الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-191-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٠

يأتوا مؤتة ، فغشيتهم ضبابة ، فلم يبصروا حتى أصبحوا على مؤتة.

ونقول :

أولا : لم يظهر لنا أي سبب يدعو إلى نهي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم عن أن يأتوا مؤتة.

والحال أن المقصود هو ـ كما يزعمون ـ : مواجهة الذين قتلوا الحارث بن عمير وكانوا في مؤتة ..

بل قد صرحت الروايات المتقدمة : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمرهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير ، وأن يدعوا من هناك إلى الاسلام ..

ثانيا : إن الذي تغشاه الضبابة حتى لا يبصر ؛ لا يواصل المشي بصورة عشوائية ، ولا يرضى لنفسه بأن يبقى تائها في الصحراء لا يدري أين تنتهي به قدماه .. خصوصا ، وأن السير في تلك الصحارى لا يستقيم بدون أدلاء من ذوي الخبرة ، وما أكثر ما تاه الناس عن الطريق حتى مع الأدلاء ، فابتلعتهم الصحراء حتى ماتوا جميعا جوعا أو عطشا. فمن تغشاه الظلمة حتى لا يبصر ، لا بد أن يقف في مكان ، ولا يتحرك إلى أن ينقشع الضباب ، ويتمكن من رؤية الطريق.

ثالثا : إذا كان الروم قد جمعوا مائتي ألف ، أو أكثر بكثير ، فإن ذلك لم يكن ليخفى على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي كانت عيونه مبثوثة في كل مكان .. وهو يلاحق جميع الاحتمالات ، في مختلف الاتجاهات ، حتى ليكاد يحصي على أعدائه أنفاسهم ، وتبلغه عنهم كل شاردة وواردة.

وكان هو نفسه قد غزا دومة الجندل في البلقاء قبل مدة ، وكان يرصد كل المواقع التي يحتمل أن يكون لها ميل لمهاجمته ، فهل يغفل عن بلاد الشام ،

٣٢١

التي قتل فيها رسوله ، فلا يرصد ما يجري فيها ، مما يعنيه؟!

وهل يغفل عن رصد الملوك الذين كان قد دعاهم إلى الإيمان به ، والقبول بدعوته ، والانقياد له؟ وكيف يتصورون أن يجتمع لحربه مئات الألوف ، وهو لا يدري؟! إن ذلك غير مقبول ، ولا معقول.

إذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بصدد إرسال جيش إلى تلك البلاد ، فلا بد أن يكون لديه قدر كاف من المعلومات حول مسير ومصير ذلك الجيش ، وأهدافه ، ومهمته ، وقدراته ، وقدرات الجيش الذي قد يواجهه ..

ولأجل ذلك كله ، نعود فنذكر القارئ بأن :

جيشا قوامه ثلاثة آلاف رجل ، يريد أن يتصدى لمهمة كبرى وحاسمة ، لا يمكن أن يسير بلا هدف ، وكأنه معصوب العينين.

خصوصا إذا قلنا : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا بد أن يكون قد أخبرهم ، أو أخبر قادتهم على الأقل بطبيعة ، وصعوبة المهمة التي كان أوكلها إليهم ، ولا بد أن يكون قد أوصاهم بتوخي الحذر الشديد في تحركاتهم ، حتى لا يقعوا في فخ ينصبه لهم عدوهم ..

وبذلك يتضح : أن السير في غمار تلك الضبابة لا يمكن أن يتلاءم مع المنطق السليم ، والنظر القويم.

روحيات ابن رواحة :

وروى محمد بن عمر عن عطاء بن مسلم ، قال : «لما ودع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عبد الله بن رواحة ، قال ابن رواحة : يا رسول الله ، مرني بشيء أحفظه عنك.

٣٢٢

قال : «إنك قادم غدا بلدا السجود فيه قليل ، فأكثر السجود».

قال عبد الله بن رواحة : زدني يا رسول الله.

قال : «اذكر الله ، فإنه عون لك على ما تطالب».

فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهبا رجع ، فقال : يا رسول الله ، إن الله وتر يحب الوتر.

فقال : «يابن رواحة ، ما عجزت ، فلا تعجزن إن أسأت عشرا أن تحسن واحدة».

قال ابن رواحة : لا أسألك عن شيء بعدها (١).

