الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-191-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٠

كما أنه غدر بمالك بن نويرة ، وقتله ، ثم عرّس بامرأته في ليلة قتله (١).

ثم قتل رجلين مسلمين في غارته على مضيّح ، وهما : عبد العزى بن أبي رهم ، ولبيد بن جرير (٢).

ولكن وعكل هذه المخازي التي ارتكبها خالد ، فإنه كان أقل ضررا على الإسلام من عمرو بن العاص ، من حيث إنه كان له محيطه الخاص ، ويمكن لجم جماحه ، وإخضاعه ووضعه في دائرة السيطرة وليس كذلك عمرو بن العاص.

٣ ـ ولو سلم أنه قد كتب ذلك لخالد ، فلا بد أن يكون هذا التلويح النبوي لخالد بأنه سوف يقدّمه إذا أسلم قد أذكى الطموح لديه ، ورجح له الانحياز إلى المسلمين.

__________________

ص ٣٥٩ وعن السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٩٣ ومعجم ما استعجم ج ٣ ص ١٠٠٥.

(١) قاموس الرجال ج ٤ ص ١٤٦ و ١٤٧ عن تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٧٨ و ٢٧٩ والغدير ج ٧ ص ١٥٩ وراجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٠٤ ـ ٢٠٦ والنص والإجتهاد ص ١١٩ و ١٢٣ وعن أسد الغابة ج ٤ ص ٢٩٥ و ٢٩٦ ومعجم البلدان ج ١ ص ٤٥٥ وعن البداية والنهاية ج ٦ ص ٣٥٤ و ٣٥٥ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٧٣ والبحار ج ٣٠ ص ٤٧٦ و ٤٧٧ و ٤٩١ و ٤٩٣ والثقات ج ٢ ص ١٦٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٧٤ وعن الإصابة ج ٢ ص ٢١٨ وج ٥ ص ٥٦٠ و ٥٦١ والإستغاثة ج ٢ ص ٦ والكنى والألقاب ج ١ ص ٤٢ و ٤٣ وبيت الأحزان ص ١٠٤.

(٢) تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٨٠ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٣٨٧.

٢٤١

وتكون نتيجة هذا وذاك أن إسلام خالد لم يكن عن قناعة تكونت لديه بصحة هذا الدين ، وإنما أسلم طمعا بالتقديم ، بعد اليأس من الظفر بشيء عن طريق الحرب .. تماما كما كان الحال بالنسبة لعمرو بن العاص.

ولكن الملاحظ هنا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ميّز خالدا عن عمرو بن العاص. ولعله لأجل ما قدمناه من شدة خطورة الثاني بالنسبة للأول ..

٤ ـ إن ظهور النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على العرب والعجم ، قد أضاف عنصرا آخر ، فرض نفسه على تفكير هؤلاء الطامعين ، والطامحين ، كما دل عليه كلام خالد مع صفوان بن أمية .. فإنهم يقيسون الأمور بمقاييس الأحجام والأوزان ، وكانت تبهرهم العناوين الكبيرة ، وتهيمن الكثرات على تفكيرهم ، ومن ثم على مسيرهم ومصيرهم. مية

٥ ـ إن الرغبة في الحصول على المواقع الدنيوية ، ونيل مقامات ومراتب الأبهة والشرف من أهل الشرف ، قد أذكت الرغبة لديهم بهذا الشرف الدنيوي ، وفق مفهومهم ونظرتهم ، لكي يلونوه بالألوان التي تروق لهم.

٦ ـ إنه على تقدير صحة هذه الرسالة ، فإن ما يثير دهشتنا : هو أن النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جعل تقديمه لخالد مرهونا بنكاية خالد في المشركين على وجه التحديد ، مع أنه كان لا يزال على شركه ، وهذا العرض ليس فقط لم يزعج هذا الرجل المشرك ، بل هو قد شجعه على الإقدام على الدخول في الإسلام ، وكان على استعداد لأن يمارس هذه الكناية فعلا ، مقابل هذا التقديم ..

وهذا إعلان صريح للأجيال بأن هؤلاء الناس ليس لهم دين ، ولا

٢٤٢

معبود إلا أنفسهم ، ولا يفكرون إلا بمصالحهم ، وأن إسلامهم الظاهري هذا قد لا يغيّر شيئا من دخائلهم ، وإن كان يجب قبوله منهم ، ومعاملتهم على أساسه في الظاهر.

والحديث عن هذا يستبطن تشجيع حركة النفاق داخل المجتمع الإسلامي .. غير دقيق ، وتحدثنا عن ذلك حين الحديث عن فتح وادي القرى فراجع ..

