الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

وهي طويلة ومنها :

أيها المولى الذي نعماؤه

أعجزت عن شكرها كنه المقال

ها أنا أنشدكم مهنّئا

من بديع النّظم بالسّحر الحلال

فأنا العبد الذي حبّكم

لم يزل والله في قلبي وبالي

أورقت روضة آمالي لكم

وتولّاها الكبير المتعالي (١)

واقتنيت الجاه من خدمتكم

فهو (٢) ما أذخره من كنز مال

ومنها :

يا أمير المسلمين هذه

خدمة تنبىء عن أصدق حال

هي بنت ساعة أو ليلة

سهلت بالحبّ في ذاك الجلال

ما عليها إذ أجادت مدحها

من بعيد الفهم يلغيها وقال

فهي في تأدية الشكر لكم

أبدا بين احتفاء واحتفال

وكتب ، رحمه الله ، يخاطب أهله من مدينة تونس (٣) :

حيّ حيّ بالله يا ريح نجد

وتحمّل عظيم شوقي ووجدي

وإذا ما بثثت حالي فبلّغ

من سلامي لهم على قدر ودّي

ما تناسيتهم وهل في مغيبي

هم (٤) نسوني على تطاول بعدي

بي شوق إليهم ليس يعزى

لجميل (٥) ولا لسكّان نجد

يا نسيم الصّبا إذا جئت قوما

ملئت أرضهم بشيح ورند

فتلطّف عند المرور عليهم

وحقوقا لهم عليّ فأدّ

قل لهم قد غدوت من وجدهم في

حال شوق لكلّ رند وزند

وإن استفسروا حديثي فإني

باعتناء الإله بلّغت قصدي

فله الحمد إذ حباني بلطف

عنده قلّ كلّ شكر وحمد

__________________

(١) في النفح : «... بكم مذ تولّاها الرباب المتوالي».

(٢) في النفح : «فهي».

(٣) القصيدة في نفح الطيب (ج ٣ ص ٣٦٣ ـ ٣٦٤).

(٤) في النفح : «قد».

(٥) أراد جميل بن معمر ، صاحب بثينة.

٣٢١

قال شيخنا أبو بكر ولده : وجدت بخطّه ، رحمة الله عليه ، رسالة خاطب بها أخاه أبا إسحاق إبراهيم افتتحها بقصيدة أولها (١) : [الكامل]

ذكر اللّوى شوقا إلى أقماره

فقضى أسى أو كاد من تذكاره

وعلا زفير حريق نار ضلوعه

فرمى على وجناته بشراره

لو كنت تبصر خطّه في خدّه

لقرأت سرّ الوجد من أسطاره

يا عاذليه أقصروا فلربما (٢)

أفضى عتابكم إلى إضراره

إن لم تعينوه على برحائه (٣)

لا تنكروا بالله خلع عذاره

ما كان أكتمه لأسرار الهوى

لو أنّ جند الصّبر من أنصاره

ما ذنبه والبين قطّع قلبه

أسفا وأذكى النار في أعشاره

بخلّ اللّوى بالساكنيه وطيفهم

وحديثه ونسيمه ومزاره

يا برق خذ دمعي وعرّج باللّوى

فاسفحه في باناته وعراره

وإذا لقيت بها الذي بإخائه

ألقى خطوب الدّهر أو بجواره

فاقر السلام عليه قدر محبتي

فيه وترفيعي إلى مقداره

والمم (٤) بسائر إخوتي وقرابتي

من لم أكن لجوارهم بالكاره

ما منهم إلّا أخ أو سيّد

أبدا أرى دأبي على إكباره

فاثبت (٥) لذاك الحيّ أنّ أخاهم

في حفظ عهدهم على استبصاره

ما منزل اللذات في أوطانه

كلّا ولا السّلوان من أوطاره (٦)

وقال ، رحمه الله ، في غرض كلّفه سلطانه القول فيه (٧) : [الوافر]

ألا وأصل مواصلة العقار

ودع عنك التخلّق بالوقار

وقم واخلع عذارك في غزال

يحقّ لمثله خلع العذار

قضيب مائس من فوق دعص

تعمّم بالدّجى فوق النهار

ولاح بخدّه ألف ولام

فصار معرّفا بين الدراري

__________________

(١) القصيدة في نفح الطيب (ج ٣ ص ٣٦٤ ـ ٣٦٥) وورد البيتان الأول والثاني أيضا في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٩).

(٢) في النفح : «فلشدّ ما».

(٣) في الأصل : «عليّ برجائه» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٤) في الأصل : «وألمم» وهكذا ينكسر الوزن.

(٥) في النفح : «فابثث».

(٦) هذا البيت لم يرد في النفح.

(٧) الأبيات في نفح الطيب (ج ٣ ص ٣٦٥).

٣٢٢

رماني قاسم والسين صاد

بأشفار تنوب عن الشّفار

وقد قسمت محاسن وجنتيه

على ضدّين من ماء ونار

فذاك الماء من دمعي عليه

وتلك النار من فرط استعاري (١)

عجبت له أقام بربع قلبي

على ما شبّ فيه من الأوار

ألفت الحبّ حتى صار طبعا

فما أحتاج فيه إلى ادّكار

فما لي عن مذاهبه ذهاب

وهذا فيه أشعاري شعاري (٢)

وقال العلّامة ابن رشيد في «ملء العيبة» (٣) : لما قدمنا المدينة سنة ٦٨٤ ه‍ ، كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم الحكيم ، وكان أرمد (٤) ، فلمّا دخلنا ذا الحليفة أو نحوها ، نزلنا عن الأكوار ، وقوي الشوق لقرب المزار ، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابا لتلك الآثار ، وإعظاما لمن حلّ في (٥) تلك الديار ، فأحسّ بالشفاء ، فأنشد لنفسه في وصف الحال قوله : [الطويل]

ولمّا رأينا من ربوع حبيبنا

بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبّا

وبالتّرب منها إذ كحلنا جفوننا

شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا

وحين تبدّى للعيون جمالها

ومن بعدها عنّا أديلت لنا قربا

نزلنا من (٦) الأكوار نمشي كرامة

لمن حلّ فيها أن نلمّ به ركبا

نسحّ سجال الدّمع في عرصاتها

ونلثم من حبّ لواطئه التّربا

وإن بقائي دونه لخسارة

ولو أنّ كفّي تملأ الشرق والغربا

فيا عجبا ممن يحبّ بزعمه

يقيم مع الدعوى ويستعمل الكتبا

وزلّات مثلي لا تعدّ كثيرة (٧)

وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا

ومن شعره قوله (٨) : [السريع]

ما أحسن العقل وآثاره

لو لازم الإنسان إيثاره

__________________

(١) في الأصل : «استعار» والتصويب من النفح.

(٢) في الأصل : «شعار» والتصويب من النفح.

(٣) النص مع الأبيات في نفح الطيب (ج ٣ ص ٣٦٥ ـ ٣٦٦).

(٤) الأرمد : المصاب بمرض الرمد. لسان العرب (رمد).

(٥) كلمة «في» ساقطة في النفح.

(٦) في النفح : «عن».

(٧) في النفح : «لا تعدّد كثرة».

(٨) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٦). كما وردت في المصدر نفسه (ج ٤ ص ٣١٠) منسوبة إلى صالح بن شريف.

