الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

وفاته : توفي ، رحمه الله ، منصرفا من غزاته المسمّاة بقنالش والرّيد ، وقد دوّخ أقطار قشتالة ، ليلة الاثنين سبع وعشرين لرمضان عام اثنين وتسعين وثلاثمائة (١) ، وقد عهد أن يدفن ببلد وفاته ، بعد وصية شهيرة صدرت عنه ، إلى المظفّر ولده ، فدفن بمدينة سالم ، التي بناها في نحر العدو من وادي الحجارة ، وبقصرها ، وقبره معروف إلى اليوم. وكان قد اتخذ له من غبار ثيابه الذي علاها في الجهاد ، وعاء كبيرا بحديه ، رحمه الله. وكتب على قبره هذا الشعر (٢) : [الكامل]

آثاره تنبيك عن أخباره (٣)

حتى كأنّك بالعيان (٤) تراه

تالله لا يأتي الزمان بمثله

أبدا ولا يحمي الثغور سواه (٥)

محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل

ابن قريش بن عباد بن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عطاف

ابن نعيم ، لخمي النسب (٦)

أوّليّته : دخل الأندلس جدّه عطاف مع بلج بن بشر القشيري ، من أشراف الطّالعة البلجية ، وهم من عرب حمص من أرض الشام ، وموضعه بها يعرف بالعريش في آخر الجفار بين مصر والشام. ونزل عطاف بقرية تعرف بيومين من إقليم طشانة على ضفة النهر الأعظم من أرض إشبيلية. ولمّا هلك قريش ، ورث السيادة إسماعيل بن قريش ، وهو القاضي المشهور بالفضل والدهاء ، يكنّى أبا الوليد. ولي الشرطة الوسطى لهشام بن الحكم ، وخطّة الإمامة إلى صلاة الجمعة. ثم خلفه أبو القاسم المنفرد برئاسة إشبيلية ، المتحف فيها بخطط الوزارتين والقضاء

__________________

(١) في كتاب العبر لابن خلدون : هلك المنصور سنة ٣٧٤ ه‍ ـ بعد ٢٧ سنة من ملكه. وفي جذوة المقتبس وبغية الملتمس والمعجب والمختصر في أخبار البشر ، وتتمة المختصر في أخبار البشر : توفي المنصور سنة ٣٩٣ ه‍.

(٢) البيتان في البيان المغرب (ج ٢ ص ٣٠١) والحلة السيراء (ج ١ ص ٢٧٣) والمغرب (ج ١ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣).

(٣) في المغرب : «عن أوصافه».

(٤) في البيان المغرب : «بالعيون».

(٥) رواية البيت في البيان المغرب هي :

تالله ما ملك الجزيرة مثله

حقّا ولا قاد الجيوش سواه

(٦) ترجمة المعتمد بن عباد في قلائد العقيان (ص ٤) والذخيرة (ق ٢ ص ٤١) والمعجب (ص ١٥٨) والحلة السيراء (ج ٢ ص ٥٢) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ١٥٧) والبيان المغرب (ج ٣ ص ٢٤٤ ، ٢٥٧) والوافي بالوفيات (ج ٣ ص ١٨٣) ووفيات الأعيان (ج ٤ ص ٢٧٤) والصلة (ص ٤٩٩ ، في ترجمة القاضي عبد الرحمن بن سوار).

٦١

والمظالم. وعزّ جاهه ، وكثرت حاشيته ، وتعدّدت غلمانه ، وأذعنت له عداته. ثم خلفه الأمير المعتضد ولده ، وكان خيّرا حازما ، سديد الرأي ، مصنوعا له في الأعداء ، فلمّا توفي ، تصيّر الأمر إلى ولده المترجم به ، المكني أبا القاسم إلى حين خلعه.

حاله : قالوا كلّهم : كان المعتمد ، رحمه الله ، فارسا شجاعا ، بطلا مقداما ، شاعرا ماضيا ، مشكور السيرة في رعيته. وقال أبو نصر في قلائده (١) : «وكان المعتمد على الله ملكا قمع العدا ، وجمع (٢) بين البأس والنّدا ، وطلع على الدنيا بدر هدى ، لم يتعطل يوما كفّه ولا بنانه ، آونة يراعه وآونة سنانه ، وكانت أيامه مواسم ، وثغور (٣) برّه بواسم». لقبه أولا الظّافر ، ثم تلقب (٤) بالمعتمد ، كلفا بجاريته اعتماد ، لمّا ملّكها ، لتتّفق حروف لقبه بحروف اسمها ، لشدة ولوعه بها.

وزراؤه : ابن زيدون. وابن عمّار ، وغيرهما.

أولاده المملّكون : عبيد الله ، يكنى أبا الحسن ، وهو الرّشيد ، وهو الذي لم يوافق أباه على استصراخ المرابطين ، وعرّض بزوال الملك عنهم ، فقال : أحبّ إليّ أن أكون راعي إبل بالعدوة من أن ألقى الله ، وقد حوّلت الأندلس دار كفر ، وكان قد ولّاه عهده ، وبويع له بإشبيلية ، وهو المحمول معه إلى العدوة. ثم الفتح ، وهو الملقب بالمأمون ، كان قد بويع له بقرطبة ، وهو المقتول بها ، المحمل رأسه إلى محلّة العدوّ المرابطين ، المحاصرة لأبيه بإشبيلية. ثم يزيد الراضي ، وكان قد ولّاه رندة ، فقتل لما ملكها اللمتونيون. ثم عبد الله ، ويكنّى أبا بكر. هؤلاء الأربعة من جاريته اعتماد ، السيدة الكبرى ، والمدعوة بالرّميكيّة منسوبة إلى مولاها رميك بن حجاج ، الذي ابتاعها منه المعتمد.

ملمّته : لمّا تكالب أدفونش بن فردلاند على الأندلس بعد أخذه مدين طليطلة ضيق بالمعتمد ، وأجحف في الجزية التي كان يتّقي بها على المسلمين عاديته ، وعلى ذلك أقسم أخذها وتجنّى عليه ، وطمع في البلاد ، فحكى بعض الإخباريين أنه وجّه إليه رسله في آخر أمره لقبض تلك الضريبة ، مع قوم من رؤساء النصارى ، ونزلوا خارج باب إشبيلية ، فوجّه إليهم المال ، مع بعض الوزراء ، فدخلوا على اليهودي

__________________

(١) قلائد العقيان (ص ٤).

(٢) كلمة «بين» غير واردة في القلائد.

(٣) في الأصل : «وثغوره برّة» ، والتصويب من القلائد.

(٤) عن لقبه بالمعتمد لتتفق حروف لقبه بحروف اسم زوجته اعتماد ورد في الحلة السيراء (ج ٢ ص ٦٢).

٦٢

المذكور في خبائه ، وأخرجوا المال ، فقال لهم : لا أخذت منه هذا العيار ولا أخذت منه إلّا ذهبا مشجّرا ، ولا يؤخذ منه في هذا العام إلّا أجفان البلاد ، ونقل كلامه إلى المعتمد ، فبادر بالقبض عليه وعلى النصارى ، ونكّل بهم ، وقتل اليهودي بعد أن بذل في نفسه زنة جسمه ذهبا ، فلم يقبل منه ، واحتبس النصارى ، وراسله الطاغية في إطلاقهم ، فأبى إلّا أن يخلي منه حصن الحدود ، فكان ذلك. واستصرخ اللّمتونيّين ، وأجاز البحر بنفسه ، وأقسم الطاغية بإيمانه المغلّطة ألّا يرفع عنه يده. وهاجت حفيظة المعتمد ، واجتهد في جواز المرابطين ، وكان مما هو معلوم من الإيقاع بالطاغية في وقعة الزّلاقة (١) ، فإنه الذي أصلى نارها بنفسه ، فعظم بلاؤه ، وشهر صبره ، وأصابته الجراح في وجهه ويده ، رحمه الله. وفي ذلك يقول أبو بكر بن عبادة المرّي (٢) : [الوافر]

وقالوا كفّه جرحت فقلنا

أعاديه تواقعها (٣) الجراح

وما أثر (٤) الجراحة ما رأيتم

فتوهنها المناصل والرّماح

ولكن فاض سيل البأس (٥) منها

ففيها من مجاريه انسياح (٦)

وقد صحّت وسحّت بالأماني

وفاض الجود منها والسّماح

رأى منه أبو يعقوب فيها

عقابا لا يهاض له جناح (٧)

فقال له لك القدح المعلّى

إذا ضربت بمشهدك القداح

ولما اتصلت به الصّيحة ؛ بين يدي دخول المدينة ، ركب في أفراد من عبيده ؛ وعليه قميص يشفّ عن بدنه ، والسيف منتضى بيده ، ويمّم باب الفرج ، فقدّم الداخلين ، فردّهم على أعقابهم ؛ وقتل فارسا منهم ؛ فانزعجوا أمامه ؛ وخلّفوا الباب ؛ فأمر بإغلاقه ؛ وسكنت الحال ؛ وعاد إلى قصره. وفي ذلك

__________________

(١) كانت وقعة الزلاقة في سنة ٤٧٩ ه‍ ـ بين المرابطين وملوك الطوائف من جهة والإسبان من جهة ثانية. وكان النصر فيها للمسلمين. وهناك دراسة مستفيضة عنها في كتاب : مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ١٨٣ ـ ٢٠٤) فلتنظر.

