الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-191-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٠

وقيل : استعمل أبا ذر (١).

الذي حلق رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وتقدم : أن الذي حلق رأس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو خراش بن أمية ، وهذا غير مسلّم أيضا ، فقد روي : أنه معتمر بن عبد الله العدوي (٢).

لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة :

وقالوا : لما كان بعد سنة من الحديبية أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسلمين بالتجهز لعمرة القضاء ، فشكى إليه بعض المسلمين ضيق ذات اليد ، فأمر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسلمين بأن ينفقوا ، ويتصدقوا ، وألّا يكفوا أيديهم فيهلكوا ، وأنزل الله عزوجل : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٨٩ عن البلاذري والبحار ج ٢١ هامش ص ٤٦ عن ابن هشام ، وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٨٩ ومرقاة المفاتيح ج ٧ ص ٦٤٦ وعن السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٧٩ وراجع : نور اليقين ، في إسلام خالد ورفيقيه.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٥ عن إمتاع الأسماع ، والطبقات الكبرى ج ٤ ص ١٣٩ (معمر).

(٣) الآية ١٩٥ من سورة البقرة. وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٣٢ والجامع لأحكام القرآن ج ٣ ص ٣٦٢ ومفاتيح الغيب للرازي ج ٥ ص ٢٩٣ وزاد المسير ج ١ ص ١٨٧.

١٦١

ونقول :

إن سورة البقرة ـ كما يقولون ـ هي أول سورة نزلت بالمدينة (١) ، فهل بقيت هذه الآية إلى سنة سبع حتى نزلت ، ثم أضيفت إلى السورة ، كما يضاف غيرها حسب زعمهم؟! (٢) خصوصا وأن الأمر يتعلق بأمر الإنفاق في الجهاد ، وقد كان المسلمون في المدينة يعانون من ضيق ذات اليد منذ اللحظات الأولى التي بدأوا يواجهون الحروب فيها بعد الهجرة ..

لكننا نرى : أن السورة كلها أو طائفة كبيرة منها كانت تنزل على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دفعة واحدة ، ثم تبدأ الأحداث بالتوالي ، فينزل جبرئيل ليقرأ عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الآيات التي ترتبط بها ، علما أنها كانت قد نزلت مع سائر الآيات قبل ذلك الحدث بمدة.

والظاهر : أن هذا هو ما حصل بالنسبة لآية التهلكة.

آية التهلكة خاصة :

هذا .. وقد حاول البعض أن يستفيد من هذه الآية أيضا حكما بتحريم كل عمل يستبطن درجة من الخطورة على الجسد.

ومما لا شك فيه : أن هذه الآية ناظرة إلى تقرير حقيقة استتباع الامتناع عن الإنفاق في سبيل الله سبحانه ، للعقوبة الأخروية ، ولا تتعرض إلى إلقاء

__________________

(١) الدر المنثور ج ١ ص ١٧ عن أبي داود في الناسخ والمنسوخ ، وتفسير الميزان ج ١ ص ٥٢ وشواهد التنزيل ج ٢ ص ٤١١ وعن تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ١ ص ٨ وعن فتح القدير ج ١ ص ٥٢٥ وتهذيب الكمال ج ٣ ص ٣٣٢.

(٢) راجع : حقائق هامة حول القرآن ص ١٤٢.

١٦٢

النفس في المخاطر الدنيوية ، لا جوازا ، ولا منعا .. فاستدلال البعض بها على ذلك ، ليس له ما يبرره.

وقد ذكرنا في كتابنا مراسم عاشوراء : أن إلقاء النفس في المخاطر تجري فيه الأحكام الخمسة ، بحسب ما يعرض من عناوين ..

ومن جهة أخرى : فإن هذه الآية لا تنشئ حكما تعبديا ، بل هي أمر إرشادي ، فلا يثبت بمقتضاها أي حكم وراء ما هو ثابت في الشرع لكل مورد بخصوصه ، فهي من قبيل الأوامر بإطاعة الله تعالى ، وإطاعة رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ..) (١) .. وذلك ظاهر لا يخفى ..

أحرم من المسجد :

تقدم قولهم : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أحرم من المسجد ..

وليس المراد به مسجد المدينة ، بل المراد به مسجد الشجرة ؛ لأنه هو ميقات أهل المدينة ، وإنما أحرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منه.

وقد سئل الإمام الصادق «عليه‌السلام» : لأي علة أحرم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من مسجد الشجرة ، ولم يحرم من موضع دونه؟!