٣٢٣

يصون بالعقل الفتى نفسه

كما يصون الحرّ أسراره

لا سيما إن كان في غربة

يحتاج أن يعرف مقداره

وقوله رحمه الله (١) : [البسيط]

إني لأعسر أحيانا فيلحقني

يسر من الله إنّ العسر قد زالا

يقول خير الورى في سنّة ثبتت

(أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا)

وهو من أحسن ما قاله رحمه الله.

ومن شعره قوله (٢) : [الطويل]

فقدت حياتي بالفراق (٣) ومن غدا

بحال نوى عمّن يحبّ فقد فقد

ومن أجل بعدي من (٤) ديار ألفتها

جحيم فؤادي قد تلظّى وقد وقد

وحكي أن ذا الوزارتين المترجم ، لما اجتمع مع الفقيه الكاتب ابن أبي مدين ، أنشده ابن أبي مدين (٥) : [الطويل]

عشقتكم بالسّمع قبل لقاكم

وسمع الفتى يهوى لعمري (٦) كطرفه

وحبّبني ذكر الجليس إليكم

فلمّا التقينا كنتم فوق وصفه

فأنشده ذو الوزارتين ابن الحكيم قوله (٧) : [البسيط]

ما زلت أسمع عن علياك كلّ سنا

أبهى من الشمس أو أجلى من القمر

حتى رأى بصري فوق الذي سمعت

أذني فوفّق بين السّمع والبصر

ومن نظمه مما يكتب على قوس (٨) : [الكامل]

أنا عدّة للدين في يد من غدا

لله منتصرا على أعدائه

أحكي الهلال وأسهمي في رجمها

لمن اعتدى تحكي رجوم (٩) سمائه

قد جاء في القرآن أني عدّة

إذ نصّ خير الخلق محكم آيه

وإذا العدوّ أصابه سهمي فقد

سبق القضاء بهلكه وفنائه

__________________

(١) البيتان في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٦).

(٢) البيتان في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٦).

(٣) في النفح : «بالعراق».

(٤) في النفح : «عن».

(٥) البيتان في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٧).

(٦) في الأصل : «لعمر» ، والتصويب من النفح.

(٧) البيتان في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٧).

(٨) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٩ ـ ٥٠).

(٩) في النفح : «نجوم».

٣٢٤

ومن (١) توقيعه ما نقلته من خط ولده أبي بكر في كتابه المسمى ب «الموارد المستعذبة» ، وكان (٢) بمدينة وادي آش الفقيه الكذا أبو عبد الله محمد بن غالب الطريفي ، فكتب (٣) يوما إلى الشيخ خاصة والدي (٤) أبي جعفر بن داود ، قصيدة طويلة على روي السّين ، يشتكي (٥) فيها من جور (٦) مشرف بلدهم إذ ذاك أبي القاسم بن حسّان ، منها : [البسيط]

فيا صفيّ أبي العباس ، كيف ترى

وأنت كيّس (٧) من فيها من اكياس

ولّوه إن كان ممّن ترتضون به

فقد دنا الفتح للأشراف في فاس

ومنها يستطر ذكر ذي الوزارتين ، رحمه الله :

للشرق فضل منه أشرقت شهب

من نورهم أقبسونا كل مقباس

فوقع عليها رحمة الله تعالى عليه ورضوانه (٨) : [البسيط]

إن أفرطت بابن حسّان غوائله

فالأمر يكسوه ثوب الذّل والياس (٩)

وإن تزلّ به في جوره قدم

كان الجزاء له ضربا على الرّاس

فقد أقامني المولى بنعمته

لبثّ أحكامه بالعدل في الناس

كتابته : وهي مرتفعة عن نمط شعره ، فمن ذلك رسالة كتبها عن سلطانه في فتح مدينة قيجاطة(١٠) :

من الأمير فلان ، أيده الله ونصره ، ووفّقه لما يحب حتى يكون ممن قام بفرض الجهاد ونشره. إلى ابننا الذي نمنحه الحبّ والرضى ، ونسأل الله أن يهبه الخلال التي تستحسن والشّيم التي ترتضى ، الولد الأنجب ، الأرضى ، الأنجد ، الأرشد ، الأسعد ، محمد ، وإلى الله تعالى إسعاده ، وتولى بالتوفيق والإرشاد سداده ،

__________________

(١) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٥٠).

(٢) في النفح : «وكان بوادي آش الفقيه الطريفي».

(٣) في النفح : «فكتب إلى خاصة والدي أبي جعفر».

(٤) في الأصل : «والدي وخاصة أبي ...» ، والتصويب من النفح.

(٥) في النفح : «يتشكّى».

(٦) كلمة «جور» غير واردة في النفح.

(٧) في النفح : «أكيس».

(٨) كلمة «ورضوانه» غير واردة في النفح.

(٩) في النفح : «ثوب الذكر والباس».

(١٠) قيجاطة ، بالإسبانيةQuesada : مدينة من أعمال ولاية جيان. الإحاطة (ج ٢ ص ٤٦٥) حاشية ٨.

٣٢٥

وأطلع عليه من أنباء الفتوح المبشّرة بالنصر الممنوح ما يكمل من بغيته في نصر دين الإسلام ويسني مراده.

أما بعد حمد الله ، الذي جعل الجهاد في سبيله أفضل الأعمال ، الذي يقربه إلى رضاه ، وندب إليه بما وعد من الثواب عليه ، فقال : يا أيها النبي ، حرّض المؤمنين على القتال ، تنبيها على محل الثقة ، بأن الفئة القليلة من أوليائه ، تغلب الفئة الكثيرة من أعدائه ، وتدارك دين الإسلام بإنجاز وعده في قوله ، ولينصرنّ الله من ينصره ، على رغم أنف من ظن أنه خاذله ، تعالى الله عن خذلان جنده. والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله ومجتباه ، لهداية الخلق لسلوك سبيل الحق ، والعمل بمقتضاه. قال تعالى فيما أنزل : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)(١) تحريضا على أن يمحو ظلام ضلالهم بنور هداه صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله الأبرار ، وأصحابه الأشداء على الكفار ، الذين جرّدوا في نصرة دينه صوارم العزم وأمضوا ظباه ، وفتحوا ما زوّى له من مشارق الأرض ومغاربها حتى عمّ الإسلام حدّ المعمور ومنتهاه. فإنّا كتبنا لكم ، كتب الله لكم من سماع البشائر ما يعود بتحويل الأحوال ، وأطلع عليكم من أنباء الفتوح ما يلوح بآفاق الآمال ، مبشرا باليمن والإقبال. من قيجاطة ، وبركات ثقتنا بالله وحده ، تظهر لنا عجائب مكنونات ألطافه ، وتجنينا ثمار النصر في إبّان قطافه ، وتسخّر لنا ورد مشرع الفتح فترد عذب نطافه ، والحمد لله الذي هدانا لأن نتقلّد نجادها ، ونمتطي جوادها ، ونستوري زنادها ، ونستفتح بها مغالق المآرب ، ولطائف المطالب ، حتى دخلت الملّة الحنيفية في هذه الجزيرة الأندلسية أغوارها وأنجادها. وقد (٢) تقرّر عند الخاص والعام ، من أهل الإسلام ، واشتهر في جميع (٣) الأقطار اشتهار الصبح في سواد الظلام ، أنّا لم نزل نبذل جهدنا في أن تكون كلمة الله هي العليا ، ونسمح في ذلك بالنفوس والأموال رجاء ثواب الله لا لغرض (٤) دنيا. وأنّا ما قصّرنا في الاستنصار والاستنفار (٥) ، ولا قصرنا (٦) عن الاعتضاد لكلّ من أمّلنا معونته (٧) والاستظهار ، ولا اكتفينا بمطوّلات الرسائل وبنات الأفكار ، حتى اقتحمنا بنفوسنا لجج البحار ، وسمحنا بالطّارف من أموالنا والتّلاد ، وأعطينا رجاء نصرة الإسلام موفور الأموال والبلاد ، واشترينا بما أنعم الله به علينا ما فرض الله على كافة أهل الإسلام من الجهاد ، فلم

__________________

(١) سورة التوبة ٩ ، الآية ١٢٣.