(٢) هو أبو بكر بن عبادة ، المعروف بابن القزاز ، والأبيات في قلائد العقيان (ص ١٣) والمغرب (ج ٢ ص ١٣٥) وأعمال الأعلام (القسم الثالث ص ١٤٩).

(٣) في المغرب : «توافقها».

(٤) في الأصل : «وما لمرتد» والتصويب من القلائد والمغرب.

(٥) في المغرب «الجود».

(٦) رواية عجز البيت في المغرب هي : فأمسى في جوانبها انسياح.

(٧) هذا البيت والذي يليه غير واردين في المغرب.

٦٣

يقول (١) : [مجزوء الكامل]

إن يسلب القوم العدا (٢)

ملكي وتسلمني الجموع

فالقلب بين ضلوعه

لم تسلم القلب الضّلوع

قد رمت يوم نزالهم

ألّا تحصّنني الدّروع

وبرزت ليس سوى القمي

ص عن الحشا شيء دفوع

أجلي تأخّر لم يكن

بهواي ذلّي والخضوع

ما سرت قطّ إلى القتا

ل (٣) وكان من أملي الرجوع

شيم الأولى (٤) أنا منهم

والأصل تتبعه الفروع

جوده : وأخبار (٥) جوده شهيرة ، ومما يؤثر من ذلك ، على استصحاب حال العزّ ، ووفور ذات اليد ، وأدوات الملك ، غريب. والشاهد المقبول بقاء السجيّة ومصاحبة الخلق الملكية ، مع الإقتار والإيسار ، وتقلّب الأطوار. وتعرّض له الحصري القرموني الضرير بخارج طنجة ؛ وهو يجتاز عليها في السواحل من قهر واعتقال ، بأشعار ظاهرة المقت ، غير لائقة بالوقت ، ولم يكن بيده ، زعموا ، غير ثلاثين دينارا (٦) كانت بخفّه ، معدّة لضرورة ضرر وأزمة ، وأطبع عليها دمه ، وأدرج قطعة شعر طيّها اعتذار عن نزرها ، راغبا في قبول أمرها ، فلم يراجعه الحصري بشيء عن ذلك ، فكتب إليه (٧) : [مجزوء الرمل]

قل لمن جمع العل

م وما (٨) أحصى صوابه

كان في الصّرة شعر

فتنظّرنا (٩) جوابه

قد أثبناك (١٠) فهلّا

جلب الشّعر جوابه (١١)؟

__________________

(١) الأبيات في ديوان المعتمد بن عباد (ص ٨٨ ـ ٨٩) وقلائد العقيان (ص ٢١ ـ ٢٢) والحلة السيراء (ج ٢ ص ٦٥ ـ ٦٦).

(٢) رواية صدر البيت في الحلة السيراء هي : إن تستلب عنّي الدّنا.

(٣) في الحلة السيراء : «إلى الكماة».

(٤) في الديوان : «الألى».

(٥) قارن بالذخيرة (ص ٢ ص ٦٦ ـ ٦٧).

(٦) في الذخيرة (ق ٢ ص ٦٧): «مثقالا».

(٧) الأبيات في ديوان المعتمد بن عباد (ص ٩١) والذخيرة (ق ٢ ص ٦٧) والمعجب (ص ٢٠٦).

(٨) في الذخيرة : «ومن».

(٩) في الأصل : «فانتظرنا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الديوان والمصدرين الآخرين.

(١٠) في الأصل : «أتيناك» وهو تحريف ، والتصويب من الديوان والمصدرين الآخرين.

(١١) في الديوان والمصدرين الآخرين : «ثوابه».

٦٤

حلمه : رفع إليه صدر دولته شعر ، أغري فيه بأبي الوليد بن زيدون ، وهو شهير ، وتخيّر له موقع وترصّد حين ، وانتظر به مؤجره ، وهو (١) : [الكامل]

يا أيها الملك الأعزّ (٢) الأعظم

اقطع وريدي كلّ باغ يسلم (٣)

واحسم بسيفك داء (٤) كلّ منافق

يبدي الجميل وضدّ ذلك يكتم

لا تتركن للناس موضع شبهة (٥)

واحزم فمثلك في العظائم يحزم

قد قال شاعر كندة فيما مضى

قولا (٦) على مرّ الليالي يعلم

«لا يسلم الشّرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدّم (٧)»

فوقّع على الرقعة (٨) : [الكامل]

كذبت مناكم ، صرّحوا أو جمجموا

الدّين أمتن والسجيّة (٩) أكرم

خنتم ورمتم أن أخون وإنما

حاولتم أن يستخفّ يلملم (١٠)

وأردتم تضييق صدر لم يضق

والسّمر في صدر (١١) النّحور تحطّم

وزحفتم بمحالكم لمجرّب

ما زال يثبت للمحال (١٢) فيهزم

أنّى رجوتم غدر من جرّبتم

منه الوفاء وظلم (١٣) من لا يظلم

أنا ذا (١٤) كم لا السّعي (١٥) يثمر غرسه

عندي ولا مبنى الصّنيعة يهدم (١٦)

كفّوا وإلّا فارقبوا لي بطشة

يبقى (١٧) السّفيه بمثلها يتحلّم (١٨)

__________________

(١) الأبيات في الذخيرة (ق ٢ ص ٥١) وقلائد العقيان (ص ١٤ ـ ١٥).

(٢) في المصدرين : «العليّ».

(٣) في الذخيرة : «ينئم». وفي القلائد : «ييتم».

(٤) كلمة «داء» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من المصدرين.

(٥) في القلائد : «تهمة».

(٦) في المصدرين : «بيتا».

(٧) البيت للمتنبي وهو في ديوانه (ص ٦٣٠).

(٨) الأبيات في ديوان المعتمد بن عباد (ص ٦٧) والذخيرة (ص ٢ ص ٥١ ـ ٥٢) وقلائد العقيان (ص ١٥ ـ ١٦).

(٩) في الديوان والذخيرة : «والمروءة».

(١٠) يلملم : موضع على ليلتين من مكة ، وهو ميقات أهل اليمن. معجم البلدان (ج ٥ ص ٤٤١).

(١١) في الديوان والقلائد : «في ثغر». وفي الذخيرة : «ما في ثغر الصدور».

(١٢) في الديوان : «في المجال». وفي الذخيرة : «في المحال».

(١٣) في الديوان والذخيرة : «وجور».

(١٤) في القلائد : «أنا ذلكم».

(١٥) في الديوان والمصدرين : «لا البغي».

(١٦) في الذخيرة : «يثلم».

(١٧) في الديوان والمصدرين : «يلقى».

(١٨) في الديوان والمصدرين : «فيحلّم».