٧ ـ إن ما قاله خالد لعثمان بن طلحة : «إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر ، لو صب فيه ذنوب ماء لخرج» ، كان تقييما دقيقا لحقيقة ما انتهى إليه واقع قريش ومشركي مكة ، فقد أصبحوا محصورين في داخل بلدهم ، بل لقد دخل الإسلام كل بيت ، وشاع في كل قبيلة حتى في مكة نفسها ، ولم يعد لقريش أي ملاذ تأوي إليه ، أو تراوغ فيه ، سوى هذا الموقع الذي هو مكة ، بحيث لو خرجت منها ، لوجدت نفسها في العراء أمام قانصها ، الذي كان بانتظارها ليواجهها بمصيرها الذي استحقته بما كسبته يداها.

وهذا المنطق قد فرض نفسه على عثمان بن طلحة ، وعلى خالد ، وعلى عمرو بن العاص وعلى غيرهم.

الإسلام الصادق عليه‌السلام :

إن طريقة اعتراف خالد لعمرو بن العاص بما يفكر فيه ، وقوله : «فحتى متى»؟! تدل على أنهم كانوا يعلمون بنبوة رسول قبل مدة ، ولكنهم كانوا يسوّفون ويماطلون في الاعتراف بهذا الأمر .. وذلك وفقا لما أخبر الله تعالى

٢٤٣

به عنهم حين قال : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١).

وهذا الأمر بالذات يجعلنا لا نثق بصدقهم في دعواهم الإسلام والإيمان ، فإن من يكتم الحق ، ويرفض الإعتراف به دهرا ، من أجل مكاسب دنيوية ، لا يتورع عن أن يظهر القبول والاعتراف به ، طمعا في مكاسب دنيوية أيضا ..

ولأجل ذلك .. نقول :

إننا وإن كنا نلتزم بوجوب معاملة هؤلاء وفق ما يفرضه الشرع الحنيف من أحكام لمظهري الإسلام ، لكننا لا بد أن نبقى على حذر منهم ، وأن لا نخدع بظاهر حالهم ، حتى تثبت لنا تضحياتهم ، وممارساتهم ، أن باطنهم يتوافق مع ظاهرهم .. وأن ما أضمروه موافق لما أظهروه.

الإسلام يجبّ ما قبله :

وذكرت الروايات المتقدمة : أن عمرو بن العاص طلب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يدعو الله أن يغفر له ما كان قد فعله في حربه على الإسلام ، قبل أن يسلم.

وفي نص آخر : بايعه على أن يغفر له ما تقدم من ذنوبه ..

فأجابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : بأن الإسلام يجبّ ما كان قبله.

والذي يستوقفنا هنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يستجب لطلب عمرو بن العاص ، ولم يستغفر الله له .. بل جعل الأمر مرهونا بصدقه في إسلامه ، فإن كان صادقا فيه ، فنفس هذا الإسلام هو الذي يرفع ويزيل آثار أفاعيله السابقة ، وتكون النتيجة هي : أننا لا نستطيع الجزم بأن ابن العاص قد

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة النمل.

٢٤٤

تخلص من تلك الآثار ، إلا إذا تيقنا بصدقه في دعواه الإسلام.

ومن الواضح : أن زوال الآثار إنما يبدأ من لحظة تكوّن هذا الإسلام الحقيقي ، الذي قد يتأخر ، بل ربما لا يحصل أصلا ، ويبقى مجرد ادّعاء ، ليس وراءه قناعة ولا قبول.

ولو أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعا أو استغفر لعمرو لزالت آثار تلك العظائم حتما وجزما ، في أي حال يكون ابن العاص عليها ، أي سواء أكان صادقا في دعواه الإسلام ، أم غير صادق.

ثم يبدأ حسابه على أعماله من لحظة دعائه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له ..

عمر كالعاتب على خالد!! :

وذكر النص المتقدم : أن عمر بن الخطاب كان كالعاتب على خالد ، ولكنه لم يبين لنا مبررات هذا العتب ..

فإن خالدا لم يقترف ذنبا حين قد مر إلى المدينة وأعلن اسلامه ، إلا إذا كان عتبه عليه من أجل ما فعله ببني جذيمة (١) ، حين أرسله النبي «صلى الله

__________________

(١) علل الشرايع (ط النجف) ص ٤٧٤ والبحار ج ٢١ ص ١٤٢ وج ١٠١ ص ٤٢٤ والأمالي للصدوق ص ٢٣٧ و ٢٣٨ وأمالي الطوسي ص ٤٩٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٠٣ ومسند أحمد ج ٢ ص ١٥١ وسنن النسائي ج ٨ ص ٢٢٧ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٥٥ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٧٠ و ٧١ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٤٥ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ٢٠٣ وج ٤ ص ١٢٢ وج ٨ ص ٩٢ وج ٩ ص ٩١ وعن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٢٢ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٦٦ ومستدرك الوسائل ج ١٨ ص ٣٦٦.

