الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

وبالغ فيه كلّ أروع أصيد

طويل المعالي والمكارم واليد

وشادوا وجادوا سيّدا بعد سيّد

فبادوا جميعا عن صنيع مخلّد

يقوم عليه الثناء ويخطب

مصابيحه مثل النجوم الشّوابك

تمزّق أثواب النجوم الحوالك

وتحفظه من كل لاه وسالك

أجادل تنقضّ انقضاض النّيازك

فإبشارهم بالطبطبية تنهب

أجدك لم تشهد بها ليلة القدر

وقد جاش برّ الناس منه إلى بحر

وقد أسرجت فيه جبال من الزّهر

فلو أن ذلك النّور يقبس من فجر

لأوشك نور الفجر يفنى وينضب

كأن للثّريّات (١) أطواد نرجس (٢)

ذوائبه تهفو بأدنى تنفّس

وطيب دخان النّدّ من كل معطّس

وأنفاسه في كل جسم وملبس

وأذياله فوق الكواكب تسحب

إلى أن تبدّت راية الفجر تزحف

وقد قضّى منهما (٣) الذي لا يسوّف

تولّوا وأزهار المصابيح تقطف

وأبصارها صونا تغضّ وتطرف

كما تنصل الأرماح ثم تركّب

سلام على غيابها وحضورها

سلام على أوطانها وقصورها

سلام على صخرائها وقبورها

ولا زال سور الله من دون سورها

فحسن دفاع الله أحمى وأرهب

وفي ظهرها المعشوق كل مرفّع

وفي بطنها الممشوق كل مشفع

متى تأته شكوى الظّلامة ترفع

وكل بعيد المستغاث مدفّع

من الله في تلك المواطن يقرب

وكم كربة ملء الجوانح والقلب

طرقت وقد نام المواسون من صحب

بروعتها قبر الوالي لي وهبّ

وناديت في التّرب المقدّس يا ربّ

فأبت بما يهوى الفؤاد ويرغب

__________________

(١) في الأصل : «للثرياوات».

(٢) في الأصل : «من نرجس».

(٣) كلمة «منهما» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.

٢٨١

فيا صحبي حان قبلك مصرعي

وكنت على عهد الوفا والرّضا معي

فحطّ بضاحي ذلك السّرى مضجعي

وذرني فجار القوم غير مروّع

فعندهم للجار أهل ومرحب

رعى الله من يرعى العهود على النّوى

ويظهر بالقول المحبّر ما نوى

ولبيته من مستحكم الودّ والهوى

يرى كلّ واد غير واديه مجتوى

وأهدى سبيله الذي يتجنّب

كتابته : وكتابة ذي الوزارتين ، رحمه الله ، كالشمس شهرة ، والبحر والقطر كثرة ؛ ونحن نثبت له شيئا من ذلك لئلّا يخلو هذا الكتاب من شيء من بيانه. كتب يراجع الوزير أبا بكر بن عبد العزيز ، من رسالة كتب بها إليه مع حاج يضرب القرعة :

أطال الله بقاء وليّي وإمامي الذي له إكباري وإعظامي ، وفي سلكه اتّسامي وانتظامي ، وإلى ملكه انتسابي واعتزائي ، وبودّه افتخاري وانتزائي ، للفضائل مجيبا ومبديا ، وللمحامد مشتملا ومرتديا ، وبالغرائب متحفا ومهديا ، ولا زال الرّخاء وأزل ، وجدّ من المصافاة وهزل ، وسحت من المراعاة وجزل. وصل كتابه صحبة عرّاف اليمامة ، وفخر نجد وتهامة ، يقرّظه ويزكّيه ، ويصفه بالخبّ يفسّره ويجليه ، والخفيّ يظهره ويبديه. ولعله رائد ، لابن أبي صائد ، أو هاد للمسيح الدّجال قائد. أشهد شهادة إنصاف ، أن عنده لعضبا صاف ، ولو كان هناك ناظر صادق طاف ، ولله خفايا الألطاف ، لقلت هو باد غير خاف ، من بين كل ناعل وحاف. وسأخبرك ، أيّدك الله ، بما اتّفق ، وكيف طار ونعق ، وتوسّد الكرامة وارتفق ، طرق له وصفك ونعتك ، وثقّفه بريك ونحتك ، ورفعه للعيون جدّك وبختك ، وامتدت نحوه النواظر ، واستشرفه الغائب والحاضر ، وتسابق إليه النّابه والخامل ، وازدحم عليه العاطل والعامل. هذا يلتمس مزيدا ، وذاك يبتغي حظا جديدا ، وهذا يطلب تقليدا ، وذلك يسلّ إلى مغاليقه إقليدا. فكلما حزب ، وغلّ وجلب ، حلب واستدرّ ، وتلقاه وإن ساءه الغيب بما سرّ. وكنت واتغت جملة من الأعيان ، ووافقت ثلّة من جلّة الإخوان ، على تمشية أمره ، وتوشية ذكره ؛ فلمّا صدقت تلك الفرقة ، واستوت بهم تلك الفرقة ، أحضرناه للسّبار ، وأقعدناه للنّقد والاختيار ، وأردنا أن نقف على جلايا تلك الأخبار ، فأحضرنا طحنا ونطعا ، وسرينا عنه من الوحشة قطعا ، وقلنا له خذ عفوك ، ولا توردنا إلّا صفوك ، ولا تصانعنا في الكريهة التي نراها ، والحادثة تستفظع ذكراها ؛ فما عندنا جهل ، وما منّا إلّا محتنك كهل ، لا يتكاده حزن ولا يستخفّه سهل ، فسكن جائش فوره ، وضرب بلحيته على زوره ، ثم صعّد فينا النظر وصوّب ، واستهلّ صارخا وثوّب ، وتحرّج من الكذب

٢٨٢

وتحوّب ، وقال : لست للعشرة خابطا ، ولا للطّرف غامضا ، ولا عن الصدق إذا صدع حائدا ، ولا للغدر ممّن وقع منه ذائدا ، ولا بمعجزات النبوّة لاعبا ، ولا لصريح الجدّ مداعبا ، ولا تطيبني مسألة ولا حلوان ، ولا تستفزّني نضائد كثيرة ولا ألوان. إنما هو رسم وخطّ ، ورفع وحطّ ، ونحس وسعد ، ونقد ووعد ، ويوم وغد. فقلنا له الآن صحّت الوفادة ، وأينعت الإرادة. ثم نظر إلينا نظر المستقلّ ، واجتذب النّطع اجتذاب المدلّ ، ونثل الطّحن وهاله ، وأداره حتى استدار هاله ، ثم قال : يا أيها الملأ هذا المبتدأ ، فأيكم يبدأ. فرمقني القوم بأبصارهم وفغروا وكبّروا ، وليتهم عند ذلك صفّروا ، فقلت : يا قوم قد عضضت على ناجذي حلما ، وقتلت شأني كلّه علما ، وعقدت بيني وبين غد سلما ، فكيف أستكشف عما أعرف ، وأسبقهم عمّا لا يستبهم. على الرحمن توكلت ، وعلى الشيطان تركّلت ، ومن كسبي أكلت ، وفي مبرك السّلامة بركت ، وجسيمات الأمور تركتني وتركت ، والنفس المطمئنة رجوت ، ولعلني قد نجوت ، وأصبت فيما نحوت. فلحظتني عند هذه المقالة عينه ، وطواني صدقه ومينه. ثم صار القوم دوني أنجية ، وأعدّ له كل تورية وتعمية. فقال قائل منهم : تعالوا نشترك في ضمير ، ونرمه بهذا الطاغية ابن رذمير ، ففي كل قلب منه ندب كبير ، والسؤال عنه دين وأدب ، فإن أصابه استرحنا من النّصب والشّخوص ، وحرنا من العموم إلى الخصوص ، وإن أخطأه فهو لما سواه أخطأ ، ولما يدّعيه ويريده منه أبطأ. فقالوا : نعم ما عرضت ، وأحسن بما رويت وفرضت. فلمّا رأيناه يثقل التّعريض ، ويحكم التقرير والتعويض ، قلنا له : حقّق ضميرك كل التحقيق ، وضع مسبحتك في الدقيق. فابتدر ما أمر ، وحسر عن ذراعه وشمّر ، ومرت أصبعه في خطّه مرّ الذّر المتهالك ، ووقعت وقع القطر المتدارك ، لا تمس الطّحن إلّا تحليلا ، وغمزا كالوهم قليلا ، فطورا يستقيم سبيلا ، وتارة يستدير إكليلا ، وآونة يأتي بالسماء ونجومها قبيلا. فكان هنالك لنعش من بنات ، وللثّريا من أخوات ، وطير قابضات ، وصافّات وأسراب ناشرات خافقات.