فقال : لأنه لما أسري به إلى السماء ، وصار بحذاء الشجرة نودي : يا محمد!

قال : لبيك الخ .. (٢).

__________________

(١) الآية ٥٩ من سورة النساء.

(٢) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ٢٢٤ و ٢٢٥ عن علل الشرائع ص ١٤٩ و (ط أخرى) ج ٢ ص ٤٣٣ وراجع : كشف اللثام (ط جديد) ج ٥ ص ٢١١ ورياض

١٦٣

وفي رواية أخرى عن أبي بصير : قلت لأبي عبد الله «عليه‌السلام» : خصال عابها عليك أهل مكة.

قال : وما هي؟

قلت : قالوا : أحرم من الجحفة ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أحرم من الشجرة.

قال : الجحفة أحد الوقتين ، فأخذت بأدناهما وكنت عليلا (١).

فإطلاق الكلام عن أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أحرم من مسجد الشجرة ، وعدم الإشارة إلى إحرامه من المدينة ، يدل على ما ذكرناه.

وأصرح من ذلك وأوضح : ما روي عن الإمام الباقر «عليه‌السلام» ، حيث قال ـ ردا على دعوى : أن الأفضل إحرام المرء من دويرة أهله ـ : «ولو كان فضلا لأحرم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من المدينة» (٢).

__________________

المسائل (ط قديم) ج ١ ص ٣٥٩ و (ط جديد) ج ٦ ص ١٨٥ وجواهر الكلام ج ١٨ ص ١٠٨ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٢٠٠ وعن مناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ٣٩٠ والبحار ج ١٨ ص ٣٧٠ وج ٩٣ ص ١٢٨ ومستدرك سفينة البحار ج ٢ ص ١٩٤.

(١) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ٢٢٩ عن تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ، ومجمع الفائدة ج ٦ ص ١٨٣ ومدارك الأحكام ج ٧ ص ٢١٩ ومستند الشيعة ج ١١ ص ١٨١ وجواهر الكلام ج ١٨ ص ١١١ ومستسك العروة ج ١١ ص ٢٥٣ وجامع المدارك ج ٢ ص ٣٦٣.

(٢) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ٢٣٢ عن معاني الأخبار ص ١٠٨ والحدائق الناضرة ج ١٤ ص ٤٤٩ ومعاني الأخبار ص ٣٨٢ والبحار ج ٩٣ ص ١٢٩.

١٦٤

وفي نص آخر رد الإمام الصادق «عليه‌السلام» على ذلك بقوله : لو كان كما يقولون لما تمتع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بثيابه إلى الشجرة (١) ، وقريب منه غيره (٢).

تحديد المسؤوليات في دائرة التنظيم :

وبعد ، فإن الذي يراقب الأمور في عمرة القضاء يثير اهتمامه أمران :

أحدهما : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يهتم بتوزيع المهمات ، وتحديد المسؤوليات ، لكي يتشارك الإحساس بالواجب الشرعي ، مع الإحساس بالكرامة الفردية ، والعنفوان الشخصي لمن يتحمل أية مسؤولية .. وليتم ويهتم بإنجاز المهمات الموكلة إليه ، بعيدا عن روح التواكل والإهمال ، وفي مأمن من التقصير الذي قد ينتاب الجماعات التي لم تحدد مسؤوليات أفرادها.

__________________

(١) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ٢٣٤ وفي هامشه عن : من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١٠٨ وعن تهذيب الأحكام ج ٥ ص ١٧ وراجع : منتهى المطلب (ط قديم) ج ٢ ص ٦٦٧ ومجمع الفائدة ج ٦ ص ١٨٥ وذخيرة المعاد ج ٣ ص ٥٧٦ والحدائق الناضرة ج ١٤ ص ٤٤٨ ومستند الشيعة ج ١١ ص ١٧٥ والأصول الستة عشر ص ٢٤ ومن لا يحضره الفقيه (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ج ٢ ص ٣٠٦.

(٢) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ٢٣٤ و ٢٤٢ وفي هامشه عن : الكافي (الفروع) ج ١ ص ٢٥٤ وعن التهذيب ج ١ ص ٤٦٣ وعن من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١٠٨ وراجع : مجمع الفائدة ج ٦ ص ١٨٥ وذخيرة المعاد ج ٣ ص ٥٧٦ والحدائق الناضرة ج ١٤ ص ٤٤٨ والكافي (ط مطبعة الحيدري) ج ٤ ص ٣٢٢.