٦٥

توقيعه ونثره في البديهة :

كتب مع الحمائم إلى ولده الرشيد عقب الفراغ من وقعة الزّلّاقة :

يا بني ، ومن أبقاه الله وسلّمه ، ووقاه الأسواء وعصمه ، وأسبغ عليه آلاءه وأنعمه ، كتبته ، وقد أعزّ الله الدين ، وأظهر المسلمين ، وفتح لهم على يدي مستدعيات الفتح المبين ، بما يسّره الله في أمسه وسناه ، وقدّره سبحانه وقضاه ، من هزيمة أدفونش ابن فردلند لعنه الله وأصلاه ، وإن كان طاح للجحيم ، ولا أعدمه وإن كان أهل العيش الذّميم ، كما قنعه الخزي العظيم. وأتى القتل على أكثر رجاله وحماته ، واتصل النّهب سائر اليوم ، والليلة المتصلة به ، جميع محلّاته ، وجمع من رؤوسهم بين يديّ ، من مشهوري رجالهم ، ومذكوري أبطالهم ، ولم يختر منهم إلّا من شهر وقرّب ، وامتلأت الأيدي ممّا سلب ونهب. والذي لا مرية فيه ، أن الناجي منهم قليل ، والمفلت من سيوف الجزع والبعد قتيل ، ولم يصبني بفضل الله إلّا جرح أشوى ، وحسن الحال عندنا والله وزكى ، ولا يشغل بذلك بال ، ولا يتوهم غير الحال التي أشرت إليها حال ، والأدفونش بن فرذلاند ، إن لم يصبح تحت السيوف فسيموت لا محالة كمدا ، وإن كان لم تعلقه أسراد الحمام فغدا ، فإن برأسه طمرة ولحام. فإذا ورد كتابي هذا ، فمر بجمع الخاص والعام ، من أهل إشبيلية ، وجيرانها الأقربين ، وأصفيائنا المحبين ، في المسجد الجامع ، أعزّهم الله ، وليقرأ عليهم فيه ، ليأخذوا من المسرّة بأنصبائهم ، ويضيفوا شكرا لله إلى صالح دعائهم ، والحمد لله على ما صنع حقّ حمده ، جلّ المزيد لأمر حين ، إلّا من عنده والسلام.

تلطّفه وظرفه : قال أبو بكر الداني : سألني في بعض الأيام عند قدومي عليه بأغمات ، قاضيا حقّ نعمته ، مستكثرا من زيارته ، مستمتعا برائق أدبه ، على حال محنته ، عن كتبي ، فأعلمته بذهابها في نهب حضرته. وكنت قد جلبت في سفرتي تلك ، الأشعار الستة ، بشرح الأستاذ أبي الحجاج الشّنتمري الأعلم ، وكانت مستعارة ، فكتمتها عنه. ووشى إليه أحد الأصحاب ، فخجل بكرمه وحسن شيمته ، من الأخذ معي في ذكر ما كتمته ، فاستطرد إلى ذلك بغرض نبيل ، ونحا فيه نحوا ، يعرب عن الشّرف الأصيل ، وأملى عليّ ، في جملة ما كان يمليه : [الكامل]

وكواكب لم أدر قبل وجوهها

أنّ البدور تدور في الأزرار

نادمتها في جنح ليل دامس

فأعرنه مثلا من الأنوار

في وسط روضة نرجس كعيونها

ما أشبه النّوار بالنّوار

فإذا تواصفنا الحديث حسبتني

ألهو بملتقط لدرّ نثار

٦٦

فإذا اكتحلت برقّ ثغر باسم

سكبت جفوني أغزر الأمطار

حذر الملام وخيفة من جفوة

تذر الصدور على شفير هار

ترك الجواري الآنسات مذاهبي

وسوّلها ظفر بريشة الأشعار

فلم أتمالك عند ذلك ضحكا ، وعلمت أن الأمر قد سرّي إليه ، فأعلمته قصّتها ، فبسط العذر بفضله ، وتأوّل الأمر ، وقسّم الأشعار ، على ثلاثة من بنيه ؛ ذوي خطّ رائع ، ونقل حسن ، وأدب بارع ، أخذوا في نسخها ، وصرفوا الأصل لأجل قريب.

محنته : ولم يلبث أمير اللمتونيين بعد جوازه إلى الأندلس ، وظهوره على طائفة الروم ، أن فسد ما بينه وبين رؤساء الطوائف بالأندلس ، وعزم على خلعهم ، فأجاز من سبتة العساكر ، وسرب الأمداد. وأخذ المعتمد بالعزم يحصّن حصونه ، وأودع المعاقل عدّته ، وقسّم على مظان الامتناع ولده ، وصمدت الجموع صمدة بنيه ، ونازل الأمير سير إشبيلية ، دار المعتمد ، وحضرة ملكه ، ونازل الأمير محمد ابن الحاج قرطبة ، وبها المأمون ، ونزل جرور من قواده رندة ، وبها الرّاضي ابن المعتمد. واستمرّ الأمر ، واتصلت المحاصرة ، ووقعت أمور يضيق الكتاب على استقصائها. فدخلت قرطبة في جمادى الآخرة عام أربعة وثمانين وأربعمائة ، وقتل الراضي ، وجلب رأسه فطيف به بمرأى من أبيه. وكان دخول إشبيلية على المعتمد ، دخول القهر والغلبة ، يوم الأحد لعشر بقين من رجب ، وشملت الغارة ، واقتحمت الدّور ، وخرج ابن عباد في شكّته (١) ، وابنه مالك في أمّته معهما ، فقتل مالك الملقب بفخر الدولة ورهقت الخيل ، وكثر ، فدخل القصر ملقيا بيده. ولما جنّ الليل ، وجّه ابنه الأكبر الرشيد إلى الأمير ، فحجب عنه ، ووكّل بعض خدمه به ، وعاد إلى المعتمد فأخبره بالإعراض عنه ، فأيقن بالهلكة ، وودّع أهله ، وعلا البكاء ، وكثر الصّراخ ، وخرج هو وابنه ، فأنزلا في خباء حصين ، ورقبا بالحرس ، وأخرج الحرم من قصره ، وضمّ ما اشتمل عليه ، وأمر بالكتب إلى ولده برندة ففعل. ولمّا نزل ، واستوصلت ذخيرته ، سلا ، وأجيز المعتمد البحر ، ومن معه إلى طنجة ، فاستقرّ بها في شعبان من العام ، وفي هول البحر عليه في هذا الحال ، يقول رحمه الله : [البسيط]

لم أنس والموت يدنيني ويقصيني

والموت كأنّ المنى يأتيني

أبصرت هولا لو أنّ الدهر أبصره

لما خوّفا لأمر ليس بالدّون

__________________

(١) الشّكّة : السلاح وعدّة الحرب. لسان العرب (شكك).

٦٧

قد كنت ضانّا بنفس لا أجود بها

فبعتها باضطرار بيع مغبون

كم ليلة بتّ مطويا على حرق

في عسر من عيون الدبر في العين

فتلك أحسن أم ظللت به

في ظلّ عزّة سلطان وتمكين؟

ولم يكن والذي تعنو الوجوه له

عرضي مهانا ولا مالي بمخزون

وكم خلوت من الهيجا بمعترك

والحرب ترفل في أثوابها الجون

يا ربّ إن لم تدع حالا أسرّ به

فهب لعبدك أجرا غير ممنون

وجرى على بناته شيء يوم خروجهن ، واضطرتهن الضيقة إلى معيشتهنّ من غزل أيديهن ، وجرت عليه محن طال لها شجنه وأقعده قيده ، إلى أن نقل إلى أغمات وريكة ، وحلّ عنه الاعتقال ، وأجري عليه رزقه ، تبلّغ به لمدة من أعوام أربعة ، واستنقذه حمامه ، رحمة الله عليه.

وصوله إلى غرناطة : قال ابن الصّيرفي : وقد أجرى ذكر تملّك يوسف بن تاشفين غرناطة ، وخلع أميرها عبد الله بن بلقّين حفيد باديس ، يوم الأحد لثلاث عشرة خلت من رجب عام ثلاثة وثمانين (١) ، ولحق ابن عباد (٢) وحليفه ابن مسلمة (٣) بخيل ورجل ورماة وعدد ، وحلّ ذلك من ابن عباد تضمّنا لمسرّة أمير المسلمين ، وتحقّقا بموالاته ، فدخلا عليه ، وهنّئاه ، وقد تحكّمت في نفس ابن عباد الطماعيّة في إسلام غرناطة إلى ابنه ، بعد استصفاء نعمة صاحبها ، عوضا عن الجزيرة الخضراء ، وكان قد أشخصه معه ، فعرّض بغرضه ، فأعرض أمير المسلمين عن الجميع إعراضا ، كانت منية كل منهما التخلّص من يده ، والرجوع إلى بلده ، فأعمل ابن عباد الحيلة ، فكتب ، يزعم أنه وردت عليه تحثّه من إشبيلية في اللحاق أنباء مهمة طرقت بتحرك العدو ، واستأذن بها في الصّدور ، فأخذ له ولحليفه ابن مسلمة ، فانتهزا الفرصة ، وابتدرا الرجعة ، ولحق كل بموضعه يظنّ أنه ملك رئاسة أمره.