فلمّا استوفى عدده ، وبلغ أمده ، وختم طرائقه وقدده ، وأعطى الأصول وفروعها ، وتدبّر تفاريقها وجموعها ، فجمع وتقبّض ، وفتر ثم انتفض ، وصعّد ذهنه وتسافه ، وأخذ الطّحن فسافه ؛ وزفر وشهق ، وعشّر ونهق ، وألصق بظهره حشاه ، وكتم الرّبو ثم أفشاه ، وقال : هذا الذي كنت أخشاه ، عميتم الأثر ، وكتمتم حقيقة الخبر ، وعثرتم خاطي فما عثر ، ونثرتم نظام الحدس فما انتثر. سألتم عن روح شارد ، وشيطان مارد ، وصادر مع اللّحظات وارد ، لا يوطن دارا ، ولا يأوي قرارا ، ولا يطعم النّوم إلّا غرارا (١). نعم أمره عندي مستقر ، هو زنديق مستتر ؛ وشهاب من شهب الكفر مستمر.

__________________

(١) الغرار : السهم. لسان العرب (غرر).

٢٨٣

ثم رجّع البصر واختصر ، وعاد إلى الحساب يتقرّاه ، والصواب يتحرّاه ، وتتبّع أديم الطّحن ففراه ، وقال : أعوذ بالله من شرّ ما أراه. إلى كم أرى في غلاء وبلاء؟ كأني لست ذا أمرار وأحلاء ، تالله لو كانت قرعة رفعة وعلاء ؛ ما غاب عني اللّحياني ذو السّبلة ، ولواجهنا البياض ذو الغرّة المستقلّة مواجهة حسان لجبلة. النّحس على هذه الروح قد رتّب ؛ وكتب عليه من الشقاء ما كتب ، وأخرج النّصرة الداخلة من العتب. ثم أشار إلى الحمرة ، وكأنما وضع يده على جمرة ، وقال : كوسج نعيّ ، وسناط الوجه شقيّ ، وثقاف وطريق ، وجماعة وتفريق ، وقبض خارج ، ومنكوس مارج. ثم وضع عمامته ، ولولب هامته ، وأمال وجهه فجرا طلقا ، ثم عرضه مجنا مطرقا ، وعقد أنامله عضّا ، وأدمى صدره دعّا ورضّا ، وقطع بصره لمحا وغضّا ، وتكفّأ وتقلّع ، وأدلع لسانه فاندلع. فقلنا : شرّ تأبّطه ، أو شيطان يتخبّطه ، أو قرين يستنزله ويختله ، أو رؤى في الذرة والغاب يفتله. ثم تجاحظ وتحاذر ، وتضاءل وتنازر ، وقال : والذي أحيا عازر ، وأخرج إبراهيم من آزر ، وملك عنان الريح وأذعن له كل شيء بالسجود والتّسبيح ، إنه لمن عبّاد المسيح ، هيهات هيهات ، لا أضعضع بظنّ ، ولا يقعقع لي بشنّ ، ولا أنازع من هذه الفنون في فنّ. قد ركبت أثباج البحار ، وقطعت نياط المفاوز والقفار. وشافهني الحرم والبيت ، وصافحني الحجر الكميت ، وأحرمت ولبّيت ، وطفت ووفيت ، وزرت المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وتحفّيت. ثم ملت على عدن ، وانحدرت عن اليمن ، واستسقيت كل راعدة ، وأتيت كل قاعدة ؛ ورأيت صاحب الجمل قسّ بن ساعدة ، ووردت عكاظ ، وصدّقت الحفّاظ ، وقدت العصية بنسع ، ومسحت الشامات بأخمس وتسع ، ووقفت حيث وقف الحكمان ، وشهدت زحف التّركمان ، وكيف تصاولت القروم ، وغلبت الرّوم ، وهزم المدبر المقبل ، واكتسحت الجحاش الإبل. فقلنا : لله أنت ، لقد جليت عن نفسك ، وأربى يومك على أمسك ، ولقد صدق مطريك ، ووفت صحيفة تزكّيك ، وما كانت فراستنا لتخيب فيك. فماذا تستقري من اللوح ، وترى في ذلك الروح؟ بعيشك ألا ما أمتعتنا بالإفشاء والبوح! فرجع في البحث أدراجه ، وطالع كواكبه وأبراجه ، وظلّ على مادة الطّحن يرقم ويرمق ، ويفتق ويرتق. ثم جعل يبتسم ، وقال : أحلف بالله وأقسم ، لقد استقام النّسم ، وإنه لكما أرسم وأسم ، وإني لا أجده إلّا لاغبا مبهورا ، ومنكودا مقهورا ، ولن يلبث إلّا شهورا. قد أفل طالع جدّه ، وفلّ حدّه ، وأتي عليه نقي خدّه ، وصيّ لم يملك أبوه وملك جدّه ، فقلنا : صرّحت وأوضحت ، وشهرت هذا المستور وفضحت ، وإن ساعدك قدر ، وكان لك عن هذا الورود صدر ، فحظك مبتدر ، وخطّك صاف لا يشوبه كدر. فقال : هذا أمر قد آن أو كان ، وسيأتيكم الخبر الآن ، فانفصلنا وأصغينا الآذان ، وجعلنا نتلقى الرّكبان ، فلم يرعنا إلّا النّعمى الناجمة ، والبشرى الهاجمة ، بما

٢٨٤

بان ، فأدهنا في شانه ، ولم يكن يعاوده خوف طغيانه ، فإذا الخبر لم يخط صماخه ، وكأنما كان عودا وافى مناخه ، أو طائرا أمّ أفراخه. فلم ينشب أن أقبل يصمد نحونا أي صمد ، ويتعرضنا على عمد ، تعرّض الجوزاء للنجوم ؛ وينقضّ انقضاض نيازك النجوم ، وقال : ألم يأن أن تدينوا لي بالإكبار ، وتعلموا أني من الجهابذة الكبار؟ فقلنا : منك الإسجاح ، فقد ملكت ومنك ولك النجاح ، أيّة سلكت. فأطرق زهوا ، وأعرض عنا لهوا ، وقال : اعلموا أن القرعة لو طوت أسرارها ، ومنعتني أخبارها ، لمزّقت صدارها ، وذروت غبارها ، ولكان لي عنها أوسع منتدح ، وأنجد زناد يقدح ، أين أنتم عن رصدي الأحلاك ، وعلمي بالأفلاك؟ أنا في مرج الموج ، وأوج الأوج ، والمتفرد بعلم الفرد والزّوج ، ومسترط السّرطان ، ومستدير الدّبران ، وبائع المشتري بالميزان ، والقابض بيوم الحساب والعمل ، على روق الثّور وذنب الحمل ، أعقد نصل العقرب ، وأقيّد الأبعد والأقرب ، لصيد أوابدها بالدقائق والدّرج ، حتى اضطرّ سارحها إلى الحرج ، وأصبحها في أضيق منعرج ، أنا استذكرت بالأنبار ، فرحة الإقبال وترحة الإدبار ، وطالعت أقليدس فاستنبطته ، وصارعت المجسطي فجسطنته ، وارتمطت إلى الأرتماطيقا ، وأطقت الألوطيقا ، ولحظت التحليل بحلّ ما عقده ، وانتضيته ما مطل به الجهابذة فنفّذه. وعاينت زحل ، حين استقلّ على بعيره ورحل ، وضايقته في ساحته ، وحصرته في مساحته ، وحضرت قرانه ، وشهدت تقدّمه ومرانه ، وشاهدته شفرا بشفر ، وناجاني برقا يعدّ في الكفر ، وتخريبه لملك الصّفر ، وتفريقه لبلاد اللّطينة ، وإنجاز الوعد في فتح قسنطينة. أنا عقدت رشا الدّلو ، وذروت غبار الحوت للفلو. أنا اقتدحت سقط الجوزهر ، فلاح بعد خفائه وظهر. أنا استثرت الهلال من مكامن سرره ، وأخذت عليه ثنايا سفره ، وقددت قلامته من ظفره ، ودللت طير الصّاير على شجره ، فجنيت المرّ من ثمره ، أنا طرقت الزّهرة في خدرها ، وصافحتها من الفكرة بيد لم تدرها. أنا أذكيت على ذكاء فظلّت تلتهب ، وأحرزتها من الوهم شطنا أجذبها به فتنجذب. أنا أنعى للمعتبرين حياتها ، فيشبهون الحسنة ويتحرّون أوقاتها ، حتى تنتشر بعد الطيّ حياتها ، وتستقيل من العثار آياتها. أنا انتضيت للشباب شرخا ، وأضرمت للمرّيخ عقارا ومرخا ، حتى أتغانى بملاحم حروبه ، وحوادث طلوعه وغروبه ، وتلمّظه إلى النّجيع ، وولوغه في مهجة البطل السّجيع. أنا أبرى من اللّمم ، وأشفى من الصّمم ، وأنقل العطس إلى الشّمم. فقلنا : أمّا الأولى ، فقد سلّمنا لك جميعها ، وأمّا هذه الثلاثة فلن تستطيعها. قال : فلم تعجزون ولا تستخزون؟ فقلنا : من كان له علاج فبنفسه يبدأ ، ونغب بغيره. ولسنا نريدك ، ولكن تهتزّ يدك. قال : أما من بينهم روي ، وألقى في روعه ما ألقى في روعي ، فمثله كالصّارم ، حسنه في فرنده ، لا غمده ، وجماله في حدّه لا في خدّه ،