٢٤٥

عليه وآله» إليهم داعيا ، لا مقاتلا؟! أم أنه كان عاتبا عليه لأجل قتله مالك بن نويرة ، ووطئه زوجته في ليلة قتله؟! (١).

أو لعل السبب في ذلك هو : أنه كان قد اصطرع مع خالد بن الوليد ، وهما غلامان. وكان خالد ابن خال عمر ، فكسر خالد ساق عمر ، فعرجت ، وجبرت ، فكان ذلك سبب العداوة بينهما (٢).

إننا نرجح هذا السبب الأخير ، إذ لم نجد من عمر أية ردة فعل تجاه ما جرى لبني جذيمة ، فإنه لم يسحب سيفه ليقول : دعني أقتله يا رسول الله ، كما تعودناه منه في الكثير من المناسبات.

كما لم نجده يسعى في معاقبته بعد توليه الخلافة على جريمة الزنى بزوجة مالك بن نويرة في ليلة قتله لرجل مسلم ، ولا على قتله امرءا مسلما بصورة غادرة ، وغير شريفة ، بل هو قد استعان به ، وأظهر الحزن عليه حين وفاته ، وأعرب عن رغبته في بكاء الناس عليه (٣). رغم أنه كان يمنع غيره من ذلك.

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٣ ص ٤٩١ عن الطبري ، والصراط المستقيم ج ٢ ص ٢٧٩ والغدير ج ٧ ص ١٥٨ و ١٩٦ والبحار ج ٣٠ ص ٣٥١ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٥٠٣ و ٥٠٤.

(٢) كنز العمال ج ١٣ ص ٣٦٩ عن ابن عساكر ، والبداية والنهاية ج ٧ ص ١٣١ والغدير ج ٦ ص ٢٧٤ عن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٢٠ وجامع الأحاديث والمراسيل ج ١٩ ص ٢٥٣ و ٣٩٨ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٦٧.

(٣) الإصابة ج ١ ص ٤١٥ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ٤١٠ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٦٩ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٣٦٧.

٢٤٦

دعاوى عريضة لعمرو بن العاص :

وأما ما ادّعاه عمرو بن العاص : من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يعدل به وبخالد بن الوليد أحدا من الصحابة ، في أمر حربه منذ أسلما ، وأنه من حين أسلم خالد ، لم يزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوليه أعنة الخيل (١).

فهو محض افتراء ، تكذبه جميع الشواهد والدلائل التاريخية ..

فإن عليا «عليه‌السلام» كان صاحب لواء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وحامل رايته في كل مشهد ، باستثناء تبوك ، التي لم تكن فيها رايته ولواؤه ، لا لعمرو بن العاص ، ولا لخالد بن الوليد.

وكذلك الحال في سائر الغزوات التي شهدها هذان الرجلان ، كغزوة حنين ؛ فقد كان خالد في ضمن مجموعة المقدمة (٢) ، وفي فتح مكة ، والطائف ، كان سهم عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد فيها لا يكاد يذكر ، باستثناء مشاركة خالد في بعض المجموعات القتالية في فتح مكة من دون إعطائه أية مهمات خاصة ، أو متميزة.

وحين تعدى خالد طوره فيها سعى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى رأب الصدع ، وإعادة الأمور إلى نصابها.

__________________

(١) راجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ٣٤٣ والإصابة ج ١ ص والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ١ ص ٤٠٧ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٦ وعن أسد الغابة ج ٢ ص ٩٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٨ ص ٣٠٦ وراجع : الأعلام للزركلي ج ٢ ص ٣٠٠ وتهذيب الأسماء واللغات (١٤٢) ترجمة خالد بن الوليد ، والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٧٥٥.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٦.

٢٤٧

وأما السرايا التي أرسلها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد إسلام هذين الرجلين ، فكان أكثرها بقيادة أناس آخرين أيضا.

وقد ورد ذكر خالد في سرية إلى بني جذيمة ، ولكنها لم تكن سرية قتال ، بل كانت سرية دعوة ، تعدى فيها خالد حدود الأوامر النبوية ، فأوقع بهم ، لأنهم كانوا قد قتلوا عمه الفاكه بن المغيرة في الجاهلية (١).