(٢) من هنا حتى قوله : «إلى بلوغ الأمنية والمأمول» وارد في نفح الطيب (ج ٣ ص ٣٦٦ ـ ٣٦٧).

(٣) في النفح : «آفاق».

(٤) في النفح : «لا لعرض الدنيا».

(٥) في النفح : «في الاستنفار والاستنصار».

(٦) في النفح : «ولا أقصرنا».

(٧) في النفح : «معاملته».

٣٢٦

يكن بين تلبية المدعوّ وزهده ، وبين قبوله وردّه ، إلّا كما يحسو الطائر ماء الثّماد ويأبى الله أن يكل نصر (١) هذه الجزيرة إلى سواه ، وأن يجعل فيها سببا إلّا لمن أخلص لوجهه الكريم علانيته ونجواه. ولمّا أسلم الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مثاويه (٢) ، وبقي المسلمون يتوقّعون حادثا ساءت ظنونهم لمباديه ، ألقينا إلى الثقة بالله تعالى وحده يد الاستسلام ، وشمّرنا عن ساعد الجدّ والاجتهاد (٣) في جهاد عبدة الأصنام ، وأخذنا بمقتضى قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)(٤) أخذ الاعتزام ، فأمدّنا الله تعالى بتوالي البشائر ، ونصرنا بألطاف أغنى فيها خلوص الضمائر عن قوّاد (٥) العساكر ، ونفلنا (٦) على أيدي قوّادنا ورجالنا من السّبايا والغنائم ما عدّ (٧) ذكره في الآفاق كالمثل السائر (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها)(٨) ، وكيف يحصيها المحصي أو يحصرها الحاصر. وحين أبدت لنا العناية الربّانيّة وجوه الفتوح (٩) سافرة المحيّا ، وانتشقنا نسيم (١٠) النّصر الممنوح عبق الرّيّا ، استخرنا الله تعالى في الغزو بأنفسنا (١١) ونعم المستخار ، وكتبنا إلى من قرب من عمّالنا (١٢) بالحضّ على الجهاد والاستنفار. وحين وافى من خفّ للجهاد من الأجناد والمطوّعين ، وغدوا بحكم رغبتهم في الثواب على طاعة الله مجتمعين ، خرجنا بهم ونصر الله تعالى أهدى دليل ، وعناية الله بهذه الفئة المفردة من المسلمين ، تقضي بتقريب البعيد من آمالنا ، وتكثير القليل. ونحن نسأل الله تعالى أن يحملنا على جادّة الرّضا والقبول ، وأن يرشدنا إلى طريق يفضي (١٣) إلى بلوغ الأمنية والمأمول (١٤) ، إلى أن حللنا عشيّة يوم الأحد ثاني يوم خروجنا بمقربة حصن اللّقوة فأدرنا به التّدبير ، واستشرنا من أوليائنا من تحققنا نصحه فيما يشير ، فاقتضى الرأي المقترن بالرّشاد ، المؤذن بالإسعاد ، قصد قيجاطة لما رجى من تيسير فتحها ، وأملا في إضاءة فجر الأماني لديها ، وبيان صبحها ، فسرنا نحوها في جيش يجرّ على المجرّة ذيل النقع المثار ، ويضيق عن كثرته واسع الأقطار ، ويقرّ عين الإسلام بما اشتمل عليه من الحماة والأنصار ، تطير بهم نيّاتهم بأجنحة العزم إلى

__________________

(١) في النفح : «نصرة الإسلام بهذه الجزيرة إلى سواه ، ولا يجعل فيها شيئا إلّا ...».

(٢) في النفح : «مناويه».

(٣) كلمة «والاجتهاد» ساقطة في النفح.

(٤) سورة البقرة ٢ ، الآية ١٩٥.

(٥) في النفح : «قود».

(٦) في الأصل : «ونقلنا» والتصويب من النفح. ونفّل القائد جنده : أعطاهم ما غنموه. لسان العرب (نفل).

(٧) في النفح : «ما غدا».

(٨) سورة إبراهيم ١٤ ، الآية ٣٤.

(٩) في النفح : «الفتح».

(١٠) في النفح : «نسائم».

(١١) في النفح : «بنفسنا».

(١٢) في النفح : «أعمالنا».

(١٣) في النفح : «تفضي».

(١٤) لهنا ينتهي النص في النفح.

٣٢٧

قبض أرواح الكفار. فلمّا وصلنا إلى وادي على مقربة منها نزلنا به نريح الجياد ، ونكمل التأهّب للقتال والاستعداد ، وبات المسلمون ليلتهم يسألون الله تعالى بأن يمنحهم الإعانة بتأييده والإمداد. وحين فجر الفجر وأنار النهار ، وقدحت به الأصباح زند الأنوار ، ركبنا إليها والعساكر قد انتظمت عقودها ، والسيوف قد كادت تلفظها غمودها ، وبصائر الأولياء المجاهدين قد لاح من نصر الله تعالى معهودها. فلمّا وصلناها وجدنا ناسنا قد سبقوا إليها بالبوس ، وهتكوا ستر عصمتها المحروس ، وأذن لها بزوال النعم وذهاب النفوس ، فعاجلها الأولياء بالقتال ، وأهدوا إليها حمر المنايا من زرق النّصال ، ورشقوا جنودها بالنّبال ، وجدّوا بنات الآجال ، فلما رأوا ما لا طاقة لهم به لاذوا بالفرار من الأسوار ، وولّوا الأدبار ، وودّعوا الديار وما فيها من الآثار. وتسنّم المسلمون ذروة البلد الأول فملكوه ، وخرقوا حجاب السّتر المسدول عليه وهتكوه ، وتسرعوا إلى البلد الثاني وقد ملأ النصارى أسواره من حماة رجالهم ، وانتقوهم من متخيّري أبطالهم ، ممن وثقوا بإقدامه في حماية ضلالهم ، فحمل عليهم المسلمون حملة عرّفوهم بها كيف يكون اللّقاء ، وصرفوهم إلى ما تنصرف إليه أرواحهم من الشّقاء ، وأظهروا لهم من صدق العزائم ما علموا به أن لدين الإسلام أنصارا لا يرغبون بأنفسهم عن الذّبّ عنه وحماية راياته ، ولا يصدرون إلا إلى طاعة الله ابتغاء مرضاته. وبادر جماعة إلى إضرام باب المدينة بالنيران ، وعقدوا تحت سماء العجاج منها سماء الدّخان ، ورموا النصارى من النّبال بشهب تتبع منهم كل شيطان. فهزم الله النصارى ، وولوا أدبارهم ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فأخلوا بروجهم وأسوارهم ، وتسنّمها المسلمون معلنين شعار الإسلام ، رافعين من الرايات الحمر كواكب في سماء السّعادة تبشّر بتيسير كل مرام. ودخلوا المدينة فألفوا بها من القوت والعتاد ، والمتاع الفاخر الذي يربو على التّعداد ، ما ملأ كلّ يمين وشمال ، وظهروا عليها بعد بلوغ الأماني على الكمال ، وقتلوا بها من الحماة أعداء أبدوا في حماية ضلالهم ماضي الفنا والاعتزام ، وأعملوا فيهم ماضي العوامل وشبا الإضرام. وارتفع النصارى إلى القصبة لائذين بامتناعها ، معتصمين بعلوّها وارتفاعها ، متخيّلين لضلالهم ، وعدم استبصارهم أن نور الهدى لا يحلّ بديارهم. فرأينا أن نرقي الرجال إلى أبراج البلد وأسواره ، وأمرناهم أن يبيتوا طول ليلتهم مضيّقين على من اعتصم بالقصبة في حصاره ، وعمدنا بالعسكر المظفر إلى موضع استيطانه من المحلة المنصورة واستقراره. فلمّا بدا ضوء الصباح بنور الإشراق ، ولاح وجه الغزالة طارحا شعاعه على الآفاق ، أمرنا بترتيب العساكر على القصبة للحصار ، وعيّنّا لكل جماعة منهم جهة يبادرون إلى منازلتها بالقتال أشدّ البدار ، فانتهى المسلمون من ذلك إلى غاية لم تخطر

