الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

١
٢

٣
٤

الفصل الثاني :

حدث وتشريع

٥
٦

ماذا في هذا الفصل؟!

إننا لاستكمال الحديث عن الأمور المرتبطة بغزوة ذات الرقاع نتحدث في هذا الفصل عن عدة أمور بالترتيب التالي :

١ ـ إنهم يقولون : إن صلاة الخوف قد شرعت في غزوة ذات الرقاع ، وصلاها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأصحابه فيها ، وهي أول صلاة خوف في الإسلام.

ونحن نرى : أن ذلك غير سليم ، وأن صلاة الخوف قد شرعت في الحديبية ، وهي قبل ذات الرقاع.

بل قد يقال : إنها قد شرعت قبل الحديبية أيضا.

٢ ـ ثم نشير إلى الاختلافات الواردة في كيفية صلاة الخوف.

٣ ـ ونتحدث أيضا بإجمال عما يقال عن عدم صلاة الخوف في غزوة الخندق ، لأنها لم تكن شرعت آنئذ ..

٤ ـ ثم نعقب ذلك بفلسفة تحليلية لتشريع صلاة الخوف في حدود ما تسمح به المناسبة.

٥ ـ ثم نتوجه إلى الحديث عن قصر الصلاة ، حيث يقال : إن ذلك قد حدث في غزوة ذات الرقاع أيضا.

٧

٦ ـ ثم نستطرد في الحديث إلى موضوع آخر يرتبط بقصر الصلاة ، وهو ما اشترطته الآية للقصر ، من كونه في مورد خوف الفتنة ، وذلك من أجل بيان المراد من هذا الشرط ، ثم المبرر لإدراجه في الآية الشريفة.

٧ ـ ولا ننسى أن نستطرد أيضا إلى موضوع قصر عثمان للصلاة في منى وعرفات في أيام الحج ، وما نشأ عن ذلك وما انتهى إليه.

ونذكر أيضا : أعذارا وتوجيهات لهذا الأمر لا يمكن أن تصح ، ولا يصح الاعتماد عليها.

٨ ـ ثم نختم الحديث عن هذا الموضوع بالإشارة إلى أن القصر في السفر رخصة أم عزيمة؟ من أجل أن يتضح المقصود من آية القصر ، حيث إن الحديث عن القصر فيها إنما هو بصيغة : ليس عليكم جناح أن تقصروا.

٩ ـ وأما الحديث عن أن آية التيمم قد نزلت في غزوة ذات الرقاع أيضا فنرجئه إلى الحديث عن غزوة المريسيع بعد الخندق ، حيث يتم التعرض له هناك إن شاء الله تعالى ..

هذه خلاصة ما سوف نتحدث عنه في هذا الفصل. وأنت ترى : أنه كله حديث عن تشريعات ادّعي أنها قد حصلت في غزوة ذات الرقاع ، ثم استطرادات مفيدة في نطاق الحديث عن هذه التشريعات.

ونحن نرجو أن يكون فصلا مفيدا للقارئ وممتعا له في نفس الوقت .. فإلى ما يلي من مطالب ، ومن الله نستمد العون والقوة ، وعليه نتوكل ..

صلاة الخوف :

يقال : إن صلاة الخوف قد شرعت في غزوة ذات الرقاع ، حيث إنه

٨

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذه الغزوة واجه جمعا من الأعداء «فتقارب الجمعان ، ولم يكن بينهما حرب. وقد خاف بعضهم بعضا ، من غير أن يغيروا عليهم ، فصلى بهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صلاة الخوف ، ثم انصرف بالناس» (١).

وهي أول صلاة خوف في الإسلام (٢).