مولده : ولد المعتمد على الله بمدينة باجة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. وولّي سنة إحدى وستين. وخلع سنة أربع وثمانين.

__________________

(١) كذا ورد في الإعلام بمن حلّ مراكش وأغمات من الأعلام (ص ٣٢٠).

(٢) هو المعتمد بن عباد ، صاحب إشبيلية. وقصته والمتوكل بن الأفطس مع ابن تاشفين الواردة هنا ، انظرها في وفيات الأعيان (ج ٥ ص ٤٨٥) والحلل الموشية (ص ٥١ ـ ٥٢) والبيان المغرب (ج ٤ ص ١٢٧ ، ١٤٣ ـ ١٤٤).

(٣) هو المتوكل بن الأفطس ، صاحب بطليوس. (٤) هو الراضي يزيد ابن المعتمد بن عباد.

٦٨

وفاته : كانت وفاة المعتمد على الله بأغمات في ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، بعد أن تقدمت وفاته وفاة الحرة اعتماد ، وجزع عليها جزعا أقرب سرعة لحاقه بها. ولما أحسّ بالمنية رثى نفسه بهذه الأبيات وأمر أن تكتب على قبره (١) : [البسيط]

قبر الغريب سقاك الرّائح الغادي

حقّا ظفرت بأشلاء ابن عبّاد

بالحلم بالعلم بالنّعمى إذا اتصلت

بالخصب إن أجدبوا بالرّيّ للصادي

بالطّاعن الضارب الرّامي إذا اقتتلوا

بالموت أحمر بالضّرغامة العادي

بالدهر في نقم بالبحر في نعم

بالبدر في ظلم بالصّدر في النادي

نعم هو الحقّ فاجاني (٢) على قدر

من السماء ووافاني (٣) لميعاد

ولم أكن قبل ذاك النّعش أعلمه

أنّ الجبال تهادى فوق أعواد

كفاك فارفق بما استودعت من كرم

روّاك كلّ قطوب البرق رعّاد

يبكي أخاه الذي غيّبت وابله

تحت الصّفيح بدمع رائح غادي

حتى يجودك دمع الطّلّ منهمرا

من أعين الزّهر لم تبخل بإسعاد

فلا (٤) تزل صلوات الله نازلة (٥)

على دفينك لا تحصى بتعداد

بعض ما رثي به : قال ابن الصّيرفي : وخالف في وفاة المعتمد ، فقال : كانت في ذي حجة. فلمّا انفصل الناس من صلاة العيد ، حفّ بقبره ملأ ، يتوجعون ويترحمون عليه ، وأقبل ابن عبد الصمد ، فوقف على قبره وأنشد (٦) : [الكامل]

ملك الملوك ، أسامع فأنادي

أم قد عدتك عن السّماع عوادي؟

لمّا خلت (٧) منك القصور فلم (٨) تكن

فيها كما قد كنت في الأعياد

أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا

وتخذت (٩) قبرك موضع الإنشاد

__________________

(١) الأبيات في المعجب (ص ٢٢٢) ، وهي غير واردة في ديوانه.

(٢) في الأصل : «فاجأني» وهكذا ينكسر الوزن. وفي المعجب : «نعم هو الحقّ حاباني به قدر».

(٣) في المعجب : «فوافاني».

(٤) في المعجب : «ولا».

(٥) في المعجب : «دائمة».

(٦) الأبيات في قلائد العقيان (ص ٣٠) ووفيات الأعيان (ج ٤ ص ٢٨٩) وجاء في الأخير أن الشاعر هو : أبو بحر عبد الصمد.

(٧) في وفيات الأعيان : «نقلت عن».

(٨) في المصدر : «ولم».

(٩) في وفيات الأعيان : «وجعلت».

٦٩

ثم خرّ يبكي ، ويقبّل القبر ويعفر وجهه في التّراب ، فبكى ذلك الملأ حتى أخضلوا ملابسهم ، وارتفع نشيجهم ، فلله درّ ابن عبد الصمد ، وملاذ ذلك البلد.

محمد بن سعد بن محمد بن أحمد بن مردنيش الجذامي (١)

قال بعضهم : ينتمي في تجيب ، الأمير أبو عبد الله.

أوّليّته : معروفة. وعلى يد أبيه جرت الوقيعة الكبرى بظاهر إفراغة (٢) ، على ابن رذمير الطاغية ، فجلّت الشّهرة ، وعظمت الأثرة. قال بعضهم : تولى أبوه سعد قيادة إفراغه وما إليها ، وضبطها. ونازلها ابن رذمير ، فشهر غناؤه بها في دفاعه ، وصبره على حصاره ، إلى أن هزمه الله عزّ وجلّ ، على يدي ابن غانية. وظهر بعد ذلك فحسن بلاؤه ، وبعد صيته. ورأس ابنه محمد ، ونفق في ألفته. وكان بينه وبين ابن عياض المتأمّر بمرسية صهر ، ولّاه لأجله بلنسية. فلما توفي ابن عياض ، بادرها ابن سعد ، وبلغه أثناء طريقه غدر العدوّ بحصن جلال ، فكرّ وقاد له وفتحه. وعاد فملك بلنسية ، وقد ارتفع له صيت شهير ، ثم دخلت مرسية في أمره ، واستقام له الشّرق ، وعظمت حاله.

حاله : قال ابن حمامة : ساد من صغره بشجاعته ونجابته ، وصيت أبيه ، فمال بذلك إلى القيادة ، وسنّه إحدى وعشرون سنة. ثم ارتقى إلى الملك الراسخ ، والسلطان الشامخ ، بباهر شجاعته وشهامته ، فسما قدره ، وعظم أمره ، وفشى في كل أمة ذكره.

وقال غيره : كان بعيد الغور ، قويّ السّاعد ، أصيل الرأي ، شديد العزم ، بعيد العفو ، مؤثرا للانتقام ، مرهوب العقوبة.

وقال في مختصر «ثورة المريدين» (٣) : كان عظيم القوة في جسمه ، ذا أيد في عظمته ، جزّارة في لحمه ، وكان له فروسيّة ، وشجاعة ، وشهامة ، ورئاسة.

__________________

(١) ترجمة ابن مردنيش في المعجب (ص ٢٧٨) والمغرب (ج ٢ ص ٢٥٠) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٥٩) وكتاب العبر (م ٤ ص ٣٥٧) واسمه فيه : محمد بن أحمد بن سعيد بن مردنيش ، ونفح الطيب (ج ٤ ص ١٨٥ ، ٢٨٩) و (ج ٥ ص ٤١ ، ٤٥) و (ج ٦ ص ١٤٧ ، ٢١٥ ، ٢٣٥).

(٢) إفراغه بالإسبانيةFraga ، وهي مدينة بغربي لاردة ، لها حصن منيع وبساتين كثيرة. حاصرها ابن رذمير سنة ٥٢٨ ه‍ ، فتصدّى له يحيى بن علي بن غانية فهزمه بعد أن قتل أكثر رجاله بالجملة ، وفرّ ابن رذمير. الروض المعطار (ص ٤٨).

(٣) هذا الكتاب لابن صاحب الصلاة ، صاحب كتاب : «تأريخ المن بالإمامة». ولسوء الحظ ، فقد ـ

٧٠

بطالته وجوده : قال : وكان له يومان في كل جمعة ؛ الاثنين والخميس ، يشرب مع ندمائه فيهما ، ويجود على قوّاده ، وخاصته وأجناده ، ويذبح البقر فيهما ، ويفرق لحومها على الأجناد ، ويحضر القيان بمزاميرهن وأعوادهن ، ويتخلل ذلك لهو كثير ، حتى ملك القلوب من الجند ، وعاملوه بغاية النّصح ، وربما وهب المال في مجالس أنسه.