قالوا : «فتجهز الناس ، ثم تهيأوا للخروج وهم ثلاثة آلاف (٢). فلما

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٦ و ١٤٧ وفي هامشه : عن الدر المنثور ج ٣ ص ١٨٩ عن ابن عساكر ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٨ والبحار ج ٢١ ص ٦٠ عن المعتزلي ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٨ ص ١٢٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٥.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٣٦ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣١٩ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٥ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٧ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٥ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٢٩ وإعلام الورى ج ١ ص ٢١٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٥٥ وشرح الأخبار ج ٣ ص ٢٠٦ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٦ والبحار ج ٢١ ص ٥٦ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٢٩٨ والنص والإجتهاد ص ٢٨ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٢٨ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٧ وج ٢٨ ص ١٢٤ وعن أسد الغابة ج ٣ ص ١٥٨.

٣٢٣

حضر خروجهم ودّع الناس أمراء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وسلّموا عليهم. فلما ودّع عبد الله بن رواحة مع من ودع من أمراء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بكى.

فقالوا : «ما يبكيك يابن رواحة»؟.

فقال : «أما والله ، ما بي حبّ الدنيا ، ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقرأ آية من كتاب الله عزوجل يذكر فيها النار : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (١). فلست أدري كيف لي بالصّدر بعد الورود»؟

فقال المسلمون : «صحبكم الله ، ودفع عنكم ، وردكم إلينا صالحين».

فقال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه :

لكنني أسأل الرحمن معفرة

وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حران مجهزة

بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي

يا أرشد الله من غاز وقد رشدا (٢)

__________________

(١) الآية ٧١ من سورة مريم.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٣٦ و ٧٣٧ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٥ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٠ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٢ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٦ وج ٢٨ ص ١٢٤ وعن أسد الغابة ج ٣ ص ١٥٨ وتهذيب الكمال ج ١٤ ص ٥٠٧ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣١٩ وعن البداية النهاية ج ٤ ص ٢٧٦ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٠ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٥٦.

٣٢٤

قال ابن اسحاق : ثم إن القوم تهيأوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فودعه ثم قال :

فثبت الله ما آتاك من حسن

تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا

إني تفرست فيك الخير نافلة

الله يعلم أني ثابت البصر

أنت الرسول فمن يحرم نوافله

والوجه منك فقد أزرى به القدر

هكذا أنشد ابن هشام هذه الأبيات ، وأنشدها ابن اسحاق ، بلفظ فيه إقواء.

قال ابن اسحاق : «ثم خرج القوم ، وخرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يشيعهم ، حتى إذا ودّعهم وانصرف عنهم ، قال عبد الله بن رواحة رضي‌الله‌عنه :

خلف السلام على امرئ ودعته

في النخل خير مشيع وخليل» (١)

وروي عن ابن عباس : أن رسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث إلى مؤتة ، فاستعمل زيدا ، وذكر الحديث ، وفيه : فتخلّف ابن رواحة ، فجمع مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما صلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رآه ، فقال : «ما منعك أن تغدو مع أصحابك»؟

قال : أردت أن أصلي معك الجمعة ، ثم ألحقهم.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٥ و ١٤٦. وراجع : مجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٥ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٦ وج ٢٨ ص ٩٣ و ٩٤ و ١٢٤ وعن البداية النهاية ج ٤ ص ٢٧٦ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٥٦.

٣٢٥

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت غدوتهم».

وفي لفظ : «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» (١).

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٧ وقال في هامشه : أخرجه الترمذي (٥٢٧) وأحمد في المسند ج ١ ص ٢٢٤ وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ج ٧ ص ٣٩٣.

وراجع : نيل الأوطار ج ٨ ص ٢٤ وعن مسند أحمد ج ٣ ص ١٤١ و ١٥٣ و ٢٠٧ و ٤٣٣ وج ٥ ص ٢٦٦ وعن صحيح البخاري ج ٣ ص ٢٠٢ وعن صحيح مسلم ج ٦ ص ٣٦ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ٩٢١ وسنن الترمذي ج ٣ ص ١٠٠ و ١٠١ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ١٨٧ وشرح مسلم للنووي ج ١٣ ص ٢٦ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٢٧٩ وتحفة الأحوذي ج ٣ ص ٥٤ وج ٥ ص ٢٣٥ ومسند أبي داود ص ٣٥٢ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ٤ ص ٥٦٠ وج ٨ ص ٥٤٥ ومسند ابن راهويه ج ١ ص ٣٨١.