٣٢٨

للكافرين ببال ، وجرّعوهم كؤوس المنايا ، وأداروا بها بنات الحنايا ، فأفضت السّجال وأظهر الكفار ، مع وقوعهم في بحر الموت صبرا وطمعوا أن يقيموا بذلك لصلبانهم عذرا. فلما رأوا من عزمنا ما لم تتخيله ظنونهم وأوهامهم ، وصابرهم المسلمون عند النزال مصابرة عظم فيها إقدامهم وثبتت أقدامهم ، ألقوا بأيديهم إلى التّهلكة إلقاء من هاله لمعان الأسنّة واهتزاز ردينيات القنا ، ولاذوا بطلب الأمان لياذ الغريق بالساحل بعد ما أشرف على الفنا ، وهبط زعيمهم مقتحما خطر تلك المسالك ، متضرّعا تضرع من طمع في الحياة بعد ما أخذته أيدي المهالك ، وشرط أن يملّكنا القصبة ، ويبقى خديما لنا بما بيده من البلاد الكثيرة والكتيبة المنتخبة ، فلم نظهر له عند ذلك قبولا ، ولم نجعل له إلى تكميل ما رغب فيه سبيلا ، فقاده البأس الشديد إلى الإذعان ، ورغب أن يكمل ما نريده على شرط الأمان. فأسعفنا رغبته على شروط ، بعد عهد المسلمين بمثلها ، وهيّئت الأسباب بما نعتمده من الثقة بالله وحده في أمورنا كلها ، وذلك على كذا وكذا. وحين كملت الشروط حقّ التكميل ، وظهرت لنا منه أمارات الوفاء الجميل ، دخلنا القصبة حماها الله ، وقد أغنى يوم النصر عن شهر السلاح ، كما أغنى ضوء الصبح عن نور المصباح ، ورفعت على أبراجها حمر الأعلام ، ناطقة عن الإسلام ، بالتعريف والإعلام. وفي الحين وجهنا من يقبض تلك الحصون ، ويزيل ما بها من جرم الكفر المأفون ، أمناء رجالنا. فالحمد لله على هذه النعمة التي أحدثت للقلوب استبشارا ، وخفضت علم التثليث ورفعت للتوحيد منارا ، وأظهرت للملّة الحنيفية على أعدائها اعتلاء واستكبارا. وهذا القدر من الفتح وإن كان سامي الفخر ، باقي الذكر بقاء الدهر ، فإننا لنرجو من فضل الله أن يتبعه بما هو أعلى منه متانة ، وأعظم في قلوب أهل الإيمان موقعا وأعز مكانة ، وأن يرغم بما يظهر على أيدينا من عز الإسلام ، أنف من أظهر له عنادا وخذلانا. فاستبشروا بهذا الفتح العظيم وبشّروا ، واشكروا الله عليه ، فواجب أن تشكروا. وقد كتبنا هذا ، ونحن على عزمنا في غزو بلاد الكفار ، والسعي الحميد إلى التنكيل بهم والإضرار ، والمسلمون أعزهم الله في أرضهم يشنون المغار ، ويمتلكون الأنجاد منها والأغوار ، ويكثرون القتل والأسار ، ويحكّمون أينما نزلوا السّيف والنار ، والسلام.

ومن نثر آخر إجازة ما صورته (١) :

__________________

(١) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٥) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ٣٤٦ ـ ٣٤٧) ، وفي الأزهار يخاطب ابن الجياب الشيخ أبا علي عمر الجراوي.

٣٢٩

وها أنا أجري منه (١) على حسن معتقده ، وأكله في هذا الغرض إلى ما رآه بمقتضى تودّده ، وأجيز له ولولديه ، أقرّ الله بهما عينه ، وجمع بينهما وبينه ، رواية جميع ما نقلته وحملته (٢) ، وحسن اطلاعه يفصّل من ذلك ما أجملته ، فقد أطلقت لهم الإذن في جميعه ، وأبحت لهم الحمل عني ولهم الاختيار في تنويعه. والله سبحانه وتعالى (٣) يخلّص أعمالنا لذاته ، ويجعلها في ابتغاء مرضاته. قال هذا (٤) محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم حامدا لله عزّ وجلّ ، ومصلّيا ومسلما.

وفاته : قتل ، رحمه الله ، صبيحة عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة (٥) ، وذلك لتاريخ خلع سلطانه. واستولت (٦) يد الغوغاء على منازله ، شغلهم بها مدبّر الفتنة خيفة من أن يعاجلوه قبل تمام أمره ، فضاع بها مال لا يكتب ، وعروض لا يعلم لها قيمة من الكتب ، والذّخيرة والفرش والآنية والسلاح والمتاع والخرثيّ ، وأخفرت ذمّته (٧) ، وتعدّي به عدوة القتل إلى المثلة (٨) ، وقانا الله مصارع السوء ، فطيف بشلوه ، وانتهب فضاع ولم يقبر ، وجرت فيه شناعة كبيرة ، رحمه الله تعالى.

مولده : برندة ظهر يوم الاثنين الحادي والعشرين من ربيع الأول المبارك ، من عام ستين وستمائة. وممّن رثاه شيخنا أبو بكر بن شبرين رحمه الله تعالى بقوله (٩) : [الطويل]

سقى الله أشلاء كرمن على البلى

وما غضّ من مقدارها حادث البلا

وممّا شجاني أن أهين مكانها

وأهمل قدر ما عهدناه مهملا

ألا اصنع بها يا دهر ما أنت صانع

فما كنت إلّا عبدها المتذلّلا

سفكت وما كان الرّقوء نواله

لقد جئتها (١٠) شنعاء فاضحة الملا

__________________

(١) في المصدرين : «معه».

(٢) في أزهار الرياض : «ما حملته ونقلته».

(٣) في أزهار الرياض : «والله عزّ وجلّ يخلّص ...».

(٤) في الأزهار : «قال هذا وكتبه محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن محمد اللخمي بن الحكيم ، عفا الله عنه ، حامدا الله عزّ وجلّ ، ومصليا على رسوله المصطفى ، ومسلما عليه وعلى آله ، في منتصف جمادى الآخرة عام ثلاثة وسبعمائة».

