الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

للنعم التي أولاها ، وأعادها ووالاها ، والصلاة والسلام (١) على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله ، المترقّي من درجات الاختصاص أرفعها وأعلاها ، الممتاز من أنوار الهداية بأوضحها وأجلاها ، مطلع آيات السعادة يروق مجتلاها ، والرضا عن آله وصحبه الذين خبر صدق ضمائرهم لمّا ابتلاها ، وعسل ذكرهم (٢) في الأفواه فما أعذب أوصافهم على الألسن وأحلاها ، والدعاء لمقام أبوّتكم حرس الله تعالى علاها ، بالسعادة التي يقول الفتح : أنا طلّاع الثّنايا وابن جلاها (٣) ، والصّنائع التي تخترق المفاوز بركائبها المبشّرات فتفلي فلاها. فإنّا كتبنا إليكم ، كتب الله تعالى لكم عزّة مشيّدة البناء ، وحشد على أعلام صنائعكم الكرام جيوش الثناء ، وقلّدكم قلائد (٤) مكارم الأخلاق ، ما يشهد لذاتكم منه بسابقة الاعتناء. من حمراء غرناطة حرسها الله ، والودّ باهر السّناء (٥) ، مجدّ على الأناء ، والتشيّع رحب الدّسيعة (٦) والفناء.

وإلى هذا ، وصل الله تعالى سعدكم ، وحرس مجدكم! فإننا خاطبنا مقامكم الكريم ، في شأن الشيخ الفقيه الحافظ الصالح أبي عبد الله المقري ، خار الله تعالى لنا وله ، وبلّغ الجميع من فضله العميم أمله ، جوابا عمّا صدر من مثابتكم (٧) فيه من الإشارة المتمثّلة (٨) ، والمآرب المعملة ، والقضايا غير المهملة ، نصادركم بالشفاعة التي مثلها بأبوابكم لا يردّ ، وظمآها عن منهل قبولكم لا تجلى (٩) ولا تصدّ ، حسبما سنّه الأب الكريم والجدّ ، والقبيل الذي وضح منه في المكارم الرسم والحدّ. ولم نصدر الخطاب حتى ظهر لنا من أحواله صدق المخيّلة ، وتبلّج صبح الزّهادة والفضيلة ، وجود النفس الشّحيحة بالعرض الأدنى البخيلة ، وظهر تخلّيه عن هذه الدار ، واختلاطه باللفيف والغمار ، وإقباله على ما يعني مثله من صلة الأوراد ، ومداومة الاستغفار. وكنّا لما تعرّفنا إقامته بمالقة لهذا الغرض الذي شهره ، والفضل الذي أبرزه للعيان

__________________

(١) كلمة «والسلام» غير واردة في النفح.

(٢) عسل ذكرهم في الأفواه : أصبح حلوا كالعسل ، وهو كناية عن استعذاب الحديث عنهم. لسان العرب (عسل).

(٣) أخذه من قول سحيم بن وثيل الرياحي : [الوافر]

أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

الشعر والشعراء (ص ٥٣٨).

(٤) في النفح : «من قلائد».

(٥) في النفح : «السنا ، ظاهر السناء ، مجدّد على ...».

(٦) الدسيعة : الخلق ؛ ورحب الدسيعة : طيب الخلق والطباع. محيط المحيط (دسع).

(٧) في النفح : «مثابكم».

(٨) في النفح : «الممتثلة».

(٩) في النفح : «لاتحلأ».

١٢١

وأظهره ، أمرنا أن يعتنى بأحواله ، ويعان على فراغ باله ، ويجرى عليه سيب من ديوان الأعشار الشرعية وصريح ماله ، وقلنا : أما أتاك من غير مسألة مستند صحيح لاستدلاله ، ففرّ من مالقة على ما تعرّفنا لهذا السبب ، وقعد بحضرتنا مستور المنتمى والمنتسب ، وسكن بالمدرسة بعض الأماكن المعدّة لسكنى المتّسمين بالخير ، والمحترفين ببضاعة الطّلب ، بحيث لم يتعرّف وروده ووصوله إلّا ممّن لا يؤبه بتعريفه ، ولم تتحقق زوائده وأصوله لقلّة تصريفه. ثم تلاحق إرسالكم الجلّة. فوجبت حينئذ الشفاعة ، وعرضت على سوق الحلم والفضل من الاستلطاف والاستعطاف البضاعة ، وقررنا ما تحققناه من أمره ، وانقباضه عن زيد الخلق وعمره ، واستقباله الوجهة التي من ولّى وجهه شطرها فقد آثر أثيرا ، ومن ابتاعها بمتاع الدنيا فقد نال فضلا كبيرا وخيرا كثيرا ، وسألنا منكم أن تبيحوه ذلك الغرض الذي رماه بعزمه ، وقصر عليه أقصى همّه. فما أخلق مقامكم أن يفوز منه طالب الدّنيا بسهمه ، ويحصل منه طالب الآخرة على حظّه الباقي وقسمه ، ويتوسّل الزاهد بزهده والعالم بعلمه ، ويعوّل البريء على فضله ، ويثق المذنب بحلمه. فوصل الجواب الكريم بمجرد الأمان ، وهو أرب من آراب (١) ، وفائدة من جراب ، ووجه من وجوه إعراب ، فرأينا أن المطل بعد جفاء ، والإعادة ليس يثقلها خفاء ، ولمجدكم بما ضمّنا عنه وفاء ، وبادرنا الآن إلى العزم عليه في ارتحاله ، وأن يكون الانتقال عن رضا منه من صفة حاله ، وأن يقتضي له ثمرة المقصد ، ويبلغ طيّة الإسعاف في الطريق إن قصد ، إذ كان الأمان لمثله ممن تعلّق بجناب الله من مثلكم حاصلا ، والدّين المتين بين نفسه وبين المخافة فاصلا ، وطالب (٢) كيمياء السّعادة بإعانتكم واصلا. ولما مدّت اليد في تسويغ حالة هديكم عليها أبدا يحرّض ، وعلمكم يصرّح بمزيتها ولا يعرّض ، فكمّلوا أبقاكم الله ما لم تسعنا فيه مشاحة الكتاب ، وألحقوا بالأصل حديث هذه الإباحة فهو أصحّ حديث في الباب ، ووفّوا غرضنا من مجدكم ، وخلّوا بينه وبين مراده من ترك الأسباب ، وقصد غافر الذنب وقابل التّوب بإخلاص المتاب ، والتّشمير ليوم العرض وموقف الحساب ، وأظهروا عليه عناية الجناب ، الذي تعلّق به ، أعلق الله به يدكم من جناب ، ومعاذ الله أن تعود شفاعتنا من لدنكم عير مكملة الآراب. وقد بعثنا من ينوب عنا في مشافهتكم بها أحمد المناب ، ويقتضي خلاصها بالرّغبة لا بالغلاب ، وهما فلان وفلان. ولو لا الأعذار لكان في هذا الغرض إعمال الرّكاب ، بسبق (٣) أعلام الكتاب ، وأنتم تولون هذا القصد من مكارمكم ما يوفّر الثناء الجميل ، ويربي على التّأميل ، ويكتب على الودّ الصريح العقد وثيقة

__________________

(١) الآراب : جمع أرب وهو البغية والمطلب. لسان العرب (أرب).

(٢) في الأصل : «وطالبنا» والتصويب من النفح.

(٣) في النفح : «يسبق».