وراجع : منتخب مسند عبد بن حميد ص ١٦٨ و ٢١٩ وصحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٤٦٢ والمعجم الأوسط ج ٥ ص ٩٥ والمعجم الكبير ج ٦ ص ١٩٠ وج ١١ ص ٣٠٧ ومسند الشاميين ج ٣ ص ٣١٠ ورياض الصالحين للنووي ص ٥٢٤ وكنز العمال ج ٤ ص ٣٠٤ و ٣١٨ و ٣١٩ وج ١٠ ص ٥٦١ وعن أحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٦٠٠ والجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ٢٦١ وج ١٧ ص ٢٦٥ وعن تفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢٩٨ والدر المنثور ج ١ ص ٢٤٩ و ٢٥٠ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢٨ ص ٩٢ وج ٤١ ص ٤٨٣ وتذكرة الحفاظ ج ٤ ص ١٢٧١ وتاريخ جرجان ص ١٤٦.

٣٢٦

المسير بعد الوداع :

قال ابن اسحاق ، ومحمد بن عمر : ثم مضى الناس.

وعن زيد بن أرقم قال : «كنت يتيما في حجر عبد الله بن رواحة ، فلم أر وليّ يتيم كان خيرا منه ، فخرجنا إلى مؤتة ، فكان يردفني خلفه على حقيبة رحله ، فو الله ، إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه :

إذا أدّيتني وحملت رحلي

مسيرة أربع بعد الحساء

فشأنك أنعم ، وخلاك ذم

ولا أرجع الى أهلي ورائي

وآب المسلمون وغادروني

بأرض الشام مشتهي الثواء

وردك كل ذي نسب قريب

إلى الرحمن منقطع الإخاء

هنالك لا أبالي طلع بعل

ولا نخل أسافلها رواء

قال : فلما سمعتهن منه بكيت ، فخفقني بالدرة ، وقال : «ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة ، فأستريح من الدنيا ونصبها وهمومها وأحزانها ، وترجع بين شعبتي الرحل»؟

زاد ابن إسحاق قوله : ثم قال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه في بعض شعره ، وهو يرتجز :

يا زيد زيد اليعملات الذّبّل

تطاول الليل هديت فانزل

زاد محمد بن عمر : ثم نزل نزلة من الليل ، ثم صلى ركعتين ودعا فيهما دعاء طويلا ، ثم قال : يا غلام.

قلت : لبيك.

٣٢٧

قال : هي إن شاء الله الشهادة (١).

ابن رواحة .. فقط :

أظهرت النصوص التي بين أيدينا : أن ابن رواحة كان متأثرا بالجو الروحي ، حين عيّنه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في موقع القيادة بعد جعفر وزيد.

وقد أظهرت أشعاره ـ أيضا ـ : أنه كان يهيء نفسه لاستقبال الشهادة ، فراجعها ، وراجع قوله لزيد بن أرقم : ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة الخ ..

وقوله أيضا بعد صلاته ودعائه : هي إن شاء الله الشهادة.

ثم قوله للمسلمين حين وجلوا من كثرة العدو : «إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون : الشهادة».

فذلك كله يدل على : أنه لم يكن يقول ويتصرف على هذا النحو ، لأنه كان يتوقع أمرا لا يعرف عنه شيئا ، بل كان على علم ببعض النتائج التي ستنتهي إليها تلك الحرب ، ربما بإخبار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له ، ولزيد ، ولجعفر ، إذ لم يكن «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليخبره بهذا الأمر دونهما.

أو لأنه قد استفاد ذلك من سكوته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عما قاله ابن مهض (أو فنحص) اليهودي.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٩ وعن الإصابة ج ٤ ص ٧٤ و ٧٥ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢٨ ص ١١٧ و ١١٨ و ١١٩ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٧.

٣٢٨

فأثر ذلك في نفسه ، وصار يتعامل مع الأمور على هذا الأساس.

لكن ما يدعو إلى التأمل : أننا لا نجد لدى زيد وجعفر أية تصريحات ، أو تصرفات تشير إلى أنهم كانوا يعيشون حالة استثنائية ـ كما كان الحال بالنسبة لعبد الله بن رواحة!!

ولا نستطيع أن نصدق أنفسنا إذا أردنا أن نعزو ذلك إلى عدم معرفتهما بما كان يعرفه ابن رواحة ، فهما قد سمعا ما سمع ، ورأيا ما رأى ، ولا نظن أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اختصه بسرّ ذلك دونهما.