(٥) كذا جاء في نفح الطيب (ج ٣ ص ٣٦٧).

(٦) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٥٠ ـ ٥١).

(٧) أخفرت ذمّته : نقضت عهوده ولم تحفظ حرمته. لسان العرب (خفر).

(٨) المثلة : التمثيل بالقتل. لسان العرب (مثل).

(٩) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٨٥ ـ ٨٧).

(١٠) في النفح : «جئتما».

٣٣٠

بكفّي سبنتى أزرق العين مطرق (١)

عدا فغدا في غيّه متوغّلا

لنعم قتيل القوم في يوم عيده

قتيل تبكّيه المكارم والعلا

ألا إنّ يوم ابن الحكيم لمثكل

فؤادي ، فما ينفكّ ما عشت مثكلا

فقدناه في يوم أغرّ محجّل

ففي الحشر نلقاه أغرّ محجّلا

سمت نحوه الأيام وهو عميدها

فلم تشكر النّعمى ولم تحفظ الولا

تعاورت الأسياف منه ممدّحا

كريما سما فوق السّماكين منزلا (٢)

وخانته رجل في الطّواف به سعت

فناء بصدر للعلوم تحمّلا

وجدّل لم يحضره في الحيّ ناصر

فمن مبلغ الأحياء أنّ مهلهلا (٣)

يد الله في ذاك الأديم ممزّقا (٤)

تبارك ما هبّت جنوبا وشمألا

ومن حزني أن لست أعرف ملحدا

له فأرى للتّرب منه مقبلا

رويدك يا من قد غدا شامتا به

فبالأمس ما كان العماد المؤمّلا

وكنّا نغادي أو نراوح بابه

وقد ظلّ في أوج العلا متوقّلا (٥)

ذكرناه يوما فاستهلّت جفوننا

بدمع إذا ما أمحل العام أخضلا

ومازج منه الحزن طول اعتبارنا

ولم ندر ما ذا منهما كان أطولا

وهاج لنا شجوا تذكّر مجلس

له كان يهدي الحيّ والملأ الألى

به كانت الدنيا تؤخّر مدبرا

من الناس حتما أو تقدّم مقبلا

لتبك عيون الباكيات على فتى

كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا

على خادم الآثار تتلى صحائحا

على حامل القرآن يتلى مفصّلا

على عضد الملك الذي قد تضوّعت

مكارمه في الأرض مسكا ومندلا

__________________

(١) السّبنتى : النمر. محيط المحيط (سبت). وصدر هذا البيت عجز بيت من قصيدة تنسب إلى جزء بن ضرار ، أخي الشماخ ، قاله في عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، والبيت هو : [الطويل]

وما كنت أخشى أن تكون وفاته

بكفّي سبنتى أزرق العين مطرق

طبقات ابن سلام (ص ١١١).

(٢) في النفح : «مزحلا».

(٣) إشارة إلى قول الشاعر في مهلهل بن ربيعة : [الكامل]

من مبلغ الحيّين أنّ مهلهلا

أضحى قتيلا في الفلاة مجندلا

(٤) هذا من قول جزء بن ضرار : [الطويل]

عليك سلام من أمير وباركت

يد الله في ذاك الأديم الممزّق

الشعر والشعراء (ص ٢٣٥).

(٥) متوقّلا في أوج العلا : صاعدا فيه. لسان العرب (وقل).

٣٣١

على قاسم الأموال فينا على الذي

وضعنا لديه كلّ إصر على علا

وأنّى لنا من بعده متعلّل

وما كان في حاجاتنا متعلّلا

ألا يا قصير العمر يا كامل العلا

يمينا لقد غادرت حزنا مؤثّلا

يسوء المصلّى أن هلكت ولم تقم

عليك صلاة فيه يشهدها الملا

وذاك لأنّ الأمر فيه شهادة

وسنّتها محفوطة لن تبدّلا

فيا أيها الميت الكريم الذي قضى

سعيدا حميدا فاضلا ومفضّلا

لتهنك (١) من ربّ السماء شهادة

تلاقي ببشرى وجهك المتهلّلا

رثيتك عن حبّ ثوى في جوانحي

فما ودّع القلب العميد وما قلا (٢)

ويا ربّ من أوليته منك نعمة

وكنت له ذخرا عتيدا وموئلا

تناساك حتى ما تمرّ بباله

ولم يدّكر (٣) ذاك النّدى والتّفضّلا

يرابض في مثواك كلّ عشيّة

صفيف شواء أو قديدا (٤) معجّلا (٥)

لحى الله من ينسى الأذمّة رافضا

ويذهل مهما أصبح الأمر مشكلا

حنانيك يا بدر الهدى فلشدّ ما

تركت بدور الأفق بعدك (٦) أفّلا

وكنت لآمالي حياة هنيئة

فغادرت مني اليوم قلبا مقتّلا

فلا وأبيك الخير ما أنا بالذي

على البعد ينسى من ذمامك ما خلا

فأنت الذي آويتني متغرّبا

وأنت الذي أكرمتني متطفّلا

فإن لم أنل منك الذي كنت آملا

فما كنت إلّا المحسن المتفضّلا (٧)

فآليت لا ينفكّ قلبي مكمدا

عليك ولا ينفكّ دمعي مسبلا

محمد بن عبد الرحمن العقيلي الجراوي

من أهل وادي آش ، وسكن غرناطة.

__________________

(١) في الأصل : «لتنهل» والتصويب من النفح.

(٢) هذا من قول الله تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٣) [الضحى : ٣].

(٣) يدّكر : يتذكر. محيط المحيط (دكر).

(٤) في النفح : «قديرا».

(٥) أخذه من قول امرئ القيس في معلقته : [الطويل]

وظلّ طهاة اللحم من بين منضج

صفيف شواء أو قدير معجّل

ديوان امرئ القيس (ص ٢٢).

(٦) في الأصل : «بعد» والتصويب من النفح.

(٧) هذا البيت غير وارد في نفح الطيب.

٣٣٢

حاله : فقيه أديب متطبّب ، متفنن في علوم جمة ، شاعر مطبوع ، يكنّى أبا بكر. مدح الأمير علي بن يوسف اللمتوني بقوله : [مجزوء الكامل]

رحلوا الركائب موهنا

فأذاع عرفهم السّنا

والحلي قد أغرى بهم

لمّا ترنّم معلنا

كم حفّ حول حماهم

من كلّ خطّار القنا

قال أبو جعفر بن الزبير ، ينفك منها قصائد : [الكامل]

رحلوا الركاب موهّنا ليكتموا

ظعن الحمول وهل توارى الأنجم؟

فأذاع سرّهم السّنا ورمى بهم

فلّ الذميل شذاهم المتنسّم

كم حفّ حمل قبابهم وركابهم

من ليث غاب في براثنه الدم

من كل خطّار القناة مموّه

بين الرحيل نصبه يستسلم

وهي طويلة ، خاطب بها أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين. وقال في وصف القصيدة : [الطويل]

أيا ملكا يسمو بسعد مساعد

وقدر على علو الكواكب صاعد

نظمت قصيدا في علاك مضمّنا

ثلاث قواف في ثلاث قصائد

إذا فصلت أغنى عن البعض بعضها

وإن وصلت كانت ككعب وساعد

فأجازه بظهير كريم بتحرير ماله وتنويهه.