ذكر أنه استدعى يوما ابن الأزرق أحد قوّاده ، فشرب معه ومع القرابة ، في مجلس قد كساه بأحمر الوشي والوطيء والآنية من الفضة وغيرها ، وتمادى في لهو وشراب عامة اليوم ، فلما كمل نهاره معهم ، وهبهم الآنية ، وكلّ ما كان في المجلس من الوشي وغير ذلك.

ما نقم عليه ووصم به :

قالوا : كان عظيم الانهماك في ميدان البطالة ، واتخذ جملة من الجواري ، فصار يراقد منهن جملة تحت لحاف واحد (١). وانهمك في حب القيان ، والزّمر والرقص.

قالوا : وكان له فتى اسمه حسن ، ذو رقبة سمينة ، وقفا عريض ، فإذا شرب ، كان يرزّه ، ويعطيه بعد ذلك عطاء جزيلا. وفي ذلك يقول كاتبه المعروف بالسّالمي ، وكان يحضر شرابه ويخمر : [المنسرح]

أدر كؤوس المدام والرّزّ

فقد ظفرنا بدولة العزّ

ونعم الكفّ من قفا حسن

فإنها في ليانة الخزّ

وصاحب إن طلبت أخدعه

فلم يك (٢) في بذله بمعتزّ

انحنى على أخداعي فأطربني

وهزّ عطفيّ أيّما هزّ

وأجزل صلة السّالمي حين أنشدها إياه ، واشتهرت هذه الأبيات بالشرق ، واستظرفها الناس. فردّ مرسية دار مجونه ، وبلغ في زمانه ألفا وأربعين. وآثر زيّ النصارى من الملابس ، والسلاح ، واللّجم ، والسروج. وكلف بلسانهم يتكلم مباهتة ، وألجأه الخروج عن الجماعة ، والانفراد بنفسه إلى الاحتماء بالنصارى ، ومصانعتهم ، والاستعانة بطواغيتهم ، فصالح صاحب برشلونة لأول أمره على ضريبة ، وصالح ملك

__________________

ـ هذا الكتاب ، وهو يتناول تاريخ طائفة دينية دعت إلى الزهد والتقشف بزعامة أبي العباس أحمد بن قسي. راجع تأريخ المن بالإمامة (مقدمة المحقق).

(١) قال ابن الخطيب في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٦١): «فكان يراقد أزيد من مائتي جارية تحت لحاف واحد».

(٢) في الأصل : «فلم يكن» وهكذا ينكسر الوزن.

٧١

قشتالة على أخرى ؛ فكان يبذل لهم في السنة خمسين ألف مثقال. وابتنى لجيشه من النصارى منازل معلومات وحانات للخمور ، وأجحف برعيّته لأرزاق من استعان به منهم ، فعظمت في بلاده المغارم وثقلت ، واتخذ حوانيت بيع الأدم والمرافق ، تختنق بجانبه ، وجعل على الأغنام وعروض البقر ، مؤنا غريبة. وأما رسوم الأعراس والملاهي ، فكانت قبالاتها غريبة. حدّث بعض المؤرخين عن الثقة ، قال : كنت بجيّان مع الوزير أبي جعفر الوقّشي ، فوصل إليه رجل من أهل مرسية ، كان يعرفه ، فسأله الوزير عن أحوال ابن مردنيش وعن سيره ، فقال الرجل : أخبرك بما رأيته من جور عمّاله وظلمهم ؛ وذلك أن أحد الرعية بشاطبة واسمه محمد بن عبد الرحمن ، كان له بنظر شاطبة ، ضويعة يعيش بها ، وكان لازمها أكثر من فائدها ، فأعطى لازمها حتى افتقر ، وفرّ إلى مرسية. وكان أمر ابن مردنيش ، أنه من فرّ من الرعيّة أمام الغزو ، أخذ ماله للمخزن. قال الرجل الشّاطبي : فلما وصلت إلى مرسية فارّا عن وطني ، خدمت الناس في البنيان ، فاجتمع لي مثقالان سعديّان ، فبينما أنا أمشي في السوق ، وإذا بقوم من أهل بلدي شاطبة ، ومن قرابتي ، فسألتهم عن أولادي وزوجتي ، فقالوا : إنهم في عافية ، ففرحت فرحا عظيما ، وسألتهم عن الضّويعة ، فقالوا : إنها باقية بيد أولادك ، فقلت لهم : عسى تبيتوا عندي الليلة ، فاشتريت لحما وشرابا ، وضربنا دفّا. فلمّا كان عند الصباح ، وإذا بنقر عنيف بالباب. فقلت : من أنت؟ فقال : أنا الطّرقون الذي بيده قبالة اللهو ، وهي متّفقة بيدي ، وأنتم ضربتم البارحة الدّف فأعطنا حق العرس الذي عملت. فقلت له : والله ما كانت لي عرس ، فأخذت وسجنت ، حتى افتديت بمثقال واحد من الذي خدمت به ، وجئت إلى الدار ، فقيل لي إن فلانا وصل من شاطبة السّاعة ، فمشيت لأسأله عن أولادي ، فقال : تركتهم في السّجن ، وأخذت الضّويعة من أيديهم في رسم الجبالي ، فرجعت إلى الدار ، إلى قرابتي ، وعرّفتهم بالذي طرأ عليّ ، وبكيت طول ليلتي ، وبكوا معي ، فلمّا كان من الغد ، وإذا بناقر بالباب ، فخرجت ، فقال : أنا رجل صاحب المواريث ، أعلمنا أنكم بكيتم البارحة ، وأنه قد مات لكم ميت من قرابتكم غنيّ ، وأخذتم كلّ ما ترك ، فقلت : والله ما بكيت إلّا نفسي ، فكذبني وحملني إلى السجن ، فدفعت المثقال الثاني ، ورجعت إلى الدار وقلت : أخرج إلى الوادي ، إلى باب القنطرة ، أغسل ثيابي من درن السجن ، وأفرّ إلى العدوة ، فقلت لامرأة تغسل الثياب : اغسلي مما عليّ ، وجرّدتها ، ودفعت لي زنارا ألبسه. فبينا أنا كذلك ، وإذا بالخصيّ قائد ابن مردنيش ، يسوق ستين رجلا من أهل الجبل ، لابسي الزنانير ، فرآني على شكلهم ، فأمر بحملي إلى السّخرة والخدمة بحصن مسقوط عشرة أيام ، فلبثت أخدم وأحضر مدة عشرة أيام ، وأنا أبكي وأشتكي للقائد المذكور ، حتى أشفق عليّ وسرّحني. فرجعت أريد مرسية ، فقيل لي عند باب البلد : كيف اسمك؟

٧٢

فقلت : محمد بن عبد الرحمن ، فأخذني الشرطي ، وحملت إلى القابض بباب القنطرة ، فقالوا : هذا من كتبته من أرباب الحالي بكذا وكذا دينار ، فقلت : والله ما أنا إلّا من شاطبة ، وإنما اسمي وافق ذلك الاسم ، ووصفت له ما جرى عليّ ، فأشفق وضحك مني ؛ وأمر بتسريحي ، فسرت على وجهي إلى هنا.

بعض الأحداث في أيامه ، ونبذ من أخباره :

استولى على بلاد الشّرق ، مرسية وبلنسية وشاطبة ودانية ، ثم اتسع نطاق ملكه ، فولّي جيّان ، وأبدة ، وبيّاسة ، وبسطة ، ووادي آش. وملك قرمونة ، ونازل قرطبة وإشبيلية ، وكاد يستولي على جميع بلاد الأندلس ، فولّي صهره ابن همشك ، وقد مرّ في باب إبراهيم ، مدينة جيّان وأبدة وبيّاسة ، وضيّق منها على قرطبة ، واستولى على إستجة ، ودخل غرناطة سنة سبع وخمسين وخمسمائة ، وثار عليه يوسف بن هلال من أصهاره بحصن مطرنيش وما إليه. ثم تفاسد ما بينه وبين صهره الآخر ابن همشك ، فكان سبب إدبار أمره ، واستولى العدو في مدة ابن سعد على مدينة طرطوشة عام ثلاثة وأربعين وخمسمائة ، وعلى حصن إقليج ، وحصن شرانية.