وهذا ما دعا النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى التبرؤ مما صنعه خالد ، ثم بادر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى تكليف علي «عليه‌السلام» بمعالجة الفتق الذي أحدثه هذا الرجل (٢).

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٣ ص ٤٨٩ و ٤٩٠ عن الطبري ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٤٢ وفيه : أن خالدا اعترف بأن هذا هو السبب فيما فعله بهم ، والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ١٧ والمسترشد ص ٣٨٥ و ٤٩٢ والنص والإجتهاد ص ٤٦٠ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٣٩ والبحار ج ٢١ ص ١٣٩ و ١٤٠ و ١٤٨ وعن أسد الغابة ج ٣ ص ٣١٦ والمنمق لابن حبيب ص ٢١٧ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦١ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣٥٩ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٨٤ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ٢١١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٩٣ و ٥٩٤ وجامع الأحاديث والمراسيل ج ١٩ ص ٣٩٥ و ٥٣٦ وكنز العمال ج ١٣ ص ٢٢٣ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٣٤ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٣٧٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠٢.

(٢) قاموس الرجال ج ٣ ص ٤٩٠ عن الطبري ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٤٢ ، والمعارف (ط سنة ١٣٩٠ ه‍) ص ١١٦ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ١ ص ٤٠٧ وعن البداية والنهاية ج ٦ ص ٣٥٥ والمبسوط للسرخسي ج ١٣ ص ٩٢ وج ٢٠ ص ١٤٣ والمحلى ج ٨ ص ١٦٦ والمسترشد ص ٤٩١ ـ ٤٩٣ وشرح

٢٤٨

وقد ذكر اسم خالد أيضا في ضمن من نفّر برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليلة العقبة (١).

وذكروا أيضا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسله لهدم العزى ، ولا يصح عدّ هذه المهمة من المهمات القتالية ..

أما ما زعموه : من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسله إلى أكيدر ، فهناك أيضا شكوك تحوم حول صحة كثير مما يقال فيه ، كما سيأتي بيانه.

وأما عمرو بن العاص فقد ورد : أنه كلّف بمهمة هدم سواع .. ولا يصح عد هذه المهمة في جملة المهمات القتالية أيضا ..

وذكر أيضا : أنه أرسله أميرا لسرية ذات السلاسل التي ظهر فيها فشله الذريع ، وكان النصر المؤزر فيها لعلي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وقد سعى عمرو بن العاص نفسه إلى إفشال مهمة علي «عليه‌السلام» فخاب سعيه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

__________________

الأخبار ج ١ ص ٣٠٩ و ٣١٠ والبحار ج ٢١ ص ١٤٢ و ١٤٣ وج ٣١ ص ٣٣٠ والنص والإجتهاد ص ٤٦٠ و ٤٦١ والفايق في غريب الحديث ج ٣ ص ٣٧٩ وعن تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٥٤٨ وعن أسد الغابة ج ٢ ص ٩٤ والمحبر ص ١٢٤ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣٥٨ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٨٤ وكشف الغمة ج ١ ص ٢٢٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠١ وغريب الحديث ج ١ ص ٣٧٢ والنهاية في غريب الحديث ج ٢ ص ٢٧٧ وج ٥ ص ٢٢٦ ولسان العرب ج ٨ ص ١٣٥ و ٤٦٠ وتاج العروس ج ٦ ص ٢٦.

(١) الخصال ج ٢ ص ٢٩٩ والبحار ج ٢١ ص ٢٢٢ و ٢٢٣ وج ٣١ ص ٦٣٢ و ٦٣٣ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٦٠٢ و ٦٠٣ وكتاب سليم بن قيس ص ١٥٥.

٢٤٩

إسلام ابن العاص على يد النجاشي!!

وهناك من زعم : أن ابن العاص أسلم على يد النجاشي ، وذلك حين ذهب إليه مع رجال قومه بعد الحديبية ، فطلب من النجاشي أن يعطيه عمرو بن أمية الضمري ليضرب عنقه ، وكان قد جاءه بكتاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليزوجه بأم حبيبة ، فلما طلبه منه ، ضربه النجاشي على أنفه ، فابتدر دما ، فأسلم عمرو حينئذ على يد النجاشي ، وبايعه على الإسلام ، وعاد إلى بلاده ، فلما بلغ الظهران ، التقى بخالد ، وعثمان بن طلحة ، فترافقوا إلى المدينة ، حسبما تقدم (١).

ولذلك قيل : إن هذا معناه : أن صحابيا قد أسلم على يد تابعي ، ولا يعرف مثله.