لكن يمكننا القول بأنهما كانا أقوى منه ، على مواجهة هذا الأمر ، وأنفذ بصيرة منه فيه ، وأثبت جأشا ، وأكثر تأنيا وتقبلا له ، وأصبر عليه.

ولعل هذا يفسر لنا ما روي : من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رأى في سرير ابن رواحة ازورارا ، وصدودا ، بل سيأتي أنه رأى ذلك في سرير زيد أيضا.

وعلى كل حال ، فإن لكل واحد منهما ـ يعني زيدا وابن رواحة ـ مقامه ومرتبته ، وكان مقام جعفر أعلى وأسمى ، ولذلك كان سريره بلا عيب ، لأنه استقبل الموت حين استشهاده ، بكل سكينة ورضا وطمأنينة .. والله هو العالم بالسرائر ، والمطلع على الدخائل والضمائر.

ليس إلا المعايير الإلهية :

وقد أظهرت قضية تخلف ابن رواحة للفوز بصلاة الجماعة مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خطأه في تقديراته للأمور ، وأن ثمة معايير إلهية ، وتقديرات ربانية لمعنى القيمة تختلف كثيرا عما يعرفه الناس ويفهمونه ، أو

٣٢٩

فقل عما يتوهمونه ..

فقد أظهرت هذه القضية حقيقة : أن غزوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ، وأنه لو أنفق ابن رواحة ما في الأرض جميعا ، ما أدرك غدوة أصحابه إلى الجهاد في سبيله تعالى ، مع أن ما فعله لم يكن فيه إنفاق لشيء من المال ، ولا تخلى عن أمر دنيوي ، وإنما تخلف ليفوز بثواب الصلاة جماعة مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

فما معنى أن يذكر إنفاق ما في الأرض جميعا؟!

كما أنه «رحمه‌الله» لم يتخلف عن الغدوة والروحة في سبيل الله عزوجل ، بل هو عازم على هذا الأمر بمجرد انتهاء صلاته .. فلماذا إذن يوجه إليه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا التحذير ، أو هذا التوجيه الناقد ..

فلماذا ذكر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك أيضا؟!

فهل يريد أن يقول له : إن مجرد تأخره عن أصحابه ، وغدوهم للجهاد قبله ، يجعل ثوابهم أعظم من ثوابه ، وأن الصلاة معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا تجبر مافاته من ثواب المبادرة إلى المسير؟!

أم أنه يريد أن يقول له : إن ما فعله قد يشجع الآخرين على فعل مثله ، وذلك يوجب انفلات الزمام ، وتشويش الأمر على القيادة؟!

بل إن نفس فقد الناس له في غدوهم ، فلا يجدونه معهم ـ وهو أحد قادتهم ـ سوف يحدث بلبلة ، وترددا وتشويشا لديهم ..

فأراد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يقول له بالإضافة إلى ذلك كله : إن ما فاته من الثواب لا يمكن تعويضه ، ولو بإنفاق جميع ما في الدنيا ، وأن يبادر إلى تصحيح نظرته للأمور ، وأن يأخذ معايير المثوبة والعقوبة من مصادرها

٣٣٠

الحقيقية ، فإن عقول البشر لا تستطيع إدراك ذلك.

وصايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لابن رواحة :

وعن وصايا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لابن رواحة نقول :

١ ـ إن أول وصية زود بها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ابن رواحة هي قوله : «إنك قادم غدا بلدا السجود فيه قليل ، فأكثر السجود».

وهي وصية غاية في الأهمية والدقة بالنسبة لرجل يحتاج إلى شحنات روحية قوية ، تخوّله إنجاز مهمة بالغة الحساسية.

أما بالنسبة إليه ، فلأنها تعني ذهاب نفسه.

وأما بالنسبة للعدو ، فلا بد لهذه التضحيات التي يصنعها أهلها باختيارهم ، ولا ترد عليهم فجأة ، ولا تفرض عليهم من قبل غيرهم.

نعم ، لا بد أن تترك أثرها البالغ في روح عدو يحب الدنيا ، ويقاتل من أجلها ، ويريد أن يبقى حيا ، لكي يستفيد من لذائذها ، ويتمتع بمباهجها.

كما أنها لا بد أن تؤثر في جند الإسلام ثباتا ، وإصرارا وعزما ، وإقداما ، وبذلا ، وتضحيات ..