١٦٥

فانطلاقا من قاعدة : «واجعل لكل واحد منهم عملا تأخذه به» (١) ، جعل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على الهدي ناجية بن جندب ، ومعه أربعة من أسلم ، وجعل على السلاح والدروع ، والرماح بشير بن سعد ، وأوكل أمر الخيل ـ وهي مائة فرس ـ إلى محمد بن مسلمة ، كما زعموا ..

الثاني : أن ذلك يشير إلى أن ثمة سعيا حثيثا لإرساء قواعد تنظيم يراد له أن يهيمن على الحركة العامة ، وأن يخرج الأمور عن دائرة الارتجال الذي يمارسه رئيس القبيلة أو الملك ، أو الحاكم ، وأن يمنع من حصر كل القرارات التفصيلية بشخص واحد ، قد يعجز عن الإحاطة بكل الجزئيات التي يحتاج إلى معرفتها ، ليكون قراره صحيحا ودقيقا.

إذ بدون هذه الإحاطة الدقيقة تصبح احتمالات إخفاقه في ذلك ، وقصور قراراته عن استيعاب جميع المواقع التي يحتاج إليها ، أكثر قوة ، وأشد حضورا في الحركة العملية.

لا يتخلف من شهد الحديبية :

وكما جرى في خيبر ، جرى في عمرة القضاء أيضا .. فقد اشترط «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هنا كما اشترط هناك حضور من شهد الحديبية ، بفارق واحد

__________________

(١) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٣ ص ٥٧ وراجع : تحف العقول ص ٨٧ وعيون الحكم والمواعظ ص ٨٥ والبحار ج ٦٨ ص ١٤٣ وج ٧١ ص ٢١٦ و ٢٣٣ ومستدرك سفينة البحار ج ٣ ص ٤٣ ونهج السعادة ج ٤ ص ٣٣٣ وموسوعة الإمام الجواد ج ٢ ص ٥٧٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٢٢ ونظم درر السمطين ص ١٦٩ وكنز العمال ج ١٦ ص ١٨٣.

١٦٦

بسيط ، وهو : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين جاء المخلفون يريدون أن يخرجوا معه إلى خيبر ، وقالوا : إنها ريف الحجاز طعاما ، وودكا ، وأموالا ، بعث «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مناديا فنادى : لا يخرجن معنا إلا راغب في الجهاد ، فأما الغنيمة فلا (١).

أما في عمرة القضاء ، فإنه لم يمنع أحدا من المسير معه إلى العمرة ، بل اكتفى بإعلان حتمية حضور أهل الحديبية معه فيها. ولم يكن في عمرة القضاء غنائم ليعلن حرمان أو عدم حرمان أحد منها ..

ولذلك انضم إليه جمع ممن لم يحضر الحديبية.

والسر في هذا وذاك يمكن رسم معالمه على النحو التالي :

١ ـ أما الأسباب بالنسبة لعمرة القضاء فهي :

أولا : إن هذه العمرة هي أداء نسك ظل الناس محرومين من أدائه مدة طويلة ، ولم يكن النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليحرم أحدا من أداء نسكه ، أو أن يمنعه من القيام بعبادة ربه.

ثانيا : إن التنصيص على لزوم حضور أهل الحديبية يتضمن التعريض بغيرهم ، وتعريف الناس بأن تخلفهم عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في تلك الغزوة كان بلا مبرر معقول أو مقبول.

ولا بد أن يكون هذا درسا لهم ولغيرهم ، ويفهمهم : أن التخلف عن طاعة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعرضهم للحرمان من أن يكونوا في

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٣٤ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١١٥ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٢٦.

١٦٧

مواقع التفضل ، والرضا ، ويوجب لهم انتكاسات لا يروق لهم أن يعرضوا أنفسهم لها.

ثالثا : إن هذا التنصيص يمثل تكريما وتعظيما لمن حضر الحديبية ، وهو إعلان بأن حضورهم هناك كان ذا قيمة وذا أهمية ، ومن شأن هذا أن يعطيهم ، المزيد من الاندفاع نحو الطاعة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والحرص على الكون في مواقع رضا الله تبارك وتعالى.

رابعا : إن حضور المتخلفين عن الحديبية إلى مكة ، التي كانت طيلة سنوات لا يأتيهم منها إلا الشرور والمتاعب ، والبلايا والمصائب ، يجعلهم أكثر شعورا بعظمة الإنجاز الذي حققه إخوانهم الذين تخلفوا هم عن مشاركتهم ، وخذلانهم قبل عام .. ثم هو يثير فيهم الشعور بالحسرة والندم على ما فرط منهم. ويدفعهم نحو التوبة النصوح بقوة وحزم وإخلاص.