دخوله غرناطة : ولما دخل ابن همشك (١) مدينة غرناطة ، وامتنعت عليه قصبتها ، وهزم الجيش المصرخ لمن حصر بها من الموحدين بمرج الرّقاد (٢) وثاب أثناء ذلك أمر الموحدين ، فتجهز لنصرهم السيد أبو يعقوب ، وأجاز البحر ، واجتمعوا بالسيد أبي سعيد بمالقة ، استمدّ ابن همشك صهره الأسعد ، أبا عبد الله محمد بن سعد ، فخرج بنفسه في العسكر الكبير من أهل الشرق والنصارى ، فوصل إلى غرناطة ، واضطربت محلته بالربوة السامية المتصلة بربض البيّازين ، وتعرف إلى اليوم بكدية مردنيش ، وتلاحق جيش الموحدين بأحواز غرناطة ، فأبينوا جيش عدوهم ، فكانت عليه الدّبرة ، وفر ابن مردنيش ، فلحق بجيان ، واتصلت عليه الغلبة من لدن منتصف عام ستين ، فلم يكن له بعده ظهور.

وفاته : وظهر عليه أمر الموحدين ، فاستخلصوا معظم ما بيده ، وأوقعوا بجنده الوقائع العظيمة ، وحصر بمدينة مرسية ، واتصل حصاره ، فمات أثناء الحصار في عاشر

__________________

(١) هو القائد أبو الحسن بن همشك ، صهر محمد بن مردنيش ، كما ورد في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٦١).

(٢) مرج الرقاد : موضع بظاهر غرناطة ، انهزم فيه الموحدون أقبح هزيمة سنة ٥٥٧ ه‍ ـ على يد أبي الحسن بن همشك ، صهر محمد بن مردنيش. راجع أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٦١).

٧٣

رجب من عام سبعة وستين وخمسمائة (١) وله ثمانية وأربعون عاما ، ووصل أمره أبو القمر هلال (٢) ، وألقى باليدين إلى الموحدين ، فنزل على عهد ورسوم حسبما يأتي في موضعه.

محمد بن يوسف بن هود الجذامي

أمير المسلمين بالأندلس ، يكنى أبا عبد الله ، ويلقب من الألقاب السلطانية بالمتوكل على الله(٣).

أوّليّته : من ولد المستعين بن هود. وأوّليتهم معروفة ، ودولتهم مشهورة ، وأمراؤهم مذكورون. خرج من مرسية تاسع رجب عام خمسة وعشرين وستمائة إلى «الصّخور» من جهاتها ، في نفر يسير من الجنود معه ، وكان الناس يستشعرون ذلك ، ويرتقبون ظهور مسمّى باسمه واسم أبيه ، ويندّدون بإمرته وسلطانه. وجرى عليه بسبب ذلك امتحان في زمن الموحّدين مرات ، إذ كان بعض الهاتفين بالأمور الكائنة ، والقضايا المستقبلة ، يقول لهم : يقوم عليكم قائم من صنف الجند ، اسمه محمد بن يوسف ، فقتلوا بسبب ذلك شخصا من أهل جيّان. ويقال إن شخصا ممن ينتحل ذلك ، لقي ابن هود ، فأمعن النظر إليه ، ثم قال له : أنت سلطان الأندلس ، فانظر لنفسك ، وأنا أدلّك على من يقيم ملكك ، فاذهب إلى المقدّم الغشتي فهو القائم بأمرك. وكان الغشتي (٤) رجلا صعلوكا (٥) يقطع الطريق ، وتحت يده جماعة من أنجاد (٦) الرجال ، وسباع الشرّار ، قد اشتهر أمرهم ، فنهض إلى المقدم ، وعرض عليه الأمر ، وقال : نستفتح بمغاورة إلى أرض العدو ، على اسمك وعلى سعدك ، ففعلوا ، فجلبوا كثيرا من الغنائم والأسرى ، وانضاف إلى ابن هود طوائف مثل هؤلاء ، وبايعوه

__________________

(١) كذا في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٦٢) ، وفي المعجب (ص ٢٧٩) أنه مات في شهور سن ٥٦٨ ه‍. وفي نفح الطيب (ج ٦ ص ١٤٧ ، ٢٣٥) أن وفاته كانت سنة ٥٦٦ ه‍.

(٢) هو هلال بن محمد بن سعد بن مردنيش ، تولّى الأمر بعد موت أبيه سنة ٥٦٧ ه‍ ، ولكنه خالف أباه في العداء للموحدين ، فتخلّى عن مرسيه ، وأذعن للخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. أعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٧١).

(٣) ترجمة المتوكل محمد بن يوسف بن هود في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٧٦) والمعجب (ص ٤١٧) والمغرب (ج ٢ ص ٢٥١) وكتاب العبر (م ٤ ص ٣٦١) والحلة السيراء (ج ١٢٨ ص ٢٩٦ ، ٣٠٣ ، ٣٠٨) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٧٧) والأعلام للزركلي (ج ٧ ص ١٤٩).

(٤) قارن بالبيان المغرب (قسم الموحدين ص ٢٧٦).

(٥) في البيان المغرب : «حواسا».

(٦) في البيان المغرب (ص ٢٧٧): «من أراذل الناس».

٧٤

ب «الصّخيرات» (١) كما ذكر ، من ظاهر مرسية ، وتحرّك إليه السيد أبو العباس بعسكر مرسية ، فأوقع به وشرّده ، ثم ثاب إليه ناسه ، وعدل إلى الدّعاء للعباسيين ، فتبعه اللّفيف ، ووصل تقليد الخليفة المستنصر بالله ببغداد ، فاستنصر الناس في دعوته ، وشاع ذكره ، وملك القواعد ، وجيّش الجيوش ، وقهر الأعداء ، ووفّى للغشتي بوعده ، فولّاه أسطول إشبيلية ، ثم أسطول سبتة ، مضافا إلى أمرها ، وما يرجع إليه ، فثار به أهلها بعد وخلعوه ، وفرّ أمامهم في البحر ، وخفي أثره إلى أن تحقق استقراره أسيرا في البحر بغرب الأندلس ، ودام زمانا ، ثم تخلّص في سنّ الشيخوخة ، ومات برباط آسفي.

حاله : كان شجاعا ، ثبتا ، كريما حيّيا ، فاضلا ، وفيّا ، متوكّلا عليه ، سليم الصدر ، قليل المبالاة ، فاستعلى لذلك عليه ولاته بالقواعد ، كأبي عبد الله بن الرّميمي بألمريّة ، وأبي عبد الله بن زنون بمالقة ، وأبي يحيى عتبة بن يحيى الجزولي بغرناطة. وكان مجدودا ، لم ينهض له جيش ، ولا وفّق لرأي ؛ لغلبة الخفّة عليه ، واستعجاله الحركات ، ونشاطه إلى اللقاء ، من غير كمال استعداد.

بعض الأحداث في أيامه (٢) :

جرت عليه هزائم ، منها هزيمة السلطان الغالب بالله إيّاه مرّتين ، إحداهما بظاهر إشبيلية ، وركب البحر فنجا بنفسه ، ثم هزمه بإلبيرة من أحواز غرناطة ، زعموا كل ذلك في سنة أربع وثلاثين وستمائة أو نحوها.

وفي سنة خمس وثلاثين ، كان اللقاء بينه وبين المأمون إدريس أمير الموحدين بإشبيلية ، فهزمه المأمون أقبح هزيمة ، واستولى على محلّته ، ولاذ منه بمدينة مرسية.