ونقول :

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٤ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٤ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٢٨ و ٢٩ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧١ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٠٠ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٩٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٦٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٣ وراجع : صحيح البخاري ج ٣ ص ٢٤ و ٢٥ وراجع : الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٢٧ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٠ وراجع : طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٦١ وتفسير البرهان ج ١ ص ٤١١ عن من لا يحضره الفقيه والثقات ج ١ ص ٢٥٨ وزاد المعاد ج ١ ص ١١٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢١٤ وراجع : نصب الراية ج ٢ ص ٢٤٦ و ٢٤٧ وراجع صحيح مسلم (باب صلاة الخوف) ج ٢ ص ٢١٤ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٥٨ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٧ والدر المنثور ج ٢ ص ٢١٢ و ٢١٣ عن أبي داود ، وابن حبان ، والحاكم وصححه والبيهقي ، وعن مالك ، والشافعي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني.

(٢) حبيب السير ج ١ ص ٣٥٧ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٦١ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٧ والجامع ص ٢٧٩ وراجع المصادر المتقدمة أيضا ، فبعضها قد ذكر ذلك ونصب الراية ج ٢ ص ٢٤٨ و ٢٤٩ عن الواقدي وغيره.

٩

إننا نسجل هنا ما يلي :

١ ـ قولهم : إنها أول صلاة خوف صليت في الإسلام لا تؤيده الروايات على اختلافها ؛ فقد ذكروا ـ وإن كنا قد رددنا ذلك فيما يأتي ـ : أن صلاة الخوف إنما شرعت في غزوة بني النضير (١) وهي قبل غزوة ذات الرقاع قطعا.

٢ ـ ومن جهة أخرى ثمة روايات تقول : إن آيات صلاة الخوف قد نزلت في غزوة عسفان ، فصلى بهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صلاة الخوف.

وفي رواية الترمذي وابن جرير : أن جبرئيل هو الذي علّم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كيف يصليها ، وذلك بين ضجنان ، وعسفان. وعسفان كانت بعد الخندق (٢).

__________________

(١) راجع هذا القول في : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧١ والتنبيه والإشراف ص ٢١٤ وحبيب السير ج ١ ص ٣٥٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢١٥ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٥٩ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٧٠ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٣ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٢٥ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٢.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ٢١١ و ٢١٣ عن المصادر التالية : عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبي داود ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدار قطني ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي ، والترمذي ، وابن جرير. وعن البزار عن ابن عباس ، وعن أبي عياش الزرقي ، وأبي هريرة ، ومجاهد وفتح الباري ج ٧ ص ٣٢٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧١ ـ

١٠

٣ ـ وسأل سليمان اليشكري جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة أي يوم أنزل؟.

فقال جابر بن عبد الله : وعير قريش آتية من الشام ، حتى إذا كنا بنخل ..

ثم ذكر ما جرى ، وصلاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهم صلاة الخوف ، ثم قال : فأنزل الله في إقصار الصلاة (١).

ولكن قال ياقوت : «إن نخلا موضع بنجد ، من أرض غطفان مذكور في غزاة ذات الرقاع» (٢).

وعن السمهودي ، أنه قال : «حتى نزل نخلا ، وهي غزوة ذات الرقاع» (٣).

وقال السمهودي أيضا : «وكأن أبا حاتم رأى اتحادهما ، فلم يذكر ذات

__________________

ـ ونصب الراية ج ٢ ص ٢٤٨ ومسند أحمد ج ٤ ص ٥٩ وفي هامش نصب الراية عن سنن أبي داود ج ٢ ص ١١ و ١٢ وسنن البيهقي ج ٣ ص ٢٥٧ وراجع : سنن النسائي ج ٣ ص ١٧٤ والجامع الصحيح ج ٥ ص ٢٤٣ والمصنف للصنعاني ج ٢ ص ٥٠٤ و ٥٠٥ وجامع البيان ج ٥ ص ١٥٦ وسنن الدار قطني ج ٢ ص ٥٩ ومستدرك الحاكم ج ١ ص ٣٣٧ وكشف الأستار عن مسند البزار ج ١ ص ٣٢٦.