٢ ـ وأما بالنسبة لما جرى في خيبر ، فالمقصود به هو : تخصيص من حضر الحديبية بالمكافأة ، التي لا يستحقها المتخلفون ، لأن الله قد جعل هذا الفتح جائزة وثوابا لهم (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١).

وبذلك يتشجّع المحسنون لمضاعفة إحسانهم ، ويكون في هذا الإعلان بتكريمهم من التعظيم والإجلال لهم ما يسعدهم ، ويفرح أرواحهم ، ويبهج قلوبهم.

كما أن فيه إعلانا بسوء فعل من تخلف ، وتقبيحا لتمرده على الأوامر

__________________

(١) الآيتان ١٨ و ١٩ من سورة الفتح.

١٦٨

النبوية ، وتحذيرا وإنذارا لمن تحدثه نفسه بأن يتأسى بهم ، وتحتم عليه أن يقلع عما عقد العزم عليه ، فإن فيه فضيحة لا يرضاها أهل الكرامة ، وخزي يأباه أهل الحفاظ.

تقليد الهدي ، وحمل السلاح :

والظاهر هو : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يريد دخول مكة من خلال تحطيم عنفوان الشرك ، وإسقاط مقاومته من الداخل. أي أنه يريد أن يهزم المشركين نفسيا ، من خلال تكوين قناعة لديهم بعدم جدوى مقاومتهم لهذا الدين ، والإدراك عمليا بأن حصاد هذه المقاومة لن يكون سوى الدمار والبوار ، والمزيد من الخيبات المريرة والمخزية لهم ، ليتوصل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ من خلال إذكاء هذا الشعور فيهم ـ إلى إخراج مكة والبيت العتيق من أسرهم ، من دون أن تراق فيه محجمة من دم ، صيانة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لحرمة الحرم ، وحفاظا على مكانة البيت وموقعه وحفظا له من أن يتجرأ عليه أحد ، عبر الأحقاب والدهور ..

فلأجل ذلك ترى : أنه في نفس الوقت الذي يجهز فيه أمة كبيرة من الناس لدخول مكة للاعتمار ، ويستصحب معه الخيل والسلاح ، والدروع والرماح ، ويقود معه مائة فرس ، ويقدمها هي والسلاح أمامه ، حين بلغ ذا الحليفة (١).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٣٣ وراجع : السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٧٩ والبحار ج ٢١ ص ٤٦ ومرقاة الجنان ج ٧ ص ٦٤٦ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣١٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٢١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٠.

١٦٩

تراه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يبالغ في إعطاء التطمينات بأنه لا يريد حربا ولا قتالا في مسيره ذاك ، فهو يقلّد الهدي ليعلم أنه هدي ، فيكفّ الناس عنه ..

ولكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يخرج نفسه عن دائرة الحذر والاحتياط ، فيجعل السلاح قريبا منه ، تحسبا لأي طارئ ، حتى إنه لما دخل مكة جعل السلاح في بطن يأجج ، وهو موضع قريب من الحرم ، وجعل لحراسته أوس بن خولي في مائتي رجل ، ليمنع بذلك أهل الخيانة والغدر ، من التفكير بالغدر ، أو افتعال أي ذريعة للخيانة.

قصور النظر لدى بعض المسلمين :

وقد أظهر بعض المسلمين قصور نظر ، أو سوء نية حين تظاهر بالاستغراب من أمر السلاح ، وقال لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا رسول الله ، أحملت السلاح ، وقد شرطوا علينا ألا ندخل عليهم إلا بسلاح المسافر ؛ السيوف في القرب؟!

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إنا لا ندخلها عليهم الحرم ، ولكن تكون قريبا منا ؛ فإن هاجنا هيج من القوم كان السلاح قريبا منا ..

فقال له ذلك الرجل : يا رسول الله ، تخاف قريشا على ذلك؟!

فأسكت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقدم البدن (١).

ونحن لا نستطيع أن نسكت على هذا التعبير القبيح والوقح ، وهو

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٣٣ وراجع : السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٧٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٠ عن الواقدي.

١٧٠

قوله : «فأسكت رسول الله»!! فإنه مناف للأدب معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كما أنه مجانب للحقيقة ..