ونقول :

١ ـ إن عمرو بن العاص لم يذكر لنا اسم أي واحد من الذين ذهبوا معه إلى النجاشي ، وهم من قومه ، وقد تركهم هناك ، وانسل راجعا إلى بلاده.

__________________

(١) راجع : الإصابة ج ٣ ص ٢ عن الزبير بن بكار ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٤٢ ـ ٧٥٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٣٦ و ٢٣٧ و ٢٣٨ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٦ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٣٩٧ و ٣٩٨ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ١ ص ٥٦٩ و ٥٧٠ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٤٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٧١ و ٢٧٢ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٥١ وكنز العمال ج ١٣ ص ٣٦٩ و ٣٧٠ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٢٦ وج ٤٦ ص ١٢٢ و ١٢٣ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣١٤ وعن مسند أحمد ج ٥ ص ٢٢٢ وجامع الأحاديث والمراسيل ج ١٩ ص ٣٩٨.

٢٥٠

مع أنه لم يكن هناك أي داع لأن ينسل من بينهم ، فلماذا لا يخبرهم بما جرى له مع النجاشي؟ فلعلهم يوافقونه الرأي ويختارون الإسلام أيضا ، خصوصا مع كونهم ـ كما ذكر ابن العاص نفسه ـ من قومه ، وممن يرون رأيه ، ويسمعون كلامه ، ويقدمونه فيما نابهم.

وكيف وثق بخالد ، وبعثمان بن طلحة ، ولم يثق بهؤلاء الذين يصفهم بهذه الأوصاف؟!

٢ ـ إن هذه الرواية لم يروها ـ فيما نعلم ـ سوى عمرو بن العاص نفسه ، وهو متهم فيما يقول عن نفسه.

٣ ـ لماذا لم يتصل بجعفر بن أبي طالب ، وسائر المهاجرين المسلمين ، ويبشرهم بإسلامه ، ويكون معهم وإلى جانبهم؟!

٤ ـ لماذا لم يخبر عثمان بن طلحة وخالد بن الوليد بإسلامه على يد النجاشي؟! بل ادّعى لهم : أنه يريد أن يذهب إلى المدينة ليسلم على يد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

٥ ـ إن ما جرى بين عمرو وبين النجاشي لم يحمل في طياته أي سبب لإسلام عمرو ، بل ربما يقال : إن الأوفق بمسار الأمور هو : أن يزيد حقده على الإسلام ، ويتأكد صدوده عنه ، وأن يبذل المزيد من الجهد في الكيد له ولأهله ..

لقد كان ما فعله النجاشي عبارة عن تسديد لطمة لعمرو ، من شأنها أن تدفعه للانتقام من أهل الإسلام ، واعتبارهم السبب في بلائه ، وفي تحطيم عنفوانه ، وكبريائه ، وليس لهذه الضربة أي أثر في دفع الشبهات ، أو في إيضاح الحقائق ، أو في تليين القلوب للحق.

٢٥١

إسلام خزاعة وكتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لها :

قالوا : ولما انصرف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الحديبية ، لم يبق أحد من خزاعة إلا مسلم مصدق بمحمد ، قد أتوا بالإسلام ، وهو في من حوله قليل. وأسلم قوم من العرب كثير ، ومنهم من هو بعد مقيم على شركه.

إلى أن قدم علقمة بن علاثة ، وابنا هوذة ، وهاجروا ؛ فكتب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى خزاعة في جمادى الآخرة سنة ثمان الرسالة التالية :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى بديل ، وبشر ، وسروات بني عمرو.

سلام عليكم ، فإني أحمد الله إليكم ، الله لا إله إلا هو.

أما بعد ..

فإني لم آثم بإلّكم. ولم أضع في جنبكم. وإن أكرم تهامة عليّ أنتم وأقربهم رحما أنتم ، ومن تبعكم من المطيبين. فإني قد أخذت لمن قد هاجر منكم مثل ما أخذت لنفسي ـ ولو هاجر بأرضه ـ غير ساكن مكة إلا معتمرا ، أو حاجا.

وإني لم أضع فيكم إذ سالمت ، وإنكم غير خائفين من قبلي ، ولا محصورين.

أما بعد .. فإنه قد أسلم علقمة بن علاثة وابناه. وتابعا ، وهاجرا على من تبعهما من عكرمة.

أخذت لمن تبعني فيكم ما آخذ لنفسي ، وإن بعضنا من بعض أبدا في

٢٥٢

الحل والحرم. وإنني ـ والله ـ ما كذبتكم. وليحبكم ربكم (١).

وقد أورد العلامة المتتبع الشيخ علي الأحمدي «رحمه‌الله» هذا النص بصوره المختلفة عن الأموال ، وطبقات ابن سعد ، والطبراني ، وشرح

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٤٩ و ٧٥٠.