محمد بن عبد الرحمن المتأهل

من أهل وادي آش ، يعرف بعمامتي.

حاله : من التاج : ناظم أبيات ، وموضح غرر وشيات ، وصاحب توقيعات رفيعات ، وإشارات ذوات شارات. وكان شاعرا مكثارا ، وجوادا لا يخاف عثارا.

أدخل على أمير بلده المخلوع عن ملكه ، بعد انتثار سلكه ، وخروج الحضرة عن ملكه ، واستقراره بوادي آش ، مروع البال ، معلّلا بالآمال ، وقد بلغه دخول طبرنش في طاعته ، فأنشده من ساعته : [مجزوء الكامل]

خذها إليك طبرنشا

شفّع بها وادي الأشا

والأمّ تتبع بنتها

والله يفعل ما يشا

ومن نوادره العذبة يطلب خطة الحسبة : [الطويل]

أنلني يا خير البريّة خطّة

ترفّعني قدرا وتكسبني عزّا

٣٣٣

فأعتزّ في أهلي كما اعتزّ بيدق

على سفرة الشطرنج لما انثنى فرزا

فوقع الأمر بظهر رقعته ما ثبت في حرف النون عند ذكره ، والاحتجاج بفضله.

وفاته : كان حيّا بعد سنة سبع عشرة وسبعمائة. وفد على الحضرة مرات كثيرة.

محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي (١)

من أهل وادي آش ، يكنى أبا بكر.

حاله : كان عالما ، صدرا ، حكيما ، فيلسوفا ، عارفا بالمقالات والآراء ، كلفا بالحكمة المشرقية ، محققا ، متصوفا ، طبيبا ماهرا ، فقيها ، بارع الأدب ، ناظما ، ناثرا ، مشاركا في جملة من الفنون.

مشيخته : روى عن أبي محمد الرّشاطي ، وعبد الحق بن عطية وغيرهما.

حظوته ودخوله غرناطة :

اختصّ بالريس أبي جعفر ، وأبي الحسن بن ملحان. قال ابن الأبار في تحفته (٢) : وكتب لوالي غرناطة وقتا.

تواليفه : رسالة حيّ بن يقظان ، والأرجوزة الطبيّة المجهولة ، وغير ذلك.

شعره : قال : وهو القائل من قصيدة في فتح قفصة سنة ست وسبعين (٣) ، وأنفذت إلى البلاد(٤) : [الطويل]

ولمّا انقضى الفتح الذي كان يرتجى

وأصبح حزب الله أغلب غالب

وأنجزنا وعد من الله صادق

كفيل بإبطال الظنون الكواذب

وساعدنا التّوفيق حتى بيّنت

مقاصدنا مشروحة بالعواقب

وأذعن من عليا هلال بن عامر

أبيّ ولبّى الأمر كلّ مجانب

__________________

(١) ترجمة ابن طفيل في المعجب (ص ٣١١) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص ١٢٥) وعيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص ٥٣٠) في ترجمة أبي الوليد بن رشد.

(٢) المقتضب من كتاب تحفة القادم (ص ١٢٥).

(٣) في الأصل : «وتسعين» ، وقد صوّبناه عن ابن عذاري ؛ إذ روى أن الخليفة يوسف بن عبد المؤمن الموحدي فتح قفصة في شهر رمضان من عام ٥٧٦ ه‍. البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ١٤١).

(٤) القصيدة في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ١٤١ ـ ١٤٢).

٣٣٤

وهبّوا إذا (١) هبّ النسيم كما (٢) سرى

ولم يتركوا بالشّرق علقة آئب

يغصّ بهم عرض الفلا وهو واسع (٣)

وقد زاحموا الآفاق من كل جانب

كأنّ بسيط الأرض حلقة خاتم

بهم وخضمّ البحر بعض المذانب

ومدّ على حكم (٤) الصغار لسلمنا

يديه عظيم الروم في حال راغب

يصرّح بالرؤيا (٥) وبين ضلوعه

نفس مذعور ونفرة راهب

وعى من لسان الحال أفصح خطبة

وما (٦) وضحت (٧) عنه فصاح القواضب

وأبصر متن الأرض كفّة حامل

عليه وإصراه في كفّ حالب

أشرنا بأعناق الجياد إليكم

وعجبا عليكم من صدور الرّكائب

إلى بقعة قد بيّن (٨) الله فضلها

بمن حلّ فيها من وليّ (٩) وصاحب

على الصّفوة الأدنين منّا تحية

توافيهم بين الصّبا والجنائب

وله أيضا (١٠) : [الطويل]

ألمّت وقد نام الرقيب (١١) وهوّما

وأسرت إلى وادي (١٢) العقيق من الحمى

وراحت (١٣) إلى نجد فرحت منجّدا

ومرّت بنعمان فأضحى منعّما

وجرّت على ترب المحصّب (١٤) ذيلها

فما زال ذاك التّرب نهبا مقسّما

تناقله (١٥) أيدي التّجار (١٦) لطيمة

ويحمله الداريّ (١٧) أيّان يمّما

ولمّا رأت أن لا ظلام يجنّها

وأنّ سراها فيه لن يتكتما

سرت (١٨) عذبات الرّيط عن حرّ وجهها

فأبدت شعاعا يرفع اليوم مظلما (١٩)

__________________

(١) في البيان المغرب : «كما».

(٢) في البيان المغرب : «إذا».

(٣) في البيان المغرب : «... عرض الفيافي وطولها».

(٤) في البيان المغرب : «رغم».

(٥) في البيان المغرب : «بالرغبى».

(٦) في الأصل : «ما» وهكذا ينكسر الوزن.

(٧) في البيان المغرب : «وما صمتت».

(٨) في البيان المغرب : «يمن».

(٩) في البيان المغرب : «إمام».

(١٠) القصيدة في المعجب (ص ٣١٢ ـ ٣١٣) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص ١٢٥ ـ ١٢٦).

(١١) في المعجب : «المشيح».

(١٢) في الأصل : «وأسرت الوادي ...» وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين السابقين.

(١٣) في الأصل : «وراح» ، والتصويب من المقتضب.

(١٤) في الأصل : «المخصب» ، والتصويب من المصدرين. والمحصّب : مكان بين مكة ومنى.

(١٥) في المعجب : «تناوله».

(١٦) في المقتضب : «الرجال لطيّة».

(١٧) في الأصل : «الدارين» والتصويب من المصدرين. والداريّ : الملاح الذي يلي الشراع.

(١٨) في المعجب : «نضت».