١٢٢

التّسجيل. وهو سبحانه يبقيكم لتأييد المجد الأثيل ، وإنالة الرّفد الجزيل. والسلام الكريم يخصّ مقامكم الأعلى ، ومثابتكم الفضلى ، ورحمة الله تعالى وبركاته. في الحادي والعشرين لجمادى الآخرة من عام سبعة وخمسين وسبعمائة ، والله ينفع بقصده ، وييسر علينا الرجعة إلى وجهه وفضله (١).

مشيخته : قال (٢) : فممّن أخذت عنه ، واستفدت منه علماها ، يعني تلمسان ، الشامخان ، وعالماها الراسخان : أبو زيد عبد الرحمن ، وأبو موسى عيسى ، ابنا محمد بن عبد الله بن الإمام (٣) ، وحافظها ومدرّسها ومفتيها أبو موسى عمران بن موسى بن يوسف المشذالي (٤) ، صهر شيخ المتأخرين (٥) أبي علي ناصر الدين (٦) على ابنته ، ومشكاة الأنوار التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن حكيم الكناني (٧) السّلوى ، رحمه الله. ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور (٨) ، والشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسن (٩) البرّوني ، وأبو عمران موسى بومن (١٠) المصمودي الشهير بالبخاري. قال : سمعت البرّوني يقول : كان الشيخ أبو عمران يدرّس البخاري (١١) ، ورفيق له يدرّس صحيح مسلم ، وكانا يعرفان بالبخاري ومسلم ، فشهدا عند قاض ، فطلب المشهود عليه بالإعذار فيهما ، فقال له أبو عمران : أتمكّنه من الإعذار في الصّحيحين البخاري ومسلم؟ فضحك القاضي ، وأصلح بين الخصمين. ثم قال : ومن شيوخي الصلحاء الذين لقيت بها ، خطيبها الشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي الخياط ، أدرك أبا

__________________

(١) قوله : «والله ينفع حتى : وفضله» غير وارد في النفح.

(٢) تحدث المقري عن مشيخة ابن الخطيب في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٠٦ ، ٢١٣ ، ٢١٤ ، ٢٢٣ ـ ٢٢٤ ، ٢٢٨).

(٣) ترجمة ابني محمد بن عبد الله بن الإمام في التعريف بابن خلدون (ص ٢٨) والديباج المذهب (ص ١٥٢) ونيل الابتهاج (ص ١٣٩).

(٤) في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢١٣): «المشدّالي». وترجمة المشدّالي في نيل الابتهاج (ص ٣٧٧).

(٥) في النفح : «المدرسين».

(٦) هو منصور بن أحمد بن عبد الحق ، المتوفّى سنة ٧٣١ ه‍. ترجمته في نيل الابتهاج (ص ٣٧٧) وعنوان الدراية (ص ١٣٤).

(٧) كلمة «الكناني» غير واردة في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢١٤).

(٨) ترجمة أبي عبد الله بن عبد النور في التعريف بابن خلدون (ص ٤٦) وجذوة الاقتباس (ص ١٩٠) ونيل الابتهاج (ص ٢٤٠).

(٩) في النفح : (ج ٧ ص ٢١٤): «الحسين». وترجمه البروني في نيل الابتهاج (ص ٢٢٨).

(١٠) هذه الكلمة غير واردة في النفح.

(١١) في النفح : «يدرس صحيح البخاري».

١٢٣

إسحاق الطيّار. ومنهم أبو عبد الله بن محمد الكرموني ، وكان بصيرا بتفسير الرّؤيا ، فمن عجائب شأنه ، أنه كان في سجن أبي يعقوب يوسف بن عبد الحق مع من كان فيه ، من أهل تلمسان أيام محاصرته لها ، فرأى أبا جمعة علي التّلالسي الجرايحي منهم ، كأنه قائم على ساقية دائرة ، وجميع أقداحها وأقواسها تصب في نقير في وسطها ، فجاء ليشرب ، فاغترف الماء ، فإذا فيه فرث ودم ، فأرسله ، واغترف فإذا هو كذلك ، ثلاثا أو أكثر ، ثم عدل إلى خاصّة ماء ، فجاءها وشرب منها. ثم استيقظ ، وهو النهار ، فأخبره ، فقال : إن صدقت الرؤيا ، فنحن عن قليل خارجون من هذا السجن. قال : كيف؟ قال : الساقية الزمان ، والنّقير السلطان ، وأنت جرايحي ، تدخل يدك في جوفه فينالها الفرث والدّم ، وهذا ما لا يحتاج معه إلى دليل ، فأخرج ، فوجد السلطان مطعونا بخنجر ، فأدخل يده في جوفه ، فناله الفرث والدّم ، فخاط جراحته وخرج ، فرأى خاصّة ماء ، فغسل يده وشرب. ولم يلبث السلطان أن توفي ، وسرّحوا من كان في سجنه. ومن أشياخه الإمام نسيج وحده ، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد الآبلي التلمساني ، وهو رحلة الوقت في القيام على الفنون العقلية ، وإدراكه وصحّة نظره.

حدّث قال : قدم على مدينة فاس ، شيخنا أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي ، عرف بابن المسفّر ، رسولا من صاحب بجاية. وزاره الطلبة ، فكان مما حدّثهم أنهم كانوا على زمان ناصر الدين ، يستشكلون كلاما وقع في تفسير سورة الفاتحة من كتب فخر الدين ، واستشكله الشيخ معهم. وهذا نصه : ثبت في بعض العلوم العقلية ، أن المركّب مثل البسيط في الجنس ، والبسيط مثل المركّب في الفصل ، وأن الجنس أقوى من الفصل ، فأخبروا بذلك الشيخ الآبلي لما رجعوا إليه ، فتأمله ثم قال : هذا كلام مصحّف ، وأصله أن المركّب قبل البسيط في الحسّ ، والبسيط قبل المركّب في العقل ، وأن الحسّ أقوى من العقل ، فأخبروا ابن المسفّر ، فلجّ ، فقال لهم الشيخ : التمسوا النسخ ، فوجدوا في لفظ بعضها كما قال الشيخ.

رحلته : رحل (١) إلى بجاية مشرّقا ، فلقي بها جلّة ، منهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي ، ابن المسفّر (٢). ومنهم قاضيها أبو عبد الله محمد ابن الشيخ

__________________

(١) راجع نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٣٦ ـ ٢٣٧ ، ٢٣٩).

(٢) توفي ابن المسفر في عام ٧٤٣ ه‍ ، وترجمته في نيل الابتهاج (ص ٢٣٧) والديباج المذهب (ص ٣٣٢).

١٢٤

أبي يوسف يعقوب الزّواوي ، فقيه ابن فقيه. ومنهم أبو علي (١) حسن بن حسن إمام المعقولات بعد ناصر الدين. وبتونس قاضي الجماعة وفقيهها أبو عبد الله بن عبد السلام (٢) ، وحضر دروسه ، وقاضي المناكح أبو محمد اللخمي (٣) ، وهو حافظ فقهائها في وقته ، والفقيه أبو عبد الله بن هارون شارح ابن الحاجب في الفقه والأصول. ثم حجّ فلقي بمكة إمام الوقت أبا عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن التّوزري ، المعروف بخليل ، وإمام المقام أبا العباس رضيّ (٤) الدين الشافعي ، وغير واحد من الزّائرين والمجاورين وأهل البلد. ثم دخل الشام ، فلقي بدمشق شمس الدين بن قيّم الجوزية ، صاحب ابن تيميّة ، وصدر الدين الغماري المالكي ، وأبا القاسم بن محمد اليماني الشافعي وغيرهم. وببيت القدس أبا عبد الله بن مثبت ، والقاضي شمس الدين بن سالم ، والفقيه أبا عبد الله بن عثمان ، وغيرهم.