٢٨٥

والمرء كما قيل بأصغريه ، لا بمنخريه ، والشأن في الحيزوم ، لا في الخيشوم ، وفي الذّكرين ، لا في الأنثيين ، وبعد ، فهو كلام ظاهره إجمال ، وباطنه احتمال ، وسأنبّئكم بغزارة سيله ، وفجر ليله. أما الأفطس فيدلي الضّغنة ، ويتزوج في آل جفنة. فإن الله أتمّ ، جاء الولد أتمّ ، وإن نام عرق خاله ، بقي الولد بحاله. وأما الأصمّ ، فيخرج عن الغلام ، وبلا فال ، ويطلب في بني السّميعة بركة الاسميّة والفال ، فإن الله أراد ، ظفر بالمراد ، وجاء ابنه أسمع من قراد (١). فأحسّ من بعض الحاضرين تمريضا ، وعاين طرفا غضيضا ، فتعكّر وتشذّر ، وطوّف وحذّر ، وقال صاحب الشريعة ، سمّاهم بني السّميعة ، قوموا يا بني اللّكيعة ، فقد قطعتم رزقي ، وآذيتم طرقي ، وأذللتم ضربي وطرقي ، وسددتم طوقي ، وأخذتم على أفقي غربي وشرقي. ذروني للتي هي للبليّة تجني ، ثم الوجد يعني ، لو شرب نواديه إثر تجنّي. ثم نجا بعزمته سميلا ، وأرسل بنات نعش ذيلا ، وقد أفاد بما استصحب من ميامنك ليلا ، كذّبني أيّدك الله عند نواه ، ولم يطلعني طلع ما نواه ؛ وما ذاك إلّا لمطمع لواه ، ومغنم هواه. فرفعت لي بعد وداعه نجوة ، ورمتني بشخصه فجوة ، فقلت : ما أراك إلّا غائل ، أورثت عنك الحبائل. فسراك سرى قين ، وحديثك مين ، ألم تعبر دجيلا ، ويمّمت سهيلا؟ فقال : طربت إلى الأصفية الصّغار ، وشاقني الشوق بين الطّواغيت والأصفار. فقلت له : هلمّ إلى خطّ نعيده ، وحظّ نستفيده. فقال : لو لا أن تقولوا الساعة متى ، وتطالبوني بإحياء الموتى ، لما أجمعت إلى الغرب غروبا ، ولأريتكم من الحذق ضروبا. ثم قال : إن لي بالحضرة أفراخا ، وأمّا استصرخت عليها استصراخا ، وانسلخت منها انسلاخا ، وأعيا عليّ أمره فلم أعلم له ظعنا ولا مناخا. فلبثت كذلك أياما ، ثم اعتمّ عليّ أمره اعتياما ، ولم أعرف له إنجادا ولا اهتماما ، فإذا به وقد أضمرت عنه بأسا ، ولم أطمع فيه رأسا ، قد أشبّ لي شبابا ، ولمعت صلعته شهابا ، تكتنفه صرّة ، وبيمناه قوصرة (٢) ، وتؤود يسراه جرّة. فقلت له : قاتلك الله ، ما أشدّ فقداتك إلّا فقدتك ، وما أذكر وجداتك إلّا وجدتك ، أين أفراخك ، والأمّ التي جذبها استصراخك؟ فقال : الصعلوك ، لو أعلم مذاهبه ، تحرّم مناهبه ، وتحدم مراهبه. ذرني وعلاجي ، أحاجي وأداجي ، وأعاين وأناجي ، وأتقلب في بركة دعاء الباجي. فقلت له : مالك وللميت ، ورحم الله من سمّيت. قال : لمّا أذن الله فالتأمت الشّيمة ، وتمزّقت عني المشيمة ، هممت بالسّرق ، ولففت في

__________________

(١) منه المثل : «أسمع من قراد» ، وذلك أنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم ، فيتحرك لها. مجمع الأمثال (ج ١ ص ٣٤٩ ، رقم المثل ٨٧٨).

(٢) القوصرة : وعاء للتّمر. محيط المحيط (قوصر).

٢٨٦

الخرق ، وفارقت من الضيق منتداه ، وأفلتتني يداه ؛ فحنّكني السعد بتمر المدينة ، وسقاني من ماء البلدة الأمينة ، وعوّذني بدعوات متينة. فها أنا كما ترى أتهادى وأجتذب ، وأستحلي وأستعذب. فقلنا : لعمرك إنه لفضل عميم ، لو لا الصّميم ، وإنها لمنقبة ، لو لا العقبة ، وأثرة ملتمسة ، لو لا العطسة ، فقال : دعنا من زخاريفك ، وأغضض من عنان تصاريفك. البازل (١) لا يكون إلّا ذميما ، والليث لا يوجد إلّا شميما. ثم قام وحمل ، وابتدر وارتجل : [مجزوء الخفيف]

عيشنا كلّه خدع

فاترك اللوم عنك ودع

أنا كالليث والليو

ث بأرسائها ترع

ولها الأوجه السّي

مه من يلقها يرع

أيّ حسن لمازن

بيد الدّلّ يخترع؟

أنا كالسّيف حدّه

لا يبالي بما وقع

إنما الحسن للمها

ة وللظّبي يا لكع

فقلت : تبّا لك سائر اليوم ، إنك لتريش وتبري ، وتقدّ وتفري ، وتحاسن وتقابح ، وتهارش وتنابح ، وتحبّ وتتأمل ، وتحسن وتغلغل ، وتشاعر وتراجز ، وتناطح وتناجز. وأنت على هذا كله مصرّ ، ما جزاؤك إلّا ريح فيها صرّ ، فما هو إلّا أن غفلت عنه لمحة طرف ، أو نفحة عرف ، ثم التفتّ وإذا به قد أفلس ، وكأنما كان برقا خلّس ، ولم أدر أقام أو جلس.

ومحاسنه القطر الذي لا يعدّ ، والأمر الذي يأخذه الحدّ. وكفى بهذه الرسالة دليلا على جلالة مقداره ، وتدفّق بحاره وفخاره ؛ لما اشتملت عليه من بلاغة وبيان ، وبساط حال أنت على خبره بعيان ، وعلوم ذات افتنان ، خلّد الله عليه الرحمة ، وضاعف له المنّة والنعمة.