والحقيقة هي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد سكت عن رجل ضعيف البصيرة ، خامل التفكير ، سقيم النظر ، ومؤثرا عدم بسط القول معه ؛ لأن ذلك الاسترسال ، قد يؤدي إلى تسليط الضوء على أمور ليس من المصلحة التعرض لها.

وبقي هذا الاحتياط النبوي بحمل السلاح هو الإجراء الصحيح والضروري ، وهو الموافق للحكمة والتدبير السليم ، إذ لم يكن من الجائز للعاقل الأريب أن يظهر من نفسه الغفلة والاستنامة ، مع عدو عرف بالغدر ، والانطواء على نوايا مدخولة ، وأهداف شريرة.

يضاف إلى ما تقدم : أن من المصلحة تعريف الناس بحقيقة هذا العدو الذي يواجهه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأنه عدو غير مأمون على الوفاء بتعهداته ، وأن نهجه خياني وغادر ، في حين لم يزل نفس ذلك العدو يشهد له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه لم يزل يعرفه بالوفاء والاستقامة ، من صغره إلى كبره ، وفي جميع الأوقات والحالات ..

وآخر ما نقوله هنا هو : أن المقصود من جعل السلاح قريبا منه : هو إرهاب ذلك العدو ، وتعريفه بأن التفكير في غير سياق الوفاء بالعهود ، سوف يعيد الأمور إلى مجراها الأول وهو مقاومة الظلم والبغي ، وأن ليس ثمة أي خلل أو قصور في التصميم على نشر هذا الدين ، وأن العزم لا يزال منعقدا على متابعة المسيرة ، فلا مجال للمساومة ، ولا للتراخي في شيء من الحقوق التي جعلها الله تعالى للمسلمين والمستضعفين ، مهما طال الزمن ،

١٧١

فلا فائدة من التآمر ، ولا جدوى من خيانة العهود ، إلا المزيد من المآسي والرزايا ، والنكبات والبلايا.

رعب قريش وحيرتها :

وبالعودة إلى موضوع تقديم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الخيل أمامه ، حتى بلغت مر الظهران ، فرأى أولئك النفر من قريش ـ أو الذين كانوا هناك ـ خيلا كثيرة ، وسلاحا وفيرا .. فطاروا بالخبر إلى قريش ، التي فزعت من ذلك ، وتحيرت ، وظنت أن ثمة غزوا لها من قبله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

إننا بالعودة إلى ذلك نقول :

لقد كان هذا التصور هو ما يريده النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ؛ لأن ذلك يعني : أن هذه المفاجأة قد أثمرت ما يلي :

أولا : وضع قريش على محك المفاجآت لتقترب من التفكير بموضوعية وواقعية ، فلا تستسلم لخيالاتها وأوهامها ، التي قد توحي لها بأن الأمور تسير على وتيرة واحدة ، أو تتوهم أن من الممكن أن تعرض للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين غفلة ، تستطيع الاستفادة منها ، في تسديد ضربتها الغادرة.

فإن شعورها ذاك ، وتوهمها هذا ، يثير فيها الرغبة الجامحة إلى أن تخطط ، وتدبر ، وتتآمر .. على أمل أن تنجح بتغيير المعادلة ، إذا أصابت غرة من عدوها الغافل عما دبرته له ، وكادته به.

ولكنها إذا عرفت : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يفكر في كل اتجاه ، ويلاحق كل صغيرة وكبيرة ، فسوف لا تجرؤ على الدخول في مغامرة خطيرة من هذا القبيل.

١٧٢

ثانيا : إن هذه المفاجأة التي حيّرت قريشا ، دفعتها إلى الاعتراف لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه ما عرف بالغدر صغيرا ، ولا كبيرا ، بل كان البر الوفي في جميع أحواله وشؤونه.

ولا بد أن تكون قد استحضرت في مقابل ذلك ما كان منها طيلة عشرين سنة تجاهه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين ، من ظلم وغدر ، وقطيعة رحم ، وأذى.

كما أن لهذا الاعتراف أهميته البالغة ، في فضح حقيقتها ، وتعريف الناس بمدى شناعة وقباحة فعلها ، فيما مضى ، ثم فيما يأتي ، حيث إنها سوف تغدر به ، بعد أقل من سنة من هذا التاريخ ، وتضطره إلى دخول مكة على غير هذه الصورة ، وهو ما عرف بفتح مكة.