ومن الواضح : أن السجود لله تعالى هو غاية الخضوع ، والتذلل له سبحانه ، وهو يؤكد لدى الساجد الإحساس بعظمته سبحانه ، ويقلل من درجة الاعتداد بالنفس ، ويهون من شأنها ، ويهيء المناخ الروحي للتخلي عنها ، ثقة بما عنده سبحانه وتعالى.

وقد أظهر صدود ابن رواحة عن الموت ، حين وافته الشهادة ، ثم إقباله عليه ـ أظهر ـ أنه كان بحاجة إلى الإكثار من هذا السجود لترويض نفسه

٣٣١

وتهيئتها لهذا المقام العظيم.

٢ ـ ثم جاءت الوصية الثانية لتأمر ابن رواحة بذكر الله تعالى ، فإنه عون له على ما يصبو له ويسعى إليه. أي أن عليه أن لا يعتمد على قدراته الذاتية ، لأن نفسه قد تخذله في أحرج اللحظات. ولا علاج لهذا الأمر إلا بذكره تعالى الذي تشعر هذه النفس بهيمنته عليها ، وبمالكيته لها ، وبأنه هو الحافظ ، وهو المدبر لها والرحيم والرؤوف بها ، والعطوف عليها ، فتستسلم له ، وتكف عن المنازعة ، وتجنح للانقياد والمطاوعة.

٣ ـ ثم تأتي الوصية الثالثة لتقول له : إن عليه أن لا يستسلم للشعور بالعجز في مواجهة تمردات نفسه المتكررة ، وأن عليه أن يعيد المحاولة مرات ومرات ، حتى لو بلغت عشرا ، فإن الإخفاق في ذلك كله لا يمنع من النجاح مرة واحدة بعدها ، ليكون في هذه المرة الفوز العظيم ، والنصر المؤزر على هذه النفس الأمارة بالسوء.

وهكذا فإن هذه الوصايا النبوية تكون قد أعطت الانطباع عن حقائق ، ودقائق كان لا بد له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من التعاطي معها ، ومعالجتها برفق وأناة ، وبواقعية وموضوعية ، وهكذا كان.

٣٣٢

ملحق

كيف جرت الأمور؟!

وإذا جاز لنا أن نقدم تصورا محتملا ، ومعقولا ، وربما مقبولا لما جرت عليه الأمور في أحداث مؤتة .. فإننا نقول :

لعل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد رأى في طريقة تعامل قيصر مع رسله حين أرسل إليه يدعوه للإسلام ، ما يشير إلى طبيعة تفكيره ، ويشي بحقيقة الأساليب والسبل التي ينتهجها ..

ثم جاء انتصار هرقل على ملك فارس ، ونذر أن يمشي إلى بيت المقدس ..

وكانت مئات الألوف من العساكر ترافقه في مسيره ذاك ، ورأى نفسه ، وعساكره على مقربة من مركز انطلاقة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في رسالته ، وهو الإنسان الذي لا مجال لإهمال أمره ، فضلا عن نسيانه أو تناسيه. ففكر في أن يعطف بجيوشه عليه لينهي أمره ، ولينام قرير العين فارغ البال ، لا يرى في الأفق أي شيء يخافه أو يخشاه ، لا في قريب الأيام ، ولا في بعيدها ..

فعرف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالأمر ، فأرسل في العرب ينذرهم

٣٣٣

بالخطر ، ويستنفرهم إلى الشام (١).

فاجتمع له منهم ثلاثة آلاف رجل ، مع أن المسلمين لم يزيدوا على ألف وخمسمئة ، أو أزيد بقليل كما ظهر في الحديبية وخيبر .. مما يعني أن الذين استجابوا لاستنفاره كان فيهم المسلم وغير المسلم ، لأنهم عرفوا أن الخطب داهم ، وأن المصيبة سوف تعم الجميع ..

فكان خطة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تقضي بالمقاومة ، حتى استشهاد القادة. ثم تتواصل الحرب ويصمد جيش المسلمين ، ولو ساعة واحدة ليدرك قادة جيش الروم ـ وعلى رأسهم ذلك الملك المجرب والخبير بالأمور ـ أن الحرب مع هؤلاء لا نهاية لها .. بدليل أن قتل القادة لا يحسم المعركة معهم ، بل ربما يزيدها تأججا وتوهجا ، فلا بد من حساب الأمور بطريقة أخرى تحمل في طياتها ، التراجع وإيقاف الحرب ، وإعادة النظر في أمر هذا الدين ، ودراسة تعاليمه وحقائقه ، بل ربما يفكر هرقل بإفساح المجال لهذا الدين لينتشر في بلاده ، ولو برجاء أن يكون هو المستفيد من هذه القوة والشوكة ، التي رأى نماذج رائعة منها في مؤتة.