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٢١١ عن عبد بن حميد ، وابن جرير ، وجامع البيان وبغية الألمعي (مطبوع مع نصب الراية) ج ٢ ص ٢٤٨ وسنن النسائي ج ٣ ص ١٧٦.

(٢) معجم البلدان (ط دار الكتب العلمية) ج ٥ ص ٣٢٠.

(٣) بغية الألمعي (مطبوع بهامش نصب الراية) ج ٢ ص ٢٤٨ عن وفاء الوفاء ج ١ ص ٣٨١.

١١

الرقاع ، وهي بنخل عند بعضهم ، فلذلك لم يذكرها أيضا» (١).

ونقول : إن هذا اشتباه واضح ، فإن نخلا إذا كانت بنجد لم يكن ثمة مناسبة بينها وبين عير قريش الآتية من الشام ، فالمراد إذن هو النخل التي من جهة الشام دون سواها.

٤ ـ وعن مجاهد أنه قال : بالنسبة لصلاة الخوف في عسفان : «فلم يصل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صلاة الخوف قبل يومه ، ولا بعده» (٢).

٥ ـ عن جابر قال : غزا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ست غزوات قبل صلاة الخوف ، وكانت صلاة الخوف في السنة السابعة (٣).

فالقول بأنها في ذات الرقاع ، وذات الرقاع في السنة الرابعة ، لا يصح.

الرواية الأقرب إلى القبول :

والمعتمد عندنا في هذا المجال هو : الرواية التي رواها علي بن إبراهيم عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : «فإنها نزلت لما خرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الحديبية ، يريد مكة ، فلما وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في ماءتي فارس كمينا يستقبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» [فكان يعارض رسول الله] على الجبال.

فلما كان في بعض الطريق ، وحضرت صلاة الظهر ، فأذن بلال ، فصلى

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ١ ص ٢٨٠.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ٢١٤ عن ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وراجع جامع البيان ج ٥ ص ١٥٦.

(٣) مسند أحمد ج ٣ ص ٣٤٨ والدر المنثور ج ٢ ص ٢١٤ عنه.

١٢

رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالناس.

فقال خالد بن الوليد : لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم ، فإنهم لا يقطعون صلاتهم ، ولكن تجيء لهم الآن صلاة أخرى هي أحب إليهم من ضياع أبصارهم ، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم.

فنزل جبرئيل «عليه‌السلام» على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بصلاة الخوف في قوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ..) (١).

ولا يعارض ذلك ما رواه ابن بابويه في الفقيه بسند صحيح إلى عبد الرحمن بن أبي عبد الله : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد صلى بأصحابه صلاة الخوف في ذات الرقاع ؛ فإن هذه الرواية ليس فيها : أن جبرئيل قد نزل بصلاة الخوف آنئذ ، ولا أن الآية قد نزلت أيضا في غزوة ذات الرقاع. وإن كان الإمام «عليه‌السلام» بعد أن ذكر كيفية صلاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأصحابه صلاة الخوف ، قد أورد الآية ، مظهرا بذلك موافقة فعل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمضمونها ، فراجع (٢).

فتشريع صلاة الخوف قد كان في الحديبية التي كانت في سنة ست ثم صلاها «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مرة أخرى بأصحابه في غزوة ذات الرقاع ، التي كانت في السنة السابعة حسبما قدمنا.

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ج ١ ص ٤١١.

(٢) البرهان في تفسير القرآن ج ١ ص ٤١١ ومن لا يحضره الفقيه (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١ ص ٤٦٠.

١٣

كيفية صلاة الخوف :

قد اختلفت رواياتهم في كيفية صلاة الخوف التي صلاها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مغازيه ، حتى ليقول البعض :

«قد رويت صلاة الخوف على ست عشرة صورة كلها سائغ فعله» (١).

وقال آخر : «ووراء ذلك من الكيفيات المتباينات ، والخلافات المتعددات بحسب اختلاف الروايات ، ما يطول ذكره ، ويعز حصره» (٢).