ثم شغل المأمون الأمر ، وأهمّته الفتنة الواقعة بمرّاكش ، فصرف وجهه إليها ، وثاب الأمر للمتوكل ، فدخلت في طاعته ألمريّة ، ثم غرناطة ، ثم مالقة. وفي سبع وعشرين وستمائة ، تحرّك بفضل شهامته بجيوش عظيمة ، لإصراخ مدينة ماردة ، وقد نازلها العدوّ وحاصر ، ولقي الطّاغية بظاهرها ، فلم يتأنّ ، زعموا ، حتى دفع بنفسه العدوّ ، ودخل في مصافّه ، ثم لمّا كرّ إلى ساقته ، وجد الناس منهزمين لما غاب عنهم ، فاستولت عليه هزيمة شنيعة ، واستولى العدو على ماردة بعد ذلك.

__________________

(١) في البيان المغرب (ص ٢٧٧) أن الصخيرات موضع بمقربة من مرسية.

(٢) قارن بالبيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ، ٢٩٤).

٧٥

وفتح عليه في أمور ، منها تملّكه إشبيلية سنة تسع وعشرين وستمائة ، وولّى عليها أخاه الأمير أبا النجاة سالما الملقب بعماد الدولة. وفي سنة إحدى وثلاثين ، رجعت قرطبة إلى طاعته ، واستوسق أمره. وتملّك غرناطة ومالقة عام خمسة وعشرين وستمائة ، ودانت له البلاد. وفي العشر الأول من شوال ، دخل في طاعته الريّسان أبو زكريا ، وأبو عبد الله ، ابنا الرئيس أبي سلطان عزيز بن أبي الحجاج بن سعد ، وخرجا عن طاعة الأمير أبي جميل ، وأخذا البيعة لابن هود على ما في أيديهما. وفي سنة ست وعشرين وستمائة ، تملك الجزيرة الخضراء عنوة ، يوم الجمعة التاسع لشعبان من العام ، وفي العشر الوسط من شوال ورد عليه الخبر ليلا بقصد العدوّ وجهة مدينة وادي آش ، فأسرى ليله مسرجا بقية يومه ، ولحق بالعدو على ثمانين ميلا ، فأتى على آخرهم ، ولم ينج منه أحد.

إخوته : الرئيس أبو النجاة سالم ، وعلامته : «وثقت بالله» ، ولقبه «عماد الدولة» ، والأمير أبو الحسن عضد الدولة ، وأسره العدو في غارة ، وافتكّه بمال كثير ، والأمير أبو إسحاق شرف الدولة. وكلهم يكتب عنه ، من الأمير فلان.

ولده : أبو بكر الملقب بالواثق بالله ، أخذ له البيعة على أهل الأندلس ، في كذا ، وولّي بعده وليّ عهده ، واستقلّ بملك مرسية ، ثم لم ينشب أن هلك.

دخوله غرناطة : دخل غرناطة مرّات عديدة ، إحداها في سنة إحدى وثلاثين وستمائة ، وقد وردت عليه الرّاية والتقليد من الخليفة العباسي ببغداد. وبمصلّى غرناطة ، قرىء على الناس كتابه ، وهو قائم ، وزيّه السّواد ، ورايته السوداء بين يديه ، وكان يوم استسقاء ، فلم يستتمّ على الناس قراءة الكتاب يومئذ ، إلّا وقد جادت السماء بالمطر ، وكان يوما مشهودا ، وصنعا غريبا ، وأمر بعد انصرافه ، أن يكتب عنه بتلك الألقاب التي تضمّنها الكتاب المذكور إلى البلاد.

وفاته : اختلف الناس في سبب وفاته ، فذكر أنه قد عاهد زوجه ألّا يتخذ عليها امرأة طول عمره ، فلمّا تصيّر إليه الأمر ، أعجبته روميّة حصلت له بسبب السّبي من أبناء زعمائهم ، من أجمل الناس ، فسترها عند ابن الرّميمي خليفته ، فزعموا أن ابن الرميمي علق بها ، ولما ظهر حملها ، خاف افتضاح القصة ، فدبّر عليه الحيلة ، فلمّا حلّ بظاهر ألمريّة ، عرض عليه الدخول إليها ، فاغتاله ليلا ، بأن أقعد له أربعة رجال ، قضوا عليه خنقا بالوسائد. ومن الغد ادّعى أنه مات فجأة ، ووقف عليه العدول ، والله أعلم بحقيقة الأمر سبحانه ، وكانت وفاته ليلة الرابع والعشرين من جمادى الآخرة عام خمسة وثلاثين وستمائة. وفي إرجاف الناس بولاية ابن هود ، والأمر قبل وقوعه،

٧٦

يقول الشاعر : [الطويل]

همام به زاد الزمان طلاقة

ولذّت لنا فيه الأماني موردا

فقل لبني العباس ها هي دولة

أغار بها الحقّ المبين وأنجدا

فإن الذي قد جاء في الكتب وصفه

بتمهيد هذي الأرض قد جاء فاهتدا

فإن بشّرتنا بابن هود محمد

فقد أظهر الله ابن هود محمّدا

محمد بن أحمد بن زيد بن أحمد بن زيد بن الحسن

ابن أيوب بن حامد بن زيد بن منخل الغافقي

يكنى أبا بكر ، من أهل غرناطة. وسكن وادي آش.

أوّليّته : أصل هذا البيت من إشبيلية ، وذكره الرّازي في الاستيعاب ، فقال : وبإشبيلية بيت زيد الغافقي ، وهم هناك جماعة كبيرة ، فرسان ولهم شرف قديم ، وقد تصرّفوا في الخدمة. بلديّون (١) ، ثم انتقلوا إلى طليطلة ، ثم قرطبة ، ثم غرناطة. وذكر الملّاحي في كتابه الحسن بن أيوب بن حامد بن أيوب بن زيد ، وعدّه من أهل الشّورى ، وقضاة الجماعة بغرناطة. وأحمد بن زيد بن الحسن هو المقتول يوم قيام بني خالد ، بدعوة السلطان أبي عبد الله الغالب بالله بن نصر (٢) ، وكان عامل المتوكل على الله بن هود بها ، وعمّن جمع له بين الدّين والفضل والماليّة.

حاله ونباهته ومحنته ووفاته :

كان هذا الرجل عينا من أعيان الأندلس ، وصدرا من صدورها ، نشأ عفّا متصاونا عزوفا ، وطلاوة ، نزيها ، أبيّا ، كريم الخؤولة ، طيّب الطّعمة ، حرّ الأصالة ، نبيه الصّهر. ثم استعمل في الوزارة ببلده ، ثم قدّم على من به من الفرسان ، فأوردهم الموارد الصفيّة بإقدامه ، واستباح من العدوّ الفرصة ، وأكسبهم الذكر والشهرة ، وأنفق في سبيل الله ، إلى غضاضة الإيمان ، وصحّة العقد ، وحسن الشّيمة ، والاسترسال في ذكر التواريخ ، والأشعار الجاهليّة ، والأمثال ، والتمسّك بأسباب الدين ، وسحب أذيال الطّهارة ، وهجر الخبايث ، وإيثار الجدّ ، والانحطاط في هوى الجماعة.

__________________

(١) البلديون : هم العرب الذين دخلوا الأندلس على يد موسى بن نصير ، والشاميون هم العرب الذين دخلوا الأندلس مع بلج بن بشر القشيري سنة ١٢٣ ه‍. راجع الجزء الأول من الإحاطة في «فصل في فتح هذه المدينة».

(٢) هو أبو عبد الله الغالب بالله محمد بن يوسف بن محمد بن نصر الخزرجي الأنصاري ، حكم غرناطة من سنة ٦٣٥ ه‍ ـ إلى سنة ٦٧١ ه‍. راجع اللمحة البدرية (ص ٤٢).

٧٧

مشيخته : قرأ بغرناطة على شيخ الجماعة أبي عبد الله بن الفخّار ، وببلده على الأستاذ أبي عبد الله الطرسوني ، وبه انتفاعه. وكان جهوري الصّوت ، متفاضلا ، قليل التهيّب في الحفل. ولما حدث بالسلطان أبي عبد الله من كياد دولته ، وتلاحق بوادي آش مفلتا ، قام بأمره ، وضبط البلد على دعوته ، ولمّ المداهنة في أمره ، وجعل حيل عدوه دبر أذنه ، إلى أن خرج عنها إلى العدوة ، فكان زمان طريقه مفديا له بنفسه ، حتى لحق بمأمنه ، فتركها مغربة.