مولده : بأوائل ربيع الثاني عام خمسة وستين وأربعمائة (٢).

وفاته : من خطّ الحافظ المحدّث أبي القاسم بن بشكوال ، رحمه الله : كان (٣) ممن أصيب أيام الهرج بقرطبة ، فعظم المصاب به ، الشيخ الأجلّ ، ذو الوزارتين ، السيد الكامل ، الشهير الأثير ، الأديب ، اللغوي ، السّري ، الكاتب البليغ ، معجزة زمانه

__________________

(١) البازل : ما بزل نابه من الإبل في السنة التاسعة. محيط المحيط (بزل).

(٢) قال في معجم الصدفي (ص ١٥٤): «ومولده سنة خمس ، وقيل : سنة ثلاث وستين وأربعمائة».

(٣) هذا النص غير وارد في الصلة. وجاء في الصلة بعض مما ذكر هنا.

٢٨٧

وسابق أقرانه ، ذو المحاسن الجمة ، الجليلة الباهرة ، والأدوات الرفيعة الزكية ، الطاهرة الكاملة ، المجمع على تناهي نباهته ، وحمد خصاله وفصاحته ، من لا يشقّ غباره ، ولا تلحق آثاره ، معجزة زمانه في صناعة النثر والنظم ، أبو عبد الله بن أبي الخصال ، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونضّر وجهه. ألفي مقتولا قرب باب داره بالمدينة ، وقد سلب ما كان عليه ، بعد نهب داره ، واستئصال حاله ، وذهاب ماله ، وذلك يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي الحجة من سنة أربعين وخمسمائة. فاحتمل إلى الرّبض الشرقي بحومة الدرب ، فغسّل هنالك وكفّن ، ودفن بمقبرة ابن عباس عصر يوم الأحد بعده ، ونعي إلى الناس وهم مشغولون بما كانوا بسبيله من الفتنة. فكثر التفجّع لفقده ، والتأسّف على مصاب مثله ، وأجمعوا على أنه كان آخر رجال الأندلس علما وحلما ، وفهما ومعرفة ، وذكاء وحكمة ويقظة ، وجلالة ونباهة ، وتفننا في العلوم. وكان له ، رحمه الله ، اهتمام بها ، وتقدم في معرفتها وإتقانها. وكان ، رحمه الله ، صاحب لغة وتاريخ وحديث ، وخبر وسير ، ومعرفة برجال الحديث مضطلعا بها ، ومعرفة بوقائع العرب وأيام الناس ، وبالنثر والنظم. وكان جزل القول ، عذب اللفظ ، حلو الكلام ، عذب الفكاهة ، فصيح اللسان ، بارع الخطّ حسنه ومتقنه. كان في ذلك كله واحد عصره ، ونسيج وحده ، يسلّم إليه في ذلك كله ، مع جمال منظره ، وحسن خلقه ، وكرم فعاله ، ومشاركته لإخوانه. وكان مع ذلك كله جميل التواضع ، حسن المعاشرة لأهل العلم ، مسارعا لمهماتهم ، نهاضا بتكاليفهم ، حافظا لعهدهم ، مكرما لنبهائهم ، واسع الصدر ، حسن المجالسة والمحادثة ، كثير المذاكرة ، جمّ الإفادة. له تصانيف جليلة نبيهة ، ظهر فيها علمه وفهمه ، أخذها الناس عنه مع سائر ما كان يحمله ويتقنه ، عن أشياخه الذين أخذ عنهم ، وسمع منهم ، وقرأ عليهم.

وقال غيره : قتل بدرب الفرعوني بقرب رحبة أبان ، بداخل مدينة قرطبة ، قرب باب عبد الجبّار يوم دخلها النصارى مع أميرهم ملك طليطلة ، يوم قيام ابن حمدين ، واقتتاله مع يحيى بن علي بن غانية المسّوفي الملثّم المرابطي يوم الأحد لثلاث عشرة مضت من ذي الحجة عام أربعين وخمسمائة. قتله بربر المصامدة رجّالة أهل دولة اللثام لحسن ملبسه ، ولم يعرفوه ، وقتلوا معه ابن أخته عبد الله بن عبد العزيز بن مسعود ، وكان أنكحه ابنته ، فقتلا معا. وكان محمد خيرة الشيوخ ، وعبد الله خيرة الأحداث ، رحمهما الله تعالى.

محمد بن مفضل بن مهيب اللخمي

يكنى أبا بكر ، من أهل شلب من العليا.

٢٨٨

حاله : قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : كان منقبضا عن الناس ، أديبا ، شاعرا ، خمّس عشرينيات الفازازي ، رحمه الله تعالى. وذكره صاحب الذيل ، وقال لي شيخنا أبو البركات ، وهو جدّه ، أبو أبيه ، ما معناه : كان شريفا ، عالي الهمة ، عظيم الوقار ، ألوفا ، صموتا ، نحيف الجسم ، آدم اللون ، خفيف العارض ، مقطّب الوجه ، دائم العبوس ، شامخ الأنف ، إلّا أنه كان رجلا عالما راسخا ، عظيم النزاهة ، حافظا للمروءة ، شهير الذكر ، خطيبا مصقعا ، مهيبا كشهرته ، قديم الرياسة ، يعضّد حديثه قديمه. واستقرّ بألمرية ، لمّا تغلّب العدو على بلد سلفه. ولمّا توفي شيخ المشايخ ؛ أبو إسحاق بن الحجاج ، تنافس الناس من البلدين ، وغيرهم ، في خطبة بنته. قال شيخنا أبو البركات : ومن خطّه نقلت ، وكان ابن مهيب واحدا منهم في الإلحاح بالخطبة ، متقدما في حلبتهم ، بجيوش الأشعار. ورام غلبته ذوو اليسار ، من حيث كان بحمراء جيش الإعسار ، فأذلّهم بالمقابلة في عقر الدار ، فلم يراجعوا من الغنيمة إلّا بالفرار. قلت : وجلب في هذا المعنى شعرا كثيرا ، ناسب الغرض. ونال من المتغلب على ألمريّة ، على عهده ، حظوة ، فاستظهر به تارة على معقل مرشانة ، وتارة على الرسالة إلى الحضرة الحفصية بتونس. ولما آب من سفره إليها ، سعى به لديه بما أوجب أن يحجر عليه التّصرف ، وسجنه بمنزله. فلمّا قصد ألمرية الغالب بالله ، مستخلصا إياها من يد الرئيس أبي عبد الله بن الرّميمي ، ونزل بمدينتها ، وحاصر قصبتها ، وقع اختيار الحاصر والمحصور على تعيين ابن مهيب ، بمحاولة الأمر ، وعقد الصلح ، رضى بدينه وأمانته ، فعقد الصلح بينهما على أن يسلم ابن الرميمي القصبة ، ويعان على ركوب البحر بماله وأهله وولده ، فتأتّى ذلك واكتسب عند الغالب بالله ، ما شاء من عزّة وتجلة.

وقفني شيخنا أبو البركات على ظهير سلطاني ، صدر عن الأمير الغالب بالله ، يدل على جلالة قدره ، نصّه :

هذا ظهير كريم ، أظهر العناية الحافلة لمستوحيها ومستحقّها ، وأجراه من الرعاية الكاملة على الحبّ طرقها. أمر بإحكام أحكامه ، والتزام العمل بفصوله وأقسامه ، الأمير أبو (١) عبد الله محمد بن يوسف بن نصر نصر الله أعلامه ، وأدام لإقامة قسط العدل أيامه ، لوليّه العليّ المكانة ، وصفيّه المليء بأثرتي المعرفة

__________________

(١) كلمة «أبو» ساقطة في الأصل. وقد حكم أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر غرناطة من سنة ٦٣٥ ه‍ إلى سنة ٦٧١ ه‍. اللمحة البدرية (ص ٤٢).