ثالثا : كانت قريش تعلم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين حققوا أعظم الانتصارات وأجلها في المنطقة بأسرها ، سواء على المشركين ، أم على اليهود ، ولا بد أن تتوقع منه التفكير فيما هو أبعد من ذلك.

فقد هالها أن تراه يفكر ويبادر إلى نشر هذا الدين فعلا في أرض الحبشة ، وكان النصر حليفه في ذلك ، وها هي تراه قد أرسل إلى جبابرة الأرض يطالبهم بالاستجابة لأمر الله تعالى ، والإيمان بنبوته.

هذا ، على رغم أن أعداد أنصاره كانت لا تزال قليلة ، وعدّتهم ضئيلة .. فكيف وقد تضاعف العدد ، وقويت العدة ، وأصبح المسلمون أسياد المنطقة بأسرها. وصار الكل يرهب جانبهم ، ويطمح إلى إنشاء علاقات طبيعية معهم؟!

رابعا : إذا ظهر أن هؤلاء الأقوياء لم تسلمهم قوتهم المتنامية ، ولا كثرة

١٧٣

عددهم إلى الغرور ، ولم تؤثّر انتصاراتهم في حقيقة ومستوى التزامهم بعهودهم ، وبشعاراتهم ، وبمبادئهم ، وقيمهم ، وبأحكام دينهم ، وأخلاقهم قيد شعرة.

فذلك من شأنه : أن يهزّ وجدان الكثيرين من الناس ، وأن يدعوهم إلى احترامهم ، وإلى الثقة بهم ، والسكون إلى كل ما يقولونه ويفعلونه ..

الحقد هو الحاكم ، وليس المنطق :

وبعد ، فقد ذكر النص المتقدم : أن كبراء قريش خرجوا من مكة ، حتى لا يروا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يطوف بالبيت هو وأصحابه ، حسدا ، وعداوة ، وبغضا له «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فإذا كان الكبراء والرؤساء تسيّرهم مشاعرهم ، ويتخذون مواقفهم انطلاقا من البغض ، والحسد والحقد ، لا من خلال التفكير والتروي ، ووزن الأمور بميزان العقل والحكمة ، فماذا نتوقع من عامة الناس يا ترى .. فهل تراهم سوف يتصرفون على عكس ما يجدونه من كبرائهم ورؤسائهم؟! خصوصا مع ما هو معروف من أن عامة الناس على دين ملوكهم ، ولهم يكون سعيهم ، وهم يبذلون غاية جهدهم في إجابة مطالبهم ، وتحقيق رغباتهم ومآربهم ..

ويذكرنا فعل هؤلاء ، وما نتوقعه من أولئك بقول الشاعر :

إذا كان رب البيت بالطبل ضاربا

فشيمة أهل البيت كلهم الرقص

١٧٤

ظهور الوهن في المهاجرين :

وبمجرد أن عرفت قريش بمسير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بدأت شائعاتها تلاحق المسلمين ، فقد ذكروا : أنه لما نزل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مرّ الظهران في عمرته ، بلغ أصحابه : أن قريشا تقول : ما يتباعثون من العجف.

فقال أصحابه : لو انتحرنا من ظهرنا ، فأكلنا من لحمه ، وحسونا من مرقه ، أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جمامة.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا تفعلوا ، ولكن اجمعوا إلي من أزوادكم.

فجمعوا له ، وبسطوا الأنطاع ، فأكلوا حتى تركوا ، وحشى كل واحد منهم في جرابه (١).

وقد تقدم : أن جمعا من المشركين حين نظروا إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأصحابه ، وهم يطوفون ، لفت نظرهم المهاجرون دون غيرهم ، رغم اختلاط الناس بعضهم ببعض ، ورغم قلة عدد المهاجرين بالقياس إلى ذلك العدد الكبير من غيرهم ، فقالوا : إن المهاجرين أوهنتهم حمى يثرب.

ويبقى هنا أمامنا سؤالان :

السؤال الأول هو : لماذا نسبوا ما يلاحظونه من تعب ووهن في المهاجرين إلى الحمى ، ولا ينسبونه إلى تعب السفر ومشقاته؟!

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ ص ٢٠٥ ومجمع الزوائد ج ٣ ص ٢٨٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٣١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩١ وج ٩ ص ٤٨٥ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٣٧.

١٧٥

والجواب : لعلهم أرادوا الإيحاء للضعفاء من الناس ولأنفسهم : بأن هذا الوهن كامن في عمق شخصية أولئك الأفراد ، وأنه ثابت ودائم فيهم ، وليس أمرا عارضا بسبب متاعب ومشقات السفر ، لكي يزول بمجرد الراحة والجمام.