وقد أغنانا ذلك عن ذكر التناقضات الكثيرة والاختلافات الفاحشة بين الروايات المختلفة.

والحل الأمثل : هو الرجوع إلى أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، فإنهم هم أحد الثقلين اللذين لن يضل من تمسك بهما ، وهم سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى.

وقد ذكروا : أن صلاة الخوف في ذات الرقاع كانت قصرا (٣).

صلاة الخوف في غزوة الخندق :

وقد زعم البعض : أن صلاة الخوف لم تكن شرعت في غزوة الخندق ، وإلا لكان صلاها حينئذ ، لأنهم حبسوه عن صلاة الظهرين والعشاءين

__________________

(١) سيرة مغلطاي ص ٥٣ و ٥٤ وراجع : الروض الأنف ج ٣ ص ٢٥٣ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٤ وراجع : التنبيه والإشراف ص ٢١٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٢٧.

(٢) بهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٣.

(٣) البرهان في تفسير القرآن ج ١ ص ٤١١.

١٤

فصلاهن جميعا ، وذلك قبل نزول صلاة الخوف (١).

ونقول :

إن هذا الاستدلال لا يصح : إذ لعل العدو كان في جهة القبلة فصلاها المسلمون إيماء أو كان الوضع الحربي لا يسمح بالصلاة جماعة بسبب تلاحم المقاتلين ، والمناوشة بينهم ، حيث يكفي في هذه الحالة التهليل والتسبيح ، والتحميد ، والدعاء ، كما حدث في صفين ليلة الهرير (٢).

وسيأتي : عدم صحة ما يذكرون حول هذا الأمر في موضعه إن شاء الله تعالى ..

صلاة الخوف لماذا؟! :

ولربما يراود ذهن البعض سؤال : عن السبب في الإصرار على الصلاة جماعة حتى في حال الحرب ، إذ أن بالإمكان أن يصلي المسلمون فرادى متفرقين ، مع الاحتفاظ بمواجهة العدو بالكثرة العددية في ساحة القتال. خصوصا مع اتساع الوقت لأداء الصلاة بصورة متوالية من العناصر ، بحيث لا يخل ذلك بالحالة التي يتخذونها تجاه العدو بهدف إرهاقه ، أو دفع شره.

وللإجابة على هذا السؤال : لا بد لنا من الإشارة إلى أن هذا أمر مقصود لله عزوجل ، لأنه يمثل مطلبا أساسيا في أكثر من اتجاه.

فهو من جهة يمثل إصرار المسلمين على الجهر بمعتقداتهم ، وممارسة

__________________

(١) راجع : زاد المعاد ج ٢ ص ١١١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٠ وراجع : فتح الباري ج ٧ ص ٣٢٧.

(٢) البرهان ج ١ ص ٤١١ و ٤١٢.

١٥

حقهم بحرية التعبير عنها ، وحرية ممارسة شعائرهم الدينية. رضي الناس ذلك أم أبوا.

كما أنه يمثل إظهارا للالتزام بالقيادة المثلى ، والاقتداء بها ، والتلاقي عليها ومعها لتكون رمز وحدة الأمة ، من خلال وحدة الهدف ، ثم وحدة الموقف ، وانتهاء بوحدة المصير.

ومن جهة أخرى : فإن هذا المظهر العبادي الوحدوي التنظيمي ووحدة الشعار ، لا بد أن يثير لدى الأعداء أكثر من سؤال يرتبط بالموقف السياسي والعسكري ، الذي يتخذه ذلك العدو ، ويتحرك ويتعامل معهم على أساسه ومن خلاله ، حتى إذا ما راجع حساباته في هذا السبيل ، فلسوف يجد أنه لم يكن منطقيا ، ولا منصفا في عدائه لهم ، ولا في مواقفه منهم ، التي اتخذها انطلاقا من عدم قناعته بما اقتنعوا به ، أو فقل : من عدم قبوله بما هم عليه. فهل عدم اقتناع شخص بأفكار ، ومعتقدات ، وقناعات ، شخص آخر ، يعطيه الحق في تدمير ذلك الشخص واستئصاله من الوجود؟! ..