ونقله في مكاتيب الرسول ج ٣ ص ١٢٦ عن : الأموال لأبي عبيد ص ٢٠١ وفي (ط أخرى) ص ٢٨٨ والطبقات الكبرى (ط ليدن) ج ٢ ق ١ ص ٢٥ وفي (ط دار صادر) ج ١ ص ٢٧٢ وأسد الغابة ج ١ ص ١٧٠ في ترجمة بديل ، ورسالات نبوية ص ٩٦ (عن ابن حجر والطبراني) وابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٤٨٦ وكنز العمال ج ٤ ص ٢٧٦ (عن ابن سعد ، والباوردي ، والفاكهي في أخبار مكة ، والطبراني ، وأبي نعيم) وص ٣١٠ (عن ابن أبي شيبة).

وراجع : والمعجم الكبير للطبراني ج ٢ ص ١٥ بسندين ، ومدينة البلاغة ج ٢ ص ٣١٥ والأموال لابن زنجويه ج ٢ ص ٤٦٤ وأعيان الشيعة ج ٣ ص ٥٥٠ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ١٧٢ و ١٧٣ ومجموعة الوثائق السياسة ٢٧٥ و ٢٧٦ / ١٧٢ (عن جمع ممن تقدم وعن) وسيلة المتعبدين ج ٨ ص ٢٨ / ألف ، ثم قال : قابل ابن عبد ربه ج ٢ ص ٧٦ والإستيعاب ، وانظر : كايتاني ج ٨ ص ٢١ واشبرنكر ج ٣ ص ٤٠٤ واشبربر ص ٢٠.

ثم قال العلامة الأحمدي : وأوعز إليه كنز العمال ج ١ ص ٢٧٣ وجمهرة النسب لهشام الكلبي ص ٣٦٥ والإصابة ج ١ ص ١٤٩ و ٦٤٦ في ترجمة بسر عن أبي شيبة ، والطبراني ، والفاكهي وص ١٤١ / ٦٤١ وص ٣٢١ في حرملة ، وج ٢ ص ٥٠٤ والإستيعاب ج ١ ص ١٦٦ في بديل ، وص ٤١١ في خالد بن هوذة ، ورسالات نبوية ص ١٧ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٩٨ وج ٢ ص ٩٧ وراجع : ثقات ابن حبان ج ٢ ص ٣٦ والإشتقاق ص ٤٧٦ والمفصل ج ٦ ص ٤٢٣ وج ٤ ص ١٥ و ٣٦٧.

٢٥٣

ألفاظه ، فراجع (١).

ونقول :

إن لنا مع هذا الكتاب وقفات عديدة ، نقتصر منها على ما يلي :

من هو كاتب الكتاب؟!

يلاحظ : أن أكثر المصادر لم تذكر من الذي تولى كتابة هذا الكتاب ، لكن ابن الأثير قال : كان الكتاب بخط علي بن أبي طالب. أخرجه الثلاثة (٢).

وفي رسالات نبوية : وإن الكتاب بيد علي بن أبي طالب.

ونقل الطبراني ، قال : قال أبو محمد : وحدثني أبي قال : سمعت يقولون : هو خط علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» (٣).

رسالتان .. أم رسالة واحدة؟!

وإن إلقاء نظرة على الرسالة المتقدمة تثير أمام الباحث احتمال أن تكون عبارة عن رسالتين ، إذ لم يعهد في المكاتبات تكرار كلمة «أما بعد ..» في الرسالة الواحدة.

__________________

(١) مكاتيب الرسول ج ٣ ص ١٢٥ ـ ١٣٧.

(٢) مكاتيب الرسول ج ٣ ص ١٣٧ عن المعجم الكبير ج ٢ ص ١٥ ومدينة البلاغة ج ٢ ص ٣١٥ وراجع : مجمع الزوائد ج ٨ ص ١٧٣ وعن أسد الغابة ج ١ ص ١٩٧ وعن الإصابة ج ١ ص ٤١٠.

(٣) مكاتيب الرسول ج ٣ ص ١٣٧ والمعجم الكبير ج ٢ ص ٣٠ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ١٧٣.

٢٥٤

ويؤيد ذلك : التكرار لأمر واحد في الفقرة الأولى ، ثم في الثانية ، فقد قال :

أولا : «فإني قد أخذت لمن قد هاجر منكم ، مثلما أخذت لنفسي».

ثم قال ثانيا : «فقد أخذت لمن تبعني منكم ما آخذ لنفسي».