تصانيفه : ألّف (٥) كتابا يشتمل على أزيد من مائة مسألة فقهية ، ضمّنها كل أصيل (٦) من الرأي والمباحثة. ودوّن في التّصوّف إقامة المريد ، ورحلة المتبتّل ، وكتاب الحقائق والرّقائق ، وغير ذلك.

شعره : نقلت (٧) من ذلك قوله : هذه لمحة العارض لتكملة ألفيّة ابن الفارض ، سلب الدهر من فرائدها مائة وسبعة وسبعين ، فاستعنت على ردّها بحول الله المعين.

من فصل الإقبال (٨) : [الطويل]

رفضت السّوى وهو الطّهارة عندما

تلفّعت في مرط الهوى وهو زينتي

وجئت الحمى وهو المصلّى ميمّما

بوجهة قلبي وجهها وهو قبلتي

وقمت وما استفتحت إلّا بذكرها

وأحرمت إحراما لغير تجلّة (٩)

فديني إن لاحت ركوع وإن دنت

سجود وإن لاهت (١٠) قيام بحسرة

__________________

(١) في النفح : «أبو علي حسين بن حسين».

(٢) هو محمد بن عبد السلام المنستيري ، المتوفى سنة ٧٥٠ ه‍. وترجمته في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٩) والتعريف بابن خلدون (ص ١٩) والديباج المذهب (ص ٣٣٦) ونيل الابتهاج (ص ٢٤٠).

(٣) في النفح : «الأجمي».

(٤) في النفح : «بن رضي».

(٥) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٦٦).

(٦) في النفح : «أصل».

(٧) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٠٦).

(٨) القصيدة في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٠٦ ـ ٣٠٨).

(٩) في النفح : «تحلّة» بالحاء غير المعجمة.

(١٠) لاهت : تسترت. محيط المحيط (لاه).

١٢٥

على أننا في القرب والبعد واحد

تؤلّفنا (١) بالوصل عين التّشتّت

وكم من هجير خضت ظمآن طاويا

إليها وديجور طويت برحلة (٢)

وفيها لقيت الموت أحمر والعدا

بزرقة (٣) أسنان الرّماح وحدّة

وبيني وبين العذل فيها منازل

تنسّيك أيام الفجار ومؤتة

ولمّا اقتسمنا خطّتينا فحامل

فجار بلا أجر وحامل برّة

خلا مسمعي من ذكرها فاستعدته

فعاد ختام الأمر أصل القضيّة

وكم لي على حكم الهوى من تجلّد

دليل على أنّ الهوى من سجيّتي

يقول سميري والأسا سالم الأسى

ولا توضع الأوزار إلّا لمحنة

لو أنّ مجوسا بتّ موقد نارها

لما ظلّ إلّا منهلا ذا شريعة

ولو كنت بحرا لم يكن فيه نضحة

لعين إذا نار الغرام استحرّت (٤)

فلا ردم من نقب (٥) المعاول آمن

ولا هدم إلّا منك (٦) شيد بقوّة

فممّ تقول الأسطقسّات (٧) منك أو

علام مزاج ركّبت أو طبيعة

فإن قام لم يثبت له منك قاعد

وإلّا فأنت الدّهر صاحب قعدة

فما أنت يا هذا الهوى؟ ماء أو هوا

أم النار أم دسّاس عرق الأمومة؟

وإني على صبري كما أنت (٨) واصف

وحالي أقوى القائمين بحجّة

أقلّ الضّنى أن عجّ من جسمي الضّنى

وما شاكه معشار بعض شكيّتي

وأيسر شوقي أنني ما ذكرتها

ولم أنسها إلّا احترقت بلوعة

وأخفي الجوى قرع الصواعق منك في

جواي وأخفى الوجد صبر المودّة

وأسهل ما ألقى من العذل أنني

أحبّ أقلّي (٩) ذكرها وفضيحتي

وأوج حظوظي اليوم منها حضيضها

بالأمس وسل حرّ الجفون الغزيرة

وأوجز أمري أنّ دهري كلّه

كما شاءت الحسناء يوم الهزيمة

__________________

(١) في الأصل : «تألّفنا» والتصويب من النفح.

(٢) طاويا : أي طاويا بطني من الجوع. طويت : قطعت واجتزت. لسان العرب (طوى).

(٣) في الأصل : «مزرّقة» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٤) استحرّت : اشتدّت. محيط المحيط (حرر).

(٥) في الأصل : «نقيب» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٦) في الأصل : «إلّاك شيّد» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٧) في الأصل : «الأسفطسات» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٨) في النفح : «أنا».

(٩) في الأصل : «أفلي» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

١٢٦

أروح وما يلقى التأسّف راحتي

وأغدو ما يعدو التفجّع خطّتي

وكالبيض بيض الدهر والسّمر سوده

مساءتها في طيّ طيب المسرّة

وشأن الهوى ما قد عرفت ولا تسل

وحسبك أن لم يخبر الحبّ رؤيتي

سقام بلا برء ، ضلال بلا هدى

أوام بلا ريّ ، دم لا بقيمة

ولا عتب فالأيام ليس لها رضا

وإن ترض منها الصّبر فهو تعنّتي (١)

ألا أيها اللّوّام عني قوّضوا

ركاب ملامي فهو أول محنتي

ولا تعذلوني في البكاء ولا البكى

وخلّوا سبيلي ما استطعتم ولوعتي

فما سلسلت بالدمع عيني إن جنت

ولكن رأت ذاك الجمال فجنّت

تجلّى وأرجاء الرّجاء حوالك

ورشدي غاو والعمايات عمّت

فلم يستبن حتى كأني كاسف

وراجعت إبصاري (٢) له وبصيرتي

ومن فصل الاتصال (٣) : [الطويل]

وكم موقف لي في الهوى خضت دونه

عباب الرّدى بين الظّبا والأسنّة

فجاوزت في حدّي مجاهدتي له

مشاهدتي لمّا سمت بي همّتي

وحلّ جمالي في الجلال فلا أرى

سوى صورة التّنزيه في كلّ صورة

وغبت عن الأغيار في تيه حالتي

فلم أنتبه حتى امتحى اسمي وكنيتي

وكاتبت ناسوتي بأمّارة الهوى

وعدت إلى اللاهوت بالمطمئنّة

وعلم يقيني صار عينا حقيقة

ولم يبق دوني حاجب غير هيبتي

وبدّلت بالتّلوين تمكين عزّة

ومن كلّ أحوالي مقامات رفعة

وقد غبت بعد الفرق والجمع موقفي

مع المحو والإثبات عند تثبّتي

وكم جلت في سمّ الخياط (٤) وضاق بي

لبسطي وقبضي بسط وجه البسيطة

وما اخترت إلّا دنّ بقراط زاهدا

وفي ملكوت النفس أكبر عبرة

وفقري مع الصّبر اصطفيت على الغنى

مع الشكر إذ لم يحظ فيه مثوبتي

وأكتم حبّي ما كنى عنه أهله

وأكني إذا هم صرّحوا بالخبيّة

وإنّي في جنسي ومنه لواحد

كنوع ، ففصل النوع علّة حصّتي

__________________

(١) في الأصل : «بغيتي» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٢) في الأصل : «أبصاري» ، والتصويب من النفح.

(٣) القصيدة في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩) وجاء فيه : «وفي» بدل «ومن».

(٤) سمّ الخياط : ثقب الإبرة. محيط المحيط (سمم) و (خيط).