والسؤال الثاني هو : لماذا خصوا كلامهم بالمهاجرين دون غيرهم؟!

ونجيب :

أولا : إن بعض الروايات قد ذكرت ذلك بصيغة تعم المهاجرين والأنصار ، وأنهم قالوا : يقدم عليكم قوم أوهنتهم حمى يثرب ..

ثانيا : لعل بعضهم خص الكلام بالمهاجرين ، وبعضهم أطلقه ليشمل غيرهم معهم.

ثالثا : إن وجود المهاجرين بين المسلمين يزيد في حسرة قريش ، وفي إحراجها أمام الناس العاديين ، الذين يرون أن لهم أقرباء في المسلمين ، فلماذا يقسون عليهم ، فلعل الأيام تعيد الأمور إلى مجاريها ، ويجتمع شملهم بهم؟!

فإذا أظهرت قريش : أن هؤلاء المهاجرين الأقارب لم يسعدوا بتركهم مكة ، بل واجهوا الأمراض ، وابتلوا بالوهن والضعف ، فذلك يقلل من درجة الحنين أو الميل إلى مشاركتهم في ما هم فيه. ما دام أن ثمن ذلك سيكون ضعفا ووهنا ..

أما الأنصار ، فقد كانوا قحطانيين ، ولا تربط أهل مكة العدنانيين بهم روابط عميقة ، ولا يجدون في أنفسهم ميلا للكون معهم ، ومشاركتهم في حلو الحياة ومرها ..

وأما المشركون الذين تحدثوا بصيغة التعميم لصفة الضعف والوهن حتى تشمل جميع من جاء مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلعلهم أرادوا أن

١٧٦

يصدوا الناس عن التفكير في المدينة من حيث هي منشأ للحمى الموجبة للضعف ، والوهن لكل من يسكن فيها!

إظهار القوة .. يبطل كيدهم :

وحين أطلع الله عزوجل نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على مقالتهم هذه ، طلب من أصحابه إظهار القوة ، وأطلق دعاءه بالرحمة لمن يفعل ذلك.

ولم يرد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يجسد هذه القوة في حركات تستبطن التحدي ، أو الادعاء القولي ، بل أراد تجسيدها بطريقة تظهر حقيقة وجودها بالفعل في واقع نفس كل واحد من أصحابه ، ولذلك قال لهم : «أراهم من نفسه قوة» ، أي أنه يريد أن يرى المشركون القوة نفسها في حركة الجسد ، لا أن يسمعهم ادعاءات وجودها.

واختار أن يجسدها في نفس ممارستهم العبادية ، فأمرهم بالرمل ـ وهو ضرب من المشي السريع ـ في الأشواط الثلاثة.

كما أن طريقة المشي هذه تستبطن ما يشبه الوثبة مع كل خطوة ، ولهذا تأثيره القوي في إعطاء الانطباع المطلوب.

وقد فاجأت حركات المسلمين هذه أهل الشرك ، فجاء الاعتراض القوي من قبل أولئك الذين أريد تضليلهم ، بادعاء تأثير حمى يثرب في وهن قوتهم ، وكان اعتراضا يستبطن تكذيب هذا الزعم.

فقالوا : «هؤلاء الذين زعمتم : أن الحمى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد من

١٧٧

كذا (أو أجلد منا) ، (أو ما يرضون بالمشي) أما إنهم لينفرون نفر الظبي» (١).

إجراء آخر لإظهار القوة :

وبعد هذا الاستعراض العملي ، جاء إجراء عملي آخر ، ليرسخ ذلك الانطباع الذي تركه الإجراء الأول ، من حيث إنه يريد أن يفهمهم : أن ما جرى في الطواف لم يكن أمرا عابرا ، فرضته مناورة ومكابرة ، بل هو يستند إلى مخزون حقيقي من القوة الكامنة في كيان أولئك الأفراد أنفسهم.

ويتلخص هذا الإجراء : في أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بادر إلى الاضطباع ، ثم الكشف عن عضده اليمنى. ففعل الصحابة كذلك ..

قالوا : وهذا أول رمل واضطباع في الإسلام (٢).