وهل إذا قال هؤلاء : ربنا الله ، وليس الصنم الفلاني ، يستحقون أن يواجهوا بالحرب وبالحرمان وبالقطيعة ، وبجميع أشكال الاضطهاد والتنكيل؟!.

إن صلاة الخوف هذه لسوف تقنع هذا العدو بالذات أن ما يحاربهم من أجله ، ويصرون هم عليه ، إنما يعنيهم هم أولا وبالذات ، وليس له هو حق في اتخاذ أي موقف سلبي منهم لأجل أمر يخصهم ويرجع إليهم ، ف (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (١) فإن الدين يقوم على أساس القناعات وعلى أساس

__________________

(١) الآية ٢٥٦ من سورة البقرة.

١٦

المشاعر ، وعقد القلب ، وإحساسه بالأمن ، واستشعاره الإيمان.

ولا يمكن أن يفرض هذا على أحد ، ولا يتحقق الإكراه فيه.

ولا يملك أحد أن يصادر حرية الآخرين في أن يعتقدوا ما شاؤوا ، ولا يمكنه أن يمنعهم من ممارسة كثير مما يريدون ممارسته.

بل إن هذا يخضع للمنطق وللبرهان وللدليل أولا ، مع إعطاء دور رئيس لتكوّن عامل الثقة ، والصراحة والصدق والإنصاف ، والحرية ، وغير ذلك مما هو ضروري في مجال التحرك الواعي والمسؤول في مجال الدعوة لتحقيق الاستجابة الحقيقية والواعية والمسؤولة.

فصلاة الخوف شعار ، وموقف ، وبلاغ ، ودعوة ، وتصميم ، ووحدة ، وخلوص ، والتفاف حول القيادة ، وتربية ، وتعليم ، وتحد ، ثم هي حرب نفسية وسلاح قاطع.

وليس ثمة رسالة أبلغ منها للعدو ، ليعرف أن هؤلاء الناس قد بلغوا من إصرارهم على مواقفهم ، وتمسكهم بمبادئهم ، وفنائهم فيها ، حدا يجعلهم يرون قضيتهم ، ودينهم ودعوتهم ، هي الأهم من كل شيء ، وأن حياتهم ، وكل شيء يملكونه لا بد أن يكون لها ومن أجلها ، وفي سبيلها ، وهم يمارسون ذلك عملا ، ويقدمون على البذل والعطاء في سبيله ، بكل رضا ومحبة ، وصفاء وسخاء.

ومن جهة ثانية : إن ذلك يؤكد للإنسان المسلم مدى أهمية الصلاة ، حتى إنها لا تترك بحال ، حتى للغريق المشرف على التلف ، وحتى للمقاتل الذي يواجه الأخطار الكبرى على حياته ووجوده ..

وتأتي الصلاة في هذه الحال بالذات ـ حال الخوف ـ لتربط الإنسان

١٧

بمصدر الأمن ، والسلام ، والطمأنينة للقلوب ، وانسجام المشاعر وتلاقيها ، ليعيش الإنسان في الآفاق الملكوتية روح الطهر والخلوص ، ليصبح قادرا على التخلص مما يربطه بهذه الدنيا ، ويشده إلى الأرض ليخلد إليها ، ويحجبه ذلك عن مصدر القدرة ، وعن الانطلاق في رحابه ، وفي آفاق ملكوته ، ومعاينة آلائه ، وتلمسها ، والتصديق بها.

قصر الصلاة :

وقالوا : إن الصلاة قد قصرت في غزوة ذات الرقاع (١) حيث نزل قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) (٢).

ونقول :

إن الكلام هنا في عدة جهات ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ تاريخ قصر الصلاة :

إن القول : بأن ذلك كان في غزوة ذات الرقاع ، تقابله الرواية التي تقول : إن ذلك قد كان في غزوة عسفان.