١٢٧

تسبّبت في دعوى التوكّل ذاهبا

إلى أنّ أجدى حيلتي ترك حيلتي

وآخر حرف صار مني أولا

مريدا وحرف في مقام العبودة

تعرّفت يوم الوقف منزل قومها

فبتّ بجمع سدّ خرق التّشتّت

فأصبحت أقضي النفس منها منى الهوى

وأقضي على قلبي برعي الرعيّة

فبايعتها بالنفس دارا سكنتها

وبالقلب منه منزلا فيه حلّت

فخلّص الاستحقاق نفسي من الهوى

وأوجب الاسترقاق تسليم شفعة

فيا نفس لا ترجع تقطّع بيننا

ويا قلب لا تجزع ظفرت بوحدة

ومن فصل الإدلال (١) : [الطويل]

تبدّت (٢) لعيني من جمالك لمحة

أبادت فؤداي من سناها بلفحة (٣)

ومرّت بسمعي من حديثك ملحة

تبدّت لها فيك القران وقرّت

ملامي أبن ، عذري استبن ، وجدي استعن

سماعي أعن ، حالي أبن ، قائلي اصمت

فمن شاهدي سخط ومن قاتلي (٤) رضا

وتلوين أحوالي وتمكين رتبتي

مرامي إشارات ، مراعي تفكّر (٥)

مراقي نهايات ، مراسي تثبّت

وفي موقفي والدّار أقوت رسومها

تقرّب أشواقي تبعّد حسرتي

معاني أمارات ، مغاني تذكّر

مباني بدايات ، مثاني تلفّت

وبثّ غرام ، والحبيب بحضرة

وردّ سلام والرقيب بغفلة

ومطلع بدر في قضيب على نقا

فويق محلّ عاطل دون دجية

ومكمن سحر بابليّ له بما

حوت أضلعي فعل القنا السّمهريّة

ومنبت مسك من شقيق ابن منذر

على سوسن غضّ بجنّة وجنّة

ورصف اللآلي في اليواقيت كلّما

تعلّ بصرف الرّاح في كل سحرة

سل السلسبيل العذب عن طعم ريقه

ونكهته يخبرك عن علم خبرة

ورمّان كافور عليه طوابع

من الندّ (٦) لم تحمل به بنت مزنة

ولطف هواء بين خفق وبانة

ورقّة ماء في قوارير فضّة

لقد عزّ الصّبر حتى كأنّه

سراقة لحظ منك للمتلفّت

__________________

(١) القصيدة في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٠٩ ـ ٣١١).

(٢) في الأصل : «تبوّب» ، والتصويب من النفح.

(٣) في الأصل : «بلفعة» والتصويب من النفح.

(٤) في النفح : «قائلي».

(٥) في الأصل : «تعكر» والتصويب من النفح.

(٦) النّدّ : عود يتبخّر به. لسان العرب (ندد).

١٢٨

وأنت وإن لم تبق مني صبابة

منى النفس لم تقصد سواك بوجهة

وكلّ فصيح منك يسري لمسمعي

وكلّ مليح منك يبدو لمقلتي

تهون عليّ النّفس فيك وإنها

لتكرم أن تغشى سواك بنظرة

فإن تنظريني بالرّضا تشف علّتي

وإن تظفريني باللقا تطف غلّتي

وإن تذكريني والحياة بقيدها

عدلت لأمتي منيتي بمنيّتي

وإن تذكريني بعدما أسكن الثرى

تجلّت دجاه عند ذاك وولّت

صليني وإلّا جدّدي الوعد تدركي

صبابة نفس أيقنت بتفلّت

فما أمّ بوّ هالك بتنوفة (١)

أقيم لها خلف الحلاب فدرّت

فلمّا رأته لا ينازع خلفها

إذا هي لم ترسل عليه وضنّت

بكت كلّما راحت عليه وإنها

إذا ذكرته آخر الليل حنّت

بأكثر منّي لوعة غير أنني

رأيت وقار الصّبر أحسن حلية

فرحت كما أغدو إذا ما ذكرتها

أطامن أحشائي على ما أجنّت

أهوّن ما ألقاه إلّا من القلى

هوى ونوى نيل الرّضا منك بغيتي

أخوض الصّلى أطفي العلا والعلوّ لا

أصلّ السّلا أرعى الخلى بين عبرتي

ألا قاتل الله الحمامة غدوة

لقد أصلت الأحشاء نيران لوعة

وقاتل مغناها وموقف شجوها

على الغصن ما ذا هيّجت حين غنّت

فغنّت غناء أعجميّا فهيّجت

غرامي من ذكرى عهود تولّت

فأرسلت الأجفان سحبا وأوقدت

جواي الذي كانت ضلوعي أكنّت (٢)

نظرت بصحراء البريقين نظرة

وصلت بها قلبي فصلّى وصلّت

فيا لهما قلبا شجيّا ونظرة

حجازيّة لو جنّ طرف لجنّت

ووا عجبا للقلب كيف اعترافه

وكيف بدت أسراره خلف سترة

وللعين لمّا سوئلت كيف أخبرت

وللنفس لما وطّنت كيف دلّت

وكنّا سلكنا في صعود من الهوى

يسامي بأعلام العلا كلّ رتبة

إلى مستوى ما فوقه فيه (٣) مستوى

فلمّا توافينا ثبثّ وزلّت

__________________

(١) البوّ : ولد الناقة. التنوفة : الأرض الواسعة التي لا ماء فيها ولا إنسان. محيط المحيط (بوو) و (تنف).

(٢) أكنّت : سترت. محيط المحيط (كنن).

(٣) كلمة «فيه» ساقطة من الإحاطة ، وقد أضفناها من النفح.

١٢٩

وكنّا عقدنا عقدة الوصل بيننا

على نحر قربان لدى قبر شيبة

مؤكدة بالنّذر أيام عهده

فلمّا تواثقنا اشتددت وحلّت

ومن فصل الاحتفال (١) : [الطويل]

أزور اعتمارا أرضها بتنسّك

وأقصد حجّا بيتها بتحلّة

وفي نشأتي الأخرى ظهرت بما علت

له نشأتي الأولى على كلّ فطرة

ولولا خفاء الرّمز لا ولن ولم

تجدها لشملي مسلكا بتشتّت

ولو لم يجدّد عهدنا عقد خلّة

قضيت ولم يقض المنى صدق توبة

بعثت إلى قلبي بشيرا بما رأت

على قدم عيناي منه فكفّت

فلم يعد أن شام البشارة شام ما

جفا الشّام من نور الصفات الكريمة

فيالك من نور لو أنّ التفاتة

تعارض منه بالنفوس النّفيسة

تحدّث أنفاس الصّبا أن طيبها

بما حملته من حراقة حرقة

وتنبىء آصال الربيع عن الرّبا

وأشجاره إن قد تجلّت فجلّت

وتخبر أصوات البلابل أنها

تغنّت بترجيعي (٢) على كلّ أيكة

فهذا جمالي منك في بعد حسرتي

فكيف به إن قرّبتني بخلّة

تبدّى وما زال الحجاب ولا دنا

وغاب ولم يفقده شاهد حضرتي

له كلّ غير في تجلّيه مظهر

ولا غير إلّا ما محت كفّ غيرة

تجلّي دليل واحتجاب تنزه

وإثبات عرفان ومحو تثبّت

فما شئت من شيء وآليت أنه

هو الشيء لم تحمد فجار أليّتي

وفي كل خلق منه كلّ عجيبة

وفي كلّ خلق منه كل لطيفة

وفي كل خاف منه مكمن حكمة

وفي كل باد منه مظهر جلوة

أراه بقلب (٣) القلب واللّغز كامنا

وفي الزّجر والفال الصحيح الأدلة

وفي طيّ أوفاق الحساب وسرّ ما

يتمّ من الأعداد فابدأ بستّة

وفي نفثات السّحر في العقد التي

تطوع (٤) لها كلّ الطّباع الأبيّة

يصوّر شكلا مثل شكل ويعتلي

عليه بأوهام النفوس الخبيثة

__________________

(١) القصيدة في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣١١ ـ ٣١٣).