٢٨٩

والدّيانة ، الحريّ بما اختصّه ، أيّده الله ، من الحفظ لمرتبته السامية والصّيانة. للشيخ الفقيه ، الجليل ، العالم ، الأوحد ، العلم ، الأتقى ، الأزهر ، الفاضل ، الخطيب الأرفع ، المحدّث الثقة ، الرّاوية ، الصالح ، السّني ، الحافظ ، الحافل ، الماجد ، السّري ، الطاهر ، المكرّم ، المبرور ، الكامل ، أبي بكر ابن الشيخ الوزير الأجلّ ، الفقيه ، الحسيب ، الأصيل ، الأمجد ، المكرم ، المبرور ، الأفضل ، المرحوم ، أبي عمرو بن مهيب ، أدام الله عزّة جانبه ، ووصل بالعلم والعمل ارتقاء مراتبه ، أقام به الشّواهد على اعتقاده ، أنه أخلص أوليائه ودّا ، وأفضلهم قصدا ، وأكرمهم عهدا ، حين ظهرت له ، أيّده الله ، آثار آرائه الأصيلة ، وبانت في الصلاح والإصلاح ميامن مناقبه الجميلة ، ووجب له من العناية والمزيّات أتمّ ما توجبه معارفه ، وتقتضيه مجادته ، وزهادته ، التي لا يفنّد في وصفها واصف. وأعلن بأنه دام عزّه ، أحقّ من حفظت عليه مرتبة صدور العلماء الراسخين في العلم ، وأبقيت مزيّة ما تميز به التّقى والورع الكافي والحلم ، وبرع بصلة العناية بجانبه ، لما أهّلته إليه معرفته من نفع المتعلمين ، وإرشاد من يسترشده في مسائل الدين من المسلمين ، وأفصح بأنه أولى مخصوص بالتجلّة والتوقير ، وأجدر منصوص على أن قدره لديه معتمد بالتكريم والتكبير. وأمر ، أعلى الله أمره ، أن يستمرّ له ولزوجه الحرّة الأصيلة الزكية ، التقية الصالحة ، المصونة المكرمة المبرورة ، عائشة بنت الشيخ الفقيه الجليل العالم الصالح السّني ، الزاهد الفاضل ، المرحوم المقدس ، الأرضى ، أبي إسحاق ابن الحاج ؛ ما اطّردت به العادة لهما قديما وحديثا ، وتضمنه الظهيران الكريمان ، المؤرخ أحدهما بالعشر الأواخر لشوال عام خمسة وثلاثين وستمائة ، من صرف النظر في أعشارهما وزكواتهما إليهما ، ليضعا ذلك في أحقّ الوجوه ، ويؤدّيا فيه حقّ لله تعالى ، ما مثلهما علما ودينا من يؤدّيه ، موكولا ذلك لله ، إلى ما لديهما ، من نشر الأمانة ، مصروفا إلى نظرهما الجاري مع العلم والديانة ، وتجديد أحكام ما بأيديهما من الظّهائر والأوامر القديمة والحديثة ، المتضمنة تسويغ الأملاك ، على اختلافها ، وتباين أجناسها وأوصافها ، لهما ولأعقاب أعقابهما ، على التأبيد والتّخليد ، والمحاشاة من اللّوازم ، والمعاوز والمغارم ، وأن يطّرد لشركائهما ، وعمرة أملاكهما ، ووكلائهما ، وحواشيهما ، ومن اتصل بهما ، جميل العناية ، وحفيل الرعاية ، وموصول الحماية ، الاستمرار الذي يطّرد العمل به مدى الأيام ، وتتوالى التّمشية له من غير انصرام على الدوام ، موفى بذلك ، ما يحقّ لجانب الفقيه العالم ، الأوحد الأسنى ، أبي بكر ، أدام الله عزته ، من حظوظ الإجلال ، منتهى فيه إلى أبعد آماد العنايات الشريفة ، الفسيحة المجال ، مقضى على حقّ ما انفرد به من العلم ، واتصف به من الديانة ، اللذين أضفيا عليه ملابس البهاء والجلال. فمن وقف على هذا الظهير الكريم من الولاة

٢٩٠

والعمّال ، وسائر ولاة الأشغال ، وليتلقّه بغاية الائتمار والامتثال ، إن شاء الله. وكتب في الثاني عشر من ذي الحجة عام ثلاثة وأربعين وستمائة.

مشيخته : أخذ عن أبي العباس أحمد بن منذر الإشبيلي ، تلا عليه بإشبيلية ، وعلى عباس بن عطية أبي عمرو. وروى عن أبي محمد عبد الكبير الإشبيلي ، وصحب أبا الحسن بن زرقون ، وتفقّه عليه. وانتقل إلى ألمرية ، فصحب أبا إسحاق البليفيقي وأخذ عنه ، وتزوج ابنته. وأجاز له أبو عبد الله بن هشام الشّواش وغيره. ثم انتقل آخر عمره إلى سبتة.

شعره : نقلت من خطّ شيخنا أبي البركات قوله في غرض الوصية : [الطويل]

أليل النّوى ، هل من سبيل إلى فجر؟

ويا قلب ، كم تأسى ويا دمع ، كم تجري

أبى القلب إلّا أن يهيم بحبّكم

وأن تبرحوا إلّا القليل عن الفكر

رحّلت عنكم لا بقلبي وإنما

تركت لديكم حين ودّعتكم سرّي

أعود بدهر الوصل من حين هجركم

وربّ وصال مستعاد من الهجر

لتلعاب (١) نفسي لست أنفق قربكم

لزهدي فيكم بل حرصت على البرّ

تقطّع أكباد عليكم صبابة

فاصبر فإنّ (٢) الخير أجمع في الصبر

وبالقلب من لا يصلح الصبر عنهم

وإن كان خيرا فهو عنهم من الشّرّ

فلولاهم ما كنت أحسب ساعة

فقدتكم فيها عيانا من العمر

ألا يا أخي فاسمع وصاتي (٣) فإنها

أتتك (٤) ، لعمري ، من أخ سالم الصّدر

يحبّك في ذات الإله ويبتغي

بحبّك عند الله مدّخر الأجر

ألا إنما التوفيق كنت من أهله (٥)

مراعاة حقّ الله في السّرّ والجهر

بتوحيده في ذاته وصفاته

وأفعاله أيضا وفي النّدّ (٦) والأمر

فثابر على القرار والأثر الذي

يصحّ عن المختار والسّادة الغرّ

وعدّ لك الخيرات عما سواها

وكن بها مستمسكا أبد الدهر

إذا يسلك الشيطان فجّا سوى الذي

سلكت ولا يلفي سبيلا إلى مكر

__________________

(١) في الأصل : «للعباب» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.

(٢) في الأصل : «إن» وكذا ينكسر الوزن.

(٣) الوصاة ، بفتح الواو : الوصية. محيط المحيط (وصى).

(٤) في الأصل : «لبّتك» ، وهو ما لا معنى له.

(٥) في الأصل : «من أهله» وكذا ينكسر الوزن ، لذا جعلنا همزة القطع همزة الوصل.

(٦) في الأصل : «الندى» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.

٢٩١

وفرّق من (١) الأجناس حاشا تقيّهم

فقد ظهر الإفساد في البرّ والبحر

ولا تنسني واذكر أخاك بدعوة

فإنك منه يا أخي لعلى ذكر

قال شيخنا أبو البركات : ومن شعره ، ومن خطّه نقلت : [الكامل]

للصالحين إلى الصلاح طريق

رحبت بهم وغدت عليك تضيق

صرفوا النفوس من الهوى عن صوبها

فغدت إلى طلب النّجاة تتوق

منها بعد أبيات :

يا قرّة العين استمع من ناصح

في صدره قلب عليك شفيق

أنت الشّقيق ولادة ولذلك لي

روح لروحك في الخلوص شقيق

لا تخدعنّك ترّهات أحدثت

وخزعبلات للجهول تروق

واعكف على القرآن دهرك واجتمع

فالشّغل عنك لغيره تفريق

إنّ الحديث وفقهه وعلومه

هذا الذي للمؤمنين يليق

واهجر بني الدنيا فإنّ بهجرهم

يتضاعف الإيمان والتصديق

والحق بقوم قد عنوا بتجارة

نفقت لهم يوم القيامة سوق

واحفظ لسانك عن أذيّة (٢) مسلم

فسبابه قال الرسول فسوق

لا تبك همّ الرزق فهو مقدّر

والعبد طول حياته مرزوق

ولترض بالرحمن ربّا حاكما

ودع الفضول فمنه ضلّ فريق

حلّوا عقال عقولهم وتحكّموا

إنّ التحكم بالعقول مروق

ولقد أتتك نصيحتي ولشمسها

في أفق حبّك يا حبيب شروق

فكن القريب مكانه من نفعها

فمكان سدّتها إليك سحيق

واصطد بباري العزم أطيار الرضا

فأخوك غاية بازه التّحليق

ولتجعل التسبيح شأنك إنه

في الصّعب ممن شأنه التّصفيق

واقنع بعلم الوحي علما ثم لا

يذهب بك التّشقيق والتوفيق

لا ترض فيه بالدنيّة ولتمت

عطشا إذا لم تسق منه رحيق

ما كلّ علم يهتدى بحصوله

منه الرّكيك نعم ومنه رقيق

__________________

(١) كلمة «من» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.