بل في رواية ابن سعد : وردت كلمة «أما بعد» ثلاث مرات في الرسالة المذكورة .. فلماذا كان ذلك يا ترى؟!.

ويدل على ذلك أيضا : أن الواقدي يصرح : بأن هذه الرسالة قد كتبت في جمادى الآخرة سنة ثمان ..

مع أن الفقرة الأخيرة من الرسالة ـ حسب نص الطبراني ، ورواية ابن سعد ـ صرحت : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذكر لهم : أن علقمة بن علاثة ، وابنا هوذة قد أسلما ، وبايعا ، وهاجرا.

وصرحت رواية الواقدي : بأنهما قدما على رسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهاجرا.

ومن الواضح : أن العداء (كعطاء) بن خالد بن هوذة ، من بني عمرو بن ربيعة ، من بني عكرمة بن خصفة ، كان من المؤلفة قلوبهم ، وهو إنما أسلم بعد حنين ، مع أبيه ، وأخيه حرملة (١).

وذكرت بعض الروايات : أن حرملة هو عمه.

__________________

(١) راجع : الإصابة ج ٢ ص ٤٦٦ وج ١ ص ٣٢١ والإستيعاب ج ٢ ص ١٦١ وج ١ ص ٣٦١ والجمهرة للكلبي ص ٣٦٥ ، وأسد الغابة ج ١ ص ٣٩٨ وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص ٢٨١ وإكمال الكمال ج ٣ ص ٢٦٤ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٣٣٨ و ٦٠٩.

٢٥٥

وهذا يدل على : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتب إلى خزاعة يبشرهم بإسلام هؤلاء بعد حرب حنين.

فكيف تكون الرسالة قد كتبت في سنة ثمان؟

اشتباه ابن سعد :

وزعم ابن سعد : «أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكتب فيها السلام ، لأنه كتب بها إليهم قبل أن ينزل عليه‌السلام» (١).

وهو كلام غير دقيق :

فأولا : لأن رواية الواقدي ـ وما أقرب ابن سعد إليه ، فإنه كاتبه ، وراوي أخباره ـ قد جاء فيها قوله : «السلام عليكم» ، فراجع نسخة المغازي.

ثانيا : قد ورد في العديد من السور المكية ذكر السلام ، أو الأمر به ؛ فقال تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (٢).

وقال : (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (٣).

وقال : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٤).

وقال : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٥).

__________________

(١) الطبقات الكبرى (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ٢٥ وفي (ط دار صادر) ج ١ ص ٢٧٢ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٤١ ص ١٤٥ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ١٢٩.

(٢) الآية ٥٤ من سورة الأنعام.

(٣) الآية ٤٦ من سورة الأعراف.

(٤) الآية ١٠ من سورة يونس ، وراجع الآية ١٢ من سورة إبراهيم.

(٥) الآية ٢٤ من سورة الرعد.

٢٥٦

وقال : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) (١).

والآيات في ذلك كثيرة.

علاقة مودة ورحمة :

وبعد .. فإن هذا الكتاب الشريف الطافح بالمودة ، والعطف ، والناضح بالحنان ، والرقة ، قد أظهر ما كان يكنّه خاتم الأنبياء ، وسيد المرسلين «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهؤلاء الناس الأوفياء ، من محبة واحترام وتقدير ، وهو خير دليل على طبيعة العلاقة التي يريدها الله تعالى لها أن تقوم بين الأنبياء «عليهم‌السلام» وبين قومهم ، وأنها لا بد أن تتجاوز حدود الطاعة والانقياد من جانب الرعية ، وأنها أكثر من مجرد علاقة تدبير ورعاية ، ودلالة وهداية من جانب الأنبياء أنفسهم «عليهم‌السلام» ..

إنه تعالى يريدها علاقة حب تصل إلى حد الانصهار لهم في شخص رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. كما قال تعالى :

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢).

كما أنها لا تقل عن هذا المستوى في جانب شخص الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تجاه رعيته ، حيث كانت تذهب نفسه حسرات حتى على الذين

__________________

(١) الآية ٦٩ من سورة هود.

(٢) الآية ٢٤ من سورة التوبة.

٢٥٧

لا يزالون يقاتلونه فكيف تكون حاله تجاه المؤمنين؟! وذلك على قاعدة :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١).

وقوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٢).

وقوله سبحانه : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) (٣).

امتاز الحليف على الرئيس :

وسجل الرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذه الرسالة المباركة ، حقيقة هامة جدا ، وهي أنه أخذ لمن هاجر من حلفائه من بني خزاعة مثل ما أخذ لنفسه.