(٢) الترجيع : ترديد الصوت ، وأراد هنا الغناء. لسان العرب (رجع).

(٣) في الأصل : «يقلّب» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٤) في الأصل : «تطوّع» وهكذا ينكسر الوزن.

١٣٠

وفي كلّ تصحيف وعضو بذاته

اختلاج وفي التّقويم مجلى لرؤية

وفي خضرة الكمّون تزجي شرابه

مواعيد عرقوب على إثر صفرة

وفي شجر قد خوّفت قطع أصلها

فبان بها حمل لأقرب مدّة

وفي النّخل في تلقيحه واعتبر بما

أتى فيه عن غير البريّة واسكت

وفي الطابع السّبتي في الأحرف التي

يبيّن منها النّظم كلّ خفية

وفي صنعة الطّلسم والكيمياء وال

كنوز وتغوير المياه المعينة

وفي حرز أقسام المؤدّب محرز

وحزب أصيل الشّاذليّ وبكرة

وفي سيمياء الحاتميّ ومذهب اب

ن سبعين إذ يعزى إلى شرّ بدعة

وفي المثل الأولى وفي النّحل الألى

بها أوهموا لمّا تساموا بسنّة

وفي كل ما في الكون من عجب وما

حوى الكون إلّا ناطقا بعجيبة

فلا سرّ إلّا وهو فيه سريرة

ولا جهر إلّا وهو فيه كحلية

سل الذّكر عن أنصاف أصناف ما ابتنى

عليه الكلام من حروف سليمة

وعن وضعها في بعضها وبلوغ ما

أتت فيه أمضى عدّها وتثبّت

فلا بدّ من رمز الكنوز لذي الحجا

ولا ظلم إلّا ظلم صاحب حكمة

ولو لا سلام ساق للأمن خيفتي

لعاجل مسّ البرد خوفي لميتتي

ولو لم تداركني ولكن بعطفها

درجت رجائي أن نعتني خيبتي

ولو لم تؤانسني عنّا قبل لم ولم

قضى العتب منّي بغية بعد وحشتي

ونعم أقامت أمر ملكي بشكرها

كما هوّنت بالصبر كلّ بليّة

ومن فصل الاعتقال (١) : [الطويل]

سرت بفؤادي إذ سرت فيه نظرتي

وسارت ولم تثن العنان بعطفة

وذلك لما أطلع الشمس في الدّجى

محيّا ابنة الحيّين في خير ليلة

يمانيّة لو أنجدت حين أنجدت (٢)

لما أبصرت عيناك حيّا كميّت

لأصحمة (٣) في نصحها قدم بنى

لكلّ نجاشيّ بها حصن ذمّة

ألمّت فحطّت رحلها ثم لم يكن

سوى وقفة التّوديع حتى استقلّت

__________________

(١) القصيدة في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣١٣ ـ ٣١٥).

(٢) أنجدت الأولى : من النجدة. وأنجدت الثانية : دخلت نجدا. لسان العرب (نجد).

(٣) أصحمة : هو نجاشي الحبشة ، الذي استقبل بالحبشة مهاجري المسلمين وأحسن معاملاتهم ، ولمّا توفّي صلّى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب.

١٣١

فلو سمحت لي بالتفات وحلّ من

مهاوي الهوى والهون جدّ تفلّتي

ولكنها همّت بنا فتذكّرت

قضاء قضاة الحسن قدما فصدّت

أجلت خيالا إنني لا أجلّه

ولم أنتسب منه لغير تعلّة

على أنني كلّي وبعضي حقيقة

وباطل أوصافي وحقّ حقيقتي

وجنسي وفصلي والعوارض كلّها

ونوعي وشخصي والهواء وصورتي (١)

وجسمي ونفسي والحشا وغرامه

وعقلي وروحانيّتي القدسيّة

وفي كلّ لفظ عنه ميل لمسمعي

وفي كل معنى منه معنى للوعتي

ودهري به عيد ليوم عروبة

وأمري أمري والورى تحت قبضتي

ووقتي شهود في فناء شهدته

ولا وقت لي إلّا مشاهد غيبة

أراه معي حسّا ووهما وإنه

مناط الثّريّا من مدارك رؤيتي

وأسمعه من غير نطق كأنه

يلقّن سمعي ما توسوس مهجتي

ملأت بأنوار المحبّة باطني

كأنّك نور في سرار سريرتي

وجلّيت بالإجلال أرجاء ظاهري

كأنّك في أفقي كواكب زينة

فأنت الذي أخفيه عند تستّري

وأنت الذي أبديه في حين شهرتي

فته أحتمل ، واقطع أصل واعل استفل

ومر أمتثل واملل أمل ، وارم أثبت

فقلبي إن عاتبته فيك لم أجد

لعتبي فيه الدهر موقع نكنة

ونفسي تنبو عن سواك نفاسة

فلا تنتمي إلّا إليك بمنّة

تعلّقت الآمال منك بفوق ما

أرى دونه ما لا ينال بحيلة

وحامت حواليها وما وافقت حمى

سحائب يأس أمطرت ماء عبرتي

فلو فاتني منك الرّضى ولحقتني

بعفو بكيت الدهر فوت فضيلة

ولو كنت في أهل اليمين منعّما

بكيت على ما كان من سبقيّة

وكم من مقام قمت عنك مسائلا

أرى كلّ حيّ كلّ حيّ وميّت

أتيت بفاراب أبا نصرها فلم

أجد عنده علما يبرّد غلّتي

ولم يدر قولي ابن سيناء سائلا

فقل كيف أرجو عنده برء علّتي

فهل في ابن رشد بعد هذين مرتجى

وفي ابن طفيل لاحتثاث مطيّتي؟

لقد ضاع لو لا أن تداركني حمى

من الله سعي بينهم طول مدّتي

فقيّض لي نهجا إلى الحقّ سالكا

وأيقظني من نوم جهلي وغفلتي

__________________

(١) يستعمل الشاعر في هذا البيت اصطلاحات علم المنطق.

١٣٢

فحصّنت أنظار الجنيد (١) جنيدها

بترك فلي من رغبة ريح رهبة

وكسّرت عن رجل ابن أدهم أدهما

وأنقذته من أسر حبّ الأسرة

وعدت على حلّاج شكري ) بصلبه

وألقيت بلعام التّفاتي (٣) بهوّة

فقولي مشكور ورأيي ناجح

وفعلي محمود بكلّ محلّة

رضيت بعرفاني فأعليت للعلا

وأجلسني بعد الرّضا فيه جلّتي

فعشت ولا ضيرا أخاف ولا قلى

وصرت حبيبا في ديار أحبّتي

فها أنا ذا أمسي وأصبح بينهم

مبلّغ نفسي منهم ما تمنّت

وأنشدني قوله في حال قبض وقيّدتها عنه (٤) : [الطويل]

إليك بسطت الكفّ أستنزل الفضلا

ومنك قبضت الطّرف أستشعر الذّلّا

وها أنا ذا قد قمت (٥) يقدمني الرّجا

ويحجمني (٦) الخوف الذي خامر العقلا

أقدّم رجلا إن يضيء برق مطمع

وتظلم أرجائي فلا أنقل الرّجلا

ولي عثرات لست آمل أن هوت

بنفسي ألّا أستقل وأن أصلى

فإن تدرّكني رحمة أنتعش بها

وإن تكن الأخرى فأولى بي الأولى

قال ، ومما نظمته من الشعر (٧) : [مجزوء الكامل]

وجد تسعّره الضلو

ع وما تبرّده المدامع

همّ تحرّكه الصّبا

بة والمهابة لا تطاوع

أملي (٨) إذا وصل الرّجا

أسبابه فالموت قاطع

بالله يا هذا الهوى

ما أنت بالعشّاق صانع؟

قال : ومما كتبت به لمن بلغني عنه بعض الشيء (٩) : [الرمل]

نحن ، إن تسأل بناس ، معشر

أهل ماء فجّرته الهمم

عرب من بيضهم أرزاقهم

ومن السّمر الطوال الخيم

__________________

(١) في الأصل : «الجند» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٢) في الأصل : «سكرى» والتصويب من النفح.