ونلاحظ هنا :

أولا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بادر هو نفسه لممارسة نفس الفعل الذي كان يفترض أن يأمر أصحابه به ، فاضطبع ، وأخرج يده.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٩٢ وعن مسند أحمد ج ٣ ص ٥٠٢ ومجمع الزوائد ج ٣ ص ٦٠٧ وراجع : المجموع ج ٨ ص ٤١ وتلخيص الحبير ج ٧ ص ٣٢٥ ومغني المحتاج ج ١ ص ٤٩٠ وإعانة الطالبين ج ٢ ص ٣٣٨ والمغني لابن قدامة ج ٣ ص ٣٨٧ وفقه السنة ج ١ ص ٧٠٢ عن مسند أحمد ج ١ ص ٢٩٥ وعن صحيح مسلم ج ٤ ص ٦٥ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٤٢١ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ٨٢ وتحفة الأحوذي ج ٣ ص ٥٠٤ ونصب الراية ج ٣ ص ١٢٤ وعن تفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١٧.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٣ وعن أسد الغابة ج ١ ص ٢٢.

١٧٨

ثانيا : لم يتضح لنا هل اضطبع «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قبل الطواف ، أو بعده؟!

ثالثا : إن أصحابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اقتدوا به ، من دون أن يحتاج إلى أن يأمرهم بذلك.

رابعا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما كشف عن عضد اليد اليمنى ، التي تتولى عادة القبض على مقابض السيوف والرماح ، وتورد الضربات المهلكة على الأعداء. ليترك ظهور عضلات هذه اليد بالذات أثرا في نفوس الأعداء.

وقد روي أن ابن عباس سئل ، فقيل له : يزعمون أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر بالرمل حول الكعبة.

فقال : كذبوا وصدقوا.

قلت : وكيف ذلك؟!

فقال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دخل مكة في عمرة القضاء وأهلها مشركون ، فبلغهم أن أصحاب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مجهودون ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «رحم الله امرء أراهم من نفسه جلدا».

فأمرهم ، فحسروا عن أعضادهم ، ورملوا بالبيت ثلاثة أشواط ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على ناقته ، وعبد الله بن رواحة آخذ بزمامها ، والمشركون بحيال الميزاب ينظرون إليهم.

ثم حج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد ذلك ، فلم يرمل ولم يأمرهم بذلك ، فصدقوا في ذلك ، وكذبوا في هذا (١).

__________________

(١) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٩ ص ٤٢٩ وراجع : الحدائق الناضرة ج ١٦ ص ١٢٨

١٧٩

خامسا : المروي عن أهل البيت «عليهم‌السلام» : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اكتفى بالرمل ، وبكشف عضده ، وأنه فعل ذلك في عمرة القضاء ، وقد حج بعد ذلك ، ولم يفعل ، ولم يأمر بشيء من ذلك (١).

سادسا : إن الاضطباع للمحرم عند أهل السنة : هو إدخال الرداء تحت الإبط الأيمن ، وتغطية الأيسر ، وبذلك يتم إظهار أحد ضبعيه.

والضبع : وسط العضد بلحمه.

وقيل : العضد كلها.

وقيل : الإبط (٢).

وفي جميع الأحوال نقول :

إن الذي فرض الاضطباع هو حالة خاصة ، عالجها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذه الطريقة ، فيبقى الأمر مرهونا بها ، ولا مجال لإحراز بقاء

__________________

ورياض المسائل (ط جديد) ج ٧ ص ٤١ وجواهر الكلام ج ١٩ ص ٣٥١ ومستدرك الوسائل ج ٩ ص ٣٩٤ والبحار ج ٩٣ ص ٣٥٣ وراجع صحيح ابن حبان ج ٩ ص ١٥١.

(١) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٩ ص ٤٢٨ و ٤٢٩ وفي هامشه : من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١٣٥ ، وعن فقه الرضا ص ٢٣ وراجع : علل الشرائع ج ٢ ص ٤١٢ و ٤١٣ وعن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٢٧٩ وعن تهذيب الأحكام ج ١ ص ٤٧٧ وراجع : الحدائق الناضرة ج ١٦ ص ١٢٨ ورياض المسائل (ط جديد) ج ٧ ص ٤١ وجواهر الكلام ج ١٩ ص ٣٥١ ومستدرك الوسائل ج ٩ ص ٣٩٤ والبحار ج ٩٣ ص ٣٥٣.

(٢) راجع : مادة ضبع في كتب اللغة ، مثل أقرب الموارد ج ١ ص ٦٧٦ وكتاب العين ج ١ ص ٢٨٤ ولسان العرب ج ٨ ص ٢١٦.

١٨٠