ثم ألحق بمن هاجر ، أولئك الذين لزموا أراضيهم ، ولم يسكنوا مكة ، ولا يدخلونها إلا للحج أو للعمرة ..

وقد تجاوز هذا حدود الإنصاف والعدل ، ليكون هو منتهى التفضل ، إذ لم نعهد في تاريخ الأحلاف سوى الالتزام بما يقع التحالف عليه ، مثل نصرة الحليف حين مهاجمة عدو ، أو نحو ذلك ..

ولم نسمع أن حليفا منح حليفه نفس الحقوق والامتيازات التي يعطيها لنفسه ، كيف ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تجاوز ذلك هنا؟! فأعطى

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة التوبة.

(٢) الآية ٦ من سورة الكهف.

(٣) الآية ٨ من سورة فاطر.

٢٥٨

من أقام بأرضه ، ولم يهاجر منها ـ إذا كان لا يسكن مكة ـ مثل ما أعطى للمهاجر الذي ترك أرضه ، ووطنه ، وماله ، وقومه ، وعشيرته ، وأقاربه!!

أي أنه جعل عدم سكنى مكة ، والبقاء في الأرض بمنزلة الهجرة ، من حيث الثواب ، ومن حيث إن سائر الامتيازات التي تعطى للمهاجر ، تعطى لهذا المقيم!!

الحلم والتأني :

ثم هو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعيد التنصيص على التزامه بعهده معهم ، ويؤكد لهم الأمان من قبله ، وأنه لا يخون عهدهم ، ثم هو يعدهم بأن لا يسرع في مجازاتهم بالسوء ، لو صدر منهم ما يوجب ذلك ، بل سيعاملهم بالحلم والتأني ، ولذلك قال لهم : إني لم أضع فيكم (أي لم أسرع) إذ سالمت ، وأنكم غير خائفين من قبلي ، ولا محصورين (أو لا مخفورين) ..

وبذلك يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بلغ الغاية ، وأوفى على النهاية في حسن تعامله مع حلفائه. وأعطاهم ما لم يعطه حتى لنفسه ، ولا صرح بأنه أعطاه لمن معه من الأصحاب ، ومن الأهل والعشيرة ..

سرية غالب بن عبد الله إلى الكديد :

وفي شهر صفر سنة ثمان بعث «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غالب بن عبد الله الليثي في سرية ، تتألف من بضعة عشر رجلا ، للإغارة على بني الملوح بالكديد. فلما وصلوا إلى قديد لقيهم الحارث بن مالك بن البرصاء ، فأخذوه ، فقال : إنما جئت أريد الإسلام.

فقالوا : لا يضرك رباط ليلة إن كنت تريد الإسلام ، وإن يكن غير ذلك

٢٥٩

نستوثق منك.

فأوثقوه ، وخلفوا عليه رجلا منهم ، وقالوا له : إن نازعك فاحتز رأسه.

ثم ساروا حتى أتوا الكديد ، فكمنوا هناك ، وأرسلوا جندب بن مكيث الجهني ليستطلع لهم ، فأتى إلى تل مشرف على بيوت أولئك القوم ، فانبطح على رأس التل.

فرأى رجل منهم سوادا هناك ، فشك في أمره ، فرماه بسهمين فما أخطأه ، فانتزعهما جندب من جسده.

ثم لما اطمأن ذلك الحي ، وهدأوا شنوا عليهم الغارة ، فقتلوا المقاتلة ، وسبوا الذرية ، واستاقوا النعم ، والشاء ، وخرجوا بها إلى المدينة ، فمروا بابن البرصاء فاحتملوه ..

وخرج صريخ القوم ، فجاءهم ما لا قبل لهم به ، وكان الوادي بينهم ، وإذ بالوادي قد امتلأ جنباه بالماء ، بحيث لا يستطيع أحد أن يجوزه ، ولم يكونوا رأوا قبل ذلك سحابا ومطرا ، ففاتوهم ، وغزوا المدينة (١).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٥٠ ـ ٧٥٢ وروي أيضا عن ابن إسحاق ، والإصابة ج ٣ ص ١٨٤ عن مسند أحمد ، عن مسلم بن عبد الله الجهني ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٦٧ والبحار ج ٢١ ص ٤٩ عن الكامل في التاريخ ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٨ و ١٨٩ وراجع : الآحاد والمثاني ج ٥ ص ٥٥ و ٥٦ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣١١ و ٣١٢ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٥٣ و ٢٥٤ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٢٨ و ١٠٢٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٢٠ و ٤٢١ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٣٧ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٢٠٢ و ٢٠٣ وعن مسند أحمد ج ٤ ص ٥٠٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٢٤.

٢٦٠