(٣) في الأصل : «التفاني» والتصويب من النفح.

(٤) الأبيات في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣١٥).

(٥) في الأصل : «قدمت» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٦) في النفح : «ويحجم بي».

(٧) الأبيات في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣١٥).

(٨) في النفح : «أمل».

(٩) الأبيات في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣١٥ ـ ٣١٦).

١٣٣

عرّضت أحسابهم أرواحهم

دون نيل العرض وهي الكرم

أورثونا المجد حتى إننا

نرتضي الموت ولا نزدحم

ما لنا في الناس من ذنب سوى

أننا نلوي إذا ما اقتحموا

قال : ومما قلته مذيّلا به قول القاضي أبي بكر بن العربي (١) : [مجزوء الوافر]

أما والمسجد الأقصى

وما يتلى به نصّا

لقد رقصت بنات الشو

ق بين جوانحي رقصا

قولي : [مجزوء الوافر]

فأقلع بي إليه هوى

جناحا عزمه قصّا (٢)

أقلّ القلب واستعدى

على الجثمان فاستعصى

فقمت أجول بينهما

فلا أدنى ولا أقصى

قال : ومما قلته في التورية بشأن راوي المدوّنة (٣) : [البسيط]

لا تعجبنّ لظبي قد دها أسدا

فقد دها أسدا من قبل سحنون

قال : ومما قلته من الشعر (٤) : [البسيط]

أنبتّ عودا بنعماء (٥) بدأت بها

فضلا وألبستها بعد اللّحى الورقا

فظلّ مستشعرا مستدثرا أرجا (٦)

ريّان ذا بهجة يستوقف الحدقا

فلا تشنه بمكروه الجنى فلكم

عوّدته من جميل من لدن خلقا

وانف القذى عنه واثر الدهر منبته

وغذّه برجاء واسقه غدقا (٧)

واحفظه من حادثات الدهر أجمعها

ما جاء منها على ضوء وما طرقا

ومما قيّدت عنه أيام مجالسته ومقامه بغرناطة ، وقد أجرى ذكر أبي زيد ابن الإمام ، أنه (٨) شهد مجلسا بين يدي السلطان أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمّو ،

__________________

(١) الأبيات في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣١٦).

(٢) أقلع : نشر شراع السفينة ، وهنا يشبّه الهوى بالملّاح.

(٣) البيت في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣١٦).

(٤) الأبيات في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣١٧).

(٥) في النفح : «لنعماء».

(٦) مستشعرا : لابسا الشعار ، وهو اللباس الذي يلامس البدن. مستدثرا : لابسا الدثار. لسان العرب (شعر) و (دثر).

(٧) الغدق : بالفتح : الماء الكثير. لسان العرب (غدق).

(٨) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٠٨ ـ ٢١١).

١٣٤

ذكر فيه أبو زيد المذكور ، أن ابن القاسم مقيد بالنظر بأصول مالك ، ونازعه أبو موسى عمران بن موسى المشذالي (١) ، وادّعى أنه مطلق الاجتهاد ، واحتج له بمخالفته لبعض ما يرويه أو (٢) يبلغه عنه لما ليس من قوله ، وأتى من ذلك بنظائر كثيرة. قال : فلو تقيّد بمذهبه لم يخالفه لغيره ، فاستظهر أبو زيد بنصّ لشرف الدين بن (٣) التلمساني ، ومثّل فيه الاجتهاد المخصوص باجتهاد ابن القاسم بالنظر إلى مذهب مالك ، والمزني إلى الشافعي. فقال أبو موسى عمران (٤) : هذا مثال ، والمثال لا يلزم (٥) صحّته ، فصاح به أبو زيد (٦) ابن الإمام وقال لأبي عبد الله بن أبي عمر (٧) : تكلّم ، فقال : لا أعرف ما قال هذا الفقيه ، والذي أذكره من كلام أهل العلم أنه لا يلزم من فساد المثال فساد الممثّل به ، فقال أبو موسى للسلطان : هذا كلام أصولي محقق ، فقلت لهما (٨) يومئذ ، وأنا حديث السن : ما أنصفهما (٩) الرّجل ، فإن المثل (١٠) كما يؤخذ على جهة التحقيق ، كذلك يؤخذ على جهة التقريب ، ومن ثمّ جاء ما قال (١١) هذا الشيخ ، أعني ابن أبي عمران (١٢) ، وكيف لا وهذا سيبويه يقول : وهذا مثال ولا يتكلّم به ، فإذا صحّ أن المثال قد يكون تقريبا ، فلا يلزم صحة المثال ، ولا فساد الممثّل لفساده ، فهذان القولان من أصل واحد.

وقال : شهدت مجلسا آخر عند هذا السلطان ، قرىء فيه على أبي زيد ابن الإمام حديث : «لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله» ، من (١٣) صحيح مسلم ، فقال له الأستاذ أبو إسحاق بن حكم السّلوي : هذا الملقّن محتضر حقيقة ، ميّت مجازا ، فما وجه ترك محتضريكم إلى موتاكم ، والأصل الحقيقة؟ فأجابه أبو زيد بجواب لم يقنعه. وكنت قد قرأت على الأستاذ بعض «التنقيح» ، فقلت : زعم القرافي أن المشتقّ إنما يكون حقيقة في الحال ، مجازا في الاستقبال ، مختلفا فيه في الماضي ، إذا كان محكوما به. وأمّا (١٤) إذا كان متعلّق الحكم كما هنا ، فهو حقيقة مطلقا إجماعا ، وعلى هذا التقرير لا مجاز ولا سؤال. ولا يقال : إنه احتجّ على ذلك بما فيه نظر ؛ لأنّا نقول : إنه نقل الإجماع ، وهو أحد الأربعة التي لا يطالب عنها (١٥) بالدليل ، كما ذكر أيضا. بل

__________________

(١) في النفح : «المشدّالي».

(٢) في النفح : «ويبلغه».

(٣) كلمة «بن» غير واردة في نفح الطيب.

(٤) في النفح : «فقال عمران».

(٥) في النفح : «تلزم».

(٦) في النفح : «أبو موسى».

(٧) في النفح : «عمرو».

(٨) في النفح : «لهما وأنا يومئذ حديث ...».

(٩) في النفح : «أنصفتما».

(١٠) في النفح : «المثل كما تؤخذ».

(١١) في النفح : «قاله».

(١٢) في النفح : «عمرو».

(١٣) في النفح : «في».

(١٤) في النفح : «أمّا».

(١٥) في النفح : «مدّعيها».

