ليجعلوه عليهم؟!

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ج ٢ ص ٨٤٤ وقاموس الرجال ج ٦ ص ٤٠ والبحار ج ٣٣ ص ٢٦٩ وكلمات الإمام الحسين «عليه‌السلام» للشريفي ص ٦١٠ ومواقف الشيعة ج ٢ ص ٧٢.

٢٨٠