(٢) في الأصل : «إذاية».

٢٩٢

كمدارك الأصوات منها طيّب

تسلو النفوس به ومنه نهيق

وعليكم منّي تحيّة من له

قلب إليكم أجمعين (١) مشوق

وقال : ألفيت بخطه ما نصّه : وكان بعض السفهاء قد كتب إليّ بيتين من شعر وهما : [الطويل]

إليك ، أبا بكر ، رفعت وسيلتي

ومثلك من تلقى إليه الوسائل

غرقت ببحر الذّل يوما وليس لي

بأرضكم إلّا اهتمامك ساحل

وأساء المحاولة في دفعها ، فصرفته ، ولم أقف عليهما ، فضرب عليهما ، وكتب في ظهرهما : [الطويل]

حللت ، أبا بكر ، بموطن عزة

فأنسيت ما قد كنت فيه من الذّلّ

وأصلك من كبر وكن متكبّرا

وكيف يطيب الفرع من ذلك الأصل؟

وكتبت إليه صحبة دراهم وجّهت بها إليه : [الطويل]

جفوت وما زال الجفاء (٢) سجيّة

لمثلك ما إن زال تبلى بها مثلي (٣)

وما قلت في أصلي فكذبة فاجر

رأى الفرع محمودا فعاب على الأصل

وبالإفك ما عثرت لا بحقيقة

فما الكبر من شأني ولا كنت في ذلّ

وما زلت ، والله ، الحميد مكرّما

وفي نائبات الدهر للعقد والحلّ

ولو كنت من يتّقي الله لم تكن

تمرّ (٤) متى تسخط وعند الرّضا تحلي (٥)

أما قلت أني ساحل لك عندما

غرقت ببحر الذّلّ في زمن المحل؟

وكيف نسخت المدح بالذّمّ قبل أن

تبثّ لي الشكوى وتدلي بما تدلي (٦)

ولكنّ لؤم الطّبع يحمل أهله

على الصّعب من سبّ الكرام أو النّيل

إذا (٧) كان بعض الكبر نقصا فإنه

عليك من الأوغاد يحسب في الفصل

وما الذّلّ إلّا ما أتى بك نحونا

فقيرا من التّقوى سليبا من العقل

ومطلوبك الدّنيا فخذها خسيسة

توافي خسيس النّفس والقول والفعل

__________________

(١) في الأصل : «أجمعه» وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «الجفا» وهكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «مثل» وهكذا ينكسر الوزن ، وأعتقد أنه خطأ في الطبع.

(٤) في الأصل : «تمد» بالدال.

(٥) في الأصل : «تحل». يقول : يضرّ متى يسخط ، وعند الرضا ينفع.

(٦) في الأصل : «تدل» بدون ياء.

(٧) في الأصل : «إن» وكذا ينكسر الوزن.

٢٩٣

وما الجود إلّا ما أصبت مكانه

ومهما فقدت الأصل لا عار في البخل

ومثلك من يجفي ويقلب خاسئا

فلست لإسداء الصّنيعة بالأهل

ولكنني عوّدت نفسي عادة

من البذل لم أعدل بها قطّ عن نذل

فخذها ، لحاك الله ، غير مبارك

لسعيك فيها يا ابن خانية النّعل

ومثلي من يؤذى فيحتمل الأذى

ولكنه قد يدرأ (١) الجهل بالجهل

وقد قال من لا شكّ في قوله من حك

مة إنما القتل أذهب للقتل (٢)

فإن زدتنا زدنا وإن كنت نادما

قبلناك أخذا في أمورك بالعدل

ففي كل شيء لست عنك مقصّرا

بما شئت من قطع وما شئت من وصل

قال الشيخ : قول الهاجي : وأصلك من كبر ، معناه التعريض يكون سلف أبي بكر بن مهيب ، علوا في أنفسهم وتكبروا ، فثاروا بسبب ذلك بطبيرة وجهاتها ، ثار منهم عبد الرحمن جدّ أبي بكر ، ثم حسن ، ثم عامر أخوه ، وإلى هذا أشار أبو بكر بن مهيب بقوله في بعض شعره : [الكامل]

إن لم أكن ملكا فكنت رئيسا (٣)

وأنشد في الصلة الزبيرية (٤) ، قوله رحمه الله : [الكامل]

أملي من الدنيا المباحة كسرة

أبقي بها رمقي ودار نابيه

قد أضرب الزمان عن سكانها

فكأنها في القفر دار خاليه

ومن شعره في المقطوعات : [الطويل]

ترحّل صبري والولوع مقيم

وصحّ اشتياقي والسّلوّ سقيم

فياليت شعري هل أفوز بعطف من

زيّنت خدّي وردا عليه أقوم (٥)؟

ويا جنّة قد حيل بيني وبينها

بقلبي من شوقي إليك جحيم

دخوله غرناطة : قال الشيخ : دخل غرناطة مرتين ، أخبرني بذلك الشيخ القاضي أبو الحسن بن عبيدة ، وهو بصير بأخباره ، إذ هو من أصحاب سلفه ، وممن رافق جدّه في الكتب عن بعض الأمراء مدة ، وفي الخطابة بألمريّة أخرى.

__________________

(١) في الأصل : «يدر» وكذا لا يستقيم المعنى والوزن معا. ودرأ الجهل بالجهل : دفعه دفعا شديدا.

(٢) في الأصل : «... من الحكما القتل ...» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.

(٣) في الأصل : «ريّسا» وكذا ينكسر الوزن.

(٤) أي كتاب «صلة الصلة» لابن الزبير.

(٥) عجز هذا البيت لا يستقيم وزنه ولا معناه.

٢٩٤

وفاته : توفي بسبتة أول ليلة من جمادى الآخرة عام خمسة وأربعين وستمائة.

محمد بن عبد الله بن داود بن خطاب الغافقي

حاله : من صلة ابن الزبير : كان كاتبا بارعا ، شاعرا مجيدا ، له مشاركة في أصول الفقه وعلم الكلام ، وغير ذلك ، مع نباهة وحسن فهم ، ذو فضل وتعقل ، وحسن سمت. وورد على غرناطة ، واستعمل في الكتابة السلطانية مدة ، وكان معلوم القدر ، معظّما عند الكافة. ثم إنه رجع إلى مرسية ، وقد ساءت أحوالها ، فأقام بها مدة ، ثم انفصل عنها ، وقد اشتدّت أحوالها ، واستقر بالعدوة بعد مكابدة.

قلت : أخبرني شيخنا أبو الحسن الجياب ، رحمه الله ، قال : كان شكس الأخلاق ، متقاطبا ، زاهيا بنفسه ؛ ابتدأ يوما كتابا مصدّرا بخطبته ، فقال فيه يصف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم «عفوة العفوة» ، وتركه لأمر عرض له ، فنظر إليه الفقيه عمر اللّوشي ، وهو كاتب المقام السلطاني ، فظنّ لقصوره أنه وهم ، وأراد «الصفوة» فأصلحه ، فلمّا عاد ونظر إليه مزّقه ، وكسر الآلة ، وقال : لا أقيم بموضع بلغ فيه الجهل إلى هذا القدر ، ويتسوّر به الإصلاح على قلم يطمع بعد في مقامه. وانصرف ، واستقرّ بتلمسان ، كاتبا عن سلطانها أبي يحيى يغمراسن بن زيّان. وزعموا أن المستنصر أبا عبد الله ابن الأمير أبي زكريا ، استقدمه على عادته في استدعاء الكتّاب المشاهير والعلماء ، وبعث إليه ألف دينار من الذهب العين ، فاعتذر وردّ عليه المال ، وكانت أشقّ ما مرّ على المستنصر ، وطهر له علوّ شأنه ، وبعد همّته.