١٣٥

نقول : إنه أساء حيث احتجّ في موضع الوفاق ، كما أساء اللخمي وغيره في الاحتجاج على وجوب الطّهارة ونحوها. بل هذا أشنع ، لكونه مما علم كونه من الدّين ضرورة (١). ثم إنّا لو سلّمنا نفي الإجماع ، فلنا أن نقول : إن ذلك إشارة إلى ظهور العلامات التي يعقبها الموت عادة ؛ لأنّ تلقينه قبل ذلك ، إن لم يدهش ، فقد يوحش ، فهو تنبيه على وقت التلقين : أي لقّنوا من تحكمون بأنه ميت. أو يقال (٢) : إنما عدل عن الاحتضار لما فيه من الإبهام ، ألا ترى اختلافهم فيه : هل هو (٣) أخذ من حضور الملائكة أو حضور الأجل ، أو حضور الجلّاس؟ ولا شك أن هذه حالة خفيّة يحتاج في نصها (٤) إلى دليل الحكمة أو إلى وصف ظاهر يضبطها ، وهو ما ذكرناه ، أو من حضور الموت ، وهو أيضا ممّا لا يعرّف بنفسه ، بل بالعلامات. فلمّا وجب اعتبارها ، وجب كون تلك التسمية إشارة إليها ، والله أعلم.

وقال : وكان أبو زيد يقول ، فيما جاء من الأحاديث : ما (٥) معنى قول ابن أبي زيد : «وإذا سلّم الإمام ، فلا يلبث (٦) بعد سلامه ولينصرف» ، وذلك بعد أن ينتظر (٧) من يسلّم من خلفه لئلّا يمر بين يدي أحد ، وقد ارتفع عنه حكمه ، فيكون كالداخل مع المسبوق جمعا بين الأدلة.

وقلت (٨) : وهذا من ملح الفقيه. وقال : كان أبو زيد يعني الإمام ، يصحّف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها ، فيقول : و «المفارقات» ، ولعلّه في هذا كما قال أبو عمرو بن العلاء للأصمعي لمّا قرأ عليه : [مجزوء الكامل]

وغررتني وزعمت أنك

لابن في الصّيف (٩) تامر

فقال : [مجزوء الكامل]

وغررتني وزعمت أنك

لا تني (١٠) بالضّيف تامر

فقال : أنت في تصحيفك أشهر من الحطيئة ، أو كما يحكى (١١) عن الشافعي أنه لما صلّى في رمضان بالخليفة ، لم يكن يومئذ يحفظ القرآن ، فكان ينظر في

__________________

(١) في النفح : «بالضرورة».

(٢) في النفح : «أو نقول».

(٣) كلمة «هو» غير واردة في النفح.

(٤) في النفح : «في نصبها دليلا على الحكم إلى وصف».

(٥) في النفح : «من».

(٦) في النفح : «يثبت».

(٧) في النفح : «ينتظر بقدر ما يسلّم ...».

(٨) في النفح : «قلت».

(٩) في النفح : «بالصيف».

(١٠) في النفح : «لابن».

(١١) في النفح : «كما حكي عمن صلّى بالخليفة في رمضان ، ولم ...».

١٣٦

المصحف ، وقرأ الآية «صنعة الله أصيب بها من أساء. إنما المشركون نحس. وعدها إياه (١) ، تقية لكم خير لكم. هذا أن دعوا للرحمن ولدا ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» (٢).

وقال (٣) : وذكر أبو زيد ابن الإمام في مجلسه يوما أنه سئل بالمشرق عن هاتين الشريطتين (٤) : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣) (٥) ، فإنهما يستلزمان (٦) بحكم الإنتاج «ولو علم الله فيهم خيرا لتولّوا وهم معرضون» وهو محال. ثم أراد أن يرى ما عند الحاضرين ، فقال ابن حكم : قال الخونجي : والإهمال بإطلاق لفظه ، لو وأن في المتّصلة ، فهاتان القضيتان على هذا مهملتان ، والمهملة في قوة الجزئية ، ولا قياس على (٧) جزئيّتين. فلما اجتمعت ببجاية بأبي علي حسين بن حسين ، أخبرته بهذا ، وبما أجاب به الزّمخشري وغيره ، ممّا يرجع إلى انتفاء أمر (٨) تكرار الوسط. فقال لي : الجوابان في المعنى سواء ؛ لأن القياس على الجزئيّتين إنما امتنع لانتفاء أمر تكرار (٩) الوسط. وأخبرت بذلك شيخنا أبا عبد الله الآبلي ، فقال : إنما يقوم القياس على الوسط ، ثم يشترط فيه بعد ذلك أن لا يكون من جزئيتين ولا سالبتين ، إلى سائر ما يشترط ، فقلت : ما المانع من كون هذه الشروط تفصيلا لمجمل ما ينبني عليه الوسط (١٠) وغيره ، وإلا فلا مانع لما قاله ابن حسين. قال الآبلي : وأجبت بجواب السّلوي ، ثم رجعت إلى ما قاله الناس ، لوجوب كون مهملات القرآن كلّية ؛ لأن الشّرطية لا تنتج جزئيّة. فقلت : هذا فيما يساق منها للحجة مثل (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١١). أما في مثل هذا فلا قلت (١٢). وكان يلزم السؤال الأول لو لم يكن للمتولي سبب تأخر ، حسبما تبين في مسألة ، لو لم يطع الله ، فلينظر ذلك في اسم شيخنا أبي بكر يحيى بن هذيل رحمه الله.

وقال (١٣) : لما ورد تلمسان الشيخ الأديب أبو الحسن بن فرحون ، نزيل طيبة ، على تربتها السلام ، سأل ابن حكم عن معنى هذين البيتين : [الوافر]

__________________

(١) في النفح : «أباه».

(٢) في النفح : «يعنيه».

(٣) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢١٥).

(٤) في النفح : «الشرطيتين».

(٥) سورة الأنفال ٨ ، الآية ٢٣.

(٦) في النفح : «تستلزمان».

(٧) في النفح : «عن».

(٨) في النفح : «انتفاء تكرر الوسط».

(٩) في النفح : «تكرر».

(١٠) في النفح : «من الوسط».

(١١) سورة الأنبياء ٢١ ، الآية ٢٢.

(١٢) كلمة «قلت» غير واردة في النفح.

(١٣) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢١٥ ـ ٢١٨).

١٣٧

رأت قمر السماء فأذكرتني

ليالي وصلنا (١) بالرّقمتين

كلانا ناظر قمرا ولكن

رأيت بعينها ورأت بعيني

ففكّر ثم قال : لعل هذا الرجل كان ينظر إليها ، وهي تنظر إلى قمر السماء ، فهي تنظر إلى القمر حقيقة ، وهو لفرط (٢) الاستحسان يرى أنها الحقيقة. فقد رأى بعينها لأنها ناظرة الحقيقة. وأيضا وهو ينظر إلى قمر مجازا ، وهو لإفراطه استحسانها (٣) يرى أنّ قمر السماء هو المجاز ، فقد رأت بعينه ؛ لأنها ناظرة المجاز. قلت : ومن هذا يعلم وجه الفاء في قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) والفاء فأذكرتني بمثابة قولك أذكرتني ، فتأمّله ، فإن بعض من لا يفهم كلام الأستاذ كل (٤) الفهم ، ينشده : «وأذكرتني». فالفاء في البيت الأول ، منبّهة على الثاني ، وهذا النحو يسمى «الإيذان في علم البيان».