خبر في وفاته ومعرجه :

وكانت الحمد لله على محمده ، واستأثر به الدّاخل ، فشدّ عليه يد اغتباطه ، وأغرى به عقد ضنانته ، وخلطه بنفسه ، ثم أغرى به لمكانته من الشهامة والرياسة ، فتقبّض عليه ، وعلى ولده ، لباب بني وقته ، وغرّة أبناء جنسه ، فأودعهما مطبق أرباب الجرائم ، وهمّ باغتيالهما ، ثم نقلهما إلى مدينة المنكّب ليلة المنتصف لمحرم من عام اثنين وستين وسبعمائة في جملة من النّبهاء مأخوذين بمثل تلك الجريرة. ثم صرف الجميع في البحر إلى بجاية ، في العشر الأول لربيع الأول مصفّدين. ولما حلّوا بها ، أقاموا تحت برّ وتجلّة. ثم ركبوا البحر إلى تونس ، فقطع بهم أسطول العدو بأحواز تكرنت ، ووقعت بينه وبين المسلمين حرب ، فكرم مقام المترجم يومئذ ، وحسن بلاؤه. قال المخبر : عهدي به ، وقد سلّ سيفا ، وهو يضرب العدو ويقول : اللهمّ اكتبها لي شهادة. واستولى العدو على من كان معه من المسلمين ، ومنهم ولده ، وكتب : افتكّ الجميع ببلد العنّاب ، وانصرف ابنه إلى الحج ، وآب لهذا العهد بخلال حميدة كريمة ، من سكون وفضل ودين وحياء ، وتلاوة ، إلى ما كان يجده من الرّكض ، ويعانيه من فروسية ، فمضى على هذا السبيل من الشهادة ، نفعه الله ، في ليلة الجمعة الثامن لرجب من عام اثنين وستين وسبعمائة.

شعره : أنشدني قاضي الجماعة أبو الحسن بن الحسن له : [البسيط]

يا أيها المرتجي للطف (١) خالقه

وفضله في صلاح الحال والمال

لو كنت توقن حقا لطف قدرته

فاشمخ بأنفك عن قيل وعن (٢) قال

فإنّ لله لطفا عزّ خالقنا

عن أن يقاس بتشبيه وتمثال

وكل أمر وإن أعياك ظاهره

فالصّنع في ذاك لا يجري على بال

__________________

(١) في الأصل : «لطف» وهكذا ينكسر الوزن.

(٢) كلمة «عن» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.

٧٨

محمد بن أحمد بن محمد الأشعري

من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن المحروق ، الوكيل بالدار السلطانية ، القهرمان بها ، المستوزر آخر عمره ، سداد من عون.

حاله وأوليته وظهوره : كان ، رحمه الله ، من أهل العفاف والتّصاون ، جانحا إلى الخير ، محبّا في أهل الإصلاح ، مغضوض الطّرف عن الحرم ، عفيفا عن الدماء ، مستمسكا بالعدالة ، من أهل الخصوصيّة ، كتب الشروط ، وبرّز في عدول الحضرة. وكان له خط حسن ، ومشاركة في الطلب ، وخصوصا في الفرائض ، وحظّه تافه من الأدب. امتدح الأمراء ، فترقى إلى الكتابة مرءوسا مع الجملة. وعند الإيقاع بالوزير ابن الحكيم ، تعيّن لحصر ما استرفع من منتهب ماله ، وتحصّل بالدار السلطانية من أثاثه وخرثيّه (١) ، فحزم واضطلع بما كان داعية ترقيه إلى الوكالة ، فساعده الوقت ، وطلع له جاه كبير ، وتملّك أموالا عريضة ، وأرضا واسعة ، فجمع الدنيا بحزمه ومثابرته على تنمية داخله. وترقى إلى سماء الوزارة في الدّولة السادسة من الدول النّصرية (٢) ، بتدبير شيخ الغزاة ، وزعيم الطائفة عثمان بن أبي العلي (٣) ، فوصله إلى أدوار دنياه ، والله قد خبّأ له المكروه في المحبوب ، وتأذّن الله سبحانه بنفاد أجله على يده ، فاستولى وحجب السلطان. ثم وقعت بينه وبين مرشّحه الوحشة الشهيرة عام سبعة (٤) وعشرين وسبعمائة ، مارسا لمكان الفتنة ، صلة فارط في حجب السلطان ، وأجلى جمهور ما كان ببابه ، ومنع من الدخول إليه ، فاضطربت حاله ، وأعمل التدبير عليه ، فهجم عليه بدار الحرّة الكبيرة جدّة السلطان ، وكان يعارضها في الأمور ، ويجعلها تكأة لغرضه ، فتيان من أحداث المماليك المستبقين مع محجوبه ، تناولاه سطّا بالخناجر ، ورمى نفسه في صهريج الدار ، وما زالا يتعاورانه من كل جانب حتى فارق الحياة ، رحمه الله تعالى.

مشيخته : قرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير ، وكانت له فيه فراسة صادقة.

__________________

(١) الأثاث : ما جدّ من متاع البيت ، ولا واحد له. والخرثيّ : أردأ متاع البيت. محيط المحيط (أثث) و (خرث).

(٢) المراد بالدولة السادسة سادس سلاطين بني نصر ، وهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن نصر. وترجمته في اللمحة البدرية (ص ٩٠). وترجم له ابن الخطيب في الجزء الأول من الإحاطة ترجمة ضافية.

(٣) في الأصل : «العلاء» والتصويب من اللمحة البدرية (ص ٩٣).

(٤) في الأصل : «سبع» وهو خطأ نحوي.

٧٩

محمد بن فتح بن علي الأنصاري

يكنى أبا بكر ، ويشهر بالأشبرون ، قاضي الجماعة.

حاله : كان طرفا في الدّهاء والتخلّق والمعرفة بمقاطع الحقوق ، ومغامز الرّيب ، وعلل الشهادات ، فذّا في الجزالة ، والصّرامة ، مقداما ، بصيرا بالأمور ، حسن السيرة ، عذب الفكاهة ، ظاهر الحظوة ، عليّ الرتبة. خرج من إشبيلية عند تغلّب العدوّ عليها ، وولّي القضاء بمالقة وبسطة. ثم ولّي الحسبة بغرناطة ، ثم جمعت له إليها الشّرطة. ثم قدّم قاضيا ، واستمرّت ولايته نحوا من ثلاثين سنة.

وفاته : توفي ليلة الحادي عشر من شهر ربيع الأول عام ثمانية وتسعين وستمائة.

محمد بن أحمد بن علي بن حسن بن علي

ابن الزيات الكلاعي (١)

ولد الشيخ الخطيب أبي جعفر بن الزيات ، من أهل بلّش ، يكنى أبا بكر.

حاله : من «عائد الصلة» من تأليفنا : كان ، رحمه الله ، شبيها بأبيه ، في هديه ، وحسن سمته ووقاره ، إلّا أنه كان حافظا للرتبة ، مقيما للأبّهة ، مستدعيا بأبيه ونفسه للتجلّة ، بقية من أبناء المشايخ ، ظرفا وأدبا ومروءة وحشمة ، إلى خطّ بديع قيد البصر ، ورواية عالية ، ومشاركة في فنون ، وقراءة ، وفقه ، وعربية ، وأدب وفريضة ، ومعرفة بالوثاق والأحكام. تولّى القضاء ببلده ، وخلف أباه على الخطابة والإمامة ، فأقام الرّسم ، واستعمل في السّفارة ، فسدّ مسدّ مثله ، وأقرأ ببلده ، فانتفع به.

مشيخته : قرأ على الأستاذ الخطيب أبي محمد بن أبي السّداد الباهلي ، وبغرناطة على شيخ الجماعة الأستاذ أبي جعفر بن الزبير ، ومن أعلام مشيخته جدّه للأمّ ، خال أبيه ، الحكمي العارف أبو جعفر ابن الخطيب أبي الحسن بن الحسن المذحجي الحمي ، والخطيب الربّاني أبو الحسن فضل بن فضيلة ، والوزير أبو عبد الله بن رشيد.

__________________

(١) ترجمة محمد بن أحمد بن الزيات الكلاعي في الكتيبة الكامنة (ص ١١٥) ونيل الابتهاج (ص ٢٣٧).

٨٠