(١٩) في المعجب : «فأبدت محيّا يدهش المتوسّما». وفي المقتضب : «... شعاعا يرجع الصبح ـ

٣٣٥

فكانّ تجلّيها حجاب جمالها

كشمس الضّحى يعشى بها الطّرف كلّما

ولمّا رأت زهر الكواكب أنها

هي النيّر الأسمى وإن كان باسما

بكت أسفا أن لم تفز بجوارها

وأسعدها صوب الغمام فأسجما

فجلّت يمجّ القطر ريّان بردها

فتنفضه كالدّر فذّا وتوأما

يضمّ علينا الماء فضل زكاتها

كما (١) بلّ سقط الطّلّ نورا مكمّما

ويفتق نضح الغيث طيب عرفها

نسيم الصّبا بين العرار منسّما

جلت عن ثناياها وأومض برقها (٢)

فلم أدر من شقّ الدّجنّة منهما

وساعدني جفن الغمام على البكا

فلم أدر وجدا (٣) أيّنا كان أسجما

ونظم سمطي ثغرها ووشاحها

فأبصرت درّ الثغر أحلى وأنظما

تقول وقد ألممت أطراف كمّها

يدي وقد أنعلت أخمصها الفما

نشدتك لا يذهب بك الشوق مذهبا

يسهّل صعبا أو يرخّص مأثما

فأقصرت (٤) لا مستغنيا عن نوالها

ولكن رأيت الصّبر أوفى وأكرما

وقال (٥) : [الوافر]

أتذكر إذ مسحت بفيك عيني (٦)

وقد حلّ البكا فيها عقوده

ذكرت بأن ريقك ماء ورد

فقابلت الحرارة بالبروده

وقال : [الوافر]

سألت من المليحة برء دائي

برشف برودها العذب المزاج

فما زالت تقبّل في جفوني

وتبهرني بأصناف الحجاج

وقالت إنّ طرفك كان (٧) أصلا

لدائك فليقدّم في العلاج

وفاته : توفي بمراكش سنة إحدى وثمانين وخمسمائة ، وحضر السلطان (٨) جنازته.

__________________

ـ معلما».

(١) في الأصل : «كملّ» وكذا ينكسر الوزن ، ولا معنى له.

(٢) في المعجب : «بارق».

(٣) في المعجب : «دمعا».

(٤) في المعجب : «فأمسكت».

(٥) البيتان في المقتضب من كتاب تحفة القادم (ص ١٢٥).

(٦) في المقتضب : «دمعي».

(٧) كلمة «كان» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.

(٨) السلطان هو المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي ، وقد حكم المغرب والأندلس من سنة ٥٨٠ ه‍ إلى سنة ٥٩٥ ه‍. ترجمته في البيان المغرب ـ قسم ـ

٣٣٦

محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبيد الله

ابن عيّاش التّجيبي البرشاني (١)

من أهل حصن برشانة المحسوب في هذه العمالة ، يكنى أبا عبد الله ، كاتب الخلافة.

حاله : قال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك (٢) : كان كاتبا بارعا ، فصيحا ، مشرفا على علوم اللسان ، حافظا للّغات والآداب ، جزلا ، سريّ الهمّة ، كبير المقدار ، حسن الخلق ، كريم الطباع (٣) ، نفّاعا بجاهه وماله ، كثير الاعتناء (٤) بطلبة العلم والسعي الجميل لهم ، وإفاضة المعروف على قصّاده ، مستعينا على ذلك بما نال من الثروة والحظوة والجاه عند الأمراء من بني عبد المؤمن ، إذ كان صاحب القلم الأعلى (٥) على عهد المنصور وابنه ، رفيع المنزلة والمكانة لديهم ، قاصدا (٦) الإعراب في كلامه ، لا يخاطب أحدا (٧) في كلامه من الناس ، على تفاريق أحوالهم ، إلّا بكلام معرب ، وربما استعمله (٨) في مخاطبة خدمته (٩) وأمته ، من حوشيّ الألفاظ ، ما لا يكاد يستعمله (١٠) ، ولا يفهمه إلّا حفّاظ اللغة من أهل العلم ، عادة ألفها واستمرّت حاله عليها.

مشيخته : روى (١١) عن أبي عبد الله بن حميد ، وابن أبي القاسم السّهيلي ، وابن حبيش ، وروى عنه بنوه أبو جعفر ، وأبو القاسم (١٢) عبد الرحمن ، وأبو جعفر بن عثمان ، وأبو القاسم البلوي.

__________________

ـ الموحدين (ص ١٧٠) والمعجب (ص ٣٣٦) والحلل الموشية (ص ١٢١).

(١) ترجمه ابن عياش في التكملة (ج ٢ ص ١١٦) والذيل والتكملة (ج ٦ ص ٣٨٤). والبرشاني : نسبة إلى برشانةPurchena وهي عمل ألمرية ، وهي حصن على مجتمع نهرين ، من أمنع الحصون. الروض المعطار (ص ٨٨) والتكملة (ج ٢ ص ١١٦).

(٢) الذيل والتكملة (ج ٦ ص ٣٨٥).

(٣) في الذيل والتكملة : «الطبع».

(٤) في المصدر نفسه : «الاعتبار».

(٥) في المصدر نفسه : «الأعلى عند المنصور منهم فابنه الناصر ، فابنه المستنصر ، رفيع ...».

(٦) في المصدر نفسه : «عامدا».

(٧) في المصدر نفسه : «أحدا من أصناف الناس ...».

(٨) في المصدر نفسه : «استعمل».

(٩) في الأصل : «قدمته» والتصويب من الذيل والتكملة.

(١٠) في الذيل والتكملة : «يستعمل».

(١١) النص في الذيل والتكملة (ج ٦ ص ٣٨٤ ـ ٣٨٥).

(١٢) في الأصل : «وأبو القاسم ، وعبد الرحمن» والتصويب من الذيل والتكملة.

٣٣٧

تواليفه : له (١) اختصار حسن في إصلاح المنطق ، ورسائل مشهورة ، تناقلها الناس ، وشعر يحسن في بعضه.

جاهه : حدّث الشيخ أبو القاسم البلوي ، قال (٢) : كنت أخفّ إليه (٣) ، وأشفع عنده في كبار المسائل ، فيسرع في قضائها. ولقد عرضت لبعض أصحابي من أهل بلاد الأندلس حاجة مهمّة كبيرة ، وجب عليّ السعي فيها ، والتماس قضائها وفاء لربّها ، ولم يكن لها إلّا ما قدرته من حسن نظره فيها ، ورجوته من جميل أثره في تيسير أمرها ، وكان قد أصابه حينئذ التياث لزم من أجله داره ، ودخلت (٤) عليه عائدا ، فأطال السؤال عن حالي ، وتبسّط معي في الكلام ، مبالغة في تأنيسي ، فأجّلت ذكر الحاجة (٥) ، ورغبت منه في الشّفاعة عند السلطان في شأنها ، وكان مضطجعا ، فاستوى جالسا ، وقال لي : جهل الناس قدري ، وكرّرها ثلاثا ، في (٦) مثل هذا أشفع إلى أمير المؤمنين؟ هات الدّواة والقرطاس ، فناولته إياهما ، فكتب برغبتي ، ورفعه إلى السلطان ، فصرف في الحين معلّما ، فاستدعاني ، ودفعه إليّ ، وقال : يا أبا القاسم ، لا أرضى منك أن تحجم عني في التماس قضاء حاجة تعرّضت لك خاصة ، وإن كانت لأحد من معارفك عامة ، كبرت أو صغرت ، فألتزم قضاءها ، وعليّ الوفاء ، فإن لكل مكسب (٧) زكاة ، وزكاة الجاه بذله.