وقال : سألني ابن حكم عن نسب هذا (٥) المجيب في هذا البيت : [الكامل]

ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب

فأجاب ما قتل المحبّ حرام

ففكرت ثم قلت له (٦) : أراه تميميا ؛ لإلغائه «ما» النافية. فاستحسنه مني لصغر سني يومئذ. وسأل ابن فرحون ابن حكم يوما (٧) : هل تجد في التّنزيل ستّ فاءات مرتبة ترتيبها في هذا البيت : [البسيط]

رأى فحبّ فرام الوصل فامتنعت

فسام صبرا فأعيا نيله فقضى

ففكر ابن (٨) حكم ، ثم قال : نعم قوله عزّ وجلّ : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا)(٩) إلى آخرها ، فمنعت له البناء في (فَتَنادَوْا). فقال لابن فرحون : فهل عندك غيره؟ فقال : نعم ، قوله عزّ وجلّ : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) (١٣) (١٠) إلى آخرها ، فمنع لهم بناء الآخرة لقراءة الواو. فقلت له : امنع ولا تسند ، فيقال (١١) : إن المعاني قد تختلف باختلاف الحروف ، وإن كان السّند لا يسمع الكلام عليه. وأكثر ما وجدت الفاء تنتهي في كلامهم إلى هذا العدد ، سواء بهذا الشرط وبدونه ، كقول نوح عليه السلام : (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ

__________________

(١) في النفح : «وصلها».

(٢) في النفح : «لإفراط».

(٣) في النفح : «الاستحسان «لها يرى ...».

(٤) في النفح : «حقّ».

(٥) كلمة «هذا» غير واردة في النفح.

(٦) كلمة «له» غير واردة في النفح.

(٧) كلمة «يوما» غير واردة في النفح.

(٨) في النفح : «ففكر ثم قال».

(٩) سورة القلم ٦٨ ، الآيات ١٩ ـ ٢١.

(١٠) سورة الشمس ٩١ ، الآية ١٣.

(١١) في النفح : «فيقال لك».

١٣٨

وَشُرَكاءَكُمْ)(١). وكقول امرئ القيس : «غشيت ديار الحيّ بالبكرات ، البيتين (٢)». لا يقال قوله : فالحبّ (٣) سابع ؛ لأنا نقول إنه عطف على «عاقل» المجرّد منها ، ولعلّ حكمة السّتة أنها أول الأعداد التامة ، كما قيل في حكمة خلق السماوات والأرض فيها ، وشأن اللسان عجيب.

وقال (٤) : سمعت ابن حكم يقول : كتب (٥) بعض أدباء فاس إلى صاحب له : [المجتث]

ابعث إليّ بشيء

مدار فاس عليه

وليس عندك شيء

ممّا أشير إليه

فبعث إليه ببطّة من مرّي (٦) شرب ، يشير بذلك إلى الرّياء.

وحدّثت أن قاضيها أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الملجوم دعي (٧) إلى وليمة ، وكان كثير البلغم ، فوضع بين يديه صهره أبو العباس بن الأشقر غضارا من اللّوز المطبوخ بالمرّي ، لمناسبة لمزاجه ، فخاف أن يكون قد عرّض له بالرياء. وكان ابن الأشقر يذكر بالوقوع في الناس ، فقدّم (٨) له القاضي غضار المقروض ، فاستحسن الحاضرون فطنته.

وقال عند ذكر شيخه أبي محمد عبد الله بن عبد الواحد المجاصي : دخلت عليه بالفقيه أبي عبد الله السّطي في أيام عيد ، فقدّم لنا طعاما ، فقلت : لو أكلت معنا ، فرجونا بذلك ما يرفع من حديث «من أكل مع مغفور له ، غفر له» فتبسّم ، وقال لي : دخلت على سيدي أبي عبد الله الفاسي بالإسكندرية ، فقدّم

__________________

(١) سورة يونس ١٠ ، الآية ٧١.

(٢) بينا امرئ القيس هما [الطويل] :

غشيت ديار الحيّ بالبكرات

فعارمة فبرقة العيرات

فغول فحلّيت فمنعج

إلى عاقل فالجبّ ذي الأمرات

ديوان امرئ القيس (ص ٧٨).

(٣) في النفح : «فالجبّ».

(٤) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢١٨ ـ ٢٢١).

(٥) في النفح : «بعث».

(٦) البطّة : إناء كالقارورة. محيط المحيط (بطط). والمرّي ، بتشديد الراء : نوع من مستحضرات تتخذ في صنع الأطعمة ، ويقال إنه مركب يصنع من الدقيق والملح والعسل والتمر وأشياء أخرى. ويقال هو نوع يعمل من السمك المالح واللحوم المالحة. ملحق معجم المعاجم العربية لدوزي (مادة مري) وكتاب الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين (ص ٨٢).

(٧) في النفح : «حضر وليمة».

(٨) في النفح : «فناوله القاضي».

١٣٩

لنا (١) طعاما ، فسألته عن هذا الحديث فقال : وقع في نفسي (٢) شيء ، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام ، فسألته عنه ، فقال (٣) : لم أقله ، وأرجو أن يكون كذلك. وصافحته بمصافحته الشيخ أبا عبد الله زيان ، بمصافحته أبا سعيد عثمان بن عطية الصعيدي ، بمصافحته أبا العباس أحمد الملثّم ، بمصافحته المعمّر ، بمصافحته رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحدّث عن شيخه أبي محمد الدّلاصي ، أنه كان للملك العادل مملوك اسمه محمد ، فكان يخصّه لدينه وعقله ، بالنداء باسمه ، وإنما كان ينعق (٤) بمماليكه : يا ساقي ، يا طبّاخ ، يا مزين. فناداه (٥) ذات يوم : يا فرّاش ، فظنّ أن (٦) ذلك لموجدة (٧) عليه. فلم ير أثر ذلك ، وتصوّرت له به خلوة ، فسأله عن مخالفته لعادته (٨) ، فقال له : لا عليك ، كنت يومئذ جنبا ، فكرهت أن أذكر (٩) اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على تلك الحالة. وقال : أنشدني المجاصي ، قال : أنشدني الإمام (١٠) نجم الدين الواسطي ، قال : أنشدني شرف الدين الدمياطي ، قال : أنشدني تاج الدين الآمدي (١١) ، مؤلف «الحاصل» ، قال : أنشدني الإمام فخر الدين (١٢) لنفسه : [الطويل]

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة (١٣) من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى (١٤) ووبال (١٥)

__________________

(١) كلمة «لنا» غير واردة في النفح.

(٢) في النفح : «نفسي منه شيء».

(٣) في النفح : «فقال لي».

(٤) يقال : نعق الغراب إذا صوّت ، ونعق الراعي الغنم : صاح بها ، وينعق بمماليكه : ينادي. لسان العرب (نعق).

(٥) في النفح : «فنادى به ذات ...».

(٦) كلمة «أن» غير واردة في النفح.

(٧) الموجدة : الغضب. لسان العرب (وجد).

(٨) في النفح : «لعادته معه فقال».

(٩) في النفح : «فكرهت ذكر رسول ...».

(١٠) كلمة «الإمام» غير واردة في النفح.

(١١) في النفح : «الأرموي».

(١٢) هو فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن البكري الطبرستاني الأصل ، الرازي المولد ، إمام مفسّر وطبيب وأديب وشاعر. توفي سنة ٦٠٦ ه‍. ترجمته في وفيات الأعيان (ج ٤ ص ٨٢) وعيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص ٤٦٢) والبداية والنهاية (ج ١٣ ص ٥٥). وأبياته هذه في وفيات الأعيان (ج ٤ ص ٨٤) وعيون الأنباء (ص ٤٦٨) والوافي بالوفيات (ج ٤ ص ٢٥٧ ـ ٢٥٨) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٢٢٠ ـ ٢٢١). وفي البداية والنهاية (ص ٥٦) فقط البيتان الثاني والثالث.

(١٣) في عيون الأنباء : «في عقلة».

(١٤) في الوافي بالوفيات : «ردى».

(١٥) في الأصل : «ودبال» ، والتصويب من المصادر المذكورة.

١٤٠