فقد روي : «عن مجاهد ، في قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٤ واكتفى في السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٨ بالقول : بأن قصر الصلاة كان في الرابعة.

(٢) الآية ١٠١ من سورة النساء.

١٨

الصَّلاةَ) (١) ، قال : أنزلت يوم كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والمشركون بضجنان ، فتوافقوا فصلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأصحابه صلاة الظهر أربعا ، ركوعهم وسجودهم ، وقيامهم معا جمعا. فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم ، وأثقالهم ، فأنزل الله : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) (٢).

فصلى العصر ، فصف أصحابه صفين ثم كبر بهم جميعا ، ثم سجد الأولون لسجوده ، والآخرون قيام لم يسجدوا حتى قام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثم كبر بهم وركعوا جميعا ، فتقدم الصف الآخر ، واستأخر الصف المتقدم ، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة ، وقصر العصر إلى ركعتين» (٣).

ونقول :

إن هذه الرواية صريحة في أن آية قصر الصلاة قد نزلت بعد أو حين تشريع صلاة الخوف ، وثمة روايات أخرى يظهر منها أنهم يتحدثون عن آية القصر ويقصدون منها صلاة الخوف فقط (٤) ، ولعل هذا قد نشأ عن كونهما قد نزلتا في زمان واحد.

__________________

(١) الآية ١٩٨ من سورة البقرة.

(٢) الآية ١٠٢ من سورة النساء.

(٣) الدر المنثور ج ٢ ص ٢١٠ عن عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وجامع البيان ج ٥ ص ١٥٦ والمصنف ج ٢ ص ٥٠٤.

(٤) راجع : الدر المنثور ج ٢ ص ٢١٠ عن عبد الرزاق عن طاووس ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي والمصنف ج ٢ ص ٥١٧ وغيرها وجامع البيان ج ٥ ص ١٥٤.

١٩

وقد تقدم : أن صلاة الخوف قد شرعت في الحديبية ، ثم صلاها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ذات الرقاع ، التي كانت بعدها ، فمعنى ذلك : أن قصر الصلاة قد شرع في الحديبية أيضا ، أو بعدها وذلك واضح لا يحتاج إلى بيان.

لكن ثمة رواية تقول : إن نزول الآية ، وتشريع صلاة القصر قد كان قبل نزول آية صلاة الخوف بسنة ؛ فشرع القصر على لسان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حين سأله تجار يضربون في الأرض عن كيفية صلاتهم ، فراجع (١).

فيكون تشريع القصر ، قبل غزوة الحديبية بسنة!

القصر في حالتي الأمن والخوف :

ومن الأمور التي تساءل بعض الناس عنها هو : أن آية القصر إنما تتحدث عن إيجاب القصر بشرط خوف الفتنة من قبل الذين كفروا ، مع أن القصر ثابت مع خوف الفتنة وبدونه.

وقد حاول البعض الهروب من هذا الإشكال بدعوى : أن القصر لم يذكر في القرآن أصلا (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٠٩ وجامع البيان ج ٥ ص ١٥٥ عن علي «عليه‌السلام» ، وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٢٨.

(٢) سنن النسائي ج ٣ ص ١١٧ وسنن البيهقي ج ٣ ص ١٣٦ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٣٣٩ ومجمع البيان ج ٥ ص ١٣٦ والدر المنثور ج ٢ ص ٢٠٩ و ٢١٠ عنهم وعن عبد بن حميد ، وابن حبان ، وابن أبي حاتم. والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج ٦ ص ٤٤٤ والمستدرك على الصحيحين ج ١ ص ٢٥٨ والموطأ (المطبوع مع تنوير الحوالك) ج ١ ص ١٦٢ والمصنف للصنعاني ج ٢ ص ٥١٨ ومسند أحمد بن حنبل ج ٢ ص ٦٥ و ٦٦.

٢٠