مشيخته : روى عن القاضيين أبي عيسى بن أبي السّداد ، وأبي بكر بن محرز ، وعن الأستاذ أبي بكر محمد بن محمد ، المعروف بالقرشي ، وقرأ وسمع على هؤلاء ببلده ، وأجاز له كتابة أبو الربيع بن سالم وغيره.

شعره : من ذلك قوله : [الكامل]

اقنع بما أوتيته تنل الغنى

وإذا دهتك ملمّة فتصبّر

واعلم بأنّ الرزق مقسوم فلو

رمنا زيادة ذرّة لم نقدر

والله أرحم بالعباد فلا تسل

أحدا تعش عيش الكرام وتؤجر

وإذا سخطت لبؤس حالك مرة

ورأيت نفسك قد غوت فلتبصر

وانظر إلى من كان دونك تدّكر

لعظيم نعمته عليك وتشكر

٢٩٥

ومما قاله في صباه : [الكامل]

يا دعوة شاك (١)

ما قد دهاه من لحاظ رشاك

ظبي تصدّى للقلوب يصيدها

من ناظريه في سلاح شاك

ورمى وإن قالوا رنا عن فاتر

ساج عليه سيمة (٢) النّسّاك

قد كنت أحذر بطشه لو أنني

أبصرت منه مخايل الفتّاك

أو ما عليه ولا عليه حاكم

يحمي ثغورك أو يحوط حماك

أو ما لجارك ذمّة مرعيّة

أبذا يظلّ دم الغريب طلاك؟

إني استنمت إلى ظلالك ضلّة

فإذا ظباؤك ماضيات ظباك

ما لي أخاطب بانة ما أن تعي

قولا ولا ترثي لدمعة باك؟

أكريمة الحيّين ، هل لمتيّم

رحمى لديك فأرتجي رحماك؟

أصبتني بعد المشيب وليس من

عذر لمن لم يصبه ثراك

لولاك (٣) ما جذبت عناني لوعة

والله يشهد أنني لولاك

لمّا دعا داعي هواك أجبته

من لا يجيب إذا دعت عيناك؟

أصليتني نار الصّدود وإنّني

راض بأن أصلى ولا أسلاك

وأبحت ما منع التشرّع من دمي

بالله من أفتاك قتل فتاك؟

وتركت قلبي طائرا متخبّطا

بشباك (٤) ختلك أو بطعن سباك

ومنعت أجفاني لذيذ منامها

كي لا يتيح لي الكرى لقياك

ولقد عجبت وأنت جدّ بخيلة

كأن (٥) أعرت الشمس بعض حلاك

إني لأيأس من وصلك تارة

لكن أعلّل مطمعي بعلاك

أسماك أنك قد خفضت مكانتي

هلّا خلعت عليّ من سيماك؟

إني معنّاك المتيّم فليكن

حظّي لديك مناسبا مغناك

تثني معاطفك الصّبا خوطيّة

وكذا الصّبا فصباك مثل حماك

أبعدتني منها بطعنة رامح

ألذاك سمّتك الورى بسماك؟

أأموت من عطش وثغرك مورد

فيه الحياة استودعتها فاك؟

هلا تني عن حلوة فلعلّة

وضعت أداة النفي في اسم لماك

__________________

(١) صدر هذا البيت مختل الوزن والمعنى.

(٢) في الأصل : «سيم» وكذا لا يستقيم الوزن.

(٣) في الأصل : «لو لا» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٤) في الأصل : «شباك» وكذا ينكسر الوزن.

(٥) في الأصل : «أن» وكذا ينكسر الوزن.

٢٩٦

وقال يجيب أبا عبد الله بن خميس ، رحمه الله ، عن قصيدة بعث بها إليه أولها : [الكامل]

رد في حدائق مائها مرتاد

قد لذّ مورود وطاب مراد

زرق الأسنّة دون زرق حمامها

وظبى كما رنت العيون حداد

هذه الأبيات : [الكامل]

نعم المراد لمن غدا يرتاد

مرعى يرفّ نباته ومهاد

سالت على العافي جداوله كما

صالت على العادي ظبى تناد (١)

فشددت رحل مطيتي منه إلى

حيث السيادة تبتنى وتشاد

وركبت ناجية (٢) مبارية الصّبا

خضراء (٣) فوق خضارة (٤) تعتاد

يغتادها سكانها قلّب على

من كان من سكانها استبداد

عجبا لهم أحلامهم عاديّة

تمضي عليهم حكمها أعواد

خبّر تلمسانا بأني (٥) جئتها

لمّا دعاني نحوها الرّواد

وأعاقها (٦) سمعا ولم أر حسنها

إلّا أناسا حدّثوا فأجادوا (٧)

ولربّ حسن لا ثواه ناظر

ويراه لا يخفى عليه فؤاد

ودخلتها فدخلت منها جنّة

سكانها لا تخفى ولا حياد (٨)

ورأيت فضلا باهرا ومكارما

وعلا تغاضر دونها التّعداد

أهل الرّواية والدراية والنّدى

في نورهم أبدا لنا استمداد

فهم إذا سئلوا بحار معارف

ولدى السكينة والنهى أطواد

درجاتها ينحطّ عنها غيرهم

ومن الورى قتر ومنه وهاد

فأجلّهم وأحلّهم من مهجتي

بمكانة ما فوقها مزداد

وأودّ حين أخطّ أطيب ذكرهم

لو أنّ أسود مقلتيّ مداد

__________________

(١) في الأصل : «العادي بدا ناد» وكذا لا يستقيم الوزن ولا معنى له. والعادي : العدو.

(٢) الناجية : الناقة السريعة تنجو بمن ركبها. محيط المحيط (نجا).

(٣) في الأصل : «خضرا» وكذا ينكسر الوزن. والخضراء : السماء. محيط المحيط (خضر).

(٤) الخضارة : علم للبحر غير منصرف. محيط المحيط (خضر).

(٥) في الأصل : «بأنني» وكذا ينكسر الوزن.

(٦) في الأصل : «وعاقتها» وكذا لا يستقيم المعنى ولا الوزن.

(٧) في الأصل : «فأجاد».

(٨) عجز البيت مختل الوزن والمعنى معا.

٢٩٧

وقال يخاطبه وقد وقف على بعض قصيدة : [الكامل]

رقّت حواشي طبعك ابن خميس

فهفا قريضك بي وهاج رسيسي

ولمثله يصبو الحليم ويمتري

ما للشروق به وسير العيس

لك في البلاغة والبلاغة بعض ما

تحويه من أثر محلّ رئيسي

نظم ونثر لا تبارى فيهما

مهّدت (١) ذاك وذا بعلم الطّوس

وقال عند وفاته وربما نسبت لغيره : [الخفيف]

ربّ أنت الحليم فاغفر ذنوبي

ليس يعفو عن الذنوب سواكا

ربّ ثبّت عند السؤال لساني

وأقمني على طريق هداكا

ربّ كن لي (٢) إذا وقفت ذليلا

ناكس الرأي أستحي أن أراكا

ربّ من لي والنار قد قربت لي

وأنا قد أبحت عهد حماكا؟

ربّ مالي من عدّة لمآلي

غير أني أعددت صدق رجاكا

ربّ أقررت أنّني (٣) عبد سوء

حلمك الجمّ غرّه فعصاكا

ربّ أنت الجواد بالخير دوما

لم تزل راحما فهب لي رضاكا

ربّ إن لم أكن لفضلك أهلا

باجترائي فأنت أهل لذاكا

نثره : ومن نثره ما خاطب به صديقين له بمرسية من مدينة إشبيلية :

كتبته ، كتب الله لكما فوزا بالحسنى ، وأجناكما من ثمرات إحسانه أكثر ما يجنى. من إشبيلية ، وحالي بحمد الله حسنة ، ونفسي بحبّ قربكما مرتهنة ، وعليّ بما لديكما من السّراوة التي جبلتما على فطرتها ، وامتزتما في الاجتلاء بغرّتها ، علم لا يدخله الشكّ ، ونسبتي إلى ودّكما الذي لبسته معلما ، وتقلّدته محرما ، لا يعبّر عن معناها إلّا بما لا يزال ولا ينفكّ. فلنثن عنان القلم عن مداده ، ونأخذ في حديث سواه. وصلنا إشبيلية ضحوة يوم الثلاثاء خامس ربيع الآخر ، ولقينا الإفانت (٤) على ميلين ، وفزنا بما ظهر من بشره واعتنائه بقرار الخاطر ، وقرة العين ، ونزلنا في الأخبية

__________________

(١) في الأصل : «تمهدّت» وكذا ينكسر الوزن.