أي أن من جملة ما أراده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو أن يفاجئهم بحقيقة أنه حتى قتل القادة لا ينهي الحرب ، بل هي تستمر إلى آخر شخص قادر على حمل السلاح من المسلمين ، وهذا معناه : أن الخسائر التي لا بد أن يمنى

__________________

(١) كما دلت عليه النصوص التي ذكرت : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسل عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الشام (سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٧) ، وهو ما ذكر ابن إسحاق أنه حصل قبل مؤتة ، فراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧٢ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٥.

٣٣٤

بها من يقاتل هذا النوع من الناس لا مجال للتكهن لا بحجمها ولا بمستواها ، وهذا يعطي انطباعا مفاده : أن ما يحارب هؤلاء الرجال من أجله ليس أمرا دنيويا يرضون إذا أخذوه ، أو يسخطون إذا فقدوه ، بل القضية أبعد من ذلك بكثير.

وبذلك يكون ما جرى في مؤتة ، ومن خلال صبر ساعة قد حقق أعظم إنجاز عرفه تاريخ البشرية ، وذلك بدخول الإسلام بأيسر السبل إلى أعظم الإمبراطوريات وأقواها.

وبذلك أيضا : يتغير وجه التاريخ ، ويتحول مسار حركة الأمم .. ولكن خالدا قد ضيع ذلك كله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم إن التاريخ يعيد نفسه ، حين يتم نقض خطة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حرب أخرى ، جاءت متتمة لحرب مؤتة. وتريد أن تستدرك ما ضيعه المنهزمون فيها .. وذلك حين جهز النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أسامة بن زيد ، ليقود جيشا إلى مؤتة نفسها ، حيث استشهد أبوه الذي كان أحد القادة الثلاثة في تلك السرية.

وإذ بأناس آخرين ينبرون أيضا ليضيعوا على الأمة ، وعلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الفرصة ، ويتم على أيديهم إفشال خطته ، وتذهب جهوده أدراج الرياح.

ولا نكاد نشك في أن النتائج التي كان يتوخاها «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من هذه السرية كانت تداني في خطورتها ، وفي أهميتها ونفعها للإسلام ما كان يتوخاه من سرية مؤتة بالذات ..

مع ملاحظة : أن هذا الفريق قد استعمل نفس الأسلوب الذي استعمل

٣٣٥

في مؤتة ، فقد طعنوا في قيادة أسامة ، كما طعنوا في أمارة أبيه زيد من قبل ..

وقد بلغ من إصرارهم على عصيان امر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنهم لم يكترثوا حتى باللعن الذي سجله رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على من يتخلف عن جيش أسامة ..

وهذا اللعن يشير أيضا : إلى مدى أهمية وخطورة هذا الأمر بالنسبة إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبالنسبة لأمة الإسلام بصورة عامة ..

٣٣٦

الفهارس

١ ـ الفهرس الإجمالي

٢ ـ الفهرس التفصيلي

٣٣٧
٣٣٨

١ ـ الفهرس الإجمالي

الباب العاشر : بين خيبر ومؤتة

الفصل الأول : فتح وادي القرى .. ورد الشمس............................. ٧ ـ ٤٠

الفصل الثاني : سرايا بين وادي القرى وعمرة القضاء......................... ٤١ ـ ٨٨

الفصل الثالث : شخصيات .. وأحداث .. إلى عمرة القضاء............... ٨٩ ـ ١١٤

الفصل الرابع : تكبيرات صلاة الميت .. وصلاة الغائب................... ١١٥ ـ ١٤٨

الفصل الخامس : إلى مكة .. لأجل العمرة.............................. ١٤٩ ـ ١٨٠

الفصل السادس : من مكة إلى المدينة.................................. ١٨٣ ـ ٢٢٦

الفصل السابع : سرايا وأحداث إلى مؤتة............................... ٢٢٧ ـ ٢٦٩

الباب الحادي عشر : مؤتة .. إلى الفتح ..

الفصل الأول : من المدينة .. إلى مؤتة.................................. ٢٧٣ ـ ٣٣٦

الفهارس............................................................ ٣٣٧ ـ ٣٥٠

٣٣٩
٣٤٠