وحدّثني شيخي أبو الحسن بن الجيّاب ، عمن حدّثه من أشياخه ، قال : عرض أبو عبد الله بن عيّاش والكاتب ابن القالمي على المنصور كتابين ، وهو في بعض الغزوات ، في كلب البرد ، وبين يديه كانون جمر. وكان ابن عياش بارع الخطّ ، وابن القالمي ركيكه ، ويفضله في البلاغة ، أو بالعكس الشكّ مني. وقال المنصور : أي كتب لو كان بهذا الخط؟ وأي خطّ لو كان بهذا الكتب؟ فرضي ابن القالمي ، وسخط ابن عياش. فانتزع الكتاب من يد المنصور ، وطرحه في النار وانصرف. قال : فتغيّر وجه المنصور ، وابتدر أحد الأشياخ ، فقال : يا أمير المؤمنين ، طعنتم له في الوسيلة التي عرّفته ببابكم ، فعظمت غيرته لمعرفته بقدر السبب الموصل إليكم. فسرّي عن المنصور ، وقال لأحد خدّامه : اذهب إلى السّبي ، فاختر أجمل نساء الأبكار ؛ وأت بابن عياش ؛ فقل له : هذه تطفىء من خلقك. قال ابن عياش يخاطب ولده ، وقد حدّث الحديث : هي أمّك ، يا محمد ، أو فلان.

__________________

(١) النص في الذيل والتكملة (ج ٦ ص ٣٨٥).

(٢) النص في الذيل والتكملة (ج ٦ ص ٣٨٦).

(٣) في الذيل والتكملة : «عليه».

(٤) في الذيل والتكملة : «فدخلت».

(٥) في الذيل والتكملة : «ذكر تلك الحاجة».

(٦) في الذيل والتكملة : «أفي».

(٧) في المصدر نفسه : «مكتسب».

٣٣٨

بعض أخباره مع المنصور ومحاورته الدّالة على جلالة قدره :

قال ابن خميس : حدّثني خالي أبو عبد الله بن عسكر أن الكاتب أبا عبد الله بن عيّاش ، كتب يوما كتابا ليهودي ، فكتب فيه ، ويحمل على البرّ والكرامة. فقال له المنصور : من أين لك أن تقول في كافر ، ويحمل على البرّ والكرامة؟ فقال : ففكّرت ساعة ، وقد علمت أن الاعتراض يلزمني ، فقلت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أتاكم كريم قوم ، فأكرموه ، وهذا عام في الكافر ، وغيره. فقال : نعم هذه الكرامة ، فالمبرة أين أخذتها؟ قال : فسكتّ ولم أجد جوابا. قال : فقرأ المنصور : «أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم» (١)(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(٢). قال : فشهدت بذلك ، وشكرته.

شعره : من شعره (٣) : [الطويل]

بلنسية ، بيني عن العليا (٤) سلوة

فإنك روض لا أحنّ لزهرك

وكيف يحبّ المرء دارا تقسّمت

على صارمي (٥) جوع (٦) وفتنة مشرك؟

وذكره الأديب أبو بحر صفوان بن إدريس في «زاد المسافر» عند اسم ابن عيّاش ، قال : اجتمعنا في ليلة بمرّاكش ، فقال أبو عبد الله بن عيّاش : [البسيط]

وليلة من ليالي الصّفح قد جمعت

إخوان صدق ووصل للدهر مختلس (٧)

كانوا على سنّة الأيام قد بعدوا

فألّفت بينهم لو ساعد الغلس

وقال من قصيدة : [الكامل]

أشفارها أم صارم الحجّاج؟

وجفونها أم فتنة الحلّاج؟

فإذا نظرت لأرضها وسمائها

لم تلف غير أسنّة وزجاج

__________________

(١) سورة النحل ١٦ ، الآية ٩٨. وصواب الآية : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

(٢) سورة الممتحنة ٦٠ ، الآية ٨. وصواب الآية : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) إلى آخر الآية.

(٣) البيتان في الروض المعطار (ص ١٠١) ونفح الطيب (ج ١ ص ١٧٢) ومعجم البلدان (ج ١ ص ٤٩١) وفيه ينسبهما ياقوت إلى ابن حريق.

(٤) في الأصل : «العلياء» وكذا ينكسر الوزن. وفي سائر المصادر : «عن القلب».

(٥) في معجم البلدان : «على ضاربي».

(٦) في الأصل : «جذع» والتصويب من المصادر الثلاثة.

(٧) في الأصل : «للدهر غير مختلس» وكذا لا يستقيم لا الوزن ولا المعنى ، لذا حذفنا كلمة «غير».

٣٣٩

وقال في المصحف الإمام ، المنسوب إلى عثمان بن عفان ، لما أمر المنصور بتحليته بنفيس الدّرّ من قصيدة (١) :

ونفّلته (٢) من كلّ ملك ذخيرة

كأنهم كانوا برسم مكاسبه

فإن ورث الأملاك شرقا ومغربا

فكم قد أخلّوا جاهلين بواجبه

وألبسته الياقوت والدرّ (٣) حلية

وغيرك قد روّاه من دم صاحبه

كتابته : قال ابن سعيد في المرقصات والمطربات (٤) : أبو عبد الله بن عيّاش ، كاتب الناصر وغيره ، من بني عبد المؤمن ، وواسطة عقد ترسيله ، قوله في رسالة كتبها في نزول الناصر على المهدية بحرا وبرا ، واسترجاعها من أيدي الملثّمين :

ولما حللنا عرى السّفر ، بأن حللنا حمى المهديّة ، تفاءلنا بأن تكون لمن حلّ بساحتها هديّة ، فأحدقنا بها إحداق الهدب بالعين ، وأطرنا لمختلس وصالها غربان البين ، فبانت بليلة باسنيّة ، وصابح يوما صافحته فيه يد المنية. ولما اجتلينا منها عروسا قد مدّ بين يديها بساط الماء ، وتوجهت بالهلال وقرّطته بالثّريا ووشّجت بنجوم السّماء ، والسّحب تسحب عليها أردانها فترتديها تارة متلثّمة ، وطورا سافرة ، وكأنما شرفاتها المشرفة أنامل مخضبة بالدّياجي ، مختتمة بالكواكب الزّاهرة ، تضحي عن شنب لا تزال تقبّله أفواه المجانيق ، وتمسي باسمة عن لعس لا تبرح ترشفه شفاه سهام الحريق ، خطبناها فأرادت التّنبيه على قدرها ، والتوفير في إعلاء مهرها ، ومن خطب الحسناء لم يغله المهر فتمنّعت تمنّع المقصورات في الخيام ، وأطالت إعمال العامل في خدمتها وتجريد الحسام ، إلى أن تحقّقت عظم موقعها في النفوس ، ورأت كثرة ما ألقي لها من نثار الرءوس ، جنحت إلى الإحصان بعد النّشوز ، ورأت اللّجاج في الامتناع من قبول الإحسان لا يجوز ، فأمكنت زمامها من يد خاطبها ، بعد مطاولة خطبها وخطابها ، وأمتعته على رغم رقيها بعناقها ورشف رضابها ، فبانت معرّسا حيث لا حجال إلّا من البنود ، ولا خلوق إلّا من دماء أبطال الجنود ، فأصبح وقد تلألأت بهذه البشائر وجوه الأفكار ؛ وطارت بمسارها سوائح البراري وسوانح البحار. فالحمد

__________________

(١) الأبيات في التكملة (ج ٢ ص ١١٦) والذيل والتكملة (ج ٦ ص ٣٨٧).

(٢) في الأصل : «ونقلت» وكذا ينكسر الوزن. والتصويب من الذيل والتكملة. وفي التكملة : «ونقلته».

(٣) في الأصل : «الدرّ والياقوت». وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٤) لم يرد شيء من هذا في المرقصات والمطربات ، وجاء فيه (ص ٩٢) بيتان من الشعر لأبي جعفر بن عياش ، شاعر المائة السابعة ، وليس لأبي عبد الله بن عياش.

٣٤٠