(٢) كلمة «لي» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.

(٣) في الأصل : «أني» وكذا ينكسر الوزن.

(٤) المراد : الإنفانت ، بالإسبانيةInfante ، وهو لقب كان يطلق على ولي عهد ملك قشتالة ، إذ كانت إشبيلية آنذاك تابعة لقشتالة لأنها سقطت في أيدي الإسبان سنة ٦٤٦ ه‍. وصارت عاصمة لقشتالة. راجع : الإحاطة (ج ٢ ص ٤٣١) تحقيق عنان ، حاشية رقم ٦.

٢٩٨

خارج البلد ، موضعا يعرف بالقنب (١) ، قد تفجّر عيونا ، وجمع ماؤه وهواؤه من المحاسن فنونا ، وعرض علينا النزول في الدّيار داخل المدينة ، فرأينا المقام فيه أحد الأسباب المسعدة على حفظ الصحة المعينة ، ورغبنا عن المدينة لحرّها الوهاج ، وغبارها العجاج ، ومائها الأجاج. ولمّا ثاب من النشاط البارح ، واستقلّ من المطيّ الرازح ، طفت في خارجها وداخلها ، ووقفت على مبانيها المشيّدة ومنازلها ، ورأيت انسياب أراقشها ، وتقصيت آثار طريانتها (٢) وبراقشها ، فشاهدت من المباني العتيقة ، والمنارة (٣) الأنيقة ، ما يملأ أعين النّظّار ، وينفسح فيه مجال الاعتبار ، على أني ما رأيتها إلّا بعد ما استولى عليها الخسف ، وبان عنها الظّرف ، ونبا عنها الطّرف ، فلا ترى من مغانيها إلّا طللا دارسا ، ولا تلمح من بدائعها إلا محيّا عابسا ، لكن الرائي إذا قدّر وضعها الأول ، وركب وهمه من مبانيها ما تحلّل ، وتخيّل في ذهنه حسنها وتمثل ، تصور حسنا يدعو إلى المجون ، ويسلي عن الشجون ، لو لا أنها عرضت لأشمط راهب ، لما دان إلّا بدن ولا تقرّب بغير قارب ، وحسبي أن أصفها بما يقيها من القبول ، وأقول إنها في البلاد بمنزلة الربيع من الفصول ، ولو لا أن خاطري مقسّم ، وفكري حدّه مثلم ، لقضيت من الإطناب وطرا ، ولم أدع من معاهدها عينا إلّا وصفتها ولا أثرا.

وفاته : توفي بتلمسان يوم عاشوراء سنة ست وثمانين وستمائة.

محمد بن عبد الله بن محمد بن لب الأمي (٤)

يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن الصايغ ، بالصاد المهملة ، والغين المعجمة ، من أهل ألمريّة.

حاله : من خطّ (٥) شيخنا أبي البركات في «الكتاب المؤتمن على أنباء أبناء الزمن» : كان سهلا ، سلس القياد ، لذيذ العشرة ، دمث الأخلاق ، ميّالا إلى الدّعة ، نفورا عن النّصب ، يركن إلى فضل نباهة وذكاء ، يحاسب بها (٦) عند التحصيل والدراسة والدّؤوب على الطلب ، من رجل يجري من الألحان على مضمار لطيف ،

__________________

(١) القنب : بالإسبانيةEl Campo ، وهو الحقل أو الميدان.

(٢) طريانة : بالإسبانيةTriana وهي ضاحية بإشبيلية على نهر الوادي الكبير.

(٣) هي منارة المسجد الجامع بإشبيلية ، وتعرف اليوم باسم La Giralda.

(٤) ترجمة ابن لب الأمي في الكتيبة الكامنة (ص ٨٨) وبغية الوعاة (ص ٦٠) والدرر الكامنة (ج ٤ ص ١٠٣) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٣٥٨ وما بعدها).

(٥) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٥٩).

(٦) في النفح : «بهما».

٢٩٩

ولم يكن له صوت رخيم ، يساوق (١) انطباعه في التّلحين ، يخبر (٢) ذلك بالأوتار. وحاول من ذلك بيده مع أصحابه ، ما لاذ به الظرفاء منهم. واستعمل بدار الأشراف بألمرية ، فأحكم تلك الطريقة في أقرب زمان ، وجاء زمامه يروق من ذلك العمل شأنه (٣). ثم نهضت به همّته إلى أرفع من ذلك ، فسار إلى غرناطة ، وقرأ (٤) بها العربية وغيرها ، وانخرط في سلك نبهاء الطلبة لأدنى مدة. ثم رحل إلى بلاد المشرق في حدود العشرين وسبعمائة ، فلم يتجاوز القاهرة لموافقة هوائها (٥) علّة كان يشكوها ، وأخذ في إقراء العربية بها ، وعرف بها إلى أن صار يدعى بأبي عبد الله النحوي. قال شيخنا المذكور : ورأى في صغره فأرة أنثى ، فقال : هذه قرينة ، فلقّب بذلك ، وصار هذا اللقب أغلب عليه (٦) من اسمه ومعرفته.

وجرى ذكره في التاج بما نصه (٧) : لجّ معرفة لا يغيض (٨) ، وصاحب فنون يأخذ فيها ويفيض. نشأ ببلده مشمّرا عن ساعد اجتهاده ، وشارك (٩) في قنن (١٠) العلم ووهاده ، حتى أينع روضه ، وفهق (١١) حوضه. ثم أخذ في إراحة (١٢) ذاته ، وشام بارقة (١٣) لذّاته ، ثم سار في البطالة سير الجموح ، وواصل الغبوق بالصّبوح ، حتى قضى وطره ، وسيم بطره ، وركب الفلك ، وخاض اللّجج الحلك ، واستقرّ بمصر على النعمة العريضة ، على شكّ في قضائه (١٤) الحجّة العريضة ، وهو اليوم (١٥) بمدرستها الصالحية ، نبيه المكانة ، معدود في أهل العلم والديانة.

مشيخته : قرأ بألمرية على المكتّب أبي عبد الله الميرقي ، وأخذ عن شيخ الجماعة أبي الحسن بن أبي العيش ، وقرأ بالحضرة على الخطيب أبي الحسن (١٦) القيجاطي وغيره. وأخذ بالقاهرة عن الأستاذ أبي حيّان ، وانتفع به وبجاهه.

__________________

(١) يساوق : يجاري ويوازي. لسان العرب (سوق).

(٢) في النفح : «فجبر».

(٣) في النفح : «من شأنه».

(٤) في النفح : «فقرأ».

(٥) في الأصل : «هواها» والتصويب من النفح.

(٦) كلمة «عليه» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من النفح.

(٧) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٥٨ ـ ٣٥٩).

(٨) لا يغيض : لا ينضب. لسان العرب (غيض).

(٩) في النفح : «وسائرا».

(١٠) القنن : جمع قنّة وهي القمّة. لسان العرب (قنن).

(١١) فهق : امتلأ. لسان العرب (فهق).

(١٢) في النفح : «راحة».

(١٣) في النفح : «بارق».

(١٤) في النفح : «في قضاء حجة الفريضة».

(١٥) كلمة «اليوم» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من النفح.

(١٦) في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٥٩): «على الخطيب أبي علي القيجاطي وطبقته